علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع

أحمد مصطفى المراغي

علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع

المؤلف:

أحمد مصطفى المراغي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 2-7451-1097-7
الصفحات: ٣٩٩

تمرين ثان

١ ـ أتيناكم قد عمكم حذر العدا

فنلتم بنا أمنا ولم تعدموا نصرا

٢ ـ إن تلقني لا ترى غيري بناظرة

تنس السلاح وتعرف جبهة الأسد

٣ ـ ولو لا جنان الليل ما آب عامر

الى جعفر سرباله لم يمزّق (١)

٤ ـ يزعم صديقي أني أحسده على نعمته أراه مخطئا فيما زعم

٥ ـ والغدر بالعهد قبيح جدا

شر الورى من ليس يرى العهدا

٦ ـ يا من يقتل من أراد بسيفه

أصبحت من قتلاك بالإحسان

٧ ـ بانت قطام ولما يحظ ذو مقة

منها بوصل ولا إنجاز ميعاد

٨ ـ كأن فتات العهن في كل منزل

نزلن به حب الفنا لم يحطم (٢)

٩ ـ من أغفل الشعر لم تعرف مناقبه

لا يجتنى ثمر من غير أغصان

__________________

(١) جنان الليل ظلمته الحالكة ، والسربال السراويل.

(٢) العهن الصوف الأحمر ، والفنا واحدته فناة عنب الثعلب ، وحبه أحمر ما لم يكسر.

١٨١

الباب الثاني عشر في الايجاز والاطناب والمساواة

وفيه خمسة مباحث

المبحث الأول في دقة مسلكها واختلاف الأئمة في تعريفها

هذا الباب أساس في بنيان الفصاحة وركن ركين في تكوين ملكة البلاغة ، حتى نقل صاحب «سر الفصاحة» عن بعضهم أنه قال : «البلاغة هي الإيجاز والاطناب».

واعلم أن علماء البيان افترقوا فرقتين : فرقة منهم ثبت واسطة بين الإيجاز والاطناب هي المساواة ، وعليها درج السكاكي ومن تبعه وقالوا إنها ليست محمودة ولا مذمومة ، وفرقة منها ابن الأثير في جماعة ذهبوا الى نفي الواسطة ، ومن ثم قسموا إيجاز غير الحذف قسمين : إيجاز تقدير وهو ما ساوى لفظه معناه من غير زيادة وهذه هي المساواة على الرأي الأول ، وإيجاز قصر وهو ما يزيد معناه على لفظه.

ومن هذا تعلم أن الخلاف بينهم في الاسم ، لا في المسمى ، والطريقة الأولى أشهر بين أئمة الفن ، ولذا قد جرينا عليها.

المبحث الثاني في الايجاز

الإيجاز لغة التقصير ، يقال : أوجز في كلامه ، اذا قصره ، وكلام وجيز أي قصير.

وفي الإصطلاح اندراج المعاني المتكاثرة تحت اللفظ القليل ، أو هو التعبير عن المقصود بلفظ أقل من المتعارف (١) واف بالمراد لفائدة (٢).

__________________

(١) أي متعارف أوساط الناس على ما سيأتي في المساواة.

(٢) والفائدة كون المأتى به هو المطابق للحال ولا مقتضى للعدول عنه.

١٨٢

فإذا لم يف كان إخلالا وحذفا رديئا كقول الحارث بن حلزة اليشكري :

والعيش خير في ظلا

ل النوك ممن عاش كدا (١)

لا شك أنه يريد : والعيش الناعم الرغد خير في ظلال النوك والحمق من العيش الشاق في ظلال العقل ، لكن لحن كلامه لا يدل على هذا ، إلا بعد التأمل ، وإمعان النظر.

وقول عروة بن الورد :

عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم

ومقتلهم عند الوغى كان أعذرا

فإنه يريد : إذ يقتلون نفوسهم في السلم.

وقول بعضهم نثرا :

(فإن المعروف إذا زجا (٢) كان أفضل منه إذا توفر وأبطا)

لا شك أنه يريد : إذا قلّ وزجا.

وهو ضربان : إيجاز حذف ، وإيجاز قصر ، لأن الكلام القليل إن كان بعضا من كلام أطول منه فهو الأول ، وإن كان كلاما يفيد معنى كلام آخر أطول منه فهو الثاني.

إيجاز الحذف

الحذف إما مفردا أو حذف جملة أو حذف جمل :

١ ـ حذف المفرد أوسع مجالا من حذف الجملة ، إذ هو أكثر استعمالا ، وذلك على صور :

__________________

(١) النوك بضم النون وفتحها : الحمق ، وقبله :

عش بجد لا يضر

ك النوك ما أوليت جدا

(٢) زجا الخراج : تيسرت جبايته ، فهو يريد السهولة والتيسير.

١٨٣

(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ)(١) أي سدهما ، وقوله عزوجل : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ)(٢) أي رحمته ، وقوله تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ)(٣) أي عذاب ربهم.

(ه) حذف المضاف اليه ، وهو قليل ، كقوله تعالى : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ)(٤) أي من قبل ذلك ومن بعده.

(و) حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه وهو فاش كثير الاستعمال نحو : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ)(٥) ، أي حور قاصرات الطرف ، وأكثر ما يكون ذلك في باب النداء ، نحو : يا أيها الظريف ، تقديره : يا أيها الرجل الظريف ، وفي باب المصدر ، نحو : (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً)(٦) تقديره : وعمل عملا صالحا.

(ز) حذف الصفة وإقامة الموصوف مقامها ، وهو نادر (٧) ، ومن ذلك ما حكاه سيبويه ، من نحو قولهم : سير عليه ليل ، يريدون : ليل طويل.

وقول الحماسي : كل امريء ستئيم منه العرس أو منها يئيم ، تقديره : كل امريء متزوج ، لأن المعنى لا يصح إلا به ، ومنه أن يتقدم مدح إنسان والثناء عليه ، فتقول : كان والله رجلا ، فأنت تعني أنه كان رجلا فاضلا جوادا كريما.

(ح) حذف القسم ، كقولك : لأخرجن ، أي : والله لأخرجن.

(ط) حذف جواب القسم ، وهو كثير في القرآن الكريم ، نحو :

__________________

(١) سورة الأنبياء الآية ٩٦.

(٢) سورة الأحزاب الآية ٢١.

(٣) سورة النمل الآية ٥٠.

(٤) سورة الروم الآية ٤.

(٥) سورة ص الآية ٥٢.

(٦) سورة الفرقان الآية ٧١.

(٧) وإنما قل حذف الصفة وكثر حذف الموصوف لأن الصفة ما جاءت إلا للايضاح والبيان ، فيكثر أن تقوم مقام الموصوف ، بخلافه هو ، فانه يكثر إبهامه ، فلا جرم ان كان قيامه مقامها نادرا.

١٨٤

(وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ)(١) تقديره : لتعذبن يا كفار مكة.

(ي) حذف الشرط ، نحو : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)(٢) تقديره : فإن لم يتسن لكم إخلاص العبادة لي في أرض فإياي فاعبدون في غيرها.

(ك) حذف جواب الشرط ، وهو نوعان :

١ ـ أن يحذف لمجرد الاختصار ، كقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(٣) ، أي اعرضوا ، بدليل قوله تعالى بعده : (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ)(٤).

٢ ـ أن يحذف للدلالة على أنه شيء لا يحيط به الوصف أو لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن فلا يتصور شيئا إلا والأمر أعظم منه ، نحو : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ)(٥).

(ل) حذف حروف المعاني ، وقد توسعوا في ذلك ، لكثرة دورانها ، وفشو استعمالها ، وكثر ذلك في :

(لا) كقول عاصم المنقري :

رأيت الخمر جامحة وفيها

خصال تفسد الرجل الحليما

فلا والله أشربها حياتي

ولا أسقي بها أبدا نديما

(لو) نحو : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ)(٦) تقديره : إذ لو كان معه آلهة لذهب كل إله بما خلق.

__________________

(١) سورة الفجر الايات ١ و ٢ و ٣.

(٢) سورة العنكبوت الاية ٦.

(٣ و ٤) سورة يس الايتان ٤٥ و ٤٦.

(٥) سورة الزمر الاية ٧٣.

(٦) سورة المؤمنون الاية ٩١.

١٨٥

(الواو) ولحذفها فائدة لا توجد عند إثباتها لأن وجودها يؤذن بالتغاير بين الجملتين ، وحذفها يصير الجملتين كأنهما جملة واحدة ، وهذا من بديع الإيجاز وحسنه ، كحديث أنس بن مالك : كان أصحاب رسول الله ينامون ، ثم يصلون لا يتوضئون ، وفي رواية ولا يتوضئون ، فالحذف دل على اتصال الجملتين حتى كأن الثانية إحدى متعلقات الأولى ، فهو في حكم : ينامون ، ثم يصلون غير متوضئين ، وبذا تتم المبالغة المرادة ، وهي أنهم لا يذوقون النوم إلا غرارا.

٢ ـ حذف الجملة (١) ، وهذا يكون إما :

(أ) بحذف مسبب ذكر سببه نحو : ليحق الحق ويبطل الباطل ، أي فعل ما فعل ، ومنه قول أبي الطيب :

أتى الزمان بنوه في شبيبته

فسرهم وأتيناه على الهرم

(أي فساءنا).

(ب) عكسه نحو : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ)(٢) ، أي فضربه بها فانفجرت.

(ج) بحذف الأسئلة المقدرة ويلقب بالإستئناف ، وذلك على أنواع :

١ ـ استئناف باعادة اسم ما استؤنف عنه ، كقولك : أحسنت (٣) الى علي ، علي حقيق بالإحسان ، فتقدير المحذوف ، وهو السؤال المقدر : لماذا أحسن ، أو نحو ذلك.

٢ ـ استئناف باعادة صفته كقولك : أكرمت محمدا ، صديقك القديم أهل لذلك منك. تقدير السؤال المحذوف : هل هو حقيق بالإكرام ، والنوع الثاني أبلغ ، لاشتماله على بيان السبب الموجب للحكم كالصداقة في هذا المثال.

٣ ـ حذف الجمل وأكثر ما يرد في كلام رب العزة ، فهناك تتجلى مراتب

__________________

(١) المراد بالجملة هناك ، الكلام المستقل بالافادة ، الذي لا يكون جزء من كلام آخر ، وإلا دخل الشرط والجزاء ، وقد تقدم عد حذفهما من حذف المفرد.

(٢) سورة البقرة الاية ٦٠.

(٣) المقصود من الاخبار ، إعلام المخاطب بأنه وقع الاحسان منه الى على ، لتقرير الاحسان السابق واستجلاب الاحسان اللاحق.

١٨٦

الإعجاز ، ويظهر مقدار التفاوت في صنعة الكلام ، وذلك كقوله تعالى : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى)(١) ، أي فضربوه بها فحيي ، فقلنا : كذلك يحيي الله الموتى ، وقوله تعالى : (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ)(٢) ، أي فأرسلوني الى يوسف لأستعيره الرؤيا فأرسلوه اليه فأتاه وقال : يا يوسف ، وقوله (فقلنا اذهبا الى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا) أي فأتياهم فأبلغاهم الرسالة فكذبوهما فدمرناهم تدميرا.

والحذف على وجهين :

١ ـ ألا يقام شيء مقام المحذوف كما تقدم.

٢ ـ أن يقام مقامه ما يدل عليه كقوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ)(٣) ، أي فلا لوم عليّ لأني قد أبلغتكم.

وأدلة الحذف كثيرة ، منها :

(أ) العقل الدال على المحذوف ، والمقصود الأظهر ، الدال على تعيينه كقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)(٤) الآية ، فالعقل يدل على أن الحرمة إنما تتعلق بالأفعال لا بالذوات ، والذي يتبادر قصده من مثل هذه الأشياء إنما هو التناول الذي يعم الأكل والشرب.

(ب) العقل الدال عليهما معا ، كقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) أي أمره ، أو عذابه.

ويرى صاحب «الكشاف» أن هذا ليس من باب الحذف وإنما هو تمثيل لظهور قدرته وتبيين لسلطانه وقهره ، فمثلت حاله في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره ووزرائه وخواصه على بكرة أبيهم.

(ج) العقل الدال على المحذوف والعادة الدالة على تعيينه ، كقوله تعالى :

__________________

(١) سورة البقرة الاية ٧٣.

(٢) سورة يوسف الاية ٤٥.

(٣) سورة هود الاية ٥٧.

(٤) سورة المائدة الاية ٣.

١٨٧

(فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ)(١) ، فقد دل العقل على الحذف لأنه لا معنى للوم على ذات الشخص ، وأما تعيين المحذوف فإنه يحتمل أن يقدر في حبه ، لقوله : شغفها حبا ، أو في مراودته لقوله : تراود فتاها عن نفسه ، أو في شأنه حتى يشملهما معا ، ولكن العادة تقتضي بأن الحب المفرط لا يلام عليه صاحبه ، لأنه ليس من كسبه واختياره ، وإنما يلام على المراودة التي يقدر أن يدفعها عن نفسه.

(د) العقل الدال على المحذوف ، والشروع في الفعل الدال على تعيينه ، كما في : باسم الله ، فإنك تقدر المتعلق ما جعلت التسمية مبدأ له من نحو : آكل أو أشرب أو أسافر.

(ه) العقل الدال على المحذوف واقتران الكلام بالفعل الدال على تعيينه ، كما تقول للمعرس : بالرفاه والبنين ، أي أعرست.

إيجاز القصر

هو ما تزيد فيه المعاني على الألفاظ الدالة عليها بلا حذف ، وللقرآن الكريم فيه المنزلة التي لا تسامى والغاية التي لا تدرك ، نحو : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)(٢) ، فتلك آية جمعت مكارم الأخلاق ، وانطوى تحتها كل دقيق وجليل ، إذ في العفو الصفح عمن أساء ، والرفق في سائر الأمور ، بالمسامحة والاغضاء ، وفي الأمر بالمعروف صلة الأرحام ومنع اللسان عن الكذب والغيبة ، وغض الطرف عن المحارم ، وفي الاعراض عن الجاهلين الصبر والحلم وكظم الغيظ.

ويقول عز اسمه : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ)(٣) ، فقد استوعبت تلك الكلمات القليلة أنواع المتاجر وصنوف المرافق التي لا يبلغها العد ، وقوله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فهاتان كلمتان أحاطتا بجميع الأشياء على غاية الاستقصاء ، ولذا روي أن ابن عمر قرأها ، فقال : من بقي له شيء فليطلبه.

__________________

(١) سورة يوسف الاية ٣٢.

(٢) سورة الأعراف الاية ١٩٩.

(٣) سورة البقرة الاية ١٦٤.

١٨٨

وقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ)(١) ، فتلك جملة تضمنت سرا من أسرار التشريع الجليلة ، التي عليها مدار (سعادة المجتمع البشري في دنياه وأخراه) بيان ذلك أن الإنسان اذا همّ بقتل آخر لشيء غاظه منه فذكر أنه إن قتله قتل ، ارتدع عن القتل ، فسلم المهموم بقتله ، وصار كأنه استفاد حياة جديدة ، فيما يستقبل بالقصاص مضافة الى الحياة الأصلية ، وأن هذا مما أثر عن العرب من قولهم : القتل أنفى للقتل ، فإن الآية تمتاز بوجوه (٢) :

١ ـ أنها كلمتان وما أثر عنهم أربع.

٢ ـ لا تكرار فيها وفيما قالوه تكرار.

٣ ـ ليس كل قتل يكون نافيا للقتل ، وإنما يكون ذلك إذا كان على جهة القصاص.

٤ ـ حسن التأليف وشدة التلاؤم المدركان بالحسن فيها لا في ما قالوه.

٥ ـ أن فيها الطباق للجمع بين القصاص والحياة ، وهما كالضدين كما ستعرف ذلك في البديع.

٦ ـ أن فيها التصريح بالمطلوب وهو الحياة بالنص عليها ، فيكون أزجر عن القتل بغير حق وأدعى إلى الاقتصاص.

٧ ـ أن القصاص جعل فيها كالمنبع للحياة والمعدن لها بادخال (في) عليه ، فكأن أحد الضدين ، وهو الفناء ، صار محلا لضده الآخر ، وهو الحياة ، وفي ذلك ما لا يخفى من المبالغة ، وقد نظم أبو تمام معنى ما ورد عن العرب في شطر بيت ، فقال :

وأخافكم كي تغمدوا أسيافكم

(إن الدم المغبر يحرسه الدم)

كما للسنّة النبوية من ذلك الحظ الأوفر ، ويرشد الى ذلك قوله عليه‌السلام : «أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا».

فمن ذلك قوله عليه‌السلام : المعدة بيت الداء ، والحمية رأس الدواء ، وعوّدوا كل جسم ما اعتاد .. فهو قد جمع من الأسرار الطبية الشيء الكثير.

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٧٩.

(٢) فاضل بينهما السيوطي في «الاتقان» بأكثر من عشرين وجها ، أهمها ما ذكرنا.

١٨٩

وقوله عليه‌السلام : الطمع فقر واليأس غنى.

وقول علي كرم الله وجهه : ثمرة التفريط الندامة ، لكل مقبل إدبار وما أدبر كان كأن لم يكن ، لا يعد من الصبور الظفر وإن طال به الزمان ، من استقبل وجوه الآراء عرف وجوه الخطأ ، من أحدّ سنان الغضب لله قوي على قتل أسد الباطل.

وقول بعض الأعراب : اللهم هب لي حقك وارض عني خلقك.

فلما سمعه علي كرم الله وجهه قال : هذا هو البلاغة.

وقول السمؤل بن عاديا الغساني :

وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها

فليس الى حسن الثناء سبيل

فقد اشتمل على مكارم الأخلاق من سماحة وشجاعة وتواضع وحلم وصبر وتكلف واحتمال مكاره ، إذ كل هذه مما تضيم النفس ، لما يحصل في تحملها من المشقة والعناء.

المبحث الثالث في المساواة (١) ـ إيجاز التقدير

هي التعبير عن المعنى المقصود بلفظ مساو له لفائدة (٢) ، بحيث لا يزيد أحدهما على الآخر ، حتى لو نقص اللفظ تطرق الخرم الى المعنى بمقدار ذلك النقصان ، وهي المذهب المتوسط بين الإيجاز والاطناب.

وإليها يشير القائل كأن ألفاظه قوالب معانيه ، كقوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ)(٣)(كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ)(٤) ومتعوهن على الموسع قدره (وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ)).

__________________

(١) وهي لا تحمد ولا تذم ، إذ لا يحتاج فيها الى اعتبار نكتة ، بل يكفي فيها عدم المقتضى للعدول عنها ، إلا إذا اقتضى المقام تأدية أصل المعنى وراعاه البليغ فان ذلك يكون محمودا ، ومن هذا ما جاء في القرآن الكريم والحديث الشريف وغيرهما من كلام فصحاء العرب.

(٢) وهو كون المأتي به هو الأصل ، ولا داعي للعدول عنه.

(٣) سورة الروم الآية ٤٤.

(٤) سورة الطور الآية ٢١.

١٩٠

وقوله عليه‌السلام : «الحلال بيّن والحرام بيّن وبين ذلك مشتبهات .. إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى .. الضعيف أمير الركب».

وقول علي كرم الله وجهه : عليكم بطاعة من لا تعذرون بجهالته ، قد بصرتم إن أبصرتم وهديتم إن اهتديتم.

المبحث الرابع في الاطناب

هو لغة مصدر أطنب في كلامه اذا بالغ فيه وطول ذيوله ، واصطلاحا زيادة اللفظ على المعنى لفائدة ، فخرج بذكر الفائدة التطويل والحشو ، والفرق بينهما أن الزائدة إن كان غير متعين كان تطويلا ، وإن كان متعينا كان حشوا ، وكلاهما بمعزل عن مراتب البلاغة ، فالأول نحو :

ألا حبذا هند وأرض بها هند

وهند أتى من دونها النأي والبعد

فالنأي والبعد واحد ، ولا يتعين أحدهما للزيادة.

والثاني ضربان :

(أ) ما يفسد به المعنى كقول أبي الطيب في رثاء غلام لسيف الدولة :

ولا فضل فيها للشجاعة والندى

وصبر الفتى لو لا لقاه شعوب

يريد أنه لا خير في الدنيا للشجاعة الصبر لو لا الموت ، وهذا حسن جميل ، لأنهما إنما عدا من الفضائل لما فيهما من الاقدام على الموت واحتمال المكاره ، ولو علم الإنسان أنه خالد في الدنيا لهان عليه اقتحام المخاطر ، كما أنه لو أيقن بزوال المكروه صبر لوثوقه بالخلاص ، أما الندى فعلى العكس من ذلك لأن الموت يجعل البذل سهلا إذ من علم أنه ميت فهو جدير أن يجود بماله ، كما قال طرفة :

فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي

فذرني أبادرها بما ملكت يدي

فهو حشد مفسد ، وقد اعتذر له بعض الناس بما فيه تكلف وتعسف.

(ب) ما لا يفسد به كقول أبي العيال الهذلي :

ذكرت أخي فعاودني

صداع الرأس والوصب (١)

فذكر الرأس مع الصداع حشو ، لأنه لا يكون في غيره من الأعضاء.

__________________

(١) الوصب : نحول الجسم ، من تعب ، أو مرض.

١٩١

وقول أبي عدي :

نحن الرؤوس وما الرؤوس اذا

سمت في المجد للأقوام كالأذناب

فإن قوله : للأقوام ، حشو لا فائدة فيه ، مع أنه غير مفسد.

(تنبيه) قال بدر الدين بن مالك في «المصباح» : يكثر الحشو بلفظ : أصبح وأمسى وعدا وإلا وقد واليوم ولعمري ويا صاحبي.

كما قال أبو تمام :

أقروا (لعمري) بحكم السيوف

وكانت أحق بفصل القضا

وكما قال البحتري :

ما أحسن الأيام إلا أنها

(يا صاحبي) إذا مضت لم ترجع

والداعي إليه إما إصلاح وزن الشعر ، أو تناسب للقوافي وحروف الروي ، أو قصد السجع في النثر.

ويكون الاطناب بأمور شتى ، منها :

١ ـ الايضاح بعد الابهام ، ليرى المعنى في صورتين مختلفتين ، وليتمكن في النفس فضل تمكن ، فإن الكلام اذا قرع السمع على جهة الابهام ذهب السامع فيه كل مذهب ، فإذا وضح تمكن في النفس فضل تمكن ، وكان شعورها به أتم ، ومنه قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ)(١).

فقوله تعالى : أن دابر هؤلاء ، تفسير لذلك الأمر ، تفخيما لشأنه ، ولو قيل : وقضينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع ، لم يكن له من الروعة مثل ما كان له حين الابهام ـ يرشد الى ذلك أنك لو قلت : هل أدلكم على أكرم الناس أبا وأفضلهم حسبا وأمضاهم عزيمة وأنفذهم رأيا ، ثم قلت : فلان ، كان أدخل في مدحه وأنبل وأفخم مما لو قلت : فلان الأكرم الأفضل.

ومن ضروبه باب : نعم وبئس ، على قول : من يجعل المخصوص خبر مبتدإ محذوف ، إذ لو أريد الاختصار لقيل : نعم وبئس أبو لهب ، عوضا من قولك : نعم الرجل محمد ، وبئس الرجل أبو لهب.

__________________

(١) سورة الحجر الآية ٦٦.

١٩٢

ووجه حسنه إبراز الكلام في معرض الاعتدال ، نظرا الى اطنابه من وجه ، وإيجازه من وجه آخر ، الى إيهام الجمع بين المنافقين.

والتوشيع (١) ، وهو أن يؤتى في عجز الكلام بمثنى مفسر باسمين ، أحدهما معطوف على الآخر ، نحو قوله عليه‌السلام : «خصلتان لا يجتمعان في مؤمن ، البخل وسوء الخلق» ، وقول ابن الرومي يمدح عبد الله بن وهب :

اذا أبو القاسم جادت لنا يده

لم يحمد الأجودان البحر والمطر

وإن أضاءت لنا أنوار غرته

تضاءل النيران الشمس والقمر

٢ ـ ذكر الخاص بعد العام تنبيها الى ما له من المزية حتى كأنه ليس من جنس العام ، وتنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات كقوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ)(٢) ، فذكر جبريل وميكايل مع دخولهما في الملائكة ، للتنبيه على زيادة فضلهما.

٣ ـ التكرير ، وقد جاء في القرآن الكريم ، وكلام العرب منه شيء كثير ، ويكون إما :

(أ) للتأكيد كقوله تعالى : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ، ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ)(٣) ، وقوله : كم نعمة كانت لكم كم كم وكم.

(ب) لزيادة التنبيه الى ما ينفي التهمة ليكمل تلقي الكلام بالقبول ، نحو : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ)(٤) اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٥) ، يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع.

(ج) لتعدد المتعلق ، كما كرر الله عزوجل في سورة الرحمن قوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٦) لأنه تعالى عدّد فيها نعماءه وذكّر عباده آلاءه ،

__________________

(١) لغة لف القطن المندوف.

(٢) سورة البقرة الآية ٩٨.

(٣) سورة النبأ الآيتان ٤ و ٥.

(٤) إذ تكرار يا قوم مع إضافة الى ياء المتكلم يفيد بعد القائل عن التهمة في النصح إذ أنهم قومه ، فلا يريد لهم إلا ما يريده لنفسه.

(٥) سورة غافر الآية ٣٨.

(٦) سورة الرحمن الآية ١٦.

١٩٣

ونبههم الى قدرها وقدرته عليها ولطفه فيها ، وجعلها فاصلة بين كل نعمة ليعرف موضع ما أسداه اليهم منها.

وقد جاء مثل ذلك كثيرا في كلام العرب ، ألا ترى الى مهلهل وقد كرر قوله : «على أن ليس عدلا من كليب (١)» في أكثر من عشرين بيتا من قصيدته ، وإلى الحرث بن عباد وقد كرر قوله : «قربا مني مربط النعامة (٢)» أكثر من سابقة ، لأنهما رأيا الحاجة ماسة إلى التكرير ، والضرورة داعية اليه ، لعظم الخطب وشدة موقع النكبة.

٤ ـ الإيغال (٣) ، وهو ختم البيت بما يفيد النكتة ، يتم المعنى بدون التصريح بها ، وذلك إما :

(أ) لزيادة المبالغة والتأكيد ، كقول الخنساء :

وإن صخرا لشأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

فقولها : في رأسه نار ، من الإيغال الحسن ، إذ لم تكتف بأن تشبهه بالعمل الذي هو الجبل المرتفع المشهور بالهداية حتى جعلت في رأسه نارا ، لما في ذلك من زيادة الظهور والانكشاف.

(ب) لتحقيق التشبيه ، كقول امريء القيس :

كأن عيون الوحش حول خبائنا

وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب (٤)

فقد أكد التشبيه وأظهر رونقه بقوله : لم يثقب ، لأن الجزع إذا كان غير مثقوب كان بالعيون أشبه ، وقيل : لا يختص بالشعر ، بل يكون في النثر كقوله تعالى : (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ)(٥) ، فإن الرسل مهتدون لا محالة ، فالمعنى يتم بدون التصريح بقوله تعالى (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) إلا أن فيه زيادة حث وترغيب على اتباع الرسل.

__________________

(١) العدل : النظير ، وتكملة البيت الأول منها : اذا طرد اليتيم عن الجزور.

(٢) النعامة فرسه ، وبجير ابنه وكان قد قتله مهلهل حين الأخذ بالثأر.

(٣) من أوغل في البلاد اذا أبعد فيها.

(٤) الجزع (بفتح الجيم) خرز يمان فيه بياض وسواد تشبه به العيون.

(٥) سورة يس الآية ٢١.

١٩٤

٥ ـ التذييل (١) ، وهو الاتيان يجملة مستقلة عقب الجملة الأولى التي تشمل على معناها للتأكيد ، وهو ضربان :

(أ) أن يخرج مخرج المثل بأن يقصد بالجملة الثانية حكم كلي منفصل عما قبله جار مجرى الأمثال في فشو الاستعمال ، نحو : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)(٢) ، وقول الحطيئة :

نزور فتى يعطي على الحمد ما له

ومن يعط أثمان المكارم يحمد

(ب) ألا يخرج مخرج المثل بألا يستقل بالإفادة دون ما قبله ، نحو قول ابن نباتة السعدي :

لم يبق وجودك لي شيئا اومّله

تركنني أصحب الدنيا بلا أمل

وقوله تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ)(٣).

وينقسم أيضا الى :

(أ) ما كان تأكيدا لمنطوق الكلام كالآية : وقل جاء الحق ، الخ.

(ب) ما كان تأكيدا لمفهومه ، كقول النابغة :

ولست بمستبق أخا لا تلمه

على شعث أيّ الرجال المهذّب (٤)

فصدر البيت دل بمفهومه على نفي الكامل من الرجال ، وقد حقق ذلك بعجزه :

٦ ـ التكميل ، ويسمى الاحتراس أيضا ، وهو أن يؤتى في كلام يوهم خلاف المراد بما يدفعه ، وهو ضربان :

(أ) أن يتوسط الكلام ، كقوله :

لو أن عزّة خاصمت شمس الضحى

في الحسن (عند موفّق) لقضى لها

إذ التقدير : عند حاكم موفق ، فقوله : موفق ، تكميل.

__________________

(١) هو أعم من الايغال من جهة أن يكون في الآخر وغيره وأخص من جهة أن الايغال قد يكون بغير الجملة ولغير التوكيد.

(٢) سورة الإسراء الآية ٨١.

(٣) إذ المراد : ذلك الجزاء المخصوص (سورة سبأ).

(٤) الشعث : التفرق والخصال الذميمة.

١٩٥

وقول ابن المعتز :

صببنا عليها (ظالمين) سياطنا

فطارت بها أيد سراع وأرجل

فقوله : ظالمين ، تكميل دفع به توهم أنها بليدة تستحق الضرب.

(ب) أن يقع آخر الكلام ، كقوله تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ)(١) ، فإنه لو اقتصر على وصفهم : بالذلة على المؤمنين ، لتوهم أنها ناشئة من ضعفهم ، فدفع هذا ، بقوله تعالى : (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ).)

وقول السموأل بن عادياء.

وما مات منا سيد في فراشه

ولا طلّ منا حيث كان قتيل

فإنه لو اقتصر على وصف قومه بشمول القتل إياهم فربما علق بالوهم أن ذلك لضعفهم وقلتهم ، فأزال هذا الوهم بالانتصار من قاتليهم.

٧ ـ التتميم ، وهو أن يؤتى في كلام لا يوهم ، خلاف المقصود بفضله ، كمفعول أو حال أو نحو ذلك ، لقصد المبالغة (٢) ، كقول زهير يمدح هرم بن سنان :

من يلق يوما على علّاته هرما

يلق السماحة منه والندى خلفا

فقوله : على علاته ، أي على كل حال أو على ما فيه من الأحوال والشئون ، تتميم وقع في غاية الحسن والرشاقة.

٨ ـ الاعتراض ، وهو أن يؤتى في أثناء الكلام (٣) أو بين كلامين متصلين معنى (٤) بجملة أو أكثر لا محل لها من الاعراب (٥) لنكتة سوى دفع الإيهام (٦).

وهو من دقائق البلاغة وسحر البيان (٧) ، وفائدته إما :

__________________

(١) سورة المائدة الآية ٥٤.

(٢) فالمتكلم يحاول ألا يدع شيئا مما به يتم حسن المعنى.

(٣) خرج الايغال لأنه في الآخر.

(٤) بأن يكون الثاني بيانا للاول أو تأكيدا أو بدلا منه.

(٥) خرج التتميم لوجود الاعراب فيه.

(٦) خرج التكميل.

(٧) لما فيه من حسن الافادة مع مجيئه مجيء ما لا معول عليه في الافادة ، فهو كالحسنة تأتي من حيث لا ترتقب.

١٩٦

(أ) التنزيه والتعظيم ، كقوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ)(١) فسبحانه (٢) مسوق للتنزيه عن اتخاذ البنات.

(ب) أو التقرير في نفس السامع نحو : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ)(٣) فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها (٤) فقوله : والله مخرج ، جاءت معترضة لتقرير أن تدافع بني إسرائيل في قتل النفس ليس نافعا في إخفائه وكتمانه ، لأن من لا تخفى عليه خافية مظهره لا محالة.

(ج) أو التصريح بما هو المقصود ، كقول كثير عزة :

لو أن الباخلين وأنت منهم

رأوك تعلّموا منك المطالا

فقوله : وأنت منهم ، تصريح بما هو المقصود من ذمة وتأكيد ، لانصراف الذم اليه.

(د) أو الدعاء ، كقول أبي الطيب :

ويحتقر الدنيا احتقار مجرّب

يرى كلّ ما فيها وحاشاك فانيا

فقوله : وحاشاك ، اعتراض حسن في موضعه ، والواو في مثله اعتراضية ليست عاطفة ولا حالية (٥).

(ه) أو تنبيه المخاطب على أمر يؤكد الإقبال على ما أمر به مما فيه مسرته كقوله :

واعلم فعلم المرء ينفعه

أن سوف يأتي كل ما قدرا

(و) أو الاستعطاف ، كقول المتنبي :

وخفوق قلب لو رأيت لهيبه

يا جنتي لرأيت فيه جهنما

(ز) أو تنبيه المخاطب على أمر غريب ، كقوله :

__________________

(١) سورة النحل الآية ٥٧.

(٢) هو جملة لأنه مصدر بتقدير الفعل.

(٣) تدافعتم واختصمتم.

(٤) سورة البقرة الآية ٧٢.

(٥) الفرق بين الواو الحالية والاعتراضية بالقصد ، فان قصد كون الجملة قيدا للعامل ، فهي حالية ، وإلا فهي اعتراضية.

١٩٧

فلا هجره يبدو وفي اليأس راحة

ولا وصله يبدو لنا فنكارمه

فإن قوله : فلا هجره يبدو ، يشعر بأن هجر الحبيب أحد مطلوبيه ، وغريب أن يكون هجر الحبيب مطلوبا للمحب ، فقال : (وفي اليأس راحة) لينبه إلى السبب.

ومما جاء بين كلامين متصلين معنى ، وهو أكثر من جملة أيضا ، قوله تعالى : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ)(١) ، فإن قوله : نساؤكم حرث لكم ، بيان لقوله : فأتوهن من حيث أمركم الله ، لإفادة أن الغرض الأصلي من الإتيان هو طلب النسل لا قضاء الشهوة فقط ، وما بينهما اعتراض للترغيب فيما أمروا به ، والتنفير عما نهوا عنه.

٩ ـ النفي والإثبات بأن يذكر الشيء على جهة النفي ، ثم يثبت أو بالعكس نحو : (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ)(٢) ، نفى عنهم أولا العلم بما خفى عليهم من تحقيق وعده ، ثم أثبت لهم آخرا العلم بظاهر الحياة الدنيا دون ما كان مؤديا الى الجنة.

١٠ ـ ما كان كقولهم : رأيته بعيني ، وقبضته بيدي ، ووطئته بقدمي ، وذقته بلساني ـ يذكرون الظروف فيما يصعب حصوله ، دلالة على أن نيله ليس بمتعذر ، وعلى هذا جاء قول البحتري :

تأمل من خلال السجف وانظر

بعينك ما شربت ومن سقاني

تجد شمس الضحى تدنو بشمس

إليّ من الرحيق الخسرواني (٣)

فحضور مثل هذا المجلس نادر ، ولا سيما اذا كان الساقي فيه على ما وصف من الحسن ، ومن ثم قال : انظر بعينك.

(تنبيه) قد يوصف الكلام بالإيجاز والاطناب باعتبار كثرة حروفه وقلتها بالنسبة الى كلام آخر مساويا له في أصل المعنى كقول الشماخ يمدح عرابة الأوسي :

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٢٣.

(٢) سورة الروم الآية ٦.

(٣) السجف بالكسر والفتح : الستار ، والخسرواني ضرب من الثياب منسوب لبلاد فارس.

١٩٨

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقاها عرابة باليمين

مع قول بشر بن أبي حازم يمدحه أيضا :

إذا ما المكرمات رفعن يوما

وقصّر مبتغوها عن مداها (١)

وضاقت أذرع المثرين عنها

سما أوس اليها فاحتواها

المبحث الخامس ـ الايجاز أفضل أم الاطناب مواضع كل منهما

اختلفت آراء الأئمة في تفضيل الايجاز على الاطناب ، أو العكس ، فمن مفضل للايجاز ، كشبيب بن شيبة ، إذ يقول : القليل الكافي خير من كثير غير شاف.

ويقول آخر : اذا طال الكلام عرضت له أسباب التكلف ، ولا خير في شيء يأتي به التكلف.

ومن مرجح للاطناب وحجته أن المنطق إنما هو البيان ، والبيان لا يكون إلا بالإشباع ، والشفاء لا يقع إلا بالإقناع ، وأفضل الكلام أبينه ، وأبينه أشده إحاطة بالمعاني ، ولا يحاط بالمعاني إحاطة تامة إلا بالاستقصاء ، أضف الى ذلك أن الايجاز للخواص ، والاطناب مشترك بين الخاصة والعامة ، والغبي والفطن.

والمختار ، أن الحاجة الى كل ماسة ، وأن لكل موضعا لا يسد عنه فيه سواه ، فمن استعمل أحدهما في موضع الآخر ، فقد أخطأ.

قال جعفر بن يحيى : متى كان الايجاز أبلغ كان الاكثار وعيا ، ومتى كانت الكفاية في موضع الاكثار ، كان الايجاز تقصيرا ، يرشد الى ذلك قول القائل يصف خطباء إباد :

يرمون بالخطب الطوال وتارة

وحي الملاحظ خشية الرقباء (٢)

وقد استحبوا الايجاز في المواضع الآتية :

__________________

(١) رفع المكرمات يراد به بروزها للطالبين ، ومبتغوها طالبوها ، واحتواها أخذها.

(٢) الوحي الاشارة بالكلام الخفي ، والملاحظ جمع ملحظ كمطلب اللحظ ووحي منصوب على المصدر ، أي تارة يوحون ، أي يأتون بكلام سريع خفي ، كحال من ينظر الى حبيبه بمؤخر عينيه خوفا من الرقباء.

١٩٩

١ ـ الكتب الصادرة عن الملوك الى الولاة في أوقات الحروب والأزمات.

٢ ـ الأوامر والنواهي السلطانية.

٣ ـ كتب السلطان بطلب الخراج وجباية الأموال وتدبير الأعمال.

٤ ـ كتب الوعد والوعيد.

٥ ـ الشكر على النعم التي تسبغ ، والعوارف التي تسدى.

٦ ـ الاستعطاف وشكوى الحال وسؤال حسن النظر وشمول العناية.

٧ ـ التنصل من الذنب والاعتذار من التقصير بإيراد الحجج التي تقنع المخاطب وتزيل موجدته.

واستحسنوا البسط والاطناب في المواضع التالية :

(١) ما يكتب به عن الملوك في جسيمات الأمور التي يراد تقريرها في نفوس العامة ، كأخبار الفتوح المتجددة ، فهذا موضع يشبع فيه القول ، حتى تعرف الرعية قدر النعمة ، فتزيد في الطاعة ، ولا بأس من تهويل أمر العدو ووصف جمعه ، وعظيم إقدامه ، لأن في تصغير أمره تحقيرا للظفر به.

(٢) ما يكتب به عن الملوك الى أهل الثغور ، في أوقات التحرش بالمملكة ، وإقدام العدو على الهجوم عليها ، ليعلموا ذلك فيستعدوا للقاء.

(٣) ما يكتب به الولاة ، ومن في حكمهم ، الى الملوك لإخبارهم بأحوال ما ينظرون فيه من الأعمال وما يجري على أيديهم من مهام الأمور.

(٤) الموعظة والارشاد بالترغيب في الطاعة والنهي عن المعصية ، حتى يرتاح قلب المطيع وينبسط أمله ، ويرتاع قلب المسيء ويأخذ الخوف منه كل مأخذ.

(٥) الخطب في الصلح بين العشائر لإصلاح ذات البين.

(٦) المدح والثناء والهجاء.

أسرار البلاغة في الايجاز والاطناب

قد عرفت كلا من الايجاز والاطناب ومواضع كل منهما ، فعليك أن تعرف الدواعي التي لأجلها استعملتها العرب في كلامها.

فمن دواعي الايجاز :

٢٠٠