علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع

أحمد مصطفى المراغي

علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع

المؤلف:

أحمد مصطفى المراغي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 2-7451-1097-7
الصفحات: ٣٩٩

نحو : (أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(١) ، (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(٢) ، (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها)(٣) ، إلى غير ذلك مما لا يحصى.

المبحث السابع في تعريف المسند اليه بالاضافة

يعرف المسند اليه بالإضافة لمزايا كثيرة ، منها :

١ ـ أن تكون أخصر طريق لإحضاره في ذهن المخاطب والمقام يقتضي ذلك لفرط الضجر والسآمة ، كقول جعفر بن عبلة حين حبس بمكة :

هو أي مع الركب اليمانين مصعد

جنيب وجثماني بمكة موثق (٤)

فهو أي مهوى أخصر من الذي أهواه ونحوه ، مع كون الاختصار مطلوبا لضيق المقام.

٢ ـ أن تغني عن تفصيل متعذر نحو : أجمع أهل الحق على كذا ، وقول حسان بن ثابت :

أولاد جفنة حول قبر أبيهم

قبر ابن مارية الكريم المفضل (٥)

أو متعسر إما باعتبار الكثرة نحو : أهل القاهرة فعلوا كذا ، أو باعتبار لزوم تقديم بعض على بعض بدون مرجح نحو : علماء البلد اتفقوا على كذا.

٣ ـ أن تتضمن تعظيم شأن المضاف ، أو المضاف اليه ، أو غيرهما ، نحو : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ)(٦) ، ونحو : خادمي اليوم عمل كذا ، ونحو : رسول السلطان زار فلانا ، وعليه من غير المسند اليه قوله :

لا تدعني إلا بياعبدها

فإنه أشرف أسمائي

٤ ـ أن تتضمن تحريضا على الإكرام نحو : صديقك عندك.

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٣٤.

(٢) سورة آل عمران الآية ١٤٨.

(٣) سورة البقرة الآية ٣١.

(٤) اليمانون جمع يمان ، ومصعد من أصعد في الارض ، سار فيها. والجنيب المجنوب المستتبع والجثمان الشخص ، والموثق للقيد.

(٥) أولاد جفنة من الغساسنة الذين مدحهم حسان بالشام.

(٦) سورة الحجر الآية ٤٢.

١٢١

٥ ـ أن تتضمن تحريضا على الإذلال نحو : عدوك ببابك.

٦ ـ أن تتضمن استهزاء وتهكما نحو : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)(١).

المبحث الثامن في تعريف المسند

يعرف المسند لإفادة السامع حكما على أمر معلوم بإحدى طرق التعريف بآخر (٢) مثله في كونه معلوما للسامع بإحدى طرق التعريف سواء اتحد الطريقان نحو : الراكب هو المنطق ، أم اختلفا نحو : على هو المنطق.

بيان ذلك أن الشيء قد يكون له صفتان من صفات التعريف يعلم المخاطب اتصافه بإحداهما دون الأخرى فتحبره باتصافه بها فتفيده ما كان يجهله من اتصافه بالأخرى ، كما إذا كان للمخاطب أخ يسمى عليا وهو يعرفه بعينه واسمه لكن لا يعرف أنه أخوه وأردت أن تعرّفه ذلك فتقول : علي أخوك ، وإن عرف أن له أخا وأردت أن تعينه عنده باسمه قلت : أخوك علي. ومن البين في اختلاف المعنى اذا تقدمت إحدى المعرفتين ، أو تأخرت ، قولهم : (الحبيب أنت) (وأنت الحبيب) فمعنى الجملة الأولى أنه لا فرق بينك وبين من تحب اذا صدقت المحبة ، فما مثل المتحابين إلا مثل روح حل في جسمين ، كما قيل : الحبيب أنت إلا أنه غيرك ، ومعنى الثانية أنك أنت الذي اصطفيته من بين الناس بمحبتي واجتبيته بمودتي ، كما قال المتنبي :

أنت الحبيب ولكني أعوذ به

من أكون محبا غير محبوب

واعلم أن التعريف بلام الجنس قد يفيد قصر الخبر على المبتدأ ، وذلك على وجوه (٣) :

١ ـ أن يقصر المبتدأ على الخبر على سبيل الحقيقة نحو : محمد الرئيس في البلد اذا لم يكن هناك رئيس غيره.

__________________

(١) سورة الشعراء الآية ٢٧.

(٢) في هذا إشارة الى وجوب تغاير المسند اليه والمسند بحسب المفهوم ليكون الكلام مفيدا أما نحو : «أنا أبو النجم ، وشعري شعري» فمؤول أي شعري الآن مثل شعري فيما مضى.

(٣) أما التعريف بلام العهد فيفيد ما هو معهود للمخاطب كقولك : محمد هو المسافر.

١٢٢

٢ ـ أن يقصر عليه على سبيل المبالغة وعدم الاعتداد بما سواه ، كما تقول : علي الشجاع ، أي الكامل في الشجاعة ، فقد أخرجت الكلام في صورة توهم أن الشجاعة لا توجد إلا فيه ، لأنك لا تعتد بشجاعة غيره لقصورها عن رتبة الكمال.

٣ ـ أن يقصر عليه على سبيل الحقيقة ، لكن لا باعتبار ذاته ، بل باعتبار القيد بظرف أو حال ، كما تقول : هو الوفي حين لا تظن نفس بنفس خيرا ، فالمقصود هو الوفاء في هذا الوقت لا مطلقا ، ونحوه : هو الشجاع حين يحجم الأبطال ، قال الأعشى :

هو الواهب المائة المصطفا

ة إما مخاضا وإما عشارا (١)

فقد قصر هبة المائة من الإبل في إحدى الحالين لا هبتها مطلقا ، ولا الهبة مطلقا ، وفي كل هذه الأحوال يمتنع العطف بالواو ونحوها على ما حكم عليه بالمعرف فلا يقال : محمد الأمير ، وعمرو ، ولا إبراهيم الشجاع فخالد.

وربما لا يفيد قصر المعرف على ما حكم عليه به ، كقول الخنساء ترثي أخاها صخرا :

إذا قبح البكاء على قتيل

رأيت بكاءك الحسن الجميلا

فهي لم ترد أن ما عدا البكاء عليه ليس بحسن ولا جميل ، لكنها أرادت أن تقره في جنس ما جنسه الحسن الظاهر الذي لا ينكره أحد ، ونحوه قول الآخر :

أسود إذا ما أبدت الحرب نابها

وفي سائر الدهر الغيوث المواطر

تدريب

بيّن الأغراض التي اقتضت تعريف المسند اليه ، أو المسند بإحدى طرق التعريف :

١ ـ أبو مالك قاصر فقره

على نفسه ومشيع غناء

__________________

(١) المخاض الحوامل من النوق أجمع ، والعشار جمع عشراء وهي من النوق كالنفساء.

١٢٣

٢ ـ مضى بها ما مضى من عقل شاربها

وفي الزجاجة باق يطلب الباقي (١)

٣ ـ إن الذي الوحشة في داره

تؤنسه الرحمة في لحده

٤ ـ ولا يقيم على ضيم يراد به

إلا الاذلان عير الحي والوتد (٢)

هذا على الخسف مربوط برمته

وذا يشج فلا يرثي له أحد

٥ ـ (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ)(٣)

٦ ـ بنو مطر يوم اللقا كأنهم

أسود لها في غيل خفّان أشبل (٤)

٧ ـ (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً)(٥)

٨ ـ أخوك الذي إن تدعه لملمة

يجبك وإن تغضب إلى السيف يغضب

الاجابة

(١) أتى بالمسند اليه علما لإحضاره باسمه المختص به.

(٢) أتى بالمسند اليه اسم موصول للتفخيم وتعظيم شأن ذلك الذاهب من العقل.

(٣) أتى بالمسند اليه اسم موصول للإيماء الى وجه بناء الخبر وكونه مدحا للمحدث عنه.

(٤) أتى بالمسند اليه اسم إشارة للتحقير بالقرب.

(٥) أتى بالمسند اليه اسم إشارة للتحقير بالقرب.

(٦) أتى بالمسند اليه مضافا لإغناء الإضافة عن تفصيل متعذر.

(٧) أتى بالمسند اليه مضافا لتعظيم شأن المضاف.

تمرين

اذكر الغرض من تعريف المسند اليه أو المسند بإحدى طرق التعريف :

١ ـ ونحن التاركون لما سخطنا

ونحن الآخذون لما رضينا

__________________

(١) في وصف الخمر.

(٢) العير الحمار ، والرمة الحبل يربط به ، والخسف الاهانة.

(٣) سورة العنكبوت الآية ٦٣.

(٤) الغيل الاجمة وخفان مأسدة مشهورة بضراوة أسدها ، والأشبل جمع شبل ولد الأسد.

(٥) سورة الفرقان الآية ٤١.

١٢٤

٢ ـ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)(١)

٣ ـ (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ)(٢)

٤ ـ هو الكريم حين يبخل كل جواد

٥ ـ وإن سنام المجد من آل هاشم

بنو بنت مخزوم ووالدك العبد (٣)

٦ ـ أبو لهب آذى محمدا عليه‌السلام

٧ ـ إن الناس لفي شغل عن عمل الآخرة

__________________

(١) سورة الإخلاص الاية ١.

(٢) سورة الاحزاب الاية ٤٠.

(٣) قاله حسان يهجو أبا سفيان بن الحرث بن عبد المطلب وجعل الحرث عبدا لأن أمه ليست قرشية ولم تلدها قبيلة مشهورة.

١٢٥

الباب السابع في التنكير

لم يتعرض لهذا الباب كثير ممن كتب في هذا الفن ، وأول من فتق أكمام زهاره صاحب «الكشاف» وتبعه من جاء بعده من علماء البيان. وقصارى ما قالوه : إن المسند اليه ينكر لأغراض ، منها :

١ ـ ألا يعلم المتكلم جهة من جهات التعريف من علمية أو صلة أو غيرها ، فتقول : جاء هنا رجل يسأل عنك ، إذا لم تعرف له اسما ولا نحوه.

٢ ـ أن يقصد فرد غير معين مما يصدق عليه اسم الجنس نحو : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى)(١) أي فرد من جنس الرجال.

٣ ـ أن يمنع من التعريف مانع ، كقوله :

اذا سئمت مهنده يمين

لطول الحمل بدّله شمالا (٢)

لم يقل يمينه تحاشيا من نسبة السآمة الى يمين الممدوح.

٤ ـ أن يقصد نوع مخصوص نحو :

لكل داء دواء يستطبّ به

إلا الحماقة أعيت من يداويها

يريد لكل نوع من أنواع الأدواء ما يناسبه من أصناف الأدوية ، وعليه قوله تعالى : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٣).

قال في «الكشاف» : معنى التنكير أن على أبصارهم نوعا من الأغطية غير ما يتعارفه الناس وهو غطاء التعامي عن آيات الله ، ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله.

__________________

(١) سورة ياسين الاية ٢٠.

(٢) المهند السيف.

(٣) سورة البقرة الاية ٧.

١٢٦

ويرى السكاكي أن التنكير في هذا للتعظيم أي غشاوة عظيمة تحجب أبصارهم دفعة واحدة ، وتحول بينهم وبين الإدراك ، وعذاب عظيم لا يقدر قدره.

٥ ـ أن يقصد التكثير نحو : (قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً)(١) ، وقولهم : أن له الأبلاق وأن له لغنما ، إذ المقام للمدح.

٦ ـ أن يقصد التقليل نحو : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ)(٢) ، أي فشيء مما من رضوانه أكبر من الجنة ونعيمها ، فإن العبد إذا علم رضى مولاه عنه عد ذلك من أعظم النعم وعاش عيشة راضية.

٧ ـ التعظيم والتحقير ، وقد اجتمعا في البيت الثاني من قول مروان ابن أبي حفصة :

فتى لا يبالي المدلجون بنوره

إلى بابه ألا تضيء الكواكب (٣)

له حاجب عن كل أمر يشينه

وليس له عن طالب العرف حاجب (٤)

فمقام المدح يفيد أن له مانعا عظيما عن كل قبيح وشين وليس له أي مانع ولو حقيرا عن طلاب المعروف فهم يحصلون على مقاصدهم بلا كد ولا تعب.

والفرق بين التعظيم والتكثير أن الأول ينظر فيه لارتفاع الشأن وعلو القدر ، والثاني يلاحظ فيه الكميات والمقادير ، وهكذا الحال في الفرق بين التحقير والتقليل.

٨ ـ قصد إخفائه عن المخاطب نحو : سمعت رجلا يقول : إنك حدت عن الصواب. وينكر المسند لأغراض ، منها :

١ ـ عدم الحصر والعهد الدال عليهما التعريف ، كما تقول : محمد كاتب ، وعلي شاعر.

٢ ـ قصد التفخيم والتعظيم ، نحو : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)(٥) ، أي هدى لا يكتنه كنهه.

__________________

(١) سورة الشعراء الآية ٤.

(٢) سورة آل عمران الآية ١٥.

(٣) أدلج سار ليلا.

(٤) حاجب أي مانع ، ويشينه أي يعيبه.

(٥) سورة البقرة الآية ٢.

١٢٧

٣ ـ قصد التحقير ، نحو : ما محمد شيئا. وينكر غير المسند اليه والمسند ، للدلالة على :

١ ـ الافراد ، نحو : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ)(١) ، أي خلق كل فرد من أفراد الدواب من نطفة معينة.

٢ ـ النوعية ، نحو : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ)(٢) ، أي نوع من الحياة المتطاولة ، فهم أحرص الناس على أن يزدادوا الى حياتهم الماضية حياة في المستقبل.

٣ ـ التحقير ، نحو : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ)(٣).

٤ ـ التقليل ، كقول المتنبي :

فيوما بخيل تطرد الروم عنهمو

ويوما يجود يطرد الفقر والجدبا

يريد بعدد يسير من خيولك ونزر من فيض جودك.

٥ ـ عدم التعين ، نحو : (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً)(٤).

تدريب

بيّن دواعي تنكير المسند اليه ، أو المسند ، أو غيرهما ، فيما يلي :

(١) قال تعالى : (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ)(٥).

(٢) (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ)(٦).

(٣) (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ)(٧).

(٤)وفي السماء نجوم لا عداد لها

وليس يكسف إلا الشمس والقمر

(٥)إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا

ندمت على التفريط في زمن البذر

__________________

(١) سورة النور الآية ٤٥.

(٢) سورة البقرة الآية ٩٩.

(٣) سورة الجاثية الآية ٣٢.

(٤) سورة يوسف الآية ٩.

(٥) سورة البقرة الآية ٢٧٩.

(٦) سورة الشعراء الآية ١٧٣.

(٧) سورة الانبياء الآية ٤٦.

١٢٨

٦ ـ ومن طلب العلوم بغير كدّ

سيدركها متى شاب الغراب

٧ ـ (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ)(١).

٨ ـ ولله مني جانب لا أضيعه

وللهو مني والخلاعة جانب

الاجابة

(١) نكر حرب للدلالة على التعظيم.

(٢) نكر المطر للدلالة على النوعية ، أي مطرا عجيبا من الحجارة.

(٣) نكرت النفحة للدلالة على التحقير.

(٤) نكرت النجوم للدلالة على التكثير.

(٥) نكر الحاصد للدلالة على عدم التعين أو للدلالة على الافراد.

(٦) نكر كدّ للدلالة على التعظيم.

(٧) نكرت رسل للدلالة على التعظيم والتكثير ، أي رسل ذوو عدد كثير وآيات عظام.

(٨) نكر جانب الأول للدلالة على التعظيم ، وجانب الثاني للدلالة على التحقير.

تمرين

بيّن دواعي تنكير المسند اليه أو المسند أو غيرهما ، فيما يلي :

١ ـ (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ)(٢).

٢ ـ (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ)(٣).

٣ ـ رجل قال إنك اغتبتني

٤ ـ دفعنا بك الأيام حتى إذا أتت

تريدك لم نسطع لها عنك مدفعا

٥ ـ آراؤه وعطاياه ونعمته

وعفوه رحمة للناس كلهم

٦ ـ وللغزالة شيء من تلفته

ونورها من ضيا خديه مكتسب

٧ ـ قلت ثقلت إذ أتيت مرارا

قال ثقلت كاهلي بالأيادي

٨ ـ لئن صدفت عنا فربّت أنفس

صواد الى تلك النفوس الصوادف (٤)

__________________

(١) سورة فاطر الآية ٤.

(٢) سورة مريم الآية ٤٥.

(٣) سورة البقرة الآية ١٧٩.

(٤) صدفت أعرضت ، وصواد جمع صادية أي عطشى.

١٢٩

الباب الثامن في التقييد

وفيه خمسة مباحث

المبحث الأول في فوائد التقييد

اعلم أن التقييد بأحد الأنواع الآتية يكون لزيادة الفائدة وتقويتها لدى السامع لما هو معروف من أن الحكم كلما ازدادت قيوده ، ازداد إيضاحا وتخصيصا ، فتكون فائدته أتم وأكمل ، لا فرق في ذلك بين تقييد المسند اليه والمسند ، ولا بين التقييد بتابع ومفعول ، ونحو ذلك.

وكثير من مسائل هذا الباب ذكر في كتب النحاة على النحو الذي يشاكل بحثهم دون نظر الى غامض الفروق ولطيف المزايا ، فإن تينك الفائدتين من مقاصد علماء البيان الذين قصروا مباحثهم على تعرّف خواص التراكيب وأسرار الأساليب وما فيها من دقيق الوضع وباهر الصنع.

المبحث الثاني في التقييد بالمفاعيل ونحوها

التقييد بالمفاعيل ونحوها من الحال والتمييز لزيادة التخصيص المستلزم كثرة الفائدة ، وبالنواسخ للأغراض التي تؤديها معاني ألفاظها كالاستمرار وحكاية الحال الماضية في كان (١) ، والتوقيت بزمن معين في ظل وأخواتها ، والمقاربة في كاد وكرب ، والتأكيد في أن ، والتشبيه في كأن ، إلى نحو ذلك.

المبحث الثالث في التقييد بالتوابع

سنجمل الكلام في هذا المبحث ، لأنه قد بيّن في علم النحو يبسط واطناب فينعت المسند اليه لنكات ، منها :

__________________

(١) فالمقيد في كان محمد منطلقا هو منطلقا لا كان إذ هو المسند ، وكان قيد له.

١٣٠

١ ـ تمييزه بتخصيصه ، إن كان نكرة ، وتوضيحه إن كان معرفة.

٢ ـ الكشف عن حقيقته ، كما يقال : الجسم الطويل العريض العميق يحتاج الى فراغ يشغله ، ومنه في غير المسند اليه قول أوس بن جحر التميمي في مرثية فضالة ابن كلدة :

الألمعي الذي يظن بك المظن

كان قد رأى وقد سمعا

فالألمعي هو المتوقد ذكاء وفطنة ، ومن لوازمه أنه اذا ظن بك ظنا طابقت فراسته الواقع ، وقد روي أن الأصمعي سئل عن الألمعي فأنشد البيت.

٣ ـ التأكيد ، نحو : أمس الدابر ، وكان يوما عظيما ، وعليه قوله تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ)(١).

٤ ـ بيان المقصود وتفسيره نحو : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ)(٢) ، قال في «الكشاف» : فإن قلت : هلا قيل وما من دابة ولا طائر إلا أمم أمثالكم ، وما معنى الزيادة؟

قلت : معنى ذلك زيادة التعميم والاحاطة كأنه قيل : وما من دابة قط في جميع الأرضين السبع ، وما من طائر قط في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم محفوظة أحوالها غير مهمل أمرها.

٥ ـ المدح ، نحو : حاءني محمد الأديب.

٦ ـ الذم ، نحو : سافر إبراهيم الأحمق.

ويؤكد لاعتبارات ، منها :

(١) تحقيق المراد ، بحيث لا يحتمل الكلام غيره ، كما تقول : جئت أنا.

(٢) دفع توهم السامع تجوز المتكلم أو سهوه نحو : قدم صديقك نفسه.

(٣) دفع توهم عدم الشمول نحو : جاء القوم كلهم ، إذ لو قلت : جاء القوم وسكت ، لكان يجوز أن يخطر ببال السامع أن بعضهم قد تخلف ، إلا أنك لم تعتد به أو جعلت الواقع من البعض كأنه واقع من الجميع ، كما يقال للقبيلة :

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٩٦.

(٢) سورة الأنعام الآية ٣٨.

١٣١

صنعتم وفعلتم ، ويراد فعل قد كان من البعض ، يرشد الى ذلك قوله تعالى : (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ)(١) ، والعاقر لها قدار ، لكنهم نزلوا منزلته لرضاهم بفعلته.

ويبين لمزايا ، منها :

١ ـ المدح ، نحو : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ)(٢) ، فالبيت الحرام عطف بيان على الكعبة لغرض مدحها بأنها حرم آمن.

٢ ـ الإيضاح والتفسير بما يختص بالمتبوع ويوضح ذاته ، نحو : قال أبو الحسن علي كرم الله وجهه.

ويبدل لأغراض ، أهمها :

زيادة التقرير ، إذ البدل كالتفسير بعد الإبهام ، فيزداد به تقرير المقصود في ذهن السامع ، ومنه في غير المسند اليه : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)(٣).

أما في بدل الكل فللذكر مرتين ، وأما في بدل البعض ، فلأن المتكلم لما أتى بالمبدل منه أولا ثم أتى بالبدل ثانيا كان كالمنبه على التجوز والإجمال في المبدل منه فيؤثر في النفس تأثيرا لا يوجد عند الإقتصار على الثاني ، وأما في بدل الاشتمال فلأن البدل تشعر به النفس في الجملة قبل ذكره وتتشوف لشيء يطلبه الكلام السابق فإذا ذكر صار متكررا.

ويعطف عليه لدواع ، منها :

١ ـ تفصيل المسند اليه باختصار ، نحو : جاء محمد وعلي ، فإنه أخصر من جاء محمد وجاء علي ، مع إفادة التفصيل بالنسبة لقولك : جاءني رجلان ، ولا يعلم منه تفصيل المسند ، إذ الواو لمطلق الجمع ، ولا دلالة فيه لمجيء أحدهما قبل الآخر أو بعده أو معه.

٢ ـ تفصيل المسند ، مع الاختصار ، نحو : جاء محمد فعلي ، أو ثم علي ، أو جاء القوم حتى خالد. فهذه الثلاثة الحروف ، وان اشتركت في تفصيل المسند ،

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ٧٧.

(٢) سورة المائدة الآية ٩٧.

(٣) سورة الفاتحة الآية ٥.

١٣٢

فالأول يدل على التنقيب من غير مهلة ، والثاني مع المهلة ، والثالث يفيد ترتيب أجزائه من الأضعف الى الأقوى ، أو بالعكس ، نحو :

وكنت فتى من جند إبليس فارتقى

بي الحال حتى صار إبليس من جندي

٣ ـ الشك من المتكلم اذا كان لا يدري الحقيقة.

٤ ـ التشكيك ، أي إيقاع السامع في الشك.

٥ ـ التجاهل ، نحو : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(١).

٦ ـ التخيير أو الإباحة نحو : ليدخل الدار محمد أو علي ، والفرق بينهما أنه يجوز الجمع في الإباحة دون التخيير.

٧ ـ رد السامع عن الخطأ في الحكم الى الصواب ، نحو : جاءني علي لا خالد لمن اعتقد أن خالدا جاءك دون علي ، أو أنهما جاءاك معا.

المبحث الرابع في التقييد بضمير الفصل

يؤتى بعد المسند اليه بضمير الفصل لأغراض ، منها :

١ ـ التخصيص ، أي قصر المسند على المسند اليه ، إذا لم يكن في الكلام ما يفيد القصر سواه نحو : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ)(٢).

٢ ـ تأكيد التخصيص إذا كان في التركيب مخصص آخر ، نحو : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ)(٣) ، ومنه قول أبي الطيب :

إذا كان الشباب السكر والشي

ب همّا فالحياة هي الحمام

يريد أنه اذا كان الشخص إبان الشباب كالسكران غافلا عن العواقب ، وفي الشيب حزينا بسبب ضعفه ، فلا خير في الحياة ، بل هي الموت.

٣ ـ تمييز الخبر عن الصفة ، نحو : الفصيح هو جيد البيان طلق اللسان.

__________________

(١) سورة سبأ الاية ٢٤.

(٢) سورة التوبة الاية ١٠٤.

(٣) سورة الذاريات الاية ٥٨.

١٣٣

المبحث الخامس في التقييد بالشرط

يقيد الفعل بالشرط للأغراض التي تستفاد من معاني الأدوات كالزمان في :

متى ، والمكان في : أين ، والحال في : كيفما ، إلى آخر ما استوفى بيانه علم النحو ، لكن نذكر هنا ما بين : إن ، وإذا ، ولو ، من الفروق الدقيقة التي تشاكل مباحث هذا الفن.

بيان هذا أن المقصود من الجملة الشرطية عند علماء العربية ، إنما هو النسبة التي يدل عليها الجزاء سواء أكانت خبرية أم إنشائية ، والشرط قيد لها وسبب فيها لا يغيرها عن حالها الأولى من الخبرية أو الإنشائية ، وقد خرج بدخول الأداة عليه عن كونه خبرا يحتمل صدقا وكذبا ، فقولك : إن نجحت أكافئك ، معناه أكافئك حين نجاحك ، وقولك : إن جاء محمد فأكرمه ، أي أكرمه وقت مجيئه.

(إن) و (إذا) تشتركان في الدلالة على تعليق حصول الجزاء على حصول الشرط في المستقبل ، وتمتاز كل منهما بما يلي :

(أ) تمتاز (إن) بدلالتها بحسب الوضع اللغوي على عدم جزم المتكلم بوقوع الشرط في الزمن المستقبل ، نحو : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ)(١) ، ومن ثم لا تقع في كلام الله تعالى إلا على سبيل الحكاية أو التأويل فالأول كقوله تعالى حكاية عن يوسف : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ)(٢) ، والثاني نحو : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ)(٣) فقد جاءت في التنزيل على نمط أساليبهم ، وعلى الطريقة التي يعبر بها المتكلم منهم حينما يكون غير جازم بوقوع الشرط.

(ب) تمتاز (إذا) باستعمالها لغة في كل ما يجزم المتكلم بوقوعه في الزمن المقبل نحو : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها)(٤).

ومن أجل ما بينهما من الفرق كانت الأحكام النادرة الوقوع مع لفظ المضارع مواقع لإن ، والأحوال الكثيرة الوقوع ولفظ الماضي الدال على تحقيق الوقوع

__________________

(١) سورة المائدة الاية ٤٢.

(٢) سورة يوسف الاية ٣٣.

(٣) سورة الأعراف الاية ١٣١.

(٤) سورة الزلزلة الاية ١.

١٣٤

قطعا نظرا إلى نفس لفظه (وإن كان قد نقل بعد دخول الأداة عليه الى معنى الاستقبال) مواقع لإذا ، وقد اجتمعتا في قوله تعالى : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ)(١) ، أي إذا جاء آل فرعون حسنة كخصب ورخاء وكثرة أولاد قالوا نحن أحقاء بها ، وإن أصابهم جدب وبلاء تشائموا من موسى ومن آمن معه ، فعبّر بإذا في جانب الحسنة ، لأن المقصود منها الجنس ، وهو مقطوع بحصوله لكثرته ، وبأن في جانب السيئة لندورها ، ولهذا أنكرت للدلالة على القلة.

قال في «الكشاف» : وللجهل بمواقع إن وإذا يزيغ كثير من الخاصة عن الصواب فيغلطون ، ألا ترى الى عبد الرحمن بن حسان كيف أخطأ بهما الموقع في قوله يخاطب بعض الولاة وقد سأله حاجة فلم يقضها ثم شفع له فيها فقضاها :

ذممت ولم يحمد وأدركت حاجتي

تولى سواكم أجرها واصطناعها

أبى لك كسب الحمد رأي مقصر

ونفس أضاق الله بالخير باعها

إذا هي حثته على الخير مرة

عصاها وإن همت بشر أطاعا

ولو عكس في استعمال الأداتين لأصاب الغرض.

(تنبيه) قد تستعمل كل من الأداتين موضع الأخرى فتستعمل (إن) في الشرط المجزوم بثبوته لأغراض ، منها :

(١) التجاهل اذا اقتضاه المقام ، كما يقول المعتذر : إن كنت فعلت هذا فعن غير قصد.

(٢) تنزيل المخاطب منزلة الجاهل لأنه لم يجر على مقتضى علمه كما يقال للابن الذي لا يراعي حقوق الأبوة : إن كان هذا أباك فراع حقوقه عليك.

(٣) التوبيخ على الفعل ، تنبيها على أنه لقيام البراهين المقتضية وقوع خلافه ، كأنه محال الوقوع ، فيفرض كما يفرض المحال نحو : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ)(٢) في قراءة الكسر ، إذ إسرافهم محقق ،

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ١٣١.

(٢) المعنى : أنهملكم ونضرب عنكم القرآن بترك القرآن بترك إنزاله لكم وترك ما فيه من وعد أو وعيد إعراضا عنكم إن كنتم مسرفين (سورة الزخرف).

١٣٥

لكنه عبر عنه بإن توبيخا لهم وإشارة الى أنهم لو تأملوا الآيات الظاهرة لصار الإسراف كأنه محال الحصول إذ هو لا يصدر عن عاقل في مثل هذه الحال.

(٤) تغليب غير من اتصف بالشرط على من اتصف به ، نحو : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)(١) ، فقد غلب من لم يرتب من المخاطبين على من ارتاب وكان يعرف الحق وينكره عنادا ، كما تستعمل أيضا في المستحيل المجزوم بنفيه على سبيل المساهلة وإرخاء للعنان لإلزام الخصم وتبكيته نحو : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ)(٢).

وتستعمل (إذا) في مواضع الشك لأغراض ، أهمها :

١ ـ الإشارة الى أن مثل ذلك الشرط لا ينبغي أن يكون مشكوكا فيه ، نحو قولك لمن قال : لا أدري أيتفضل عليّ الأمير بالنوال ، اذا تفضل عليك فكيف يكون شكرك.

٢ ـ عدم شك المخاطب.

٣ ـ تنزيل المخاطب منزلة الجازم الذي لا شك عنده.

٤ ـ تغليب الجازم على غير الجازم.

ولما كانت الأداتان لتعليق الجزاء بالشرط في الاستقبال التزم في جملتيهما الفعلية والاستقبال ، ذاك أن الشرط مفروض الحصول في المستقبل فيمتنع ثبوته ومضيه والجزاء معلق عليه ، ولا يعدل عن الاستقبال في اللفظ والمعنى إلى المعنى فقط ، إلا لنكتة ، كابراز غير الحاصل في معرض ما هو حاصل ، وذلك اما :

(١) للتفاؤل نحو : إن عشت نفعت أمتي وبلادي.

(٢) لقوة الأسباب وتوافرها ، كأن تقول حين انعقاد الشراء : إن اشتريت كان كذا.

(٣) لإظهار الرغبة في وقوعه ، فيكثر تصور المتكلم إياه ، حتى يخيل اليه ما ليس بالحاصل حاصلا ، كما تقول : إن ظفرت بحسن العاقبة فذاك ما أبغي ،

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٣.

(٢) سورة الزخرف الآية ٨١.

١٣٦

وعليه قوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً)(١) ، جيء بلفظ الماضي للدلالة على توافر الرغبة في تحصينهن.

(٤) للتعريض ، نحو : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ)(٢) ، قال في «الكشاف» : هذا كلام وارد على سبيل الفرض والتقدير ، وفيه لطف للسامعين وزيادة تحذير واستفظاع لحال من يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى.

ونظيره في التعريض : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٣) ، إذ المراد : وما لكم لا تعبدون الذي فطركم ، كما يدل عليه (تُرْجَعُونَ).

ووجه حسن التعريض وملاحته إسماع المخاطبين الحق على وجه لا يورثهم مزيد غضب ، وذلك لأنك تترك التصريح بنسبتهم الى الباطل ، وذلك أنفذ في أعماق القلوب ، حيث لا يريد المتكلم لهم إلا ما يريده لنفسه ، وهذا النوع كثير جدا في القرآن الكريم ، نحو : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٤).

(تنبيه) قد تستعمل إن في غير الاستقبال قياسا مطردا في موضعين :

١ ـ اذا كان الشرط لفظ كان ، نحو : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا)(٥) الآية.

٢ ـ اذا جيء بها في مقام التأكيد بعد واو الحال لمجرد الربط دون الشرط نحو : علي وإن كثر ماله بخيل ، وقليلا في غير ذلك ، كقول أبي العلاء :

فيا وطني إن فإنني بك سابق

من الدهر فلينعم بساكنك البال (٦)

كما إذا إما :

__________________

(١) الفتيات الأماء ، وكان من عادتهم في الجاهلية أن يكرهوهن على تلك الفعلة الشنعاء.

(٢) سورة البقرة الآية ١٢٠.

(٣) سورة يس الآية ٢٢.

(٤) سورة سبأ الآية ٢٥.

(٥) سورة البقرة الآية ٢٣.

(٦) الغرض من ذلك التحسر ، وجواب إن محذوف ، أي : فلا لوم علي لأني تركتك كرها يدل عليه فلينعم.

١٣٧

١ ـ للماضي ، نحو : (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ)(١).

٢ ـ أو للاستمرار ، نحو : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا)(٢).

(لو) للشرط في الماضي مع القطع بانتفاء الشرط ، فيلزم انتفاء الجزاء ، بمعنى أن الجزاء كان يمكن أن يقع لو وجد الشرط ، فإذا قلت : لو جئتني لأكرمتك ، فهم منه أن المجيء شرط في الإكرام ، وأنه على تقدير وقوعه يقع الإكرام ، ولهذا قيل : ان (لو) لامتناع الثاني لامتناع الأول ، وعليه قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)(٣) أي إن انتفاء الهداية ، إنما هو بسبب انتفاء المشيئة ونحوه قول الحماسي :

ولو طار ذو حافر قبلها

لطارت ولكنه لم يطر (٤)

فإن عدم طيران ذلك الفرس بسبب أنه لم يطر ذو حافر قبلها.

وتجيء قليلا لامتناع الأول لامتناع الثاني ، فتفيد الدلالة على أن العلم بانتفاء الثاني علة للعلم بانتفاء الأول ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم من غير التفات ، الى أن انتفاء الجزاء في الخارج ما هي ، وعلى ذلك جاء قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(٥) ، إذ المعنى أنه علم انتفاء تعدد الآلهة بسبب العلم بانتفاء الفساد ، ويكثر هذا في مقام الأدلة والبراهين ، لكن الاستعمال الأول هو الشائع المستفيض في القرآن والحديث وأشعار العرب.

ويجب كون جملتيهما فعليتين ماضويتين ، فإن دخلت على مضارع كان ذلك لنكتة ، إما :

١ ـ قصد الاستمرار في الماضي حينا فحينا ، نحو : (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ)(٦). قال في «الكشاف» : إنما قيل : يطيعكم دون أطاعكم للدلالة على أنه كان في إرادتهم استمرار عمله على ما يستصوبونه ، وأنه كلما

__________________

(١) سورة الكهف الآية ٩٦.

(٢) سورة البقرة الآية ١٤.

(٣) سورة النحل الآية ٩.

(٤) إن عدم طيران الفرس معلوم ، والمقصد بيان السبب ، وهو أنه لم يطر قبلها ذو حافر.

(٥) سورة الأنبياء الآية ٢٢.

(٦) العنت : الهلاك (سورة الحجرات).

١٣٨

عنّ لهم رأي في أمر كان معمولا عليه بدليل قوله في كثير من الأمر كما تقول : فلان يقري الضيف ، ويحمي الحريم ، تريد أنه مما اعتاده ووجد منه على طريق الاستمرار.

٢ ـ وإما لتنزيل المضارع منزلة الماضي لصدوره عمن لا خلاف في وقوع أخباره ، نحو : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ)(١) ، (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ)(٢) ، ونظيره (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)(٣) ، قال الزمخشري : فإن قلت : لم أدخلت ربما على المضارع ، وقد أبوا دخولها إلا على الماضي ، قلت : لأن المترقب في أخبار الله تعالى بمنزلة المقطوع به في تحققه ، فكأنه قيل : ربما ود.

__________________

(١) سورة الأنعام الاية ٢٧.

(٢) سورة السجدة الاية ١٢.

(٣) سورة الحجر الاية ٢.

١٣٩

الباب التاسع في الخروج عن مقتضى الظاهر

ما مضى في الأبواب السالفة هي الأحوال التي يلاحظ فيها البليغ مقتضى ظاهر الحال ، وقد يعدل عنها لنكتة ، فعلى المخاطب أن يبحث عن سبب العدول مستعينا بالقرائن ، ويسمى ذلك : الخروج عن مقتضى الظاهر.

وقد سبق ذكر شيء من أحواله نبهناك عليه في حينه ، كتنزيل العالم منزلة الجاهل ، والمعقول منزلة المحسوس ، وقد بقي منه أمور أهمها (١) تجاهل العارف (مزج الشك باليقين) وهو إخراج ما يعرف صحته مخرج ما يشك فيه ليزداد تأكيدا ، والداعي اليه :

١ ـ إما المدح كقول ذي الرمة :

أبا ظبية الوعساء بين جلاجل

وبين النقي آ أنت أم أم سالم (٢)

وقول أبي هلال العسكري :

أثغر ما أرى أم أقحوان

وقدّ ما أرى أم خيزران

٢ ـ وإما الذم كقول زهير :

وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

٣ ـ وإما التعجب كقوله تعالى : (أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ)(٣).

٤ ـ وإما التوبيخ كقول ليلى بنت طريف الخارجية في أخيها الوليد :

أيا شجر الخابور مالك مورقا

كأنك لم تجزع على ابن طريف (٤)

__________________

(١) سماه ابن رشيق في العمدة التشكيك وفائدته الدلالة على قرب الشبهين حتى لا يفرق بينهما ولا ينخفى ما له من حسن الروعة وجمال الموقع.

(٢) الوعساء ، وجلاجل ، والنقي ، مواضع.

(٣) سورة الطور الاية ١٥.

(٤) الخابور نهر بديار بكر يصب في الفرات.

١٤٠