علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع

أحمد مصطفى المراغي

علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع

المؤلف:

أحمد مصطفى المراغي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 2-7451-1097-7
الصفحات: ٣٩٩

٢ ـ ما يفيد زيادة في المعنى فحسب نحو : بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ، فتقديم المفعول في هذا لتخصيصه بالعبادة دون سواه ، ولو أخر لم يفد الكلام ذلك.

٣ ـ ما يتكافأ فيه التقديم والتأخير ، وليس لهذا الضرب شيء من الملاحة ، نحو :

وكانت يدي ملأى به ثم أصبحت

(بحمد إلهي) وهي منه سليب (١)

فتقديره : ثم أصبحت وهي منه سليب بحمد الله.

٤ ـ ما يختل به المعنى ويضطرب ، وذلك هو التعقيد اللفظي ، أو المعاظلة التي تقدمت كتقديم الصفة على الموصوف ، والصلة على الموصول ، ونحو ذلك ، كقول الفرزدق :

إلى ملك ما أمه من محارب

أبوه ولا كانت كليب تصاهره

إذ تقديره الى ملك أبوه ما أمه من محارب ، أي ما أم أبيه منهم ، ولا شك أن هذا لا يفهم من كلامه للنظرة الأولى ، بل يحتاج الى تأمل ورفق حتى يفهم المراد منه.

المبحث الثاني في تقديم المسند اليه

يقدم المسند اليه لأغراض ، منها :

١ ـ أنه الأصل إذ هو المحكوم عليه ولا مقتضى للعدول عنه ، نحو : العدل أساس الملك.

٢ ـ ليتمكن الخبر في ذهن السامع ، لأن في المبتدأ تشويقا اليه كقوله تعالى :

(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)(٢) ، وقول أبي العلاء :

والذي حارت البرية فيه

حيوان مستحدث من جماد

يريد أن الخلائق تحيرت في المعاد الجسماني ، كما يرشد الى ذلك ما قبله :

بأن أمر الإله واختلف الناس

فداع الى ضلال وهادي

فإتيانه بالمسند اليه على تلك الشاكلة موصوفا بحيرة البريّة فيه ، يستدعي تشوق السامع الى أن يعرف ما حكم به عليه ، فإذا جاء الخبر تمكن في النفس لما تقدمه من التوطئة له.

__________________

(١) سليب بمعنى مسلوب ، أي منتزع مأخوذ.

(٢) سورة الحجرات الآية ١٣.

١٠١

٣ ـ تعجيل المسرة للتفاؤل ، لأن السامع اذا قرع سمعه في ابتداء الكلام ما يشعر بالسرور هشّ وفرح به ، نحو : الهدى في قلوب المخلصين.

٤ ـ تعجيل المساءة ليتطير السامع ويتبادر الى ذهنه حصول الشر باديء ذي بدء ، نحو : السجن على جهة التأييد حكم به عليك اليوم.

٥ ـ التبرك به نحو : اسم الله اهتديت به.

٦ ـ إيهام أنه لا يزول عن البال لكونه مطلوبا ، نحو : رحمة الله ترجى ، نصر الله قريب.

٧ ـ إفادة التخصيص إذا كان الخبر فعلا وولى المسند اليه حرف النفي ، نحو : ما أنا قلت هذا ، أي لم أقله وهو مقول لغيري. لا تقول ذلك إلا في شيء ثبت أنه مقول ، لكن تريد أن تنفي كونك قائلا له. ومنه قول المتنبي :

وما أنا أسقمت جسمي به

ولا أنا أضرمت في القلب نارا

إذ المعنى : ما أنا الجالب لهذا السقم الموجود والضرم الثابت ، ولأجل هذا لا تقول : ما أنا قلت هذا ولا أحد غيري للتناقض بين أول الكلام وآخره ، ولا ما أنا رأيت كل أحد ، لأنه يفيد أن غيرك رأى كل أحد ، ولا ما أنا كلمت إلا محمدا ، لأنه يقتضي أن يكون إنسان غيرك قد كلم كل أحد سوى محمد (١).

فإن لم يل المسند اليه حرف النفي (٢) ، فإما أن يكون معرفة أو نكرة ، فإن كان معرفة أفاد تقديمه أحد أمرين :

(أ) تخصيصه بالمسند ردا على من زعم انفراد غيره به أو مشاركته فيه ، كما تقول : أنا سعيت في حاجة فلان ، وعلى الأول يؤكد بنحو : لا غيري ، وعلى الثاني بنحو : وحدي. ومن الواضح في ذلك قولهم في المثل : أتعلمني بضبّ أنا حرشته (٣).

__________________

(١) لأن المستثنى منه مقدر عام وكل ما نفيته عن المذكور على وجه الحصر يجب ثبوته لغيره تحقيقا لمعنى الحصر سواء كان على وجه الخصوص أو على وجه العموم.

(٢) بألا يكون في الكلام حرف نفي ، أو يكون حرف النفي متأخرا عن المسند اليه.

(٣) حرش الضب صاده ، فهو حارش ، وهو أن يحرك يده على باب جحره ليظنه حية فيخرج ذنبه ليضربها وبذلك يأخذه ، يضرب مثلا لمن يريد أن يعلم المتعلم.

١٠٢

وقوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا)(١) عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ (٢) ، أي : لا يعلم أسرارهم ولا يطلع على دخائل ما أبطنوا من الكفر إلا نحن.

(ب) تقوية (٣) الحكم وتقريره لدى السامع بدون تخصيص ، كقولك : هو يعطى الجزيل ، وهو يحب الثناء. ألا ترى أنك لا تريد أن غيره لا يعطى الجزيل ولا يحب الثناء.

يرشد الى ذلك أن هذا الضرب يجيء فيما سبق فيه إنكار منكر ، نحو أن يقول الرجل : ليس لي علم بالذي تقول ، فتقول له : أنت تعلم أن الأمر على ما أقول ولكنك تميل الى خصمي ، وعليه قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(٤) ، والفعل المنفي كالمثبت في ذلك ، فتارة يفيد التخصيص ، كما تقول : أنت ما سعيت في حاجتي ، وتارة يفيد التقوية نحو : أنت لا تكذب ، وعليه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ)(٥).

وإن كان نكرة أخبر عنه بفعل أفاد تخصيص الجنس أو الواحد به ، نحو : رجل جاءني أي لا امرأة ولا رجلان ، ذاك أن أصل النكرة أن تكون لواحد من الجنس فيقع القصد بها تارة الى الجنس فحسب ، كما اذا كان المخاطب بهذا الكلام قد عرف أن قد أتاك آت من هو جنس الرجال ولم يدر أرجل هو أم رجلان أو اعتقد أنه رجلان.

(تنبيه) مما رأت العرب تقديمه كاللازم لفظ (مثل) : اذا استعمل كناية من غير تعريض ، نحو : مثلك لا يبخل ، ومثلك رعى الحق والحرمة ، ونحو قول ابن القبعثري (٦) مجيبا الحجاج ، على سبيل المغالطة ، حينما توعده ، بقوله :

__________________

(١) مرنوا واستمروا.

(٢) سورة التوبة الآية ١٠١.

(٣) علة التقوية ما ذكره عبد القاهر من أن الاسم لا يؤتى به معرى عن العوامل إلا لحديث قد نوى إسناده اليه ، فاذا جئت بالحديث دخل على القلب دخل المأنوس.

(٤) سورة آل عمران الآية ٧٥.

(٥) سورة المؤمنون الآية ٥٩.

(٦) هو الغضبان بن القبعثري الشيباني ، وكان ممن خرج على الحجاج بن يوسف الثقفي ، وأراد بالأدهم الأول القيد ، وبالثاني الفرس الأدهم.

١٠٣

لأحملنك على الأدهم ، مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب. ونحو قول المتنبي يعزي عضد الدولة بعمته :

مثلك يثنى المزن عن صوبه

ويسترد الدمع عن غربه (١)

فلا يقصد في كل هذا وأشباهه بمثل الى إنسان سوى الذي أضيف اليه ، بل يريدون أن كل من كان هذا شأنه وتلك حاله كان من موجب العرف والعادة أن يفعل أو لا يفعل ، ولأجل إفادتها ذلك المعنى قال المتنبي في تلك القصيدة :

ولم أقل مثلك أعني به

سواك يا فردا بلا مشبه

وكمثل (غير) اذا سلك بها هذا المسلك تقول : غيري يفعل كذا ، على معنى أنك لا تفعله ، لا أن تعرض بإنسان آخر ، وعليه قول أبي تمام :

وغيري يأكل المعروف سحتا

وتشحب عنده بيض الأيادي (٢)

فهو لم يرد أن يعرّض بشاعر سواه فيزعم أن الذي اتهم به من هجو الممدوح كان من ذلك الشاعر ، لا منه ، بل أراد أن ينفي عن نفسه كفران النعمة وجحدها ، لا غير.

واستعمال (مثل وغير) على تلك الشاكلة مما ركز في الطباع وجرى على جميع الألسن ، فمن نحا بهما غير هذا النحو ، فقد قلب الكلام عن جهته ، وغيّره عن صورته ، وما ذاك إلا لأنه قد غفل عن سر تقدمهما ، وهو إفادة تقوية الحكم وتأكيده.

٨ ـ إفادة التعميم والنص على شمول النفي (عموم السلب) وذلك حين تتقدم أداة العموم ككل وجميع ونحوهما على أداة النفي ، وهي غير معمولة للفعل المنفي فيتوجه النفي إذ ذاك الى أصل الفعل ، ويعم كل فرد من أفراد ما أضيف إليه كل ، نحو : كل ظالم لا يفلح ، فالمعنى : لا يفلح أحد من الظلمة. وعليه قول أبي النجم :

قد أصبحت أم الخيار تدعي

عليّ ذنبا كله أصنع

__________________

(١) الغروب مجاري الدموع ، والصوب القصد ، ويثني يدفع ، يريد أنك قدير على دفع الحزن ورد الدموع الى مجاريها إذ لا مشبه لك.

(٢) السحت المال الحرام ، وتشحب تتغير.

١٠٤

وعلة ذلك أنك اذا بدأت بكل كنت قد بنيت النفي عليه ، وسلطت الكلية على النفي وأعملتها فيه وذلك يقتضي ألا يشذ عنه شيء.

أما إن قدم النفي على أداة العموم لفظا ، كقول أبي الطيب :

ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن (١)

أو تقديرا بأن قدمت أداة العموم على الفعل المنفي وأعمل فيها ، كقولك : كل الدراهم لم آخذ ، توجه النفي الى الشمول خاصة دون أصل الفعل ، وأفاد الكلام نفي المجموع (سلب العموم) فيحتمل ثبوت البعض ، كما يحتمل نفي كل فرد ، يدل على ذلك الذوق والاستعمال ، وهذا الحكم أكثري ، وليس بكلي ، بدليل قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)(٢) ، (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ)(٣) فَخُورٍ (٤) ، (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ)(٥). الى غير ذلك.

المبحث الثالث في تقديم المسند

يقدم المسند لأغراض ، منها :

١ ـ تخصيصه بالمسند إليه ، نحو : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(٦) ، (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٧) ، (لا فِيها غَوْلٌ)(٨) ،

__________________

(١) وفي رواية يشتهي بالياء ، والسفن بفتح فكسر ، أي ربان السفينة.

(٢) سورة البقرة الآية ٢٧٦.

(٣) يرى أستاذنا الامام الشيخ محمد عبده أن مثل هذا من عموم السلب لا من سلّب العموم حيث قال : قد يعدل بحسب الظاهر عما يدل على عموم السلب الى ما يفيد سلب العموم والسلب عام بحسب الحقيقة تعريضا بأن المخاطب شر هذا النوع فالمعنى في هذه الآية أن محبة الله لا تعم المختالين الفخورين حتى تشمل هؤلاء فلو تعلقت محبته بمختال فخور لم تتعلق بأولئك لأن مختالهم وفخورهم شر مختال وفخور ، وهكذا باقي الآي التي جاءت على النمط.

(٤) سورة لقمان الآية ١٨.

(٥) سورة القلم الآية ١٠.

(٦) دينكم مقصور على الاتصاف بلكم لا يتصف بلي وديني مقصور على الاتصاف بلي ، فهو من قصر الصفة على الموصوف (سورة الكافرون).

(٧) ملك السموات مقصور على الاتصاف بالله (سورة المائدة).

(٨) أي أن عدم الغول مقصور على الاتصاف بفي خمور الجنة لا يتجاوزه الى الاتصاف بفي خمور الدنيا ، وان اعتبر النفي في جانب المسند ، فالمعنى أن الغول مقصور على عدم الحصول في خمور الجنة لا يتجاوزه الى عدم الحصول في خمور الدنيا فهو قصر غير حقيقي.

١٠٥

أي بخلاف خمور الدنيا فإنها تغتال العقول وتوجب دوار الرأس وثقل الأعضاء ، ومن ثم لم يقدم الظرف في قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ)(١) لأنه لو قدم لاقتضى ثبوت الريب في سائر كتب الله تعالى ما عدا القرآن.

٢ ـ التنبيه ابتداء دون حاجة إلى تأمل في الكلام على أنه خبر لا نعت ، كقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ)(٢) ، وقول أبي بكر ابن النطاح في وصف أبي دلف العجلي :

له همم لا منتهى لكبارها

وهمته الصغرى أجلّ من الدهر

له راحة لو أن معشار جودها

على البرّ كان البرّ أندى من البحر

٣ ـ التفاؤل بسماع ما يسرّ المخاطب ، نحو :

سعدت بغرة وجهك الأيام

وتزينت بلقائك الأعوام

٤ ـ التشويق (٣) إلى ذكر المسند اليه ، ويكثر ذلك في باب المدح ، كقول محمد ابن وهيب يمدح المعتصم :

ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها

شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر

وفي باب الوعظ كقول أبي العلاء المعري :

وكالنار الحياة فمن رماد

أواخرها وأولها دخان

المبحث الرابع في تقديم متعلقات الفعل

الأصل في العامل أن يقدم على المعمول ، وقد يعكس ذلك فيقدم المفعول ونحوه من الجار والمجرور والظرف والحال لأغراض أهمها :

١ ـ رد الخطأ في التعيين كقولك : محمدا كلمت ، ردا على من اعتقد أنك كلمت إنسانا غير محمد ، وتقول لتأكيده : محمدا كلمت لا غيره. أو في ظن الاشتراك ، نحو : عليا رأيت ، أي وحده ، ردا على من اعتقد أنك رأيت عليا ومحمدا. ومن ثم لا يقال : ما محمدا كلمت ولا غيره ، لتناقض دلالتي الأول والثاني ،

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢.

(٢) سورة الأعراف الآية ٢٤.

(٣) اذا كان في المسند المتقدم طول يشوق النفس الى ذكر المسند اليه ، فيكون ذكره بعدئذ أوقع وأتم.

١٠٦

ولا أن تعقب الفعل المنفي بإثبات ضده ، كقولك : ما محمدا ضربت ، ولكن أكرمته (١) ، وقولك : بمحمد مررت ، لمن اعتقد أنك مررت بإنسان وأنه غير محمد ، وكذا سائر المعمولات ، نحو : يوم الجمعة سرت ، وفي المسجد صليت ، وماشيا جئت.

٢ ـ التخصيص ، وهو لازم للتقديم غالبا بشهادة الإستقراء ، وحكم الذوق ، ومن ثم قال المفسرون في قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(٢) ، إن المعنى نخصك بالعبادة والإستعانة ولا نعبد غيرك ولا نستعين به ، وفي قوله : لإلى الله تحشرون ، أي لا الى غيره.

وفي التقديم فائدة أخرى ، وهي الاهتمام بشأن المقدم ، ومن ثم قدر المحذوف في : باسم الله مؤخرا ، أي باسم الله أفعل كذا ، بيانا لاهتمام الموحد بالاسم الكريم وردا على المشركين الذين كانوا يبدءون بأسماء آلهتهم ، فيقولون : باسم اللات ، أو باسم العزّى.

ولا يشكل على هذا آية : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ،) بتقديم الفعل على اسم الله ، لأن الأمر بالقراءة في ذلك الموضع أهم ، إذ بالقراءة حفظ المقروء عادة ، وذلك هو المقصود من الإنزل أو بأن باسم الله متعلق بإقرأ الثاني ، ومعنى إقرأ الأول ، أوجد القراءة كقولك : فلان يعطي. وإنما قلنا لازم غالبا لأن التقديم قد يكون.

٣ ـ للاهتمام بالمقدم نحو : حسن الخلق لزمت.

٤ ـ التبرك به نحو : محمدا عليه‌السلام اتبعت.

٥ ـ الاستلذاذ به نحو : ليلى كلمت.

٦ ـ موافقة كلام السامع نحو : محمدا أكرمت ، في جواب : من أكرمت؟

٧ ـ ضرورة الشعر نحو :

سريع الى ابن العم يلطم وجهه

وليس الى داعي الندى بسريع

__________________

(١) لأن الكلام لم يبن على الخطأ في الفعل وهو الضرب حتى يرد الى الصواب بأنه الاكرام وإنما بني على الخطأ في المضروب حين اعتقد أنه محمد ، فرده الى الصواب أن يقال : لكن عليا مثلا.

(٢) سورة الفاتحة الآية ٢.

١٠٧

٨ ـ رعاية السجع والفاصلة نحو : خذوه فغلّوه ثم الجحيم صلّوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه. فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر ، الى غير ذلك مما لا يحسن فيه اعتبار التخصيص ، لأن المقام ينبو عنه ، كما بينه ابن الأثير في المثل السائر.

٩ ـ أن يكون المقدم محط الإنكار ، كما يقول : أبعد طول عشرة فلان تخدع بمواعيده. وعليه قول أبي العلاء :

أعندي وقد مارست كل خفية

يصدّق واش أو يخيب سائل

ويقدم بعض معمولات الفعل على بعض لأسباب ، منها :

(أ) أن التقديم هو الأصل ولا داعي للعدول عنه كتقديم الفاعل على المفعول ، نحو : كلم محمد عليا. وتقديم المفعول الأول على الثاني ، نحو : أعطيت محمدا درهما.

(ب) أن ذكره أهم والعناية به أتم ، فيقدم المفعول على الفاعل اذا كان الغرض معرفة وقوع الفعل على من وقع عليه لا وقوعه ممن وقع منه ، كما إذا عاث لص فاتك في البلاد وكثره أذاه فأمسك وأردت أن تخبر بذلك فتقول : أمسك اللص فلان ، إذ ليس للناس كبير فائدة في أن يعرفوا الممسك ، وإنما الذي يهمهم عمله هو من أمسك ليتخلصوا من شره.

ويقدم الفاعل اذا كان الغرض معرفة وقوع الفعل ممن وقع منه ، كما اذا كان شخص خامل الذكر لا يظن به أن يقوم بعمل جليل فاخترع شيئا مفيدا وأردت أن تخبر بذلك فتقول : اخترع فلان كذا. لأن الذي يهم الناس من شأن هذا الفعل استبعاد صدوره من ذلك الفاعل.

(ج) ان التأخير يوهم غير المعنى المراد كما في قوله تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ)(١) ، إذ لو أخر (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) عما بعده لتوهم أنه متعلق بيكتم ، فلا يفيد أن ذلك الرجل منهم.

(د) أن التأخير يخل بتناسب الفواصل نحو : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى)(٢) ، بتقديم الجار والمجرور والمفعول على الفاعل إذ فواصل الآي على الألف.

__________________

(١) سورة غافر الآية ٢٨.

(٢) سورة طه الآية ٦٧.

١٠٨

(تتمة) من سنن العرب أن يبدءوا في باب المديح بالصفة الدنيا ثم يثنوا بما هو أعلى منها ، وهكذا وعلى ذلك قول البحتري يصف نحول الركاب :

يترقرقن كالسراب وقد خضن

غمارا من السراب الجاري

كالقسّى المعطفات بل الاسهم

مبرية بل الأوتار

فقد ترقى في تشبيه نحو لها فشبهها بالقسى ، ثم بالأسهم المبرية ، ثم بالأوتار ، وهي أشد الثلاثة نحولا ، كما يعكسون في باب الذم.

تدريب أول

اذكر الأسباب التي دعت الى تقديم المسند اليه ، أو المسند ، أو متعلقات الفعل ، فيما يلي :

١ ـ فيا لك من ذي حاجة حيل دونها

وما كلّ ما يهوى امرؤ هو نائله

٢ ـ أنا لا اختار تقبيل يد

قطعها أفضل من تلك القبل

٣ ـ أبعد أن بات عبد الله مرتهنا

تحت الثرى يرتجي صفو وينتظر

٤ ـ عند الصباح يحمد القوم السّري

وتنجلي عنهم غياهب الكرى

٥ ـ جنات عدن يدخلونها

٦ ـ النار وعدها الله الذين كفروا

٧ ـ خير الصنائع في الأنام صنيعة

تنبو مجاملها عن الاذلال

٨ ـ بيد العفاف أصون عز حجابي

وبعصمتي أسموا على أترابي

الاجابة

(١) وقع المسند اليه بعد حرف النفي لإفادة سلب العموم في شطره الثاني.

(٢) قدم المسند اليه على حرف النفي لإفادة التخصيص.

(٣) قدم الظرف لكونه محط الإنكار.

(٤) قدم متعلق الفعل وهو الظرف لإفادة التخصيص.

(٥) قدم المفعول لتعجيل المسرة.

(٦) قدم المسند اليه لتعجيل المساءة.

(٧) قدم المسند اليه لتعجيل السرور.

(٨) قدم الجار والمجرور لإفادة التخصيص في شطري البيت.

١٠٩

تدريب ثان

اذكر أسباب تقديم المسند اليه ، أو المسند ، أو متعلقات الفعل ، فيما يلي :

١ ـ وما كلّ هاو للجميل بفاعل

ولا كلّ فعال له بمتمم

٢ ـ ثلاثة ليس لها إياب

الوقت والجمال والشباب

٣ ـ نحن في المشتاة ندعو الجفلى

لا ترى الآدب فينا ينتقر (١)

٤ ـ قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا

٥ ـ وبالآخرة هم يوقنون

٦ ـ قل أغير الله أبغي ربا وهو ربّ كل شيء

٧ ـ سواي بتحنان الأغاريد يطرب

وغيري باللذات يلهو ويلعب

٨ ـ لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا.

الاجابة

(١) وقع المسند اليه بعد حرف النفي ليفيد سلب العموم.

(٢) قدم الخبر للتشويق الى ما بعده.

(٣) قدم المسند اليه لتقوية الحكم وتوكيده.

(٤) قدم المسند اليه للتخصيص.

(٥) قدم الجار والمجرور لإفادة التخصيص.

(٦) قدم المفعول لكونه محط الإنكار.

(٧) قدم المسند اليه لإفادة تقوية الحكم وتوكيده.

(٨) أخر الجار والمجرور بعد شهداء في الأول لأن الغرض إثبات شهادتهم على الأمم ، وقدم في الثاني لاختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم.

تمرين (١)

بيّن السبب في تقديم المسند اليه ، أو المسند ، أو متعلقات الفعل ، فيما يلي :

١ ـ (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ)(٢).

__________________

(١) المشتاة مكان الشتاء أو زمانه ، والجفلى الدعوة العامة الى الطعام ، والنقرى الدعوة الخاصة ، والآدب من يدعو الناس لمأدبة يفتخر بجودهم وكرمهم.

(٢) سورة يونس الآية ٤١.

١١٠

٢ ـ (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)(١).

٣ ـ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)(٢).

٤ ـ (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا)(٣).

٥ ـ (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)(٤).

٦ ـ جميع المصريين لا يرغبون في أذى الضيف.

٧ ـ (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا)(٥).

تمرين (٢)

بيّن السبب في تقديم المسند اليه ، أو المسند ، أو متعلقات الفعل ، فيما يلي :

١ ـ إن في عدلك وكرمك ورأفتك رحمة بالضعفاء

٢ ـ بك اقتدت الأيام في حسناتها

وشيمتها لولاك همّ وتخريب

٣ ـ أكفرا بعد رد الموت عني

وبعد عطائك المائة الرّتاعا

٤ ـ إذا نطق السفيه فلا تجبه

فخير من إجابته السكوت

٥ ـ إذا شئت يوما أن تسود عشيرة

فبالحلم سد لا بالتسرع والشتم

٦ ـ ونحن التاركون لما سخطنا

ونحن الآخذون لما رضينا

٧ ـ ما كلّ رأي الفتى يدعو الى رشد

__________________

(١) سورة الزمر الآية ٦٦.

(٢) سورة الإخلاص الآية ٣.

(٣) سورة الأنبياء الآية ٩٧.

(٤) سورة الأعراف الآية ١٩٦.

(٥) سورة التوبة الآية ١٠٨.

١١١

الباب السادس في التعريف

وفيه ثمانية مباحث

المبحث الأول في الفرق بين النكرة والمعرفة والداعي الى التعريف

كل من النكرة والمعرفة يدل على معين وإلا امتنع الفهم ، إلا أن النكرة تدل على معين من حيث ذاته لا من حيث هو معين ، أي ليس في لفظ النكرة ما يشير الى أن السامع يعرفه فليس في اللفظ دلالة على ملاحظة التعين ، والمعرفة تدل على معين أي إن في لفظ المعرفة ما يشير إلى أن السامع يعرفه ، وإذا فالنكرة يفهم منها ذات المعين فحسب ولا يفهم منها كونه معلوما للسامع ، والمعرفة يفهم منها ذات المعين وكونه معلوما للسامع.

والتعين في المعرفة ، إما أن يكون بنفس اللفظ ، كما في الاعلام ، وإما بقرينة خارجية ، كما في غيره من بقية المعارف.

ويعدل عن التنكير الى التعريف لتزداد الفائدة وتتم ، فإن فائدة الخبر أو لازمها كلما ازداد متعلقها معرفة زاد غرابة ، واعتبر ذلك بما تراه من عظيم الفرق بين قولنا : ثوب نفيس اشترى في السوق ، وقولنا : ثوب حرير مطرز من صنع بلدة كذا اشتراه فلان أمس بألف دينار.

المبحث الثاني في تعريف المسند اليه بالاضمار

يعرف المسند اليه بالاضمار ، لأن المقام مقام تكلم ، كقوله عليه‌السلام يوم بدر : «أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب» وقول بشار :

أنا المرعث لا أخفى على أحد

ذرت بي الشمس للقاصي وللداني (١)

__________________

(١) الرعثة القرط يعلق في شحمة الأذن ، ولقب بشار بالمرعث لرعثة كانت له في صغره ، وذرت طلعت.

١١٢

أو مقام خطاب كقول الحماسية :

وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني

وأشمت بي من كان فيك يلوم

أو مقام غيبة ، ولا بد من تقدم ذكره إما لفظا نحو : (وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)(١) ، وقول أبي تمام :

بيمن أبي إسحاق طالت يد العلا

وقامت قناة الدين واشتد كاهله

هو البحر من أي النواحي أتيته

فلجّته المعروف والبحر ساحله

وإما معنى لدلالة لفظ عليه ، نحو : (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ)(٢) لما في ارجعوا من معنى الرجوع ، أو لقرينة حال كقوله تعالى : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ)(٣) ، أي ولأبوي الميت ، وإما حكما كما في باب رب نحو ربه فتي ، وباب ضمير الشأن نحو : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(٤).

والأصل في الخطاب أن يكون لمشاهد معين نحو : أنت استرققتني بإحسانك ، وقد يخاطب :

١ ـ غير المشاهد اذا كان مستحضرا في القلب كأنه نصب العين ، كما في : إياك نعبد.

٢ ـ غير المعين ليعم كل من يمكن خطابه على سبيل البدل لا على طريق التناول دفعة واحدة ، كما تقول : فلان لئيم إن أحسنت اليه أساء اليك ، فلا يراد في مثله مخاطب معين ، بل يراد أن سوء معاملته ، غير مختص بواحد دون آخر. وعليه قول المتنبي :

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته

وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

وقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ)(٥) أخرج الكلام في صورة الخطاب ، مع إرادة العموم ، تنبيها الى تقطيع حالهم ،

__________________

(١) سورة يونس الآية ١٠٩.

(٢) سورة النور الآية ٢٨.

(٣) سورة النساء الآية ١١.

(٤) سورة يوسف الآية ٩٠.

(٥) سورة السجدة الآية ١٢.

١١٣

من تنكيس الرءوس والخجل ، من أهوال يوم القيامة ، وبيانا لأنها بلغت الغاية في الظهور ، بحيث لا تخفى على أحد ، ولا تختص بها رؤية راء ، بل كل من يتأتى منه الرؤية يدخل في الخطاب ، ولهذا نظائر كثيرة في القرآن الكريم ، نحو : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً)(١).

المبحث الثالث في تعريف المسند اليه بالعلمية

يؤتى بالمسند إليه لأغراض ، منها :

١ ـ إحضار معناه في ذهن السامع باسمه الخاص ليمتاز عما عداه كقوله تعالى :

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ)(٢).

٢ ـ التعظيم في الاعلام التي تشعر بمدح كسيف الدولة وصلاح الدين.

٣ ـ الاهانة في الاعلام التي تشعر بذم نحو صفوان وصخر.

٤ ـ الاستلذاذ بذكره كما يذكر المحبون أسماء من يحبون ، ومن ثم يقول المتنبي مادحا عضد الدولة :

أساميا لم تزده معرفة

وإنما لذة ذكرناها

وعليه قول مجنون ليلي :

بالله يا ظبيات القاع قلن لنا

ليلاي منكن أم ليلى من البشر

٥ ـ الكناية عن معنى يصلح العلم له بحسب معناه قبل العلمية ، كما يقال : أبو الفضل وأخو الحرب ، فاطلاق ذلك اطلاقا علميا يجوّز أن يلاحظ فيه الأصل مع القرينة ، فيلمح في الأول أنه ملابس للفضل فهو صاحب المكارم ، وفي الثاني أنه ملاصق للحرب ، فهو شجاع فاتك.

٦ ـ التفاول في الاعلام التي تشعر بذلك نحو : سعد وسعيد.

٧ ـ التطير والتشاؤم نحو : السفاح والجراح.

٨ ـ التسجيل على السامع حتى لا يتأتى له الإنكار ، كما يقول القاضي لشخص : هل أقرّ إبراهيم بكذا ، فيقول إبراهيم : أقر بكذا ، فلم يقل هو لتسجيل الحكم وضبطه لئلا يجد المشهود عليه سبيلا للإنكار.

__________________

(١) سورة الانسان الآية ٢٠.

(٢) سورة البقرة الآية ١٢٧.

١١٤

المبحث الرابع في تعريف المسند إليه باسم الاشارة

يؤتى بالمسند إليه اسم إشارة لأغراض كثيرة يلاحظ البلغاء منها :

١ ـ تعين اسم الإشارة طريقا الى إحضار المشار إليه بعينه في ذهن السامع بأن يكون حاضرا محسوسا ، والمتكلم والسامع لا يعرفان اسمه الخاص ولا معينا آخر.

٢ ـ تمييزه أكمل تمييز لإحضاره في ذهن السامع بواسطة الإشارة الحسية ، كأن يكون المقام للمدح فيكون أعون على كماله ، وعليه قول الحطيئة :

أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنى

وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا (١)

٣ ـ التعريض بغباوة السامع حتى كأن الأشياء لا تتميز لديه إلا بالإشارة الحسية ، كقول الفرزدق يهجو جريرا ويفخر بآبائه :

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع (٢)

٤ ـ قصد تحقيره بالقرب ، نحو : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ)(٣) ، ومنه في غير المسند إليه : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً)(٤).

٥ ـ قصد تعظيمه بالقرب نحو : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)(٥) وذلك كثير في التنزيل.

٦ ـ قصد تحقيره بالبعد نحو : (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ)(٦).

٧ ـ قصد تعظيمه بالبعد نحو : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ)(٧) من حيث لم تقل : فهذا ، وهو حاضر رفعا لمنزلته في الحسن وتمهيدا لعذر الإفتتان به.

__________________

(١) البنى جمع بنية كرشوة ورشى.

(٢) يظهر ان نكتة التعبير باسم الاشارة التعظيم أو تمييزهم.

(٣) حكاية لقول المشركين حينما كانوا يستهزءون به (وردت في سورة الأنبياء).

(٤) سورة البقرة الآية ٢٦.

(٥) سورة الإسراء الآية ٩.

(٦) يدع : يقهر (الماعون).

(٧) سورة يوسف الآية ٣٢.

١١٥

٨ ـ قصد التنبيه على أن المشار اليه المعقب بأوصاف جدير بما يذكر بعد اسم الإشارة نحو : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١) ، فقد عقب المشار اليه وهم المنقون بأوصاف ، وهي الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة وما بينهما ، ثم عرف المسند اليه بالإشارة تنبيها على أن المشار اليهم أحقاء أجل تلك الخصال بأن يفوزوا بالهداية عاجلا أو آجلا ، قال في «الكشاف» ، ونظيره قول حاتم :

ولله صعلوك يساور همه

ويمضي على الأحداث والدهر مقدما

اذا ما رأى يوما مكارم أعرضت

تيمم كبراهن ثمت صما

اذا الحرب أبدت ناجذيها وشمرت

وولّ هدان القوم أقبل معلما

فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه

وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمما (٢)

فقد قال : لله صعلوك ، ثم عدد له خصالا فاضلة من المضاء على الأحداث مقدما وتيمم كبرى المكرمات والتأهب للحرب ، الى غير ذلك مما ذكره بعد ، ثم عقبه بقوله : فذلك إن يهلك.

٩ ـ التهكم والسخرية كقوله : من يهزأ بأعمى هذا الهلال في السماء.

١٠ ـ الإشارة الى فطانته وذكائه حتى كأن غير المحسوس عنده كالمحسوس ، نحو : هذا ما تشير اليه عبارتك.

المبحث الخامس في تعريف المسند اليه بالموصولية

يعرف المسند اليه بالموصولية لدواع ، منها :

١ ـ عدم علم المخاطب بالأحوال المختصة به سوى الصلة ، نحو : من دخل هذا الحصن استحق أكبر ألقاب الشرف.

٢ ـ التفخيم ، أي التهويل والتعظيم ، نحو قوله تعالى : (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ)(٣).

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٦.

(٢) صعاليك العرب فقراؤهم ومتلصصوهم ، والمساورة المواثبة ، والهم العزيمة والقصد ، وأعرضت ظهرت ، والهدان الأحمق الثقيل.

(٣) سورة طه الآية ٧٨.

١١٦

٣ ـ تنبيه المخاطب الى خطئه ، كقول عبدة بن الطبيب ، من قصيدة يعظ فيها ابنه :

إن الذين ترونهم إخوانكم

يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا (١)

٤ ـ زيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام ، كقوله تعالى : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ)(٢) فالغرض الذي سيق له الكلام نزاهة يوسف عليه‌السلام وبعده عن مظنة الريبة ، وهذا التعبير أوضح في الدلالة على هذا الغرض مما لو قيل امرأة العزيز أو زليخا أو نحو ذلك ، لأنه اذا امتنع عن الفحشاء ولم ينخدع مع كونه غلامها وفي بيتها مع كمال قدرتها عليه ، كان ذلك غاية النزاهة ونهاية الطهارة وعليه قول أبي العلاء المعري :

أعباد المسيح يخاف صحبي

ونحن عبيد من خلق المسيحا (٣)

فقوله : عبيد من خلق المسيح أدل على تقرير غرضه وهو نفي خوف أصحابه من قوله : عبيد الله.

٥ ـ الإيمان والإشارة الى نوع الخبر من مدح أو ذم أو عقاب أو غير ذلك فيتنبه الفطن من فاتحة الكلام الى خاتمته ، ويدرك ما تومىء اليه من المقاصد ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ)(٤) ففي مضمون الصلة وهو الاستكبار عن العبادة ، تلميح الى أن الخبر المترتب عليه من جنس الإذلال والعقوبة.

قال السكاكي : ثم يتفرع على هذا اعتبارات لطيفة ، فربما جعل ذريعة الى التعريض بالتعظيم لشأن الخبر كقولك : الذي يرافقك يستحق الإجلال ، والذي يفارقك يستحق الإذلال ، وعليه قول الفرزدق :

إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا

دعائمه أعزّ وأطول (٥)

__________________

(١) أن تصرعوا أي تهلكوا أي فمن تظنونهم إخوانكم يتمنون لكم الهلاك والدمار فأنتم مخطئون في هذا الظن.

(٢) سورة يوسف الآية ٢٣.

(٣) المراد ايخاف اصحاب المسلمون من عباد المسيح مع اننا عبيد الإله الذي خلق المسيح.

(٤) داخرين صاغرين (سورة المؤمن).

(٥) سمك رفع ، والبيت بيت العز والشرف قاله يفخر بقبيلته على قبيلة جرير.

١١٧

فهو مع كونه يشير الى أن الخبر المبني عليه من جنس الرفعة والبناء ، يعرّض بتعظيم بناء بيته لأنه فعل من رفع السماء ، أو ذريعة الى تحقيق الخبر نحو :

إن التي ضربت بيتا مهاجرة

بكوفة الجند غالت ودّها غول (١)

ففي ضربها البيت في مكان المهاجرة تحقيق للحكم بزوال محبتها وودها.

٦ ـ الحث على التعظيم نحو : جاء الذي أدبك ، ورباك فأحسن تربيتك.

٧ ـ التهكم ، نحو : (قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ)(٢).

٨ ـ الحث على الترحم ، نحو : الذي سبى أولاده ، ونهب طريقه وتلاده ، يستحق المعونة.

٩ ـ تعليل الحكم ، نحو : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً)(٣).

ففي ذكر الإيمان والعمل الصالح بيان لسبب فوزهم بالجنات ورفع الدرجات ، وعلى الجملة ، فلطائف هذا الباب لا تكاد تنحصر.

المبحث السادس في تعريف المسند اليه باللام

يؤتى بالمسند اليه معرفا باللام ، لإفادة معنى من المعاني التي تفيدها اللام ، ذلك أنها تنقسم قسمين : لام العهد الخارجي ، وهي ثلاثة أنواع : صريحي ، وكنائي ، وعلمي. ولام الحقيقة ، وهي أربعة أقسام : لام الحقيقة أو لام الجنس ، ولام العهد الذهني ، ولام الاستغراق الحقيقي ، ولام الاستغراق العرفي :

١ ـ لام العهد الصريحي هي ما يتقدم مدخولها صراحة ، كما في قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ)(٤) ، فقد ذكر المصباح والزجاج منكّرين ثم أعيدا معرّفين.

__________________

(١) سميت الكوفة كوفة الجند لاقامة جند العرب بها عند تمصيرها ، وغالته غول ، أي أزالته وأهلكته.

(٢) سورة الحجر الآية ٦.

(٣) سورة الكهف الآية ١٠٨.

(٤) سورة النور الآية ٣٥.

١١٨

٢ ـ لام العهد الكنائي : هي ما يتقدم ذكرها كناية ، أي مبهما ، تعينه القرائن ، كقوله تعالى : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى)(١) فالذكر ، وإن لم يتقدم صريحا ، قد استفيد من (ما) في قولها : (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً)(٢) إذ التحرير وهو العتق لخدمة بيت المقدس لم يكن إلا للذكور فهو المعنى ب (ما) في كلامها.

٣ ـ لام العهد العلمي : هي ما علم مدخولها عند المخاطب سواء أكان حاضرا أم لا ، نحو : (إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)(٣)(إِذْ هُما فِي الْغارِ) أي الشجرة والغار المعهودين لك ، وكما تشير الى حاضر ، وتقول : هذا الخطيب تكلم فأحسن الكلام.

٤ ـ لام الحقيقة : هي ما يشار بها الى الحقيقة ، بقطع النظر عن عمومها ، وخصوصها ، وتسمى لام الجنس ، كقولهم : أهلك الناس الدينار والدرهم ، وشربت الماء. وقول أبي العلاء :

والخل كالماء يبدي لي ضمائره

مع الصفاء ويخفيها مع الكدر

وعليه من غير هذا الباب قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ)(٤) إذ المراد : جعلنا مبدأ كل شيء حي هذا الجنس وهو الماء.

٥ ـ لام الحقيقة في ضمن فرد مبهم : إذا قامت القرينة على ذلك ، وتسمى لام العهد الذهني ، كنا في قوله تعالى : (أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ)(٥) ومدخولها في المعنى كالنكرة فيعامل معاملتها فيوصف بالجملة ، كما توصف النكرة ، كقول عميرة بن جابر الحنفي :

ولقد أمرّ على اللئيم يسبني

فمضيت ثمت قلت لا يعنيني

أما في اللفظ فتجري عليه أحكام المعارف من وقوعه مبتدأ وذا حال ووصفا للمعرفة وموصوفا بها ، وإنما لم تقل نكرة لما بينهما من التفاوت إذ النكرة معناها

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ٣٦.

(٢) سورة آل عمران الآية ٣٥.

(٣) سورة الفتح الآية ٢٨.

(٤) سورة الأنبياء الآية ٣٠.

(٥) سورة يوسف الآية ١٣.

١١٩

بعض غير معين من جملة أفراد الحقيقة ، وأما المعرف باللام فمعناه نفس الحقيقة ، وتستفاد البعضية من القرائن كالأكل في الآية ، وإذا فالمجرد وذو اللام مع القرينة (١) سواء ، وبالنظر إلى أنفسهما مختلفان.

٦ ـ لام الحقيقة ، في ضمن جميع الأفراد التي يتناولها اللفظ بحسب اللغة ، وتسمى لام الاستغراق الحقيقي ، ودليل الشمول والاستغراق ، إما :

(أ) قرينة حالية نحو : (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ)(٢) ، أي كل غيب وشهادة.

(ب) قرينة مقالية نحو : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ)(٣) ، أي كل إنسان ، بدليل الاستثناء الذي هو علامة إرادة العموم ، إذ شرطه دخول المستثنى في المستثنى منه ، لو لم يذكر.

٧ ـ لام الحقيقة في ضمن جميع الافراد التي يتناولها اللفظ بحسب متفاهم العرف كما تقول : جمع الملك الوزراء وألقى عليهم نصائح ذهبية ، فإن المقصود وزراء مملكته ، لا وزراء العالم أجمع.

(تنبيه) من القضايا المشهورة قولهم (استغراق المفرد أشمل) ، ومعنى ذلك أن اسم الجنس المفرد إذ دخلت عليه أداة الاستغراق كحرف التعريف أو النفي كان شموله للافراد وتناوله إياها أكثر من شمول المثنى والجمع الداخلة عليهما تلك الأداة.

بيان ذلك أن المفرد يتناول كل واحد من الأفراد ، والمثنى إنما يتناول كل اثنين اثنين ، والجمع إنما يتناول كل جماعة جماعة ، ودليل ذلك صحة قولك : لا رجال في الدار ، اذا كان فيها رجل أو رجلان ، وعدم صحة قولك : لا رجل إذا كان فيها واحد أو اثنان من هذا الجنس ، وهذه القضية ليست بصحيحة على عمومها ، وإنما تصح في النكرة المنفية دون الجمع المعرف باللام ، لأن المعرف بلام الاستغراق يتناول كل واحد من الأفراد ، بل هو في المفرد أقوى كما دل عليه الاستقراء وصرح به أئمة اللغة وعلماء التفسير في كل ما وقع في القرآن الكريم ،

__________________

(١) في أن كلا منهما يفيد بعضا غير معين وضعا فى النكرة وبالقرينة في ذي اللام.

(٢) سورة التوبة الآية ٩٤.

(٣) سورة العصر الآية ٢.

١٢٠