رحلتان إلى الحجاز ونجد

محمد بهجة البيطار ومحمد سعود العوري

رحلتان إلى الحجاز ونجد

المؤلف:

محمد بهجة البيطار ومحمد سعود العوري


المحقق: تيسير خلف
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: التكوين للتأليف والترجمة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٧٨

تحمل الأرز إلى وعاء السمن يغمسونه بها ، ثم يخرجونه ويأكلونه هنيئا ، ويشربون بعد الطعام حليب النوق بوعاء كبير مريئا ، وكنت حملت ملعقة من الشام ، فأضاعها أحد رفقائنا في الطريق أيام ركوبنا في القطار ، فأهداني الشيخ سلطان الفقير شيخ عنزة ملعقة من نحاس ، وأخرى لآكل بإحداهما ، فإذا ضاعت أكلت بالثانية ، وأهديته بيت أقلام وفيه أقلام «مراسم» ، وورقا وظروفا. ثم أضاع إحدى الملعقتين رفيقنا ، ومنعني الأكل بالثانية ، وقال : لا يجوز أن تأكل بالملعقة بعد اليوم ، حتى نرجع من نجد ، قلت : ولما ذا؟ قال : أما العرب من أهل البادية فيظنون أنك جاسوس من قبل الإنكليز ، فضحكت كثيرا ، وقلت له : الأكل بالملاعق وغيرها عادة أكثر أهل الحضر ، وليست من خصائص الإنكليز ولا غيرهم من أمم الغرب ، وللجاسوس علائم وأمارات يعرف بها غير الأكل بالملعقة ، فأي ارتباط ومناسبة بين الأكل بالملعقة وهذه التهمة؟ قال : هم لا يفهمون غير هذا. قلت له : فهمنا حال البداوة ، فما بال الحضريين ينكرون؟ قال : أولئك يعدّون الأكل بغير الكف والأصابع بدعة. قلت : البدعة المذمومة في الشرع ، هي التي تحل محل السنة وتبطلها ، والسنن ما كانت من جنس المفروضات والواجبات ، كما ترى في سنن الوضوء والصلاة والصيام مثلا ، وما يظهر فيه معنى الذكر والعبادة ويتقرب به إلى الله عزوجل ، أما وسائل الطعام والشراب ، فليست من هذا الباب ، وهي تختلف باختلاف البلاد والعباد ، ألا ترى أن

٤١

النبي عليه الصلاة والسلام كان يأكل مما يليه ، وفي هذا من الأدب ما لا يخفى ، ولو كانت الملاعق في بلاده عليه الصلاة والسلام ونهى عن الأكل بها ، وآثر الأكل باليد عليها لتم لهم ما يريدون ، ولكن كل ذلك لم يكن ، والمعقول أنها لو كانت في بلد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لاستعملها ، لأنها أقرب إلى آداب الطعام التي كان يرمي إليها ، وإلى النظافة التي كان يحثّ عليها.

عود إلى وصف الطعام والمنام والركوب

قلنا إن طعامنا في مدة ثمانية عشر يوما إما أرز مع اللحم ، أو الأرز وحده ، أو التمر ، أو حليب النوق وحده ، والتمر وحده هو زادنا حيث لم نجد العرب ، وحليب النوق هو الذي نصطبح به عندهم ثم نبقى عليه إلى المساء أحيانا ، أما الخبز فلا أثر له هناك ، وأما الشراب فهو من ماء رملي وسخ جدا ، وهو الذي كانوا يطبخون به الطعام ، فيقع الرمل فيه تحت أسناننا وأضراسنا ، ولو كنا في الشام ، لأصابنا منه مرض عظيم ، ولكن المولى لطيف خبير. وقد كنا نتيمم كل هذه المدة لعدم تيسر الماء ونصلي جماعة على التراب ، وكنت أقصر الصلاة دائما ، وأجمع جمع تقديم وتأخير عند الضرورة ، وأما المركوب فظهور الإبل التي تحمل أثقالنا إلى بلد لم نكن بالغيه إلا بشق الأنفس ، وقد اعتدنا ركوبها وسهل علينا بالتمرن

٤٢

والعادة ، وصرنا نجد الراحة في ذلك بعد الآلام التي قاسيناها ، فالحمد لله رب العالمين.

وقد ظللنا نركب الإبل خمسة عشر يوما ، تسعة أيام من عند الشيخ سلطان الفقير إلى قرية الحائط ، وستة أيام من قرية الحائط إلى المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام كما سيأتي بيانه.

وأما النوم فعلى الأرض تحت الخيام أو تحت السماء ، والعرب ليس عندها للضيف إلا الطعام والقهوة ، وينام الإنسان وإلى جانبه الجمال التي تأكل طوال الليل ، وكذا الغنم والماعز والكلاب التي تنبح فيظن النائم أن العدو يحاول قتل الرجال ، وسلب الأموال ، والأهواء العاصفة التي تخفق طول الليل فتصم الآذان ، ويرحم الله القائلة :

لبيت تخفق الأرواح فيه

أحب إليّ من قصر منيف

ما أعجب حكمها ، ولكني أعود فأقول : لا عجب في حكمها لأنها لم تحكم حكما عاما ، على أن البداوة خير من الحضر ، ولكنها قالت «أحب إلي» وهي معذورة في ذلك لأنها بدوية الأصل والمنشأ ، والعادة حببت إليها ذلك ، كما أني أوثر الحضر ، لأن التربية الحضرية مالت بي إليه ، وكم من أهل الحضر من مدح حال البداوة وأثنى عليها ، وبالعكس ، والحق أن في كلّ مزايا وخواص لا تنكر ، وليس هنا موضع تفصيلها.

ثم إن البرد هناك شديد جدا ، والعرب تقول : منع البرد البرد «أي منعت البرودة النوم» وكان حالنا كما قال الشاعر :

٤٣

«ما أذوق المنام إلا غرارا». ولكن من رحمة الله بي أنه كان معي الحرام والمخدة والطراحة التي كنت أجد بها عظيم النعمة والراحة ، ولو لا الثياب التي بقيت عندي بعد السلب ، وأدوات النوم التي رأوها وسلمها المولى منهم ، لكنت في أسوأ حال ، فالحمد لله الخبير المتعال.

وأما الحوادث والنوادر والفظائع أثناء الطريق ، ففي الوقائع التي حدثت لأهل البداوة في غزو بعضهم لبعض وهم يقولون : هنا ذبح فلان ، وهناك قتل فلان ، وهنالك أخذ حلال فلان ، ولم أسمع في طول تلك الأيام إلا الحوادث الفظيعة وما أشبهها ، وإلا الأناشيد التي لا أفهمها ، ولم أتكلم مدة سفري معهم إلا بمقدار ما تلجئني إليه الضرورة ، وفي كل يوم كان يشتد بنا الخطر ، ويزداد ضيق الصدر ، ولا ندري متى يوافينا الأجل؟ ولا كيف يكون القتل ، وكل يوم كنت أتلو فيه قوله تعالى : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)(١).

وما زلت على هذه الحال ، وأنا صابر ثابت صامت ، حتى بلغنا «قرية الحائط» يوم الثلاثاء في ٤ رجب الفرد عام ١٣٣٨ ه‍.

__________________

(١٠) ـ سورة لقمان ، الآية ٣٤.

٤٤

نبذة من أخبار المتدينة

لم يتفق لنا أن نزلنا عند عرب في مدة ثمانية عشر يوما : «من ١٦ جمادى الثانية إلى ٣ رجب» إلا وقصوا علينا نبذة من أخبار المتدينة ، حتى وصلنا قرية «الحائط» وهي في شمال المدينة المنورة على مسافة أربع مراحل منها ، وهنالك مجمع أخبارهم ، ومشهد آثارهم ، وخلاصة ما اتصل بنا من أمرهم أن بعض وعاظ نجد ومرشديهم انبثوا في بعض القبائل والعشائر الحجازية ، وطفقوا يدعونهم إلى الله ويعلمونهم أحكام الصلاة والزكاة وينهونهم عن الغزو وأكل الحرام ، فاستجاب لهم بعض القبائل كبني سالم ، وكالشيخ متعب «والشيخ من عنزة» مع طائفة من قومهما فحسنت حالهم ، وصاروا يقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، وتركوا الغزو والسلب ، وجلبوا كتبا في التوحيد والفقه من نجد يتعلمون بها أحكام دينهم ، ثم تبعهم بعض العشائر «كمطير ، وعتيبة وحرب وغيرهم» فباعوا إبلهم وغنمهم ومعزهم ، وبنوا القرى من أجل أن يتحضروا ويتفرغوا لعبادة ربهم ، وقالوا إن في اقتناء الوبر مشغلة عن طاعة الله عزوجل ، ثم اشتدت حاجتهم إليها لعدم وجود ما يغنيهم عنها ، وقد كانوا من قبل مولعين بالغزو ، وأشربوا في قلوبهم حب الأكل منه ، فراحوا يغزون تحت اسم «الإسلام» وسموا أنفسهم «المتدينة» و «الإخوان». وهم يعطون عميدهم من الغنائم الخمس ، وهو يحمي ظهرهم ، ويشد

٤٥

أزرهم ، ويقسم الغنائم بينهم ، ويبني لهم القرى ، ويعمر لهم فيها المساجد ، وقد سمعت أن قراهم الآن قد بلغت الخمسين ، وأنهم صاروا يقاربون أعداد خصومهم ، وقد انتشروا ألوفا مؤلّفة بين نجد والحجاز ، ويمتازون من خصومهم بقوة البأس ، وشدة المراس ، والقلوب القوية التي لا يجد الخوف إليها سبيلا ، وهم ينقضون على خصومهم بسيوفهم اللامعة ، كالرعد القاصف ، والبرق الخاطف ، والسيل الجارف ، وإذا غدوا من أهلهم قالوا لهم : سلوا الله لنا الشهادة ، فيفعلون.

وهم يضربون الرقاب ويتمسحون بدماء القتلى زيادة في اغتنام الأجر والثواب!!

وهم طوائف مؤلفة من أكثر العشائر البدوية الجهال ، ما كانوا يدرون ما الكتاب ولا الإيمان ، وهم قد قرروا الجهاد ، حتى يفنوا عن آخرهم أو يفنوا خصومهم ، ويرثوا أرضهم وديارهم وأموالهم ، وقد اتسعت دائرة نزالهم ، وامتدت ساحة قتالهم ، حتى بلغت أطراف المدينة المنورة ، حماها الله تعالى وصانها ، فهم يهاجمون العرب في تلك الجهات ، ويرجعون منها بالغنائم ، وهم يجدّون في هذه السبيل ، ولا يرجعون من حرب إلا بين قاتل وقتيل.

«نعود إلى ما كنا فيه» قلنا : إنا بلغنا قرية الحائط يوم الثلاثاء في ٤ رجب الحرام عام ١٣٣٨ ه‍ ، دخلناها وتناولنا طعام الغداء عند حاكمها الشريف عبد المطلب بن غالب ، وطعام العشاء عند الشيخ خلف بن جابر أحد شيوخها ، وأشار

٤٦

علينا جميع من اجتمعنا بهم بأن لا نتجاوزها إلى نجد ، وأن لا نخطو قدما واحدة من بعد ، وقالوا إن الخطر على حياتي «بالمائة تسعون» وقال رفيقنا الشيخ شلاش : أنا لا آمن عليك من شر المتدينة ، وأنا لست كهيئتك ، أنا نجدي ، وأنت من أهل الشمال ، وهم يكفرونهم ويكفرون حكامهم ، ويستحلون دماءهم وأموالهم ، ويتقربون بقتلهم إلى الله ، وأنا أؤدي الأمانة بتمامها ، وآتيك بجوابها ، فقبلنا النصيحة ، وآثرنا ذلك على أن نقتل شر قتلة ، بتلك الأيدي الجائرة الأثيمة ، وكتبنا كتابا نعتذر به عن عدم الوصول وفي ضمنه الأمانة والمذكرات ، ولم نترك شيئا مهما إلا ذكرناه ، وعسى أن يكون الجواب إن شاء الله وافيا بالمقصود ، شافيا لما في الصدور ، ثم ودعنا الأخ شلاش ورفيقنا الشاب النشيط عبد الله صباح يوم الأربعاء بالدموع ، سهّل المولى عليهما ، وأنجح مقاصدهما آمين.

قرية الحائط

قرية الحائط واقعة في شمال المدينة المنورة على أربع مراحل منها ، وهي ذات نخيل كثير وفيها عيون عذبة ، وأهلها قوم كرام ، وهم فيما بينهم على اتفاق تام ، وقد كانت هذه القرية في الأصل لعرب عنزة ، ثم امتلكها منهم ابن الرشيد ، بعد حرب ظفر فيها ، وعامل أهل الحائط على نخيلها ، على أن يكون ثمره بينه وبينهم مناصفة ، ثم استقلوا بأنفسهم ، فحاربهم منذ سنين وحاول استردادها منهم فلم يفلح ، وفي أول

٤٧

الثورة العربية طلبوا شريفا ليكون حاكما عليهم فأرسل إليهم ، وجلالة ملك الحجاز يأخذ منهم زكاة الثمار العشر فقط ، ولا تزال تتجاذبها أنظار الطامعين ، من ابن الرشيد والمتدينين ، وهم لا يرغبون غير حكم الشريف ، ومستعدون لقتال من يبغي عليهم.

قضيت في هذه القرية ثمانية أيام ، وكنت ضيف شريفها الشاب الأديب عبد المطلب ، ورفيقه المهذب النجيب الشريف حميّد ، وكنت أنام عند خطيبها الصالح البركة الشيخ مبروك النجدي ، ونقرأ عنده بعد العشاء وبعد صلاة الفجر وأثناء النهار أيضا ، دروسا في الحديث والفرائض والنحو والصرف ، وقد ألقيت يوم الجمعة بعد أداء الفريضة في جامعها درسا عاما ، فسّرت فيه قوله تعالى : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(١) فظهر الخشوع ، وسالت الدموع ، واستلموا بعد الدروس يديّ مصافحة ولثما.

من يوم الثلاثاء ٤ رجب إلى يوم الثلاثاء في ١١ رجب عام ١٣٣٨ ه

بذلت المجهود ، وأرخصت النفس والنفيس في سبيل الوصول إلى نجد ، والرجوع عن طريق المدينة المنورة ، فحالت الأقدار بيني وبين نجد ، وتيسر لي السفر إلى المدينة تيسّرا

__________________

(١١) سورة البقرة ، الآية ٢١٠.

٤٨

عجيبا ، فصدق فينا المثل : «أردت عمرا وأراد الله خارجة» ، إذ أردنا نجدا وأراد الله الحجاز ، وإليك البيان :

لما اضطررت للبقاء في قرية الحائط منتظرا رفيقي الأخ شلاش اشتد شوقي لشدّ الرحال إلى المسجد النبوي ، والحظوة بشرف الزيارة المباركة ، وأداء الصلاة في تلك الروضة المطهرة بين البيت والمنبر التي هي من رياض الجنة ، وكنت كلما تذكرت أن صلاة في مسجده عليه الصلاة والسلام أفضل من ألف في غيره إلا المسجد الحرام ، هزني الشوق وازدادت عوامل الرغبة.

وكنت أسأل الله أن ييسر لي سبيل الوصول والزيارة ، ولم أكد ألبث هنالك أياما حتى عرض لشيوخ «الحائط» الكرام السفر إلى مدينة النبي عليه الصلاة والسلام ، وهم : الشيخ خليل مقبل ، والشيخ خلف بن جابر ، والشيخ علي بن سليمان ، وحضرة الخطيب الشيخ مبروك ، ومعهم نحو خمسة عشر رجلا ، فعقدت النية على السفر معهم ، وارتاحوا هم لذلك جدا ، وكتبت للأمير علي ولي عهد الملك وحاكم المدينة المنورة ، على لسان الشريف عبد المطلب كتابا ذكرت له فيه الغرض للشريف عبد المطلب أيضا بأن ضيفنا «محمد بهجة» أحب التشريف بلقائكم مع الوفد.

ركبنا الإبل يوم الثلاثاء ١١ رجب ، وقضينا في مسيرنا ستة أيام ، وفي صباح الأحد ١٦ رجب بلغنا مدينة الرسول صلى

٤٩

عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام ، وكانت قد جالت في خاطري هذه الأبيات :

قصيدتي النبوية

لمسجدك المحبوب يا خير ساكن

بطيبة إنا قد طوينا المراحلا

صلاة به عدّت كألف بغيره

وفي زروة المختار نلنا الفضائلا

ألا يا رسول الله قد جئتنا بما

بإسعاد كل الناس قد كان كافلا

فعلّمت أميّا ، وأرشدت حائرا

وأيقظت مغرورا وأدبت جاهلا

فصلى عليك الله يا سيد الورى

لخير بني الإنسان قد جئت حاملا

وذاك كتاب الله ما زال بيننا

يؤيد حقا ثم يزهق باطلا

أفاض على الغبراء شمسا فأشرقت

على كل مفضول ومن كان فاضلا

دعا أمة التوحيد بعد تمزق

لحسن اتحاد يدحر الخطب نازلا

ولكن أبى أهلوه إلا تفرقا

وإلا عداء بينهم وتخاذ

ألا ليت شعري هل درى الخلق

جرى في جهات الشرق أم دام غافلا

حروب تشيب الطفل قبل مشيبه

وتترك رب الفكر حيران ذاهلا

لقد شنها أحلاف جهل وفتنة

ومن كان عن سبل الشريعة مائلا

ودانوا لرب العالمين بزعمهم

فسلبهم نيل لمن كان نائلا

وقد أرخصوا الأرواح دون منالهم

وما رجعوا إلا قتيلا وقاتلا

بضرب رقاب أو بحز حلاقهم

وسفك دماء تترك الأرض سائلا

٥٠

وتقطيع أجسام وإحراق أضلع

ليأكلها في النار ما كان آكلا

وتقسيم أموال وترك عوائل

يتامى أيامى لا ترى قطّ عائلا

فذا بعض ما يجري وما قد سمعته

على كثب منهم وقد كنت سائلا

حنانيك يا رباه ما ذا أصابنا

وما ذا دهى الإسلام سرعان عاجلا

وأنت رعاك الله يا نسل يعرب

ألست ترى في ذاك مجدك زائلا

لقد عم هذا الشر كل ابن حرة

فأحنى له ظهرا وأثقل كاهلا

سلام على يوم نرى العرب تنقي

به غدر من قد كان للعرب خاذلا

دخلت المدينة المنورة في ركب مؤلف من نحو ثلاثين رجلا من عرب البادية ومن قرية الحائط ، وأنا معهم على ظهر ناقتي بزي بدوي ، أشعث أغبر ، من وعثاء السفر ، وعليّ كوفية وعباءة ، حافي القدمين ، ملثم الوجه بادي العينين ، وما زلنا نجد السير حتى بلغنا منزل ولي العهد ، سمو الأمير علي في منتصف العنبرية ، على طريق السكة الحديدية ، فأنخنا أمام الباب ، ورأينا عشرات مزدحمين هناك ، من أهل المدينة والأعراب ، فسألنا رجل من طرف سموه :

أمعكم كتاب ، فناوله أحد الشيوخ مكتوب الشريف عبد المطلب الذي كتبته بخطي على لسانه ، فلم يلبث الرسول أن رجع إلينا يقول : أين الشامي؟ فتقدمت إليه ، فقال : مولانا الأمير في انتظارك ، فأنشدت في نفسي قول القائل : «متى

٥١

أضع العمامة تعرفوني» فتعممت على الطربوش ولبست جبتي وجوربي ، ثم دخلت على سموّه وسلّمت عليه ، فحياني بألطف تحية بعد أن نهض سموّه واقفا على قدميه ، ثم أكرمني بالجلوس إلى جانبه ، وسألني عن صحتي وأحوالي ومقدمي ، فأجبته بخلاصة أيام السلام وما لقيته من شديد الخطر ، فهنأني بالسلامة ، وخيرني بين السفر والإقامة ، فبينت لسموّه سبب السفر ثم أحضر حاجبه وأوصاه بي ، وأمر بإعداد محل لي أنزل فيه ، فذهبت مع الحاجب داعيا شاكرا فضله ، وجلست حصة لطيفة عند حضرة الحاجب «جميل بك الراوي البغدادي» وبعد تبادل عبارات السلام والمعرفة ، استدعى سيادته «تلفونيا» رشيد أفندي الغز الدمشقي «من قرية داريا» المقيم في المدينة المنورة بوظيفة مهندس للخط ، وهو محبوب هناك جدا لاستقامته وكرمه ، فلما انتهى إلينا سلّم علينا وجلس ، وبعد معرفة اسمي ولقبي قام واقفا وجدّد السلام والاحترام ، وقال : إن بني البيطار هم سادتنا ومرشدونا ، وما منهم إلا عالم أو متعلم ، فحياني جميل بك ثانية وقال تنزل ضيفا في دار رشيد أفندي ، وإذا عرض لك أمر أو غرض فنرجو إخبارنا «بالتلفون» عنده ، فشكرت غيرته وهمّته ، وذهبت مع رشيد أفندي حتى انتهينا إلى داره في المحطة بأقصى المدينة من جهة الشمال ، وبعد تناول طعام الغداء ، مع ضيوفه : حضرة مصطفى أفندي عبد الهادي النابلسي وولده الملازم منير أفندي وغيرهما ، استأذنته

٥٢

بالاغتسال في بيته ولم أذهب للحمام إذ ليس عندي شيء من النقود ، وبعد الاغتسال وتغيير الثياب ، ذهبت قاصدا المسجد النبوي وهو يصحبني ، فقطعنا العنبرية والمناخة وسوق المدينة ، حتى انتهينا إلى باب الحرم ، وهناك أثّر فيّ الخشوع ، واغرورقت عيناي بالدموع ، واشتد خفقان قلبي ، حين دخولي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم أكد أضع رجليّ في عتبة الحرم حتى استلمني دليلان ، وتنازعني عاملان ، هذا يقول : من الشام ، والآخر يجيبه : نعم ولكنه قدم من معان ، ثم سألاني تحقيق الخبر وهما يتجاذبان ردائي ، فقلت لهما : أيها الإخوان ، إني منتسب إلى العلم الشريف مثلكما ، وأحبّ أن ألتزم الزيارة الشرعية بعد أداء تحية المسجد في الروضة بين المنبر والبيت ، ثم أدعو متوجها جهة القبلة بالدعوات الخيرية ، وإني شاكر فضلكما وغير ناس إكرامكما ، ثم ذهبت وصليت ركعتين في موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للصلاة ، ثم بسطت يدي إلى السماء ودعوت بخيري الدنيا والآخرة لي ولأهلي وأصحابي وإخواني ، وتلاميذ «مدرستنا التوفيق خصوصا» وفقهم الله والمسلمين أجمعين لما يحبه ويرضاه ، ولم أنس بفضل الله أحدا أبدا ، فأسأل الله القبول ، إنه أكرم مسؤول ، ثم ذهبت وتشرفت بزيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزيارة صاحبيه أبي بكر وعمر «رضي‌الله‌عنهما» وسكان البقيع وحمزة عم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشهداء أحد ، رضي‌الله‌عنهم أجمعين.

٥٣

حال البلد الطيب العلمية

البلد الطيب كسائر البلاد أصابته الحرب بنقص من الأموال ، والأنفس والثمرات ، فأخرته في كل شيء تأخيرا محسوسا ، أما دروس الحرم النبوي العامة فدرس في تفسير القاضي البيضاوي ، وآخران في الفقه والتصوف ، وأما دروسه الخاصة فمبادئ الفقه والنحو لأفذاذ من الطلاب ، وقد شغل الناس أمر المعاش بغلاء الحاجيات ، وقلة الموارد.

المدارس الأميرية

في المدينة المنورة أربع مدارس أميرية ، وهي العلوية ، والعبدلية ، والفيصلية ، والزيدية ، على أسماء أنجال جلالة الملك الكرام ، وقد زرتها كلها في اليوم الثاني والثالث ، وعلمت أنها أسست في أوائل الثورة العربية ، ولكل مدرسة مدير ومعاون ، وفي كل منها ثلاثون تلميذا فأكثر ، ودروس كل منها : القرآن الكريم والتوحيد والفقه الإسلامي والحساب ، وليس للغة العربية فيها أثر ، وقد سألنا عن سبب ذلك ، فقالوا : إن النظام الموضوع من قبل المعارف لا يساعد ، لأنها مدارس ابتدائية ، قلت يا سبحان الله ، أليس فن النحو من الدروس الابتدائية الحاجيّة ، التي تبنى عليها العلوم الشرعية ، وهل هو أدقّ من مسائل الفقه والتوحيد ، اللذين تقرئونهما للتلاميذ؟ فوعدوني بالعناية بتدريس النحو متى رخص لهم فيه ، وذكر

٥٤

لي أستاذا المدرسة العبدلية بأنهما يقرئان اللغة العربية للطلاب ليلا ، جزاهما الله تعالى خيرا.

رحّب بي أساتذة المدارس الكرام ترحيبا عظيما ، وامتحنوا أمامي الطلاب في جميع الفنون ، وألقى الطلاب النجباء أمامي خطب الترحيب وغيره من منثور ومنظوم ، وشربنا الشاي في كل منها ، وتبادلنا الحديث مع الأستاذة الأفاضل ، وقد ألقينا في كل منها خطبة شكرنا بها حضراتهم على ما لقيناه من كرمهم وودهم ، ثم بينا مزية اللغة العربية وغيرها ، وسردت بعض النوادر المؤثرة في هذا الموضوع ، وبيّنت أن مدينة الرسول «ص» ينبغي أن تكون في مقدمة البلاد دينا وعلما وأدبا وعرفانا ، وينبغي أن تستمد النهضة الحديثة منها ، وتؤخذ مدنية العرب الجديدة عنها ، وشرحت حديث : «إن الإيمان يأزر إلى المدينة كما تأزر الحية إلى جحرها» ، وحديث : «بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ» ، وأن معنى ذلك إن شاء الله «أن الإيمان والإسلام بعد أن يضعفا ويرجعا إلى المدينة منبعهما ومصدرهما ، سيستأنفان نشاطهما ، ويجد دان شبابهما بهمة آل طيبة الغراء ، ثم يعيدان الكرة ، وينبعث في المرة الثانية من طيبة النور ، فيضيء سائر المعمور ، إن شاء الله تعالى.

فسروا بهذا البيان ، وتبادلنا عواطف الشكر والامتنان ، ثم ودعتهم وانصرفت ، بعد أن كتب كثير منهم اسمي ولقبي وعملي في دمشق.

٥٥

العلماء الغرباء في طيبة الغراء

قلنا إن المدينة فقدت كثيرا من أبنائها أيام الحرب على اختلاف طبقاتهم ، فمنهم من هاجر منها ولم يعد بعد إليها ، ومنهم من قضى نحبه في المهجر ، أو في نفس المدينة ، وقد فقدت قسما من علمائها الأجلاء ، وحفظ الله قسما منها كقاضيها الفاضل الشيخ عمر الكردي الكوراني أحد أحفاد الشيخ إبراهيم الكوراني الشهير ، ومفتيها الفاضل الشيخ أحمد كمخ وغيرهما. ولا تكاد تجد خمسة عشر في المائة من سكان المدينة الأصليين ، والباقي من أعراب وأغراب من المهاجرين.

أما العلماء الغرباء الموجودون هناك فقد زرت منهم الشيخ الخضر الشنقيطي وجماعته ، والشيخ أحمد شمس الشنقيطي ، وقد حصل لنا بكل منهما أنس كبير ، والشيخ عبد القادر شلبي الطرابلسي مدير المعارف ، وبعد مذاكرة دارت بيني وبينه في شأن الدروس العربية وأهميتها ومكانتها ، ذكر لي فضيلته من أمر المعارف ما ساءني أمره ، ولا يسرني ذكره ، وتبيّن لي أن حضرته غيور على دينه ، حريص على مصلحة قومه ، ولكن الأمر كما قيل : تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. يسر المولى لهم من أسباب النهوض ما يحبون بمنه وكرمه. أمين.

٥٦

فاتنا أن نذكر اجتماعنا في المدينة المنورة بحضرة حاكمها العسكري شكري باشا الأيوبي الدمشقي ، وهو حفظه الله تعالى رقيق الطبع لطيف الخلق.

رجوعي من المدينة المنورة إلى دمشق

ثم عدنا من المدينة إلى دمشق الشام ، بعد أن مكثنا فيها ثلاثة أيام ، مشمولين بالخير والإنعام. ركبنا قطار المدينة ليلة الأربعاء ١٩ رجب الفرد عام ١٣٣٨ فبلغنا دمشق مساء الخميس ٢٨ رجب عام ١٣٣٨ أي أن الطريق استغرق تسعة أيام ، فالحمد لله على التمام ، ونسأله تعالى حسن الختام ، وعلى ساكن طيبة وآله أزكى الصلاة والسلام.

٥٧

ثلاث رسائل متبادلة بيني وبين الإمامين عبد العزيز بن

عبد الرحمن الفيصل آل سعود ، ومحمد رشيد رضا منشئ

المنار وتفسيره ، وفيها تلخيص لما عانيته في الرحلة

وللغرض منها ، وللموضوعات العامة التي جرت المذاكرة

فيها بوساطة الرسل أو اللقاء والمشافهة ، أو الكتابة.

الرسالة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حق حمده ، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى وآله وصحبه.

إلى حضرة الأمير الجليل ، ومجدد معالم الدين النبيل ، ناصر السنة الغراء ، وخاذل ذوي البدع والأهواء ، الإمام عبد العزيز آل سعود ، أيده الله بروح منه.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد بث الأشواق القلبية ، وتوجيه الدعوات الخيرية ، أبدي أن حضرة أستاذنا الكريم ناشر علم السنة في مصر والشام ، بل في جميع أقطار الإسلام ، السيد محمد رشيد رضا أرسلني إليكم وأرسل معي خطابا لأسلمه إلى سموكم ، مشتملا على التعريف بي ، والدعوة إلى عقد اتفاق عام ، بين جميع أمراء الجزيرة العربية وأئمتها الكرام ، دفعا للعدوان الأجنبي على بلاد الإسلام ، ولم

٥٨

يكن يخطر في بال السيد ولا في بالي ، ما لاقيته في السفر من المتاعب ، وما قاسيته من الأهوال والشدائد ، وأول ما صادفنا عصابة شقية ، من عشيرة بني عطية ، سلبتنا نقودنا وثيابنا وزادنا ، وسلبوني مقدار خمسين جنيها ذهبيا عدا ثيابي وزادي ، وأصبحت نفقتي على حساب رفيقي وأخي في الله تعالى شلاش جزاه الله تعالى خيرا. ولقينا مفرزة ثانية في موطن آخر ، فوجهوا إلى صدورنا السلاح ، ثم عرفوا أخانا شلاش فأطلقوا سبيلنا. وأطلق آخرون علينا الرصاص ، فلم نصب ، ولله الحمد ، بأذى.

وإني أعزك الله أيها الإمام ، سليل أعلام من خدمة الكتاب والسنة في دمشق الشام ، وقد اعتدنا حالة الحضر ، ولم يسبق لنا تحمل مشاق السفر ، ولذا نالني في خمس وعشرين ليلة كان فراشي فيها الرمال ، بين الآكام والجبال ، ومركوبي في بعضها الجمال ، نالني ما أورثني الآلام ، وأمرضني عدة أيام ، وقد احتسبت ذلك عند الملك العلّام ، ورجوت أن يكون جهادا في سبيله ، وابتغاء مرضاته. ولما قربنا من قرية الحائط ، قصّوا علينا من فظائع حروب المسمّين بالمتدينة مع خصومهم ، ما تقشعر منه الأبدان ، ويتفطر له قلب أهل الإيمان ، وهم يطلبون الشهادة على أيدي من يكفرونهم ، ويتقربون بقتل مثلي لأسباب لا تخفى على فطنة الإمام ، وهم أخلاط من عشائر بدوية لا يدرون ما الكتاب ولا الإيمان ، ولا يعرفون لنفس حرمة ولا قيمة ، قلت في نفسي : (وَمَنْ يَقْتُلْ

٥٩

مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ)(١) ، هدانا الله وإياهم سواء السبيل ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ولقد كنا نزلنا ضيوفا عند متعب أخي سلطان الفقير ، فألفيناه هناك هو والإخوان ، على أحسن حال يكون عليها أهل الإسلام والإيمان. وقال إن هذا أثر الوعظ والإرشاد ، لا السيف والجهاد ، وكذا رأينا العشائر المجاورة لهم ، تقيم الصلاة وتسأل عن أحكام الزكاة ، وذكروا أنهم في حاجة إلى مرشدين ، يعلّمونهم من علماء نجد الأفاضل إذا هم انبثوا في جميع العشائر والقبائل ، فإن العرب التي لم تستجب بعد ، ليسوا بأقسى قلوبا ولا أغلظ أكبادا ممن دانت ، فهم في مزيد الحاجة الآن إلى أن يشملهم نظر الإمام ، بإرسال واعظين حكماء ، يعلّمونهم أحكام الشريعة السمحة ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، وأحسب أنهم لا يمضي عليهم وقت قليل ، حتى يكونوا أحسن حالا من كل قبيل ، وتلك أيسر الخطتين ، وأقرب الطريقتين ، والإمام أيده الله أبعد نظرا وأوسع خبرا وخبرا.

كتبت هذا إليك أيدك الله وأنا في قرية «الحائط» معتلّ المزاج ، لأرسله مع خط السيد مع أخي في الله شلاش ، كما أشاروا علينا بذلك ، وقال شلاش إنه يتعهد بإيصال الأمانة إذا أنا سطرتها له ، ففعلت ، ولكني آسف كل الأسف على أن أقطع خمسا وعشرين مرحلة ، ثم يبقى عليّ بضع مراحل ، فيحال

__________________

(١٢) سورة النساء ، الآية ٩٣.

٦٠