محمد بهجة البيطار ومحمد سعود العوري
المحقق: تيسير خلف
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: التكوين للتأليف والترجمة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٧٨
حماية لأنفسهم ولنا من أعراب تلك البطاح ، ولم يتيسر لنا أن نجتاز سحابة ذلك النهار ، أكثر من ثلاث محطات ، تبلغ ٥٥ كم ، وهي من معان (٤٦٤) كم من الشام ، إلى غدير الحاج (٤٨٠) كم إلى بئر الشدية (٤٩٢) كم إلى العقبة (٥١٩) كم ، وكلها مواقف خربة ، عطلتها مدافع الحرب ، وسبب هذا البطء إحصاء جسور الخط العامرة والخربة ، وأخذ ارتفاعها ، ومعرفة أبعادها ، وكذا منشآت الحكومة ، وبيان ما تخرب منها وما يلزم لإصلاحه ، وصرنا نقف عند الجسور والأمكنة الخربة وقوفا طويلا ، وحضرة المهندس يفصّل القول في ما يكتبه تفصيلا ، فأدركنا الغروب في «العقبة» وبتنا فيها ليلة الخميس في ١٣ جمادى الثانية عام ١٣٣٨ ه ، وقد تعطلت بعض آلات القطار فأصلحها السائق صباح الخميس.
يوم الخميس في ١٣ جمادى الثانية عام ١٣٣٨ ه
ساربنا القطار الساعة الثانية صباحا ، واجتزنا في هذا النهار أربع محطات مسافتها (٥٦) كم ، وهي : وادي الرتم ، وتل الشحم ، والرملات ، والمدوّرة. وقد بتنا ليلة الجمعة في المدورة ، وكان سبب تأخرنا وبطئنا ملاحظة الأمكنة المعطلة من جهة ، ونقل الرمال عن السكة من جهة ثانية ، وأول هذا الرمل الذي صادفنا في المدورة ، وآخره بين وادي الشحم وبئر هرماس ، على مسافة عشرة كيلومترات من كل منهما.
واقعتنا مع الأعراب من بني عطية
وما نبالي إذا أرواحنا سلمت |
|
بما فقدناه من مال ومن نشب |
في الساعة الثالثة والنصف «وقت الظهيرة» من هذا اليوم الخميس ١٣ جمادى الثانية ١٣٣٨ ه ، نفر لنا بين تل الشحم والرملات «٥٥١ ـ ٥٦٠» كم ، فئة قليلة من الأعراب راكبين فوق ظهور الأيانق والأباعر ، حاملين البنادق على أكتفاهم ، والمسدسات والمدي بأيديهم ، فوجهوا سلاحهم أولا نحو رئيس الحركة ، وآذنوه بالقتل إذا هو لم يقف ، فوقف قطاره مضطرا.
لم يكد يقف القطار عن الحركة حتى انقضوا علينا منحدرين كالسيل الجارف ، والبرق الخاطف ، وهم يقولون : «وش علومكم ، وش عندكم ، حنّا ما نبغي غير الذهب» ، فقال لهم بعضنا : نحن جماعة من الجنود والشيوخ نحمل المكاتيب من رؤساء العرب ، ومن سمو الأمير فيصل ، لنوصلها إلى سمو الأمير علي في المدينة المنورة ، من أجل إصلاح الطريق وتمشية القطار ، وحفظ حقوقكم وصركم ، وإن في ذهاب القطار بين المدينة المنورة ودمشق حاملا للمسافرين آمنين مطمئنين فيه على أنفسهم وأموالهم ، من الفوائد لكم ما لا يخفى عليكم.
قال بعضهم هذا الكلام وباب القطار يحميه رجل منا ، وباقي الجنود يتهيؤون بحمل بنادقهم وسائر سلاحهم للدفاع ، وإذا ببعضهم يقول : أفسحوا افتحوا لنرى من في القطار ، وأنزلوا حارس الباب عنوة ، وأخذوا الشيخ شلاش النجدي إلى مكان
بعيد ، ودار بينه وبين بعضهم حديث ، وتسلق بعض عفاريتهم سطح القطار ، وكسر نوافذ الزجاج ودخل شاهرا السلاح ، وكسر الآن زجاج النافذة الشمالية ودخل ، ثم هجم آخرون من الباب وبأيديهم المسدسات والمدي ، فقال لهم أحد الجنود : يا بني عطية : ستندمون على هذا العمل ، وستحرمون حقكم في المستقبل. ولكنهم أخذوا يسلبون بلا مبالاة ، ويختارون ما خف حمله ، وغلا ثمنه ، بحال مخيفة مرعبة ، ووجوه وأزياء تقشعر منها الأبدان ، وساعة رهيبة تشيب لهو لها الولدان ، ووجدوا معنا شيخا ضعيفا من عرب «عنزة» فقال بعضهم بصوت عال : «حامد» وقال الآخر : حامد بن عبد الله فقالوا : اقتلوه ، فصوّب بعضهم البندقية لقتله ، ومدّ الآخر المدية لذبحه ، قلت «أنا» : لا تقتلوني ، وليس لكم ثأر عندي ، ثم سلبوه اثنين وأربعين جنيها ذهبا إنكليزيا ، وأربعة وتسعين مجيديا ، وشبرية ، ومحزوم بارود وحق «ذهبة» مجيدي ٢ ونصف ، وثلاث عبي «٤٠ مجيدي» ، وعقال عدد ١ ، وثوبين باليين.
وانبعث إليّ شقي منهم فسلبني أربعين جنيها عثمانيا ذهبا ، وعددا من المجيديات ، ونقودا صغيرة ، ولم يبقوا عندي شيئا من النقود لا فضة ولا ذهبا ، وسلبوني عباءتي وعقالي وجبتي وقنبازي وجاكيتي وزنارين ولم يبقوا على بدني غير السروال والقميص والصدرية ، وأصابني من جراء ذلك برد شديد ، وألم في معدتي عظيم ، وعاود سلبي ثلاث مرات ، وأحدهم كان يهوي بالمدية علي ويحاول بها قتلي ، ويقول لي أين الذهب؟ يريد بذلك إخباره عن مقدار ذهبي وذهب غيري
حتى يتم لهم أخذه بسهولة ، قلت لهم أنا ما معناه : هذه أول مرة حللنا فيها أرضكم يا بني عطية ، وكنا نظن أن إيقافكم للقطار بهذه السرعة ، من أجل إكرامنا ، وإنزالنا ضيوفا عندكم كما هي عادة العرب الكرام ، ولكنكم أو سعتمونا سلبا ونهبا ، وإهانة وسبّا ، فخيبتم رجاءنا فيكم ، وتركتمونا لا زاد ولا طعام ولا نقود ، وبيننا وبين الجهات التي نقصدها أيام ، فأين الكرم ، والإباء والشمم ، أهذه هي عادة العرب الكرام؟ ألا وإنكم ستندمون على ما فعلتم بنا ، «وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون» ولكن أولئك السفهاء الجهال ، كانوا من الذين يعبدون الدرهم والدينار ، فلم يردوا لي غير الجبة والزنار!
ما سلبوه من رفاقنا في الرحلة
١ ـ الشيخ شلاش النجدي : مائة ليرة ذهبية ، فروة ثمينة ، قنبازان ، بندقية ، محزم مملوء خراطيش ، شداد.
٢ ـ الشيخ محمد أمين المدني : ثلاثمائة جنيه ورقا ، وأمانات وغيرها بمقدار مائتي جنيه.
٣ ـ الشاب عبد الله النجدي : عباءة ، قنباز ، حذاء ، ثوب جديد غير مخيط ، عقالان ، ٣ قمصان ، لباسان ، وواحد وعشرون مجيديا.
٤ ـ سليمان النجدي من حائل : مسدس إنكليزي ، ٦ دلال قهوة كبيرة نحاس ، ستون مجيديا ، خرطوش «عشرون مشطا» عباءة ، عمامتان ، ثوب ، عقال.
ما سلبوه من أصحابنا جنود إسماعيل بك القزاز
١ ـ عبد الله كلش الضابط المكي ٣ بدلات عسكرية ، قميصان من المضام ، صوف ٢ ، عمامة روز ٢ ، حرام أسود ، ٣ سراويل ، ١٣ جنيها من الذهب الإنكليزي ، نصف جنيه مصري ، عقال ، حذاء «بيتون» جديد ، جوارب زوج عدد ٢ (٣٢) مجيديا أمانة ، تنكة سمن أمانة الجند ، دخان عدد ٢.
٢ ـ الوكيل بشير حسن المكي : ٦ جنيهات إنكليزية ذهبا ، عباءة كبيسية ، عقال ، ٦ أثواب زرق ، ٥ عراقيات ، قمصان ، ٧ سراويل.
٣ ـ العريف حسن جنيني النابلسي : عباءة أميرية ، عقال ، كبود إنكليزي ، سترى وبنطال ، ٣ جنيهات إنكليزية.
٤ ـ الجندي اسكندر الكردي : ليرتان عثمانيتان ذهبا ، كبود إنكليزي ، بطانيتان ، كمر شامي ، كفية سوداء.
٥ ـ الجندي سليم الشامي : ٣ جنيهات إنكليزية ذهبا ، ٦ مجيديات ، عباءة إنكليزية ، معطف «كبود» إنكليزي ، بنطلون وسترة ، بطانية ، حطة ، عقال.
٦ ـ الجندي أحمد المغربي : كبود إنكليزي ، عباءة عسكرية ، بطانيتان ، عراقيتان «قميصان» ، ثوبان أزرقان ، ٣ سراويل ، حرام بلاس.
٧ ـ الجندي محمد نجم : ٧ قمصان ، ٤ سراويل ، ثوبان من الخام ، ٣ حزامات مشكلة ، ٣ طاقيات ، حزام ، ١٩ مشطا
خرطوشا ، كمر قطن ، كبود ، ليرة عثمانية ذهبا ، ٥ ليرات إنكليزية ذهبا ، معطف وسروال ، «سترة وبنطلون».
٨ ـ الجندي حسن الشامي : بدالة ، كبود ، بطانية.
٩ ـ داود ضابط الرهط الثالث : لحاف ، ٣ بطانيات ، كفيتان ، حذاء «كندرة» ، ١٧ جنيها إفرنجيا ، نصف جنيه ورقا ، بدلتان قماش ، تنكة سمن ، مشلح ، عقال ، ٤ سراويل ، ٤ ثياب.
١٠ ـ الجندي حس كلّسلي بن سليمان : ٣ جنيهات إنكليزية ذهبا ، كبود إنكليزي ، مشلح ، ٣ أثواب.
١١ ـ الجندي حنفي علي عينتابي : عباءة ، مشلح ، بطانية ، جنيهان إنكليزيان ، ٤ مجيديات.
١٢ ـ الجندي أمين علي الهندي : ٥ جنيهات إنكليزية ، ثوب ، قميص ، أغراض أميرية ، خرطوش.
وتقدر خسائر حضرة المهندس وسائر الموظفين بمئة جنيه على الأقل ، عوض الله المصابين خيرا ، وعلى السالبين الظالمين من الله ما يستحقون.
وعميد هذه العصابة الظالمة «محمد بن دغيمان من السبوت» ، و «سليمان من جماعة جنود بن فرحان» كما أخبرنا بذلك خوينا حامد العنزي. ومن ريب أمر هذه الفئة الشقية أن سالب رفيقنا «شلاش» منها ، هو الذي للشيخ شلاش عليه اليد البيضاء ، فقد أخرجه من السجن مرتين.
وما أكثر نزول هؤلاء الأرذال عند القزاز ضيوفا ، وجنود القزاز أصحابنا هم الذين يقدمون لهم الطعام ويقومون
بخدمتهم ، وهم يعرفونهم فردا فردا ، ومن أصحابنا الجنود من أقام عندهم أولئك القرود مددا طوالا ، اشتغلوا عندهم بها رعاة وخداما.
فيالله من هؤلاء اللئام ، ما أفسد ودهم ، وما أنقض عهدهم ، وما أشد غدرهم وكيدهم ، ساق الله لهم من جنوده من يرغم أنوفهم ، ويخضع شياطينهم ، وما هو من الظالمين ببعيد.
يوم الجمعة في ١٤ جمادى الثانية عام ١٣٣٨ ه
مشينا صباح الجمعة من المدوّرة ٣ محطات ، وهي حارة العمارة ، ذات الحد ، بئر هرماس ، ومسافتها (٦٠) كم «٥٧٧ ـ ٦٣٧» وسبب هذا البطء شغلنا بإزاحة الرمل عن طريق السكة ، وما أكثره ثمّ.
يوم السبت في ١٥ جمادى الثانية عام ١٣٣٨ ه
توجهنا صباح السبت الساعة الثانية عشرة والدقيقة الخامسة عشرة من بئر هرماس ، فقطعنا بسرعة زائدة الحزم ، والمحطب ، ووصلنا «تبوك» بسلام الساعة السادسة ، وابتاع لنا الشيخ شلاش منها عباءة ، واجتمعنا فيها بصديقنا الشيخ عبد القادر النوشاهرلي ، وهو مدير تلك الناحية ، وقد تناولنا طعام الغداء «رزا ولحما ويقطينا» في دار «جلوي» أحد أجواد «تبوك» وكان المدعوون أكثر من خمسين رجلا. ثم طفنا
«تبوك» مع صديقنا «النوشاهرلي» فإذا شجرها النخيل ، ويقدر بنحو ثلاثة آلاف شجرة على أقل تقدير. وفيها قليل من شجر الدراق ، والليمون الحلو ، والعنب ، والتين. وأهلها أهل بادية ، ورأينا العين التي زادت ببركة النبي صلىاللهعليهوسلم ، وشربنا من مائها العذب ، ونظرنا قلعتها التي بناها السلطان سليم ، وجددها السلطان محمد سنة ١٠٦٤ ه ، [١٦٥٣ ـ ١٦٥٤ م] ، وهي قلعة مبنية بالحجر ، تبلغ مساحتها نحو أربعين ذراعا في أربعين طولا وعرضا ، وفيها حجر وغرف صغيرة مهجورة. وفيها مدفعان قديمان يقال إنهما من زمن السلطان سليم ، وقد أصلحهما الترك أيام الحرب ،
وأدينا في مسجدها صلاة الظهر مؤتمنين بالامام الشيخ عبد القادر ، أنا ورجلان آخران ورأينا فيها اثنين من جنود المدينة المنورة ، بعثهما على الفرار الشوق لأهلهما في سورية ، والقلة والجوع في الجندية شأن العشرات الفارين من ثمّ ، المنقطعين على الطريق ، حسبنا الله ونعم الوكيل. وشعرنا من «تبوك» بتغير الطقس ، وشدة الحر. وتوجهنا منها باسم الله قاصدين الحجر «مدائن صالح» الساعة الثامنة والنصف بعد الظهر ، فقطعنا باقي النهار (٦٠) كم من «٦٩٧ ـ ٧٥٧» وبلغنا «المستبقعة» الساعة الحادية عشرة والنصف مساء وهي من حدود بني عطية ، فإن أول حدهم «القطرانة» وآخرها «المعظم» قبل «الحجر» وقد أنشدنا ليلة الأحد في «المستبقعة» بقطارنا :
وليل قضيناه بأرض عطية |
|
بقرب من الأعداء ، قبّح من ليل |
طوينا بذاك الحي ليلة خائف |
|
نهدّد فيها بالثبور وبالويل |
فلما بدا وجه الصباح جرى بنا ال |
|
قطار بهاتيك الأباطح كالسيل |
يوم الأحد في ١٦ جمادى الثانية عام ١٣٣٨ ه إلى ٢١ منها
تحرك بنا القطار الساعة الثانية عشرة والدقيقة الخامسة والأربعين من صباح الأحد ، ووصلنا «الأخضر» الساعة الثالثة ، وقرأنا على حجر هناك أن السلطان سليم جدد بناء «القلعة» في شوال سنة ٩٣٨ [ه ، ١٥٣٢ م] وهي في غرب «الأخضر» ووصلنا بحوله تعالى وحمده «المعظم» آخر حدود بني عطية الساعة الخامسة صباحا ، ودخلنا في حدود «عرب بلي» وشيخهم «حمد بو شامة» فنسأل الله السلامة. وقد رأينا في هذه المحطة دوائر الحكومة ، فإذا بها خمس منها ، وفي كل دار عدة حجر ، وأرضها من المرمر ، ولم تنل منها يد التخريب والتدمير ما نالت من غيرها في سائر المحطات ، التي يقدر ما ضاع فيها بمئات الألوف من الجنيهات ، فاللهم ألهم المسلمين صبرا ، وعوضهم عن أموالهم خيرا.
الساعة الثانية الرهيبة
من لدغته حية مرة |
|
أصبح مذعورا من الحبل! |
دخل الخوف القلوب ، واستولى الرعب على النفوس ، وصرنا نظن بتأثير الوهم الجبال جمالا ، والغزال غزوا ، والجنود من الهنود الفارين ، بعض أولئك الناهبين السالبين ، وإليك مثالا مما اتفق لنا من ذلك :
لم نكد نتعدى المعظّم إلى «خشم صنعا» مسافة (٢٦) كم «٨٣٢ ـ ٨٥٨» حتى جاءتنا الأخبار ، بأن الأعراب قد أناخوا على جانب السكة في «دار الحمراء» على مسافة (٢٧) كم منا ، فقلنا حسبنا الله ونعم الوكيل ، نعم المولى ونعم النصير.
فجرى بنا القطار سريعا ، وطفق ينهب المفاوز نهبا ، ولكنه لم يجز بضعة كيلومترات ، وبعض الجنود فوق سطح القطار ، لينظروا من ينحدر إلينا من قمم الجبال ، أو يظهر لنا من وراء الآكام والرمال ، أو يخرج من بطون الأودية والأوكار ، حتى أرسل المهندس إلى الشيخ شلاش يقول : نرى عن بعد رجالا قريبين من السكة ، ونرى آثار أقدام مواشيهم ، فهل نوقف القطار ، أو نستمر على تسييره؟ فأجابه الشيخ شلاش بأنا لا نؤخذ ثانية على غرة ، كما جرى لنا في تلك المرة ، فالأولى أن نوقف القطار ونخيفهم بعددنا وعددنا ، فخرج الجنود شاكي السلاح ، وصعدوا سطح القطار مستعدين للكفاح ، وطفقوا ينشدون السراب البعيد ، وينادون العدو الذي لا يسمع ولا يجيب ، وقد كثر الضجيج والنداء ، وطبقوا به أرجاء الفضاء ،
حتى ظننا أنا توسطنا جمعا من الأعداء ، ثم مشى بنا القطار على هذه الحال ، من الرجيف والوجيف ، واللغط والصريخ ، حتى بلغنا دار الحمراء ، وحمدنا الله تعالى على السلامة.
وأقبل علينا هناك بدوي يرعى إبل عرب عنزة ، فطفق قومنا يسألونه عن مواطن العرب ، وهل هم في بعد عنا أو قرب ، وقد عرفه خوينا حامد ابن عبد الله ، وبعد العناق والتقبيل ، أخبره خوينا الخبر ، وقص عليه القصص. ثم أرسل لنا الشيخ شلاش يقول : هنا نلقي عصا التسيار ، وننزل نحن ومتاعنا من القطار ، فنزلنا وأنا ثالث الرفيقين «شلاش وقريبه عبد الله» في هاتيك الأرض المترامية الأطراف القفراء. وودعنا الجنود وسائر الإخوان بالبكاء ، وكل منا يدعو لصاحبه بالسلامة ، وجرى القطار بهم قاصدا المدينة المنورة ، واستأجر الشيخ شلاش من راعي الإبل جملا لحمل أثقالنا إلى حضرة الشيخ سلطان الفقير العربي السنحي ، شيخ عرب «عنزة» الذي هو على مسافة ثلاث ساعات من دار الحمراء ، من جهة الشرق الشمالي ، ودفع له أجرة جمله ليرة ذهبا ، وزاده مجيدين إكراما له ، فطابت نفسه ، وتهلل وجهه ، وسقانا من حليب ناقته ، ومشى الجمل أمامنا وجرينا نحن وراءه في جبال منفصلة بعضها عن بعض ، على أشكال مختلفة ، وهي ناصبة ماثلة مختلفة الحجوم ، طلعها كأنه رؤوس الشياطين ، ولكن حصباء تلك الأرض نقية جدا ، وكأنها الدر ، بين أبيض وأحمر ،
وأسود وأخضر ، وأرضها كلها ذات رمال ، بين هاتيك الجبال.
ولم نزل نجد في سيرنا حتى بلغنا منزل الشيخ بعد الغروب ، ومعنا رفيقنا حامد العنزي ، فاستقبلنا الشيخ بالمصافحة ، وللشيخ شلاش بالتقبيل والمعانقة ، وسلامهم لطيف بسيط مشتمل على العناق والتقبيل ، وينادي بعضهم بعضا بالأسماء مجردة عن الكنى والألقاب ، وقد سلم أحد صبيانهم على حامد الشيخ الذي يناهز السبعين ، بقوله كيف أنت يا حامد ، عساك طيب يا حامد. وفي نحو الساعة الثالثة ليلا قدّم لنا الشيخ الطعام من الرز واللحم ، والطعام كان كثيرا جدا ، وقد أكل منه من لا أحصيهم عدّا ، فحيا الله الكرم العربي.
وهذه القبيلة ديّنة ، وقد أدينا مع كثير منهم صلاة العشاء ، وشيخهم سلطان الذي هو عميدهم يخاف من الله عزوجل ، ويحب أهل العلم والفضل ، وقد سرّ مني كثيرا ، والتمسوا مني أن أكون عندهم خطيبا ، على أن يقدم لي كل ما يلزم ، ويعاملوني كما يعامل أهل العلم ، ويزوجوني بنتا من كرائم بناتهم ، فشكرت فضلهم وشهامتهم ، واعتذرت لهم بأني خطيب ومدرس في الشام ، وبأن خطيبتي هناك قريبتي ، وأقمنا عند الشيخ وفي ضيافته خمسة أيام ، مشمولين بالخير والإنعام ، وسررنا هناك بلقاء الشيخ محمد رميح التاجر النجدي ، وكنا نكثر من التردد إلى خيمته ، وكان يحبني ويكرم وفادتي كل مرة ، وأكثرت هناك من الوعظ والإرشاد ، والدعوة
إلى الاتحاد ، ونزع الضغائن والأحقاد ، وأبنت لهم سوء نيات الأجانب نحو المسلمين عامة ، والعرب خاصة ، فتحمسوا ودعوا بالنصر والفتح المبين ، للإسلام والمسلمين.
«سلمنا الشيخ محمد رميح مكتوبا ليوصله إلى أهلنا في الشام ، وتركنا عند الشيخ سلطان صندوق الثياب ليبقى عنده أمانة إلى رجوعنا فنستلمه إن شاء الله».
يوم الجمعة في ٢٢ جمادى الثانية عام ١٣٣٨ ه
وفي صباح هذا اليوم ودعنا الشيخ سلطان ، ومعنا «خويّان» متجهين جهة الشرق ، على ظهور الإبل ، وعند الغروب وصلنا أرض أخيه متعب شيخ «الإخوان» الذين لا يشربون الدخان ، وتناولنا طعام المساء عند الشيخ التيهي ، وقد تبادلنا البحث معه في مسائل الإسلام والإيمان ، وكيفية دعوة النبي عليه الصلاة والسلام ، وحكم استعمال الدخان ، والهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإيمان ، وامتدت المذاكرة بيننا إلى الساعة الثامنة ليلا ، وقد تفاهمنا في كل هذه الأبحاث ، والشيخ متعب كان إذا رأى أن الصواب في جانبي يرجع إليه ، وقد ودعناهم صباح «السبت في ٢٣ جمادى الثانية عام ١٣٣٨ ه».
الساعة الثالثة المشؤومة
وصرت إذا أصابتني سهام |
|
تكسرت النصال على النصال |
ركبنا صباح هذا اليوم وأخذنا في السير جهة الشرق ، وبعد الظهر هبطنا واديا وجلسنا فيه حصة لطيفة للراحة ، ولم نكد نركب الإبل حتى انقض علينا من سفح الجبل ستة من العبيد السود ، راكبين الخيل ، مزنرين بأمشاط الخرطوش وعلى أكتفاهم البنادق ، فلما دنوا منا حملوا البنادق بأيديهم ، وفي أثناء ذاك الطراد واللحاق انبعث أشقاهم إلي ، ووجّه بندقيته نحوي ، محاولا قتلي ، فنزلت بسرعة عن جملي ، ثم جالوا جولة حولنا ، وأخذوا بأطرافنا محاولين سلبنا ، ووقع بصر رفيقنا شلاش على عميدهم ، فقال له رفيقنا : أجئتم لأخذنا أم لدعوتنا وأن غدانا اليوم عند عمك «هايس الهزّاع» فالتفت ذاك إلى جماعته وقال بهم : «غرف يا عيال» ثم استلم بعضهم بعضا عناقا وتقبيلا ، وجلسوا حلقة مستديرة «يتناشدون العلوم» وجلست أنا في ناحية منفردا ، ثم ركبوا وركبنا ، وشرقوا وغربنا ، واجتمعنا هناك برجل يقال له «صالح» من عرب «هتيم» قد شهد الحالة ، فهنأني وقال لي : كل صدفة بسلامة يا خطيب ، فقلت في نفسي : لا أكثر الله من أمثال هذه الصدف ، وقال آخر : لو لا المعرفة لأخذنا ، وقال آخر : الحمد لله على نجاتك منهم ، وقد وقاك الله شرهم ، فقلت له : ولما ذا قصدوني قصدا خاصا ، وما ذا كانوا يريدون أن يفعلوا بي ، فقال : إنهم كانوا يحاولون قتلك ، أو لم تنظر كيف مدّ كبيرهم البندقية عليك ، فقلت : يا سبحان الله ولما ذا؟
أكان لهم ثأر عندي ، أم لكوني بزي أهل العلم الذي أشرتم علي به وهم يأبونه ، أم ما ذا؟ فقال بعضهم : ظنوك بعصابتك البيضاء أحد المتدينة ، وأولئك يستجيزون سفك دماء هؤلاء ، وهؤلاء يثأرون لأنفسهم منهم ، فقلت لهم : ألم تشيروا عليّ أنتم بوضع العمامة بعد نزعها وتقولوا إنا قد بلغنا أرض المتدينة؟ اللهم إني حرت في أمر المتدينة وخصومهم ، ووضع العمامة ونزعها ، واللهم إني أبرأ إليك من استحلال سفك الدماء ، بمجرد اختلاف الأزياء .. وقال آخر : إنهم ظنوك تاجرا بزي أهل العلم ، فقادهم إلى ما حماك الله تعالى منه طمعهم في المال ، قلت : ولكنهم لم يجدوا مني أدنى صعوبة ولا مقاومة فكان حسبهم أن يسلبوني مالي ، ويطلقوا سبيلي ، قالوا : إن وفرة المال ، تغريهم بقتل الرجال ، حتى يطمس الأثر ، وينعدم الخبر! قلت الحمد لله الذي لم أكن موضع ظنهم ، ولا هدف سهمهم ، وهو اللطيف الخبير ، وقد كفانا بنو عطية شر المال ولم يبقوا معنا درهما ولا دينارا ، وكان أصابني تورّم في رجلي من المشي ووجع أليم من الركوب ، وأضيف إلى ذلك هذه الخطوب ، مع تغير الطعام والشراب والمنام والأصحاب والمركوب ، فعظم الأمر علي ، وجالت الدموع في عيني ، وأخذتني من الغربة الوحشة ، ومن هذه الصدف الدهشة ، ونزلنا بعد ساعة عند خوينا الجديد «صالح» من «هتيم» فاستلقيت على الطراحة ، وجلس العرب حولنا ، وهم يسلمون ويتكلمون ، وأنا غير شاعر بما يقولون.
يوم الأحد في ٢٤ جمادى الثانية عام ١٣٣٨ ه إلى ٢٦ منها
وفي صباح هذا اليوم ركبنا «مع خوينا صالح» ومعه خوي عنزي اسمه «سليم» واختار السفر إلى نجد «خوينا العنزي سلطان» سمي شيخهم سلطان الفقير ، وفي مساء اليوم وصلنا أرض الشيخ «سعد» ابن عم الشيخ سلطان ، وبقينا في ضيافته ثلاثة أيام ، ووجدنا قومه يقيمون الصلاة ، ويسألون عن أحكام الزكاة كجماعة الشيخ سلطان ، وهم يسألون عن حكم استعمال الدخان ، ويذكرون تحريم المتدينة له ، وإحراقهم لشاربيه ، وكانت دارت مذاكرة بيني وبين بعض محرميه من المتدينة المعتدلين الذين لا يشربونه ولا يؤذون على شربه أحدا ، ويعبدون الله لا يشركون به شيئا. فذكر لي من دلائل تحريمه عنده كونه : من الإسراف ، ومسكرا من الخبائث ، فذكرت له جواب مبيحيه ، وهو أن الإسراف أمر نسبي غير محدد في الشريعة وأن ما يكون إسرافا في حق إنسان ، يعد تقتيرا بالنسبة إلى آخر ، فمن تحقق فيه معنى الإسراف بسبب شرب الدخان فذاك يحرم عليه.
وأما قياسه على الخمر في الإسكار فذاك قياس مع الفارق ، والله تعالى يقول في الخمر (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ
عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)(١) ، والدخان لم يتحقق فيه وصف من هذه الأوصاف ، فهو لم يوقع بين شاربيه ولا غيرهم العداوة والبغضاء ولم يصد شاربيه عن ذكر الله ولا عن الصلاة ، بل في شاربيه العلماء والصالحون ، والقول بتحريمه قد أوقع بين المسلمين من العداوة والبغضاء أكثر من شربه ، وأما كونه من الخبائث فهذا غير متفق عليه ، وشاربوه لا يعدونه كذلك ، على أنه لو ثبت خبثه فما كل خبيث محرم ، وقد ورد أن البصل والثوم شجرتان خبيثتان ، ولم يقل بتحريمهما أحد ، فتبين أن الخبائث المحرمة هي المنصوص عليها في مثل قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ)(٢) الآية. قلت له : ولو سلّمنا جدلا أن الدخان محرم كالخمر لكان لك في تحريم الخمر في كتاب الله عزوجل ما يدعو إلى حسن الأسوة ، والخمر قد ورد النهي عن شربه تدريجا ، فنهي الناس عنه أولا إذا أرادوا الصلاة ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ)(٣) ثم جاء التذكير بمضارّه في قوله : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
__________________
(٤) سورة المائدة ، الآية ٩١.
(٥) سورة المائدة ، الآية ٣.
(٦) سورة النساء ، الآية ٤٤.
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)(١)؟ ثم جاء التحريم القطعي لشربه بعد أن سهل عليهم تركه في قوله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٢) ، فانتهى الناس عن شربه وكسروا الدنان التي كانوا يعتّقونه بها ، فأنت ترى أن الخمر الذي اشتد ضرره ، وخبث أثره ، قد حرمه الله تعالى ، على يد النبي عليه الصلاة والسلام ، تحريما تدريجيا ، بآيات في القرآن ، جارية على سنته تعالى في تكميل الإنسان ، بتصحيح عقائده ، وإصلاح أعماله. فلو أنكم جريتم على هذه السنّة ، ودعوتم إلى سبيل ربكم بالحكمة والموعظة الحسنة ، لأطفئت بينكم وبين خصومكم هذه الفتنة ، وأسبغ الله عليكم النعمة ، نعمة التأليف المذكورة في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً)(٣) فتقبّل هذه النصيحة بقبول حسن ، وقال إنها والحق يقال : غالية الثمن ، قلت : ثمنها العمل بها ، وسترى إن شاء الله حسن أثرها ، وتتلذذ باقتطاف ثمرها إن شاء الله تعالى.
__________________
(٧) سورة المائدة ، الآية ٩١.
(٨) سورة المائدة ، الآية ٩٠.
(٩) سورة آل عمران ، الآية ١٦.
ثم قلت : وعندي أن الرأي المناسب بترك الدخان ، هو أن تتفق مع الآباء على منع أولادهم من شربه ، ومنعهم إياهم من مخالطة شاربيه ، فإن شرب الدخان ليس ضروريا ولا فطريا للإنسان ، وشاربوه يدركون ضرره في أجسامهم وعقولهم وأموالهم أكثر من غيرهم ، ولكن العادة هي التي سهلت شربهم له ، وتمكنت من نفوسهم بطول الزمن. أما أولادهم فليسوا كذلك فلو لوحظوا من قبل المرشدين ، والخطباء ، والآباء ، وذكر لهم ما في التدخين من الضرر والكراهية شرعا وطبعا ، لأصبح أولئك الأطفال يكرهونه أشد الكراهية ، وينهون عن شربه ، ويدعون إلى تركه ، وبذاك يبطل شربه أو يخف جدا ، ويقل عدد الشاربين له ، ويكون لكم بذلك إن شاء الله الأجر العظيم ، فأبدى شكره وارتياحه لما قلت ، ووعدني بالعمل ، وفّقه الله وإيانا ، لما يحبه ويرضاه.
يوم الأربعاء في ٢٧ جمادى الثانية عام ١٣٣٨ ه
ثم استأنفنا السير صباح هذا اليوم على بركة الله عزوجل وحسن تيسيره ، فأدركنا المساء عند بعض العرب ولم نصادف بحمد الله شيئا.
يوم الخميس في ٢٨ جمادى الثانية عام ١٣٣٨ ه
الساعة الرابعة المشؤومة
ثم استأنفنا السير صباح هذا اليوم ، وفي وقت الظهر ، أطلق علينا بعض الأعراب الرصاص من وراء جبل ، فانطلق «خوينا صالح الهتيمي» نحوهم يلوّح لهم بطرف عباءته ويصفّر لهم «إشارة إلى أنهم أصحاب» ثم أطلقوا علينا الرصاص المرة الثانية والثالثة ، واشتد الأمر ، وخشينا الضرر ، فانطلق «خوينا سلطان العنزي» بناقته حتى وصل قريبا من صخرة كبية ، فأناخ عندها ، وحمل بندقيته ، ووجهها عليهم يحاول رميهم ، فنهيناه ، وناداه بعض أصحابنا لأن لا يفعل ، ثم جاء «خوينا الهتيمي» بعد مذاكرة معهم ، وقد نجانا الله تعالى منهم.
خلاصة أحوالنا من ١٦ جمادى الثانية عام ١٣٣٨ إلى ٣ رجب الفرد ١٣٣٨
طعامنا : إما أرز وفوقه لحم مطبوخ على أصول البدو ، أو أرز وحده والسمن والمزيج باللبن يضعونه بإناء فوق الدست الكبير ، ثم يستديرون حول الدست ويجلسون في الغالب القرفصاء ، وتمتد الأيدي العامرة المشمّرة إلى المرافق إلى الأرز ، ويأخذون منه ملء الكف والأصابع ، ثم يرصونه رصا محكما حتى يصير كالقنابل اليدوية ، ثم يمدون الأصابع التي