رحلتان إلى الحجاز ونجد

محمد بهجة البيطار ومحمد سعود العوري

رحلتان إلى الحجاز ونجد

المؤلف:

محمد بهجة البيطار ومحمد سعود العوري


المحقق: تيسير خلف
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: التكوين للتأليف والترجمة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٧٨

المذكورة حيث قد أعدت اللجنة سيارات تقل المدعوين إلى موقع الحفلة. والباري يرعاكم».

وحيث أن الداعي كان مريضا فلم يكن في مقدرتي إجابة الدعوة كما أن رفيقي السيد فائق الأنصاري كان منحرف الصحة أيضا فلم يستطع الإجابة وإن كان مدعوا. ثم إنه بلغنا من بعض الأفاضل الذين حضروا الحفلة المشار إليها أن حضرة المحامي الشهير الفاضل الخطيب المفوه والقانوني والبارع الجسور السيد سليمان أفندي التاجي الرملي ألقى خطابا بحضور جلالة الملك حث فيه الأمة العربية على توحيد الكلمة والدفاع عن حقوقها المغصوبة التي اغتصبها الأجانب بغير مسوغ ، وقد أجاد في تلك الخطبة حق الإجادة فوقعت موقع الاستحسان والقبول لدى جلالة الملك والمدعوين عموما ، خصوصا أفاضل نجد وشيوخ القبائل حفظه الله تعالى.

ثم إنه حضر إلى المستشفى الملكي سعادة السيد فؤاد بك حمزة المنوه باسمه مرارا فيما سبق ، ليعودني وحضر معه صديقنا الشهم المعظم الفاضل الكريم السيد يوسف يس المخلص والمتفاني في خدمة صاحب الجلالة ملك العرب ، تاج هام الإسلام ناشر ألوية العدالة على الأنام السيد عبد العزيز آل سعود الكرام حفظه الله تعالى وأنجاله الغر الميامين ، خصوصا ولي عهده سمو الأمير سعود المحبوب ونائب جلالة الملك المعظم سمو الأمير فيصل أمير مكة المكرمة ، هذا وكان

١٤١

حاضرا وقتئذ سعادة مدير الصحة العامة الدكتور محمود بك حمدي ، وبما أنني لم أعرف السيد يوسف يس نظرا لتغير هيئته قال لي جناب الفؤاد إن هذا هو صديقك السيد يوسف يس فسلمت عليه ثانيا. وقد سلمني فؤاد بك المومأ إليه تحريا ممضيا بإمضاء أمين العاصمة السيد عباس أفندي يوسف القطان يدعوني به إلى تناول طعام العشاء. وها هي صورته :

«باسم جلالة مولاي الملك المعظم أتشرف بأن أدعو حضرتكم للحضور إلى القصر العالي الملوكي بالمعابدة قبل صلاة مغرب هذا اليوم لتناول طعام العشاء على أن يكون الاجتماع بدار الحكومة السنية الساعة إحدى عشر ونصف إذ أن السيارات تقل المدعوين إلى القصر العالي في الوقت المنوه عنه. والباري يرعاكم.

في اليوم الخامس من ذي الحجة لسنة سبع وأربعين وثلاثمائة وألف».

فاعتذرت بعدم الاستطاعة حيث أنني عاجز عن التشرف بمقابلة جلالة الملك ورجوتهما أن يبلغا سلامي ودعواتي لجلالته سائلا منهما أن يطلبا لي من جلالته أن يدعو لي بالشفاء.

١٤٢

الفصل الخامس والعشرون

في تبليغ السيد يوسف يس سلام مفتي القدس الشريف

وقد بلغت الفاضل السيد يوسف يس أحد المرافقين لجلالة الملك والكاتب الخاص سلام صاحب السماحة مفتي القدس الشريف ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالديار القدسية السيد محمد أمين أفندي الحسيني ، نجل محبوب القلوب بحر الكرم الزاخر سيد المتواضعين في عصره وإمام الأوفياء في دهره حتى كان يضرب بوفائه لأحبابه الأمثال ، وإن ساحته الفيحاء كانت محط رحال الآمال لبني الغبراء السيد محمد طاهر أفندي الحسيني مفتي الديار المقدسة في عصره رحمه‌الله تعالى وكأن لسان الحال منه يقول :

رأيت بني غبراء لا ينكرونني

ولا أهل هذاك الطراف الممدد

وأخوة قرة عيون الأخيار السابق في مضمار الفخار ولدنا العلامة المفضال السيد محمد كامل الحسيني مفتي القدس الشريف ورئيس محكمة الاستئناف الشرعية العليا صاحب النفس الكبيرة مع التواضع وعلو الجناب ، الذي لم يأذن لحاكم القدس بالدخول عليه ومعه والدته نظرا لإساءته في ذلك اليوم إساءة لا تتحملها النفوس الأبية ، حتى أنه رحمه‌الله رد النيشان العالي أعني وسام بريطانيا ، أول وسام أعطته في فلسطين لسماحته ، فبعد اللتيا والتي ، وإصرار ممثل الحكومة الفلسطينية على قبوله مرة ثانية مع إصرار أصدقائه على

١٤٣

جنابه قبله ، ومع ذلك بقي متأثرا من تلك الإساءة حتى توفي إلى رحمة الله تعالى فقضى نخبه مأسوفا عليه.

فقال جناب السيد يوسف يس المشار إليه إنه وصلني تحرير من لدن سماحة المفتي يوصيني فيه بالقيام بما تحتاجون إليه وها أنا تحت أمركم فماذا تريدون؟ فأجبته بأنني لا أريد إلا الدعاء وليس لي شغل سوى أداء الفريضة ، ثم قلت لجنابه إن حضرة المفتي عند وداعي له عرض علي أن يصحبني بذلك التحرير فاعتذرت لسيادته قائلا : إن الصداقة التي بيني وبينك تقضي بعدم حمل كتاب مشتمل على التوصية بي ، ولكن إذا شئت إرساله فليكن في البريد ، فقال حفظه الله إن الكتاب مشتمل على هذه القصة تماما. ثم ذهب مع فؤاد بك المذكور عند جلالة الملك.

الفصل السادس والعشرون

في زيارة أحد رجال الوفد اليماني لهذا

العاجز ومذاكرتنا معه

وفي ثاني يوم ، بينما كنت نائما على السرير. إذ أقبل أحد خدمة المستشفى قائلا إن أحد رجال الوفد اليماني المرسل من قبل صاحب الجلالة الملك يحيى حميد الدين حضر لزيارتكم ، فقمت كأنما نشطت من عقال ورحبت به ترحيبا يليق بمثله ، ثم جلسنا نتجاذب أطراف الحديث حتى وصلنا إلى الحالة السيئة التي وصل إليها المسلمون عموما والأمة

١٤٤

العربية خصوصا من أجل تفرق الكلمة ، وعدم إسناد الزعامة إلى إمام واحد متمسك بالعمل بالشريعة الغراء تمسكا يذكرنا بأحد القرون الثلاثة ، القائل عنها عليه الصلاة والسلام «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» ، وإني أرى أن هذا القول ينطبق على الإمام عبد العزيز نصره الله فيجب على الأمة العربية بل الأمة الإسلامية جميعها أن تلقي إلى جلالته بمقاليد الزعامة حتى ينقذها من الحضيض الأسفل إلى الأوج الأعلى ، وما ذلك على همته بعزيز.

وواجب نصب لعام عدل

بالشرع فاعلم لا بحكم العقل

بل قال بعضهم إنه يجب نصب الإمام بالعقل ولو لم يرد بذلك الشر أن الجمعية البشرية لا بد لها من وازع ترجع إليه لتأمين العدالة والضرب بعصا من حديد على أيدي ذوي الجهالة الذين يعيثون في الأرض فسادا وبيان ذلك أن الإنسان مدني بالطبع فلا يمكنه أن يعيش منفردا بنفسه بعيدا عن أبناء جنسه فالاختلاط والمعاملة بين الناس ربما تؤدي إلى تعدي القوي على الضعيف فيتوجه إلى ذلك الإمام ليصل إلى حقه بقوة سلطانه المخول إليه نصر المظلوم من الظالم ، فلا بد من اتفاق الكلمة حتى لا يحارب المسلمون بعضهم بعضا قال عليه الصلاة والسلام «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار قلنا هذا القاتل فما بال المقتول يا رسول الله؟ قال إنه كان حريصا على قتل صاحبه» وقد قال عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع «لا ترجعوا بعدي كفارا

١٤٥

يضرب بعضكم رقاب بعض». فقال المشار إليه إن ما تدعو إليه حسن جدا ، ولكن كما لا يخفاكم .. لا يمكن الإمام يحيى حميد الدين أن يتنزل عن ملكه ، فأجبته إنك لم تفهم المراد الذي أردته من توحيد الزعامة في شخص الإمام عبد العزيز وبيان ذلك أن مقصودي أن يكون كل واحد من ملوك الإسلام متصرفا في ملكه كما تقضي به التعاليم الصحيحة الدينية ، هذا في زمن السلم أما إذا تعدت إحدى الدول على بلدة من بلاد الإسلام فإنهم يكونون يدا واحدة في الدفاع عن بلاد الإسلام ، ويكون القائد العام هو الإمام عبد العزيز آل سعود وإني أضرب لحضرتكم مثلا بالأمة الألمانية التي تعددت ملوكها ولم يكن لهم رابطة يجتمعون إليها كانت تسام الذل والهوان ، ولكن لما توحدت كلمتها من جهة العسكر فقط ، وبقي كل ملك مستقلا في بلاده صارت محترمة لدى دول أوروبا وبلغت سطوتها جميع الدول ، وكذلك الولايات المتحدة وهذا الكتاب العزيز بين أيدينا يدعونا إلى اجتماع الكلمة وعدم التفريق والتنازع قال الله تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(١)(وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ)(٢). وإنني أرجوك أن تبلغ صاحب الجلالة الإمام الجليل السيد يحيى حميد الدين تحياتي الجليلة

__________________

(٥٩) سورة آل عمران ، الآية ١٦.

(٦٠) سورة المائدة ، الآية ٢.

١٤٦

ودعواتي لسيادته وأنجاله الأشبال المعظمين ، خصوصا سمو الأمير أحمد سيف الإسلام وثنائي على أهل اليمن ، كما أثنى عليهم جده الأعلى عليه الصلاة والسلام ، حيث قال : «إني أشم نفس الرحمن من جهة اليمن والإيمان يمان والحكمة يمانية» وقد قال عليه الصلاة والسلام «يد الله على الجماعة» ولا يخفى أن اجتماع كلمتي الإمامين الجليلين باطنا ظاهرا يكون سببا عظيما لاحترامهما بل لاحترام الأمة العربية ، بل لاحترام الإسلام والمسلمين في نظر الأغيار. ثم ودعني داعيا لي بالشفاء ثم عدت إلى سريري كما كنت قبل مجيئه منتظرا فرج الشفاء من الله تعالى.

الفصل السابع والعشرون

في بشارة السيد فائق الأنصاري برجوعنا للوطن سالمين

بسبب الدعاء الصادر من ماجد مكة المكرمة وإخوانه

وعندنا أن الدعاء ينفع

كما من القرآن وعدا يسمع

ثم إنه ثاني يوم بعد صلاة العصر حضر رفيقي السيد فائق الأنصاري وأخبرني أن الخل الوفي والصديق الصدوق الصفي التقي الصالح المتفاني في حب العلماء والصالحين والحكام العادلين ، خصوصا الأفاضل النجديين حضرة الشيخ ماجد أفندي الكردي ناظر الأوقاف وشيخ الحرم وثلة من الأتقياء ، بعد أن صلوا صلاة الظهر في المسجد الحرام ذهبوا جميعا إلى قرب الكعبة المشرفة وشرعوا رافعين أكف الدعوات

١٤٧

إليه تعالى مبتهلين سائلين منه شفاءك ورجوعك سالما مع حاشيتك ، وكانت دموع الشيخ المشار إليه تتساقط من عينيه تساقط المطر لذلك لا بد وأن نرجع سالمين ببركة ذلك الدعاء فابشر بالشفاء العاجل فانشرح صدري ، لذلك ودعوت لهم كما دعوا لي حفظهم الله تعالى.

وفي يوم الخميس الموافق السابع من ذي الحجة من السنة المذكورة ، حضر إلى المستشفى الملكي حضرة السيد فائق الأنصاري وأخبرني أن فضيلة القاضي ثبت لديه أن أول الشهر هو يوم الجمعة ، فيكون يوم السبت الوقوف بعرفة ، وأن الفاضل الكريم الشيخ ماجد المشار إليه يدعوك مع الحاشية بأن نكون جميعا ضيوفا له خصوصا أيام رمي الجمار ، فإن لسيادته في منى دارا فسيحة قابلة للضيوف ، فقبلت دعوته شاكرا أفضاله بالنسبة للحاشية ، أما بالنسبة لي فليس في وسعي ركوب الدواب ، وذلك أن صاحب الجلالة وأفراد العائلة المالكة والوزراء والأشراف لا يركبون إلا الدواب شفقة على الحجاج ، حتى لا يلحقهم ضرر من السيارات ، ولذلك صدرت إرادته المطاعة بعدم ركوبها لأحد ما سوى الموجودين في المستشفى المشار إليه ، لذا أرجح ركوبها حيث أنها أسهل على هذا العاجز من ركوب غيرها.

١٤٨

الفصل الثامن والعشرون

في الإحرام بالحج والذهاب إلى عرفات راكبا

السيارة مع محمود

الخصال. وبيان شفقة مولانا الإمام على

حجاج بيت الله الحرام

وفي التروية بعد صلاة العصر أحضر لي الرفيق المومأ إليه لوازم الإحرام ، فاغتسلت عملا بالسنة ، وصليت ركعتين سنة الإحرام وأنا في المستشفى ، وأحرمت قائلا : اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني لبيك. بحجة لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة والملك لك لا شريك لك.

وفي يوم السبت التاسع من الشهر المذكور بعد طلوع الشمس بمقدار ساعة توجهنا إلى جبل عرفات حيث تعارف آدم وحواء عليهما‌السلام صحبة مدير الصحة العام محمود الخصال المومأ إليه ، وقد كان حفظه الله تعالى يأمر بالوقوف عند كل مظلة من تلك المظلات الكثيرة التي أحدثها جلالة الملك السعودي لراحة حجاج بيت الله الحرام ، ليفتش على كل مركز من مراكز الأطباء الموجود عند كل مظلة ويتفقد أحوال المشاة المستظلين من حر الشمس ، وقد جعل عند كل واحد منها عينا من الماء العذب ، ولم تكن في زمن من الأزمان التي مضت تحت حكم غيره ، فلا عجب إذا اختاره الله لخدمة بيته الحرام وخدمة مسجد نبيه عليه الصلاة والسلام وحراسة

١٤٩

الديار المباركة الحجازية من تعديات الأشقياء اللئام ، وقد وصلنا الجبل المشار إليه وقت الظهيرة ، وقد اشتدت وطأة الحرارة حتى بلغت الدرجة الخامسة والأربعين ، وقد علا ضجيج الحجيج قائلين : «لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» ولما رأيت الناس يأتون من كل فج عميق إلى عرفات تذكرت حينئذ يوم الحشر وأهوال يوم القيامة ، وكيف أن الناس في ذلك اليوم العصيب يحشرون فمنهم الراكب ومنهم الماشي إلى غير ذلك حسب الأعمال حتى أن البعض منهم يكون كالقمر المنير ، ومنهم من يأتي أسرع من البرق ، ومنهم من يأتي زحفا وهم يجأرون إلى الله تعالى عساه أن يحاسبهم حسابا يسيرا في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، فما كان مني عند مشاهدة هذه الحال إلا أن التجأت إلى الله ذي الجلال والإكرام سائلا منه تعالى أن يقبل حجتي ويصفح عن حوبتي ويغفر لي تلك الآثام ، وقد عممت في دعائي جميع الإسلام امتثالا لأمره عليه الصلاة والسلام ، حيث يقول «إذا دعوتم فعمموا» وفي رواية «إذا دعوتم فاجمعوا فلعل فيمن تجمعون من تنالوا بركته» ولا تسل في ذلك الموقف الرهيب عن فيضان الدموع والذلة والخضوع بين يدي علام الغيوب وغفار الذنوب وستار العيوب جل وعلا. وقد بقينا على هذه الحالة إلى أن آذنت الغزالة بالغروب وإذا بعمود من نور امتد في الأفق وبقي ساعة ، فأيقنت أنه تقدست أسماؤه تجلى على أهل عرفات

١٥٠

بالرحمات وغفران الخطيئات وظهر نسيم أحلى من الشفاء على القلب السقيم والنفحات الإلهية شملتنا جميعا ، وهنا تجددت الدعوات سائلين منه تعالى جمع كلمة المسلمين ونصرهم على أعدائهم الكافرين.

الفصل التاسع والعشرون

في حكمة مشروعية الحج

ولا يخفى أن هذا الاجتماع العظيم المؤلف من جميع الأقطار والمقتدى بإمام واحد يتحرك بحركته ويسكن بسكونه ، فيه إشعار بأن الأمة الإسلامية يجب أن تكون كتلة واحدة حتى لا تتعدى عليها الأغيار ، إذ أن الشارع سبحانه وتعالى لا يعود عليه نفع من هذا الاجتماع العظيم بل يعود على المجتمعين وليس المقصود من تلك الشعائر مجرد الوقوف والطواف ، إنما هي لأمر يعود علينا معاشر المسلمين من التعارف والتآلف وبث الشكوى والسعي الحثيث الموصل إلى سعادتنا الدنيوية والأخروية ، وتذكير الأبناء بسيرة الآباء الصالحين ، شكرا لله تعالى على تلك النعم التي لا تحصى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)(١) هذا وقد نفرت الحجاج تابعة لنفر الإمام ، وبقينا نحن المرضى نتقلب على جمر الانتظار لعلنا نذهب إلى جمع أعني

__________________

(٦١) سورة إبراهيم ، الآية ٣٤.

١٥١

مزدلفة ، التي اجتمع فيها آدم عليه‌السلام بزوجته حواء رضي‌الله‌عنها وازدلف إليها ، أي دنا منها ، حيث أن المبيت بها سنّة ، ولكن مع الأسف لم نتمكن من أدائها لعدم قدرتنا على الذهاب ، حيث كنا تحت أمر الصحة المأمور بالمبيت في جبل عرفات لتفقد أحوال المشاة الضعاف التي لا تستطيع المسير ، فنمنا هناك إلى الفجر ، وبعد صلاة الصبح ذهبنا إلى المزدلفة وأقمنا فيها قليلا ثم منها إلى منى ، حيث نزلنا في قصر دائرة الصحة العامة العالي ، وأقمنا فيه ثلاث ليال ولم نتمكن من رمي الجمرات بسبب المرض ، وهو عذر سماوي يسقط به وجوب رمي الجمرات كما سيأتي في بيان المناسك إن شاء الله تعالى (١) ، وقد مرض صاحبنا السيد فائق الأنصاري ، حيث كان نزيل الساحة الفيحاء المنسوبة إلى ماجد مكة المكرمة المشار إليه ، وقد اهتم حفظه الله تعالى بخدمته وأحضر له طبيبا حاذقا من المغاربة كان حضر إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج ، فأعطاه علاجا شفي على إثر تعاطيه فورا ، ثم رجعنا إلى مكة المكرمة وقد استأجرت ستة أشخاص لحملي كي أطوف طواف الزيارة ، أعني طواف الإفاضة ، فحملوني على كرسي يسمى الشبرية ، وقد حضر المطوف معهم فطافوا بي سبعة أشواط بالكعبة المشرفة ثم أرادوا أن يذهبوا بي إلى المسعى قبل صلاة ركعتي الطواف الواجبة ، فأمرتهم بإنزالي

__________________

(٦٢) لم ننشر الفصل المخصص لمناسك الحج لأنه خارج عن موضوعنا ، ولأنه متوفر في الكتب المتخصصة.

١٥٢

كي أصليهما ففعلوا ، وقد صليتهما وأنا جالس إذ لا قدرة لي على القيام ، ثم بعد ذلك ذهبوا بي إلى المسعى فسعوا بي من الصفا إلى المروة سبعة أشواط ، وإنما سمي الصفا بهذا الاسم لجلوس آدم صفوة الله عليه ، وإنما سميت المروة بالمروة لجلوس المرأة حواء عليها عليهما‌السلام ؛ وفي ذلك اليوم عزمنا على الذهاب إلى جدة فكلف السيد فؤاد بك صاحبنا السيد فائق الأنصاري أن يخبرني إذا كان في استطاعتي مقابلة جلالة الملك لوداعه فأجابه بأنه لا قدرة للعاجز على ذلك ، وان سعادتك تقوم مقامه في أداء ذلك الواجب ، ثم ذهب بالرفيق المشار إليه لوداع جلالته وبعد صدور الإذن تشرف رفيقي المومأ إليه بالمثول بين يديه فأذن له بالجلوس ، ثم طلب منه الدعاء في بيت المقدس فأجابه بأن ذلك لا بد منه إن شاء الله تعالى ، وعند إرادة الذهاب قال لجلالته أرجو أن توصيني بوصية ينفعني الله بها ، فقال له : احفظ الله يحفظك. وهذا مما يؤيد أن جلالة الملك من الواقفين على علم الحديث الشريف حيث ورد «احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة».

١٥٣

الفصل الثلاثون

في السفر من مكة المكرمة إلى جدة وبيان مكارم الأخلاق

التي تحلى بها الشيخ محمد نصيف حفظه الله تعالى لوفود

بيت الله الحرام وأدامه ملجأ للإسلام

وفي صباح يوم الجمعة المبارك الموافق الخامس عشر من الشهر المذكور أحضر المطوف السيارة عند باب المستشفى فحملني أربعة من الرجال ووضعوني فيها ، وقد ركبت أنا والحاشية قاصدين ثغر جدة مستعينا بالله سائلا منه وصولنا بالسلامة ، ولما أقبلنا عليها قابلنا مرحبا بنا النسيم الذي يشفي العليل ، فانشرحت منا الصدور ، ووجدت علائم الصحة تزداد شيئا فشيئا. ولما وصلنا إليها ذهبنا إلى ساحة المكارم الفيحاء دار مولانا الجليل الشيخ محمد نصيف أحد مشاهير رجال الأراضي المقدسة الحجازية ، فنزلت من السيارة بدون مساعدة أحد غيره تعالى ، وصعدت الدرج الموصل إليها فاستقبلنا صاحبها الهمام بوجهه البسام وكان وصولنا إليها بعد انقضاء صلاة الجمعة فأمر لنا بإحضار الطعام وقال تفضلوا باسم الله فجلست على المائدة وكأنه لم يكن معي شيء من المرض ، فأكلنا هنيئا وشربنا مريئا ، ووجدنا كثيرا من الأضياف من بلاد المغرب وبلاد مصر منهم القاضي الفاضل الشيخ أحمد أفندي شاكر نجل العلامة الشهير والكاتب النحرير الشيخ محمد شاكر الحسيني وكيل مشيخة الجامع الأزهر سابقا ، وكذلك نجله الفاضل السيد

١٥٤

محمود أفندي مدير المدرسة الأميرية في جدة ، وقد فهمت من القاضي المومأ إليه أنه الآن قاض في الزقازيق وأن قاضيها السابق الشيخ أمين أبا الفضل صار تعيينه مفتشا في وزارة الحقانية وأن سعادة أخيه السيد أحمد بك أبي الفضل هو الحاكم الإداري هناك وقريبا يصير ترفيعه لإحدى المديريات ، فسررت جدا من هذه البشارة لكونهما نجلي شيخنا العلامة المرحوم الشيخ محمد أبي الفضل شيخ الإسلام في عصره وقد رجوته أن يبلغ سلامي لسعادته فوعدني بذلك. هذا وقد أقمنا في رحاب الشيخ المشار إليه يومين ، فظهر لنا أنه مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية لحجاج بيت الله الحرام خصوصا الذين لا طاقة لهم على النزول في تلك المنازل المنسوبة للمطوفين ، الخالية من وسائل الراحة ، والتي تفتقر إلى أن يلاحظها مدير الصحة بعين العناية حرصا على صحة وفود بيت الله العتيق.

وبيان ذلك أنه لما وصلنا جدة ونحن قادمون إلى الديار المباركة قابلنا وكيل المطوف وأنزلنا فيها لأجل أن نستريح من وعثاء السفر فما قدرت أن أقيم فيها سوى ساعتين من الزمان وأزمعنا الذهاب إلى مكة المكرمة كي نتخلص من تلك الأوساخ المنافية لحديث «النظافة من الإيمان» وكأن رفيقي السيد فائق المشار إليه أخبر بما حصل لنا من المشقة في تينك الساعتين حضرة مولانا ماجد مكة المكرمة الشيخ ماجد أفندي الكردي ، فأشار إليه أنه عند سفركم إلى القدس

١٥٥

الشريف سأكتب إلى صديقي في جدة الشيخ محمد نصيف الشهير والمتفاني في حب آل السعود الكرام حفظهم الله جميعا من الآفات ، إنه سميع مجيب وقد فعل. فإنه حفظه الله تعالى عند وداع السيد الأنصاري لحضرته أصحبه بكتاب لحضرة صديقه الشهم النصيف ضمن تحرير كأنه نقطة من غدير أو زهرة مقتطفة من روضه النضير يوصيه بنا خيرا. هذا وبينما كنت جالسا في ديوانه بعد صلاة العصر من اليوم السابع عشر من الشهر المذكور إذ دخل علينا حضرة الأديب الهمام السيد يوسف أفندي يس وقد أدّى تحية الإسلام فقابلناه بأحسن منها امتثالا لما صرح به القرآن الكريم (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها)(١) ثم إن جنابه صار يذكر محاسن ولدنا العلامة الشيخ محمد أمين العوري عضو محكمة الاستئناف الشرعية العليا وأمين فتوى فلسطين قائلا : إنه أستاذي حينما كنت تلميذا في كلية صلاح الدين الأيوبي بالقدس ، وقد استفدت من فضيلته علم الأحوال الشخصية استفادة لا تنسى. فأرجوك أن تبلغ جزيل سلامي لحضرته ، وأن تبث لواعج أشواقي لسيادته ، وإنني أرغب أن يأتينا في العام المقبل لأداء فريضة الحج الشريف كي نتمتع بخدمته ، ثم ودعني وانصرف بارك الله فيه وأكثر في الأمة من أمثال النجباء وأيد مولانا مليكه العادل بروح منه.

__________________

(٦٣) سورة النساء ، الآية ٨٦.

١٥٦

وفي اليوم الثامن عشر منه ودعنا حضرة رب المكارم مولانا الهمام النصيف. فإن قال قائل إن التصغير يستفاد منه التحقير والشيخ المشار إليه أجل من أن يحقر ، كيف لا وهو المشار إليه بالبنان والظاهر ظهور الشمس للعيان ، وهو المتبع ملة إبراهيم حنيفا من بين الأديان ، والماشي على سنته في خدمة الضيفان. قلت في الجواب إن التصغير قد يكون للتعظيم كما في هذا المقام. ألا ترى إلى أن المحب الولهان لا يمكنه أن يحقر محبوبه ، ومع ذلك فقد قال الشاعر :

ما قلت حبيبي من التحقير

ولكن يعذب اسم الشيء بالتصغير

فالنصيف أعذب من النصف كما لا يخفى على أولي الإنصاف النبلاء على أنه يحتمل أن يكون نصيف بوزن فعيل من صيغ المبالغة ، وهي خمسة : فعال ، ومفعال ، وفعول ، وفعيل ، وفعل مأخوذ من الإنصاف وكثير النصفة كما تقتضيه صيغة المبالغة حفظه الله تعالى ولعل ذلك هو الصواب.

الفصل الواحد والثلاثون

في ركوب سفينة الطائف والتوجه إلى الطور

ثم توجهنا من ذلك الرحاب الرحيب المنسوب لعالي الجناب النجيب المشار إليه إلى البحر حيث امتطينا سفينة الطائف الموصوفة باللطائف ، شاكرين للمولى تبارك وتعالى حيث وفقنا لأداء تلك الفريضة ، واطلعنا على أعمال الحكومة العربية المنطبقة على الشريعة الإسلامية. ولا غرابة في ذلك

١٥٧

فالعدل من معدنه لا يستغرب ، إذ من بلاد الحجاز والعرب أشرقت أنوار العدالة وطمست معالم الجور والضلالة ، وتأيد التوحيد ودك جبل الشرك العنيد ، حتى قال قائلهم بعد اعتناق الإسلام :

والله لو لا الله ما اهتدينا

ولا تصدّقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا

وثبت الأقدام إن لاقينا

(وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)(١) ولما علونا على ظهر القمرة وهبّ علينا نسيم السرور مبشرا لنا بذهاب آلام الجسم الذي لم يقدر على حر الحجاز ، مع أن الروح متعلقة بحب تلك الديار والآثار المباركة ، حتى أن فراقها لها تبعا للجسم كان أشد عليها من عذاب النار انفتحت منا الشهية ، فكنا نأكل الأسماك الحلوية وغير ذلك من أنواع الطعام البرية والبحرية ، وغير خاف على كل ذي فطنة وروية إن زمن السرور قصير ولو طال.

أعوام إقباله كاليوم في قصر

ووقت إعراضه في الطول كالحج

ثم وصلنا إلى طور سيناء حيث منّ الله تعالى على عبده موسى الكليم بالرسالة والتكليم ، على نبينا محمد وعليه الصلاة والسلام ، فرست تلك السفينة على ساحله ثم أقبل علينا مفتش المحاجر الصحية سعادة السيد مسيري بك المتخلق بالأخلاق المحمدية ، بادئا لنا بالتحية ومتأدبا بالآداب

__________________

(٦٤) سورة الإسراء ، الآية ٨١.

١٥٨

الجميلة المصرية ، وقد حضر بمعيته صاحب العزة الدكتور سعيد بك طليع ابن عم رشيد بك طليع المشهور والوطني الغيور ، وأوصاه بنا خيرا.

وقد أمر أن تكون سيارته الخاصة به تحت تصرفنا كما أنه أمر لنا بغرفة ممتازة بالمحجر ، وقد عاملنا معاملة استثنائية تنطبق على أخلاقه الكريمة الرضية ، وحديث أنزلوا الناس منازلهم ثم كان يأتي إلينا زائرا متفقدا أحوالنا فجزاه الله عن وفود بيت الله الحرام خيرا وأيده بروح القدس آمين. ثم إنه بعد أن أقمنا ثلاث ليال في المحجر الصحي أقبلت علينا السفينة العباسية تحمل جما غفيرا من الحجاج سلمتهم إلى المحجر الصحي ثم امتطينا جوادها ولكن بقي ممن أقام ثلاثة أيام في المحجر سبعون حاجا لم يوجد لهم محل فيها فتأخروا ، منتظرين الفرج من الله تعالى ثم إنها تحركت بالركاب مساء ، وفي الصباح وافينا السويس أحد الثغور المصرية الجميلة.

الفصل الثاني والثلاثون

في بيان ما حصل لنا فيها

وهناك صدر الأمر ببقائنا في المحطة حتى يصل إلينا المتأخرون ومع هذا منعنا من الاختلاط بالأهالي. غير أن ناظر المحطة الإنكليزي عمل معنا معروفا جليلا ، حيث

١٥٩

خصص للداعي وعقيلته حجرة مستقلة أسأله تعالى أن يوفقه للهداية لأقوم طريق والتجلي بحلل التوفيق إنه سميع الدعاء.

هذا ولما أن دخلنا الغرفة وخلوت بنفسي تذكرت أن الديار المصرية كانت تحت حكم الفراعنة الذين ادعى أحدهم الربوبية ادعاء باطلا ، وهو فرعون موسى عليه‌السلام حيث (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى)(١) واستدل على ذلك بدليل باطل فقال (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ)(٢) يريد بذلك أنه أعظم من موسى رسول الله الذي أرسله الله تعالى لإنقاذ بني إسرائيل من عبودية الأقباط (٣) الذين كانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم : ويقولون إنا فوقهم قاهرون ، وقد أيد الله رسوله موسى بأخيه هارون حيث قال (قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ)(٤) وقد أظهر الله على يديه خوارق العادات حتى أحيا الجماد فجعل العصا حية تسعى ، ولا ريب في أن معجزته أعظم من

__________________

(٦٥) سورة النازعات ، الآية ٢٤.

(٦٦) سورة الزخرف ، الآيتان ٥١ ـ ٥٢.

(٦٧) لم يكن هذا الاسم معروفا أيام الفراعنة ، فتسمية الأقباط ظهرت في الفترة المسيحية.

(٦٨) سورة القصص ، الآية ٣٥.

١٦٠