رحلتان إلى الحجاز ونجد

محمد بهجة البيطار ومحمد سعود العوري

رحلتان إلى الحجاز ونجد

المؤلف:

محمد بهجة البيطار ومحمد سعود العوري


المحقق: تيسير خلف
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: التكوين للتأليف والترجمة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٧٨

قدومنا ليلة الأحد التاسع عشر من ذي القعدة لسنة سبع وأربعين وثلاثمائة وألف (١) ، وبعد أن استرحنا قليلا وسلمناه أمتعتنا لتكون في مأمن ذهبنا إلى المسجد الحرام ودخلنا إليه من باب السلام كما هي السنّة فطفنا بالكعبة المعظمة بعد أن كبرنا وهللتا وصلينا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما جاءت به السنة احترازا من الشرك الخفي سبعة أشواط : طواف العمرة فإنها عبارة عن الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة مهرولين في الثلاثة الأشواط الأول فقط كما وردت به السنّة.

وعند ختام الطواف صلينا ركعتين ثم ذهبنا إلى المسعى فسعينا سبعة أشواط بين الميلين الأخضرين نبدأ بالصفا ونختم بالمروة ، وحلقنا وقد تحللنا من العمرة ثم رجعنا مع المطوف المومأ إليه وبتنا في رحابه ، ثم في الصباح ذهبنا معه لاستئجار بيت فسهل الله لنا ذلك ومن نعم الله علينا أن كان محل إقامتنا قرب المسجد الحرام حتى نبقى مترددين إليه داعين لأنفسنا ولأحبابنا ولمن سألنا الدعاء.

هذا وليكن معلوما أن الإنسان عند مشاهدة البيت لا يبقى في نفسه إلا ربّ البيت فيسرح عقله في ملكوت رحمه‌الله تعالى مبدع نظام هذا العالم المحبوب الحقيقي لجميع الخلائق.

لا تسل عن شرح أرباب الهوى

يا ابن ودى ما لهذا الحال شرح

__________________

(٥٠) ٢٢ نيسان ١٩٢٩.

١٢١

الفصل السادس عشر

في بيان المنام الذي رأيته وأنا في السفينة

وكنت رأيت رؤيا وأنا في السفينة ليلة الجمعة أني دخلت مكّة المكرمة واجتمعت بأخينا في الله العالم المحدث الشهير والمفسر الكبير مولانا الشيخ محمد علي بن تركي ، أيده الله بروح القدس ، وشاهدته في مقام عال ، فسلمت عليه فردّ علي السلام وابتهج بقدومي ، وبينما كنا واقفين إذ أقبل علينا صاحب الجلالة مولانا السيد عبد العزيز آل سعود الكرام ، فقال لي : هذا الملك قد أقبل وقد صرح لي أنه يحبكم كثيرا حيث أخبرني أنه يحب العوريين والغزيين.

ولما وصل إلينا لا أدري أسلم علينا أم لا ، نظرا للدهشة التي حصلت لي عند مقابلته ، وبعد المصافحة أحببت أن أقبّل يده تعظيما لشأنه نظرا لعدله ، فأبى تواضعا منه حفظه الله تعالى. ثم علمنا في اليقظة أن هذا دأبه مع الوفود عموما ، لأجل ذلك ذهبت مع رفيقي السيد الأنصاري إلى مدرسته الملاصقة للمسجد الحرام فسلّمنا عليه فردّ علينا السلام ، وعلا وجهه الكريم الحبور حتى صار كالبدر المنير ، ثم جلسنا نتجاذب أطراف الحديث فكان أول ما سألني عن أصهاري آل بركات الكرام فردا فردا ، حتى وجدته يحفظ أسماءهم أكثر مني ، خصوصا السيد الفاضل الشيخ عبد الباري أفندي بركات والسيد محمود أفندي وإخوته ، وقد سألني عن جميع معارفه بالقدس وأخذ مني الجواب.

١٢٢

الفصل السابع عشر

في زيارة سعادة فؤاد بك حمزة ناظر خارجية

الحكومة العربية ومدير الأمور الأجنبية

ثم ذهبنا من عنده إلى الحميدية ، نسبة للمرحوم مولانا أمير المؤمنين السلطان عبد الحميد خان من آل عثمان رحمه‌الله تعالى ، مقر الحكومة السعودية قاصدين زيارة صاحب السعادة المشار إليه صديق أنجال شقيقي المرحوم أستاذي العلامة الشيخ علي المبارك ، وهم الأفاضل محمد أمين وإبراهيم فوزي ومحمد جمال الدين. ولما دخلنا السراي قابلنا الخادم وأجلسنا في غرفة الانتظار فأرسل السيد الأنصاري بطاقة ، فلما وصلت إليه أسرع إسراع البرق لمقابلتنا والترحيب بنا ببشاشة فائقة الحد حتى خطر ببالي أن الله جمع المكارم في شخصه الكريم قائلا لها : كوني فؤاد حمزة فكانت إياه. ثم إن السيد الأنصاري المومأ إليه قدم إليه تحريرا من خليله إبراهيم ، فوضعه أمامه ولم يفتحه قائلا إنني أريد أن أقوم بواجب الخدمة بحيث أذهب بكم إلى الأماكن المقدسة بعد صلاة العصر وهي منى والمزدلفة ومسجد الخيف وعفات لأحيطكم علما بتلك الأمكنة المقدسة ، إذ لا يمكن إحاطتكم بها تماما يوم عرفة نظرا لكثرة الحجاج ، فأجبناه لذلك شاكرين أفضاله لا سيما وقوله إنني في هذا اليوم المبارك أرسلت رسولا إلى المطوف أسأله عنكم حيث شعرت بقدومكم ، وقد كنّا في الانتظار حينما قرأنا الرسالة الأولى من

١٢٣

الرحلة السعودية الحجازية النجدية ، وقد أمرت بجمع أعداد جريدة «الصراط المستقيم» التي نشرت تلك الرسالة وأشارت إلى نشر الرسائل المتتابعة لكونها منسوبة إلى مليكنا المعظم صاحب الجلالة عبد العزيز آل سعود الكرام. ثم إنه بعد صلاة العصر أحضر سعادة الناظر المشار إليه سيارتين ، سيارة للرجال وأخرى للنساء ، حيث كان معي أهل بيتي فركبناها وتوجهنا لتلك الأمكنة المباركة ، فلما وصلنا المنحنى قال فؤادنا : هذا المنحنى التي تغزّل فيه ابن الفارض فقال :

ما بين ضال المنحنى وظلاله

ضل المتيم واهتدى بضلاله

ثم سار بنا إلى منى ثم المزدلفة أي جمع التي اجتمع فيها آدم وحواء عليهما‌السلام وازدلف إليها ، ثم إلى عرفات وقد أجلسنا على جبل الرحمة بجانب عين زبيدة رحمها الله تعالى ، وقد سررنا سرورا لا مزيد عليه. وبعد إقامتنا ساعة من الزمن قفلنا راجعين فأدركنا صلاة المغرب في منى فصليناها ، ثم ذهبنا إلى مكة المكرمة. وفي يوم الاثنين الموافق عشرين من هذا الشهر دعانا سعادته لطعام الغداء ، تكريما لنا حفظه الله تعالى ، ولدى المذاكرة مع سعادته وغيره من فضلاء القوم قلت إنه لا بدّ لملوك وأمراء وعلماء الإسلام من القيام بما يجب عليهم من العمل بالشريعة الغرّاء لأنها الحصن المنيع من تسلّط الأعداء عليهم ، وهي العمدة في رقيهم الديني والدنيوي وهي العامل الأكبر على نهضتهم السياسية.

١٢٤

الفصل الثامن عشر

في بيان أن نجاح الأمة الإسلامية متوقف على العمل

بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام

وإني أرى أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ، وهو الاعتصام بما جاء به المصلح العظيم سيد الخلق على الإطلاق الذي بعث لأجل تتميم مكارم الأخلاق المنزل عليه (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(١) الساعي في تأليف القلوب ، وارتباط العالم الإسلامي بعضه ببعض متوقف على العمل بما صرح به الكتاب العزيز (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(٢) وجاء به الرسول المبعوث رحمة للعالمين. وبغير المشي على منهاجه القويم ، والسير على صراطه المستقيم ، لا يمكن أن نفوز بالسعادة الأخروية ، كما أنه لا يمكن أن نفوز في المعترك السياسي فوزا عظيما ، ونقهر دعاة الاستعمار الأشرار الذين يتظاهرون بحب الإنسانية والشفقة على عباد الله ، مع أنهم ألدّ أعدائها ، وإنما تظاهروا بذلك توصلا إلى هدم صرح الإسلام المنيع والذي لا يمكنهم هدمه ، بل هو باق إلى يوم القيامة محروسا بعناية الله تعالى حيث بناه على أساس العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وغير ذلك من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم.

__________________

(٥١) سورة القلم ، الآية ٤.

(٥٢) سورة آل عمران ، الآية ١٦.

١٢٥

قال الله تعالى في الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(١) ولا ريب في أنه على الباغي تدور الدوائر.

والبغي مرتع مبتغيه وخيم

ولو بغنى جبل على جبل لديك الباغي

والعاقبة للمتقين. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. والتاريخ يعيد نفسه كما يقولون وليعلموا أن الله لهم بالمرصاد ، ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع ، وإني لهم ناصح أمين. ولا يغرّنهم ما نحن عليه من الخمول فقد أن لنا أن نفيق من ذلك السبات العميق فنقضي على تلك الآمال والأحلام التي يستحيل بعونه تعالى تحققها ، فإن الله تعالى حافظنا من كيدهم ومكرهم السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.

يقضى على المرء في أيام محنته

حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن

هذا ثم إنه في يوم الثلاثاء الموافق الواحد والعشرين من الشهر المذكور قصدت زيارة مطبعة أم القرى ، فتشرفت بمقابلة أخينا الفاضل الأديب المتخلق بالأخلاق الكريمة الأستاذ السيد رشدي أفندي ملحس فقابلنا بوجهه البشوش ؛

__________________

(٥٣) سورة النحل ، الآية ٩٠.

١٢٦

ولما تجاذبنا أطراف ملح الحديث وجدناه متخلقا بالأخلاق الرضية ومتحليا بالآداب النفسية ومتفانيا في خدمة مولاه الملك الجليل ، والمشار إليه حلو الفكاهة والنباهة فبارك الله في جلالة مولانا الملك العادل على حسن اختياره لأمثاله الأمناء. وهذا من توفيق الله لعبده محبوب القلوب الإمام المشار إليه.

الفصل التاسع عشر

في بيان أنه لا بد لكل حاكم من بطانتين

بطانة خير وبطانة سوء

وقد شاهدت أن بطانته بطانة خير وأنها لا تزال مجتهدة في نشر محاسن مولانا صاحب الجلالة المشار إليه وقد خطر ببالي أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد إسعاد ملك من الملوك أو أمير من الأمراء أو وال من ولاة الأمور قيض له بطانة صالحة تساعده على عمل الخير وتحضّه عليه بخلاف ما إذا أراد به سوءا والعياذ بالله.

وليكن معلوما للعموم أن الوالي مثلا لا بد وأن يكون لديه بطانة خير وبطانة سوء ، فإذا غلبت بطانة الخير بطانة السوء سعد وفاز فوزا عظيما ، وإذا غلبت بطانة السوء بطانة الخير شقي وخذل خذلانا مبينا. فليهنأ مولانا إمام الإسلام بغلبة بطانة الخير على بطانة السوء ، وبفوزه فوزا عظيما لتمسكه بالشريعة الغرّاء وعمله بحديث : «أنزلوا الناس منازلهم» وأن

١٢٧

هذا العاجز يبارك له بهذا التوفيق الذي منحه الله إياه داعيا له بدوام التمسك بالعدالة التي نشرت لواء الأمان والاطمئنان على ربوع الحجاز بعد أن كانت مثوى لقطّاع الطريق وكان ابن السبيل لا يأمن على دمه وماله خصوصا حجاج بيت الله الحرام ، فقد كانا فريسة للأشقياء حتى في زمن الدولة العلية العثمانية. فنسأل الله تعالى دوام آل سعود العادلين ليكونوا ملجأ للإسلام يفزع إليهم عند الشدائد وما ذلك على الله بعزيز.

الفصل العشرون

في بيان التشرف بدعوة رئيس السدنة

الشيخ عبد القادر أفندي الشيبي

وفي اليوم المذكور بينما كنت جالسا عند حلو الفكاهة المشار إليه محرر جريدة أم القرى الغرّاء ، إذ جاءني رسول من قبل رئيس سدنة الكعبة الشريفة المعظمة مولانا الفاضل الكريم السيد عبد القادر بن علي الشيبي ، من آل شيبة الكرام ابن طلحة بن عبد العزى بن قصي القرشي حفظه الله تعالى ، يدعوني لرحابه الرحيب فلبيت دعوته شاكرا له تعالى على حسن صنيعه بهذا الحقير ، ثم ذهبت لسدته الشريفة وحظيت بصالح أدعيته اللطيفة ، وكان عندي هذا اليوم عيدا سعيدا حيث شاهدت من منن الله تعالى على عبده الضعيف ما لا يمكنه حصره ، وبينما كنا نتحدث معه تذكرت قوله تعالى : (إِنَ

١٢٨

اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)(١) ومن المعلوم أن هذه الآية الشريفة نزلت بعد أخذه صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلب المفتاح منه فأرسل إلى والدته أن أرسلي المفتاح إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فامتنعت فذهب إليها بنفسه ليحضره إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت له إذا أخذ المفتاح منكم فإنه لا يرجع إليكم أبدا ، فقال لها لا بد من تسليمه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلمته لولدها فسلمه له عليه الصلاة والسلام ، وكانت قريش تعتقد أن الكعبة المعظمة لا يقدر على فتحها أحد غير آل شيبة ، فلما فتحها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعجبوا من ذلك ، وعندئذ قال علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه وكرم الله وجهه : الحمد لله الذي جعل فينا النبوة والسقاية والسدانة ، فكره ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزل الوحي بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عثمان المشار إليه وأعطاه المفتاح. فقال رضي‌الله‌عنه يا رسول الله أبأمر من تلقاء نفسك يعني هذا العطاء ، أم أمرك الله بذلك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل أمرني الله بذلك. فشكر عثمان رضي‌الله‌عنه الله على هذه النعمة الجزيلة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام مخاطبا له : إن السدانة فيكم إلى يوم القيامة لا ينزعها منكم إلا ظالم.

__________________

(٥٤) سورة النساء ، الآية ٥٨.

١٢٩

ثم قال له كلوا من هذا البيت بالمعروف فلا يجوز لأحد يؤمن بالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعارضهم في السدانة ، وهذه بشارة من خير الأنام لهذه العائلة الكريمة بدوام السدانة لهم إلى انقراض الدنيا وها نحن في القرن الرابع عشر ، وهذه الأسرة الكريمة بيدها المفتاح ولا ريب في أن هذا الخبر القاضي بقاء السدانة في آل شيبة إلى يوم القيامة من الأخبار بالمغيبات ، وهو معجزة من معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكثيرة العدد.

هذا وفي يوم الجمعة الموافق الرابع والعشرين من الشهر المذكور بعد أن صلينا صلاة الجمعة ذهبنا مع محبوب الأفاضل ما جد مكة المكرمة مولانا الشيخ ما جد الكردي ناظر الأوقاف والحرم الشريف إلى زيارة الفاضل الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار ، سبط خاتم المحققين الأخيار مولانا المرحوم الشيخ عبد الرزاق البيطار من أعظم فضلاء دمشق الشام الذي تشرفت بزيارته في محلة الميدان ، إحدى محلاتها ، وقد كانت تلك الزيارة لفضيلته سنة ثماني عشرة وثلاثمائة وألف [هجرية ، الموافق ١٩٠٠ م] ولما تشرفت بمقابلة سبطه المشار إليه وجدت وجهه يطفح نورا ، فقلت في نفسي لا شك في أن الولد سر أبيه ولا يخفى أن محبة الآباء متصلة بالأبناء فلا عجب إذا شغفت حبا به إذ لا خير فيمن لا يحب ولا يحب. ولا ريب في أن المحبة الإلهية هي السبب في وجود هذا العالم البديع كما ورد في الحديث القدسي «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني» وإن قال بعض المحدثين إنه موضوع إلا أنه يستأنس به في هذا المقام.

١٣٠

الفصل الحادي والعشرون

في بيان الشرف بدعوة ماجد مكة المكرمة

وبعد صلاة عصر هذا اليوم في المسجد الحرام تشرفنا بزيارة ناظر الأوقاف والحرم الشريف وصاحب مطبعة الترقي ماجد مكة المكرمة المشار إليه ، بدعوة منه إلى ساحته الفيحاء ومنزله الرحيب مجمع الفضلاء ، فرأينا من كرم الضيافة والأخلاق الفاضلة والصفات الجميلة والتفاني في حب صاحب الجلالة الملك العادل السعودي ما أدهشنا ، ولا غرابة في إخلاصه لذلك المقام الذي في عزه عز الإسلام وللأستاذ المشار إليه المكتبة الكبيرة الشهيرة الخصوصية لحضرته منذ نشأته حفظه الله تعالى وحفظ كتاب الله المجيد وحرسهم بعين عنايته وأيدهم بروح منه بمنه وكرمه. وقد سررنا كثيرا من هؤلاء الأشبال فهم نجوم الفضيلة حول والدهم ذلك البدر المشرق في أفق مكة زادها الله شرفا ورفعة ومهابة وإجلالا وتعظيما وقدرا ، وقد ألقى لدينا أحدهم الفاضل الأديب محمد صادق الكردي أحد أساتذة المعارف الأميرية خطبته التي ألقاها أمام صاحب الجلالة الملك المعظم يوم وصول ركابه العالي من نجد إلى مكة المكرمة في العام الماضي ، حين ما كان والده الجليل وكيلا لإدارة المعارف العمومية بحضور الجمهور المحتشد الذي تشرف بمقابلة جلالته وقتئذ ، وهذا برهان على أن أفاضل الحجازيين المخلصين

١٣١

لدينهم وأمتهم ومليكهم المعظم يشكرونه تعالى الذي منحهم هذا الإمام المصلح الكبير.

وقد وقفت على محبة كثير من أفاضل الحجازيين لأعمال جلالته المشكورة التي منها انتخاب لجنة من أفاضل العلماء في كل بلدة للقيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عملا بالآية الكريمة (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(١) ولا ريب في أن تعليق الحكم بمشتق يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق كما صرح به الإمام عبد القاهر إمام فني المعاني والبيان. والحديث الشريف «لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطان الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم» والحديث «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» إيمان بالقلب. وللقيام بهذه الوظيفة شروط : منها أن يكون عالما بالمذاهب التي جرى عليها المسلمون حتى يحق له ذلك.

__________________

(٥٥) سورة آل عمران ، الآية ١١٠.

١٣٢

الفصل الثاني والعشرون

في تحرير الخطبة التي خوطب بها صاحب

الجلالة الملك عند قدومه إلى مكة المكرمة

وقد تلاها بحضور هذا العاجز في بيت والده الكريم

فأحببت أن أنشرها في هذه الرحلة وهذه صورتها

السلام عليك يا صاحب الجلالة ورحمة الله وبركاته ، لقد أشرقت شمس طلعتكم على ربوع هذه الديار المقدسة ، فاستبشرت الوجوه ، وفرحت القلوب ، وقرّت الأعين ، ونادى منادي السرور مرحبا بكوكب فلك المجد ، وبدر أفق السعد ، مرحبا بخير قادم ، وأكرم وافد ، مرحبا بمقدم مليكنا المعظم بطل الإسلام ، وحامى ذمار الأمة العربية ، يا مولاي تنقلت من بلدة إلى أخرى كما يتنقل البدر في السماء ، فأرويت قلوبا عطشى إلى لقائك ، وقد كنت موضع الإجلال أينما حللت وحيثما سرت ، وكالغيث أينما وقع نفع. أي مليكنا المعظم إن الأمة إذا رأت في شخص مليكها سمات اليمن وخصال المجد ، كانت أولى أن تحوط ملكه بنفوسها وتحرسه بقلوبها ، وقد رأينا منك والحمد لله كل كمال يؤهلك لأن تسوس رعيتك أفضل سياسة ، فلا بدع إذا رأيتنا ملتفين حول عرشك فرحين بيوم قدومك ، داعين الله أن ينصرك نصرا عزيزا ، وهذه طبقات الشعب أتتك مهنئة بسلامة عودتك معبرة عما تكنه أفئدتها من الفرح والحبور في سبيل الله ، فارقت هذه الديار مزودا بالدعاء من الألسنة والقلوب لتتفقد أحوال رعيتك وتلم شعثهم وتهيب بهم إلى ما يعلي شأنهم ويصلح ذات بينهم ،

١٣٣

فكان سعيك مشكورا وعملك مبرورا في سبيل الله أعمالك الجليلة ، فلقد جددت معالم هذا الدين ؛ وأحييت سنة سيد المرسلين ، ونشرت العلوم والمعارف وناديت في قومك هلموا يا قوم إلى طريق العلا ، إلى طريق المجد إلى طريق السعادة الأبدية. فأجابوك بألسنة ملؤها الشكر والثناء ؛ حيهلا بالداعي إلى الرشد ، والمقتدي بالهدى ، والمقتفي أثر الكرام الصيد ، وقد رأوا فيما ناديتهم همة شماء ، وعزة تعساء ، وعدلا شاملا وقوة بحول الله عظيمة ، واتحادا في الأخلاق والقلوب ، وإخلاصا في القول والعمل. فأهلا بهذا التجدد وأهلا بداعي الخير والفلاح ، فسربنا أيها الملك المحبوب في هذه السبيل التي بها تصلح حالنا ويسعد مآلنا ، واجعل الصبر عدة ، والإيمان قوة ، ولا تحفل بقول المرجفين ، وسعاة الباطل فالباطل مضمحل ، وإنما بقاؤه بسبب إمهال الحق له. أمدك الله بروح من عنده ، وأعلى بك كلمة المسلمين ، ورفع بعزك منار الحق واليقين ، ووفقكم وأنجاكم الأمراء الكرام ، ورجال حكومتكم الفخام ، إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

هذا وفي يوم السبت الخامس والعشرين من الشهر المذكور ذهبت إلى زيارة الكعبة المشرفة فدخلتها وصليت فيها ثمان ركعات كل ركعتين على حدة في أماكن مختلفة لعلي أصادف المحل الذي صلى فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان الأولى في أن أصلي ركعتين فقط اقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن الدهشة أنستني تلك السنّة.

١٣٤

الفصل الثالث والعشرون

في بيان إدارة الصحة العامة

وأوصاف مديرها المحبوب وإخوانه الأطباء الكرام

وبعد ذلك ذهبت إلى دائرة الصحة العامة والمستشفى الملكي السعودي فقابلني مديرها المحبوب سعادة السيد محمود بك حمدي ، الذي بمجرد وقوع نظر القادم عليه يود أن لا يفارقه لما يشاهد فيه من الرقة واللطف والخلق الحسن.

هذه المزايا التي طبعه الله عليها بغير تكلف منه حفظه الله تعالى. فلا بدع إذا أحبته القلوب فهو طبيب الأرواح كما أنه طبيب الأشباح ، ومحمود الخصال كاسمه بارك الله فيه وفي إخوانه الأطباء الذين يساعدونه على تنظيم هذه الإدارة وخدمة المرضى اللاجئين إلى المستشفى الملكي المشار إليه. وقد أفادني أن الفضل في تنظيم هذه الإدارة وتوسيع نطاقها يرجع إلى رغبة واهتمام مولانا الإمام السعودي الذي يهمه إعلاء شأن البلاد المقدسة الحجازية. ولدى البحث فهم أن حضرة المدير المشار إليه من دمشق الشام كما أن إخوانه من سورية وفلسطين جزاهم الله جميعا عن الإسلام خيرا ، لا سيما مساعدة الدكتور حسني بك نجل صديقي المرحوم صادق بك الطاهر النابلسي من آل الطاهر المحترمين.

وفي الليلة السادسة والعشرين منه تحقق لي أن سلالة الأشراف من آل عبد مناف مولانا الجليل السيد أحمد

١٣٥

السنوسي ابن السيد محمد الشريف ابن السيد محمد ابن السيد علي السنوسي المجاهد الكبير موجود في مكة المكرمة. فقصدت زيارته لاغتنام أدعيته المباركة ولا ريب في أن دعاء أمثاله مستجاب. كيف لا وهو الذي أبلى في الدفاع عن الأمة الإسلامية بلاء حسنا حتى صارت تضرب بهمته الأمثال ، فذهبت إلى جبل أبي قبيس حيث يسكن في الزاوية التي بناها جده رحمه‌الله. وقد فهمت منه أن مولده كان في جغبوب التي ملكها السلطان المرحوم عبد المجيد خان من آل عثمان لجده ، ليلة الأربعاء الموافقة لسبع وعشرين من شوال قرب الفجر سنة تسعين ومائتين وألف [٢٥ كانون الأول ١٨٧٢ م] ولا يخفى أن هذه الولادة في الوقت المذكور فيها إشارة خفية إلى أن المولود الكريم يزداد نورا شيئا فشيئا حتى تشرق شمس كمالاته على العالم الإسلامي في وقت الضحى فكان الأمر كذلك.

وقد كنت تشرفت بمشاهدته في القدس الشريف حينما قدم زائرا للمسجد الأقصى وحظي بدعواته المؤمنون وألقى درسا في جامع صخرة الله المشرفة منذ أربع سنوات ، ورجوت من سيادته أن لا ينساني وذريتي وأهلي وعشيرتي وأحبابي وأصحابي من دعواته ، والحمد لله الذي جمعنا به على أحسن حال في جوار بيت الله الحرام أسأله تعالى وهو خير مسؤول أن يديمه مظهرا من مظاهر عزّ الإسلام إنه سميع الدعاء. وبالمناسبة سألت مولانا المشار إليه هل هو مستريح في مكة

١٣٦

المكرمة ومسرور من أعمال صاحب الجلالة الملك السعودي ، فأثنى خيرا ودعا لجلالته وآله حيث أكرم مثواه أعز الله به الإسلام ونفع به الأنام بمنه وكرمه. ثم إنه قبل حضور صاحب الجلالة من نجد إلى مكة المكرمة بعد عروجه على المدينة المنورة ، على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم بأسبوع ، ودعني فؤاد السياسة العربية قاصد التشرف بمقابلة مولانا الإمام المشار إليه ، وقد أخذ معه فؤادي فأنشدت قائلا :

أخذتم فؤادي وهو بعضي فما الذي

يضركم لو كان عندكم الكل

وبالقدر الإلهي أصبحت منحرف المزاج وكأن صحتي ذهبت بذهابه وقد اشتدت حرارة البلد الأمين فوقعت طريح الفراش. ولما علم بذلك مدير الصحة العامة والمستشفى الملكي السيد محمود بك الهمام المشار إليه حضر عندي مع مساعده حسني بك الطاهر عائدا ، وأعطى العلاج ثم بعد ثلاثة أيام حضر أيضا ورأى من اللزوم ذهابي إلى المستشفى المذكور ، فلبيت دعوته شاكرا عطفه الجليل. وقد أقمت فيه تحت رعايته مدة إقامتي في مكة المكرمة وقد اهتم بخدمتي اهتماما يذكر فيشكر ، وكان قبل مرضي بيومين قد دعاني إلى رحابه الرحيب أنا وحاشيتي مع عشرة من أعيان مكة المكرمة ، منهم صاحب الفضيلة القاضي بمكة حضرة السيد عبد الكريم أفندي الخطيب ، صهر مولانا ماجد مكة المكرمة الشيخ ماجد أفندي الكردي المنوّه باسمه سابقا إلى تناول العشاء ، فحال بيني وبين إجابة دعوته المرض. ولما كان رفيقي

١٣٧

السيد فائق الأنصاري من جملة المدعوين أجاب الدعوة بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عني ، وقد أفادني أن صاحب الدعوة أحضر رجلا من أفاضل القراء كي يتلو عشرا من القرآن الكريم ، فسر الحاضرون سرورا لا مزيد عليه ، وكان قصده حفظه الله أن يعرفني بجملة من الأعيان الفضلاء فصنع تلك الوليمة التي كانت غاية في الإتقان كما أفادني رفيقي المومأ إليه.

الفصل الرابع والعشرون

في بيان الاحتفالات بقدوم جلالة الملك

والتحارير التي أرسلت إلى هذا العاجز

وقبل قدوم الركاب العالي بيومين أرسل لي رئيس لجنة الاستقبال أمين العاصمة الفاضل الكريم السيد عباس أفندي القطان يدعوني إلى استقبال جلالته بتذكرة هذا نصها :

«بحمده تعالى سيشرّف جلالة مليكنا المعظم المحبوب عاصمة ملكه يوم الأربعاء الموافق الثامن والعشرين من ذي القعدة سنة سبع وأربعين وثلاثمائة وألف فعليه تتشرف لجنة الاستقبال بدعوة حضرتكم للحضور إلى ميدان جرول في الساعة إحدى عشرة صباحا من اليوم المذكور للتشرف باستقبال جلالته وتقديم عبارات التهاني بسلامة الوصول ، كما وأن اللجنة تدعو حضرتكم للحضور إلى حفلة المأدبة التي ستقام تكريما لجلالة الملك المفدى بدار المؤتمر بأجياد في

١٣٨

الساعة الحادية عشرة والنصف من مساء يوم الخميس الموافق تسعة وعشرين من الشهر المذكور ، والباري يرعاكم».

وحيث أنني لا قدرة لي على تلبية الدعوة ذهب رفيقي السيد الأنصاري المومأ إليه بدعوة من اللجنة المومأ إليها وتشرف باستقبال جلالته وشاهد الحفلة المذكورة وتناول الطعام من المأدبة التي أقيمت تكريما لجلالته وشاهد الألوية السعودية الخضراء المكتوب في وسطها لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقد سمع خطاب الملك المملوء بالمواعظ والحكم الدينية والسياسية ، ومن جملة أقواله حفظه الله تعالى إنه لا يرهب أوربا ولا يخاف منها فإن عنده جيشا منظما متمسكا بالشريعة الغراء ، وهي حبل الله المتين الذي من تمسك به فاز في الدنيا والآخرة ، ولكنه يخشى من المسلمين ، يعني بذلك ـ نصره الله وأيده بروح القدس ـ المنافقين الذين يتظاهرون بالإسلام وهو براء منهم وإلّا فإن المسلمين الحقيقيين المتمسكين بالشرع الشريف والدين الحنيف لا يخشى منهم ، فإنهم نصراؤه على الدوام ويقدسون أعماله ويلتفون حوله ويظاهرونه على أعداء الإسلام ، كأنه حفظه الله تعالى يشير إلى قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ)(١) وهؤلاء المسلمون

__________________

(٥٦) سورة الحجرات ، الآية ١٤.

١٣٩

أمثال فيصل الدويش (١) الخارجون عن طاعة الإمام والذين في قلوبهم مرض من الشقاق والنفاق ، الذين يعيثون في الأرض فسادا والله لا يصلح عمل المفسدين فهم يقطعون الطريق مظهرين أنهم على الحق فيعتدون على أبناء السبيل ولا يخافون عاقبة البغي والعدوان ، والله يقول (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ)(٢) وهذه الآية نزلت في حق قطاع الطريق قاتلهم الله ومنهم فيصل الدويش المذكور ومن على شاكلته البغاة ، الذين يتحركون بأصابع الأجانب الذين هم ألد الأعداء للموحدين.

هذا ، ثم إنه جاءتني دعوة ثانية من رئيس لجنة الاستقبال المشار إليه وهذه صورتها :

«تتشرف لجنة الاستقبال بدعوة حضرتكم إلى حفلة الشاي التي ستقام بقصر المنصور بالزاهر في الساعة العاشرة من يوم الجمعة الموافق ثلاثين من ذي القعدة لسنة سبع وأربعين وثلاثمائة وألف تكريما لجلالة مليكنا المفدى المحبوب على أن يكون الاجتماع بمركز أمانة العاصمة في الساعة

__________________

(٥٧) فيصل بن سلطان الدويش (١٨٨٢ ـ ١٩٣٠) (١٢٩٩ ـ ١٣٤٩) أحد زعماء حركة الأخوان وأخر شيوخ مطير ، حيث تولى الشيخة بعد وفاة والده عام ١٣٢٥ ه‍.

(٥٨) سورة المائدة ، الآية ٣٣.

١٤٠