رحلتان إلى الحجاز ونجد

محمد بهجة البيطار ومحمد سعود العوري

رحلتان إلى الحجاز ونجد

المؤلف:

محمد بهجة البيطار ومحمد سعود العوري


المحقق: تيسير خلف
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: التكوين للتأليف والترجمة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٧٨

الفصل الخامس

في وصف القطار

فامتطيت جواد القطار في أول النهار وظني حسن في الله أن يغفر لي تلك الأوزار وأن يحشرني في زمرة الأبرار ، وأن يبعدني عن الأشرار ما دمت في هذه الدار ، وان يحفظني وذريتي وأهلي وعشيرتي من الشيطان الرجيم خصوصا ولدي الفاضل مصطفى فاضل الوحيد وأنجاله سعود وأسعد وكريمته يسرى الميسرة لتلاوة كتاب الله المجيد وأن يعيذني وإياهم من كيد الحاسدين الذين «يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله» ولا ريب في أن الحسد حسك ، من تعلق به هلك. ولله در الحسد ما أعد له بدأ بصاحبه فقتله.

هم يحسدوني وشر الناس كلهم

من عاش في الناس يوما غير محسود

إذ لا يسود سيد بدون ودود يمدح ، وحسود يقدح.

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طويت أتاح لها لسان حسود

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ* مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ* وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ* وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ* وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ)(١) ثم إن ذلك الجواد شرع يطوي البراري والقفار ، وكأني به قد طار على أجنحة أشواقي إلى المحصب والعقيق والبيت العتيق والوقار.

__________________

(٢٧) سورة الفلق ، من ١ ـ ٥.

١٠١

أمر على الديار ديار ليلى

أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حب الديار شغفن قلبي

ولكن حب من سكن الديارا

وما زال ذلك الجواد الذي هو أسرع في السير من الصافنات الجياد يهتزّ طربا ويميس عجبا ولعله سرى إليه شيء من كهرباء فؤادي ووصل إلى قلبه بعض محبتي وودادي فاعتراه الغرام والهيام فهام طالبا منه تعالى نوال المرام عساه أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى فهو الخليل الجليل عليه الصلاة والسلام.

الفصل السادس

في بيان الثناء الجميل على أهالي وادي النيل

وقد وصل إلى السويس ليلة الثلاثاء الموافقة الرابعة عشرة من الشهر المذكور وهي إحدى ثغور مصر المحروسة فنزلنا بها منتظرين حركة سفينة النجاة متوكلين على الله تعالى سائلين منه القبول والإقبال لأنه ملك الملوك والإقبال بيده الخير وهو على كل شيء قدير راجين منه جزيل العطاء متذكرين قول ابن عطاء : ما قدر لماضغيك أن يمضغاه لا بدّ وأن يمضغاه على ضعفك ويحك كله بعز ، ولا تأكله بذل. فأعرضت عن السوى ، والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى ، وما ينطق عن الهوى.

الله قل وذر الوجود وما حوى

إن كنت مرتادا بلوغ كمال

فالكل دون الله إن حققته

عدم على التفصيل والإجمال

١٠٢

(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(١) وقد شاهدت محاسن القنال الذي صنعته أيدي الأبطال ولا ريب في أن همم الرجال تزيل الجبال.

لمصر على كل النواحي انتهى الفخر

فكم آية كبرى بها ما لها نكر

وحسبك فضل قد تسامى بأزهر

بها صار بحرا ما حوى مثله بر

كفى مصر عزا باسمى مثله لها

وكم مصر مما قد حوته لها فخر

بل هي مجمع أبحر الكرم والجود ، فكم لها من منن لا تحصى في هذا الوجود ، وحسبك ما جادت به أيدي المصريين على المسجد الأقصى من عهد الأمويين إلى يومنا هذا ، وذلك أن حسنات صاحب الجلالة فؤاد الإسلام والمسلمين ، التي ظهرت في شهر رمضان وسارت بذكرها الركبان فاقتدت به الحكومة والأعيان لا تنسى ما تعاقب الملوان ، فهو المصلح الكبير ويكفيك منه تولية العلامة النحرير مولانا الجليل النبيل أخينا في الله شيخ الإسلام مصطفى المراغي شيخا للجامع الأزهر الجامع ، الذي له على الأمة الإسلامية الفضل الأكبر منذ عهد الفاطميين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وهو خير الوارثين إن شاء الله تعالى. ومن معجزاته عليه الصلاة والسلام أنه قال للصحب الكرام ستفتح عليكم مصر فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم قرابة ورحما وصهرا ، وقد كان أهلها وقتئذ الأقباط ومنهم السيدة هاجر أم

__________________

(٢٨) سورة القصص ، الآية ٨٨.

١٠٣

إسماعيل عليهما‌السلام ، وهي جدّة العرب سادات الأمم الذين خضعت لعدلهم وفضلهم الرقاب ، وهانت لهم الصعاب ، فكانوا نجوم الهداية للأنام وبدور الاستقامة والسعادة وينابيع الإحسان والأنعام ، متمسكين بأحكام الدين الحنيف الذي لا يحوم حوله الحيف ، ومن نحا نحوه لا يضام ، وذلك أن من تمسّك به نجا من المهالك الدنيوية والأخروية وفاز بالمراد ، وزها بين العباد ، بفتح البلاد ومجده قد زاد ، ألا ترى إلى أن مولانا صاحب الجلالة السيد عبد العزيز آل السعود كل يوم ملكه في ازدياد.

وإذا رأيت من الهلال نموه

أيقنت أن سيصير بدرا كاملا

والسبب في ذلك اعتماده على الله الذي لا ربّ سواه ، وعلى العمل بالشريعة الغرّاء وقبوله نصيحة العلماء والفضلاء ومشورتهم في الكلية والجزئية ، وهو الناصر للسنة والقامع للبدعة ، فهو أحق الملوك بإحراز قصب السبق في مضمار الفخار واقتداء ملوك الإسلام به في إعلاء كلمة الله الواحد القهار ، ليحشروا في زمرة الأخيار ، ويتحصنوا بحصنه المنيع فلا تتسلط عليهم الأشرار.

١٠٤

الفصل السابع

في لزوم إعداد القوة لمحافظة الوطن من الأغيار

ولا سيما إذا عملوا بقوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ)(١) ما دمتم في هذه الديار. ومن رحمته تعالى أن قال «ترهبون» ولم يقل تقتلون أو تذبحون ، فإذا أعددتم القوة فإن الأعداء تخافكم فلا يجسرون على الزحف على بلادكم ، فيبقون في ديارهم سالمين وتبقون أنتم في أوطانكم رافلين في حلل المسرات. أما إذا أهملتم القوة فإنكم لا تكونون معزّزين مكرمين بل يجسر عليكم العدو فتصبحون أذلاء مهانين ، وتقتلون وتقاتلون وتعرضون دياركم للخراب وأنفسكم للهوان والاستعباد فعليكم بالعمل بهذه الآية الجليلة كي تنالوا كل فضيلة. أما «من» في قوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) فهي للبيان وأما «من» في قوله : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) فهي للتبعيض ، فالقوة الداخلة تحت الاستطاعة شاملة : للأساطيل البحرية ، والمناطيد الجوية ، وأسراب الطيارات الهوائية ، والمدافع القوية ، والخنادق الأرضية ، والأسلاك الكهربائية ، وسائر المعدات الحربية ، واتفاق الكلمة والسعي الحثيث لتأليف الجامعة الإسلامية ، وتعليم الصنائع العصرية مع العلوم التي لا تنافيها الشريعة المحمدية ، والتخلق بالأخلاق

__________________

(٢٩) سورة الأنفال ، الآية ٦٠.

١٠٥

المرضية عند رب البرية ، وإياكم والسفور الذي يجر إلى الفسق والفجور ، والاختلاط الذي يدعو إليه كل خلاط مارق من الدين كالجعديين الملحدين ، وغيرهم من الأعداء المنافقين دعاة الاستعمار ، الذين يعيثون في الأرض فسادا وفي قلوبهم مرض النفاق والشقاق فلا يقر لهم قرار (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)(١) ولو كان هؤلاء المتجددون يؤمنون بقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٢) وقوله عليه الصلاة والسلام «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى قيام الساعة وهم على ذلك» لما أقدموا على التمسك بالضلال والسعي في طلب المحال ولكن (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ)(٣) بلى والله وقد اغترّوا باستدراج الله لهم (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)(٤).

وبعد أقامتنا في الثغر المشار إليه يومين ، وأخذنا أهبة السفر قدر لنا أن امتطينا فرس السفينة الطليانية ، ذاكرين

__________________

(٣٠) سورة الصف ، الآية ٨.

(٣١) سورة الحجر ، الآية ٩.

(٣٢) سورة الزمر ، الآيتان ٣٦ ـ ٣٧.

(٣٣) سورة القلم الآيتان ٤٤ ـ ٤٥. وسورة سورة الأعراف ١٨٢ ـ ١٨٣.

١٠٦

نعمة الله علينا وعلى أبينا نوح أول أولي العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وهم خمسة على التحقيق ، خلافا لمن يقول إنهم أكثر من ذلك ، وقد جمعهم قول الشاعر :

محمد إبراهيم موسى كليمه

فعيس فنوح هم أولو العزم فاعلم

وفضلهم على هذا الترتيب.

الفصل الثامن

في سبب صنع السفينة

وسبب صنع السفينة أن نوحا عليه‌السلام قد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما وهو يدعوهم إلى الإيمان بالله وحده لا شريك له فأصروا على كفرهم واستكبروا واستكبارا ، وبقي مثابرا على نصحه لهم حتى أوحي إليه (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ)(١) فيأس حينئذ من إيمانهم فقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً)(٢) فأمره الله تعالى بصنعها حيث يقول : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا)(٣) فكان قومه بعد ذلك يمرون به ساخرين يقولون

__________________

(٣٤) سورة هود ، الآية ، ٣٦.

(٣٥) سورة نوح الآيتان ٢٦ ـ ٢٧.

(٣٦) سورة هود ، الآية ٣٧.

١٠٧

إن نوحا بعد أن كان نبيا صار نجارا (قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ)(١) وبعد تمام بنائها قال الله تعالى له : (فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)(٢) فكان عاقبة طغيانهم وتكذيبهم لرسولهم الذي قام حق القيام بالنصيحة لهم ، ولكن من يضلل الله فما له من هاد إن غضب الله عليهم ، فأشهر عليهم سيف النقمة وعمّهم بالطوفان فلم يبق منهم ديار ولا نافخ نار ، فاعتبروا يا أولي الأبصار ، وقد اختلف العلماء في الطوفان هل كان عاما لجميع الأرض أو خاصا لبعضها ، والتحقيق أنه عام خلافا لمن يقول بخصومه ، ولو أنابوا إلى الله ورجعوا إليه لوجدوا الله توابا رحيما. ألا ترى إلى قول نوح عليه‌السلام : (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً* فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً)(٣).

__________________

(٣٧) سورة هود ، الآيتان ٣٨ ـ ٣٩.

(٣٨) سورة المؤمنون ، الآية ٢٧.

(٣٩) سورة نوح ، الآيات ٨ ـ ١١.

١٠٨

هذا وقد وجدنا تلك السفينة طبق المرغوب ولم يكن فيها غير سبعين حاجا ما عدا أهل الدرجة الأولى والثانية ، وكان من نعمة الله علينا أن أفردت لنا غرفة نظيفة لم يكن فيها معنا غير صاحبتنا.

الفصل التاسع

في بيان عجز المحتاج إلى الصاحبة والولد

واستحالة ألوهيته

ولا ريب في أن الإنسان محتاج إلى الصاحبة نظرا لعجزه كما أنه محتاج إلى الولد ليقوم بخدمته حال ضعفه الذي يزداد يوما فيوما. قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً)(١) وقد تراءى لي عند هذا الشعور بالعجز الحاجة إلى الصاحبة والولد أما مولانا تبارك وتعالى فهو الغني عن كل ما سواه وكل ما سواه محتاج إليه. وهذا برهان قاطع على أن الله تعالى واحد أحد فرد صمد (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)(٢) ، وتوضيح ذلك أن العاجز المحتاج إلى غيره لا يمكن أن يكون غنيا عمّن سواه ، وأن جميع المخلوقات محتاجة إليه ، إذ العقول السليمة تحكم باستحالة ذلك ، وبما

__________________

(٤٠) سورة الروم ، الآية ٥٤.

(٤١) سورة الإخلاص ، الآيتان ٣ ـ ٤.

١٠٩

أن الإله لا بد وأن يكون غنيا عن العالم بأسره كيف لا وهو الذي يطعم ولا يطعم والعالم بأسره فقير ومحتاج إليه ، إذ لو احتاج إلى غيره لكان عاجزا فلا يقدر على إغاثة نفسه فضلا عن إغاثة غيره ، بل لا يصلح أن يكون ملكا من ملوك الدنيا فكيف يصلح أن يكون إلها بيده الخلق والأمر يتصرف في الأملاك والملوك كيف يشاء و (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)(١) ، (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً* لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا* وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً)(٢) فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

الفصل العاشر

في جعل السفينة مدرسة تدرس فيها العلوم الشرعية

ولما شعر الحجاج بوجودي في السفينة كلفوا رفيقي السيد فائق الأنصاري أن يبلغني رغبتهم في تعليمهم مناسك الحج وإلقاء الدروس الشرعية فأجبتهم لسؤلهم امتثالا لقوله تعالى : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) وخوفا من أن يصدق على هذا العاجز الحديث الشريف «كاتم العلم ملعون». ثم أنهم هيؤوا مكانا لإلقاء الدروس فيه ، وعيّنوا وقتا لذلك. فحضرت إلى

__________________

(٤٢) سورة الأنبياء ، الآية ٢٢.

(٤٣) سورة مريم ، الآيات ٩٣ ـ ٩٥.

١١٠

المكان في الوقت المعين ، وشرعت في إلقاء الدرس مستعينا بالله تعالى عساه أن يطلق لساني إذ بيده الخير وهو على كل شيء قدير. وبينما كنت أقرر لهم ذلك حضر جم غفير من شيعة العراق وفي مقدمتهم أحد فضلائهم صاحب كتاب الحق المبين في الاستظهار على القسيسين ، وقد كان أخبرني بوجوده السيد الأنصاري المومأ إليه ، كما أنه أخبر المؤلف المشار إليه بوجودي في السفينة ، فأهدى إليّ الجزء الثاني من كتابه المذكور ، ثم حضر عندي فأجلسته عن يميني واحترمته احتراما يليق بأمثاله ، وكان المكان غاصا بأهل السنة والشيعة وبما أنني واقف تمام الوقوف على أحوال علمائهم حينما كنت قاضيا في صور فإنهم مغرمون بحب الجدل ، فقد هيئت نفسي للدفاع لأنني أيقنت بأني سأدخل معه في حرب عوان ، لا سيما وأن في صحبته بعض زعماء العراق ، فطبعا يريد أن يظهر أمامهم مظهر المنتصر على هذا العاجز حتى يعلو مقامه عندهم ، وحيث أنني لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا التجأت إليه تعالى سائلا منه أن يؤيدني في هذه الحرب بروح منه ، وكأنه سبحانه وتعالى استجاب دعائي ففتح عليّ فتوحا جعل خصمي بعد أن كان عزيزا في نفسه ذليلا بين يدي الحق الذي يعلو ولا يعلى عليه ، حتى صرح بالاعتراف أمام الحجاج بفضل هذا الحقير حيث قال : إنني ناظرت كثيرا من علماء السنة فلم أر أحسن خلقا وألين عريكة من هذا الأستاذ ، وقد أردت إنهاء المناظرة بتفسير

١١١

قوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ)(١) فلما انتهيت من تفسيرها سكت الفاضل المومأ إليه وقد أدرك أنني عرضت به ، ومع هذا كنا في ذلك الوقت غير محرمين فانتهى البحث بيننا بسلام.

الفصل الحادي عشر

في بيان أحوال العراق

وبيان مطايا الأجانب أصحاب النفاق والشقاق

ثم ذهبنا معا وجلسنا نتحدث عن أحوال العراق ونشكو ما أصاب الأمة من الشقاق الحاصل الآن بين زعمائها فقد انقسمت على نفسها شيعا وأحزابا حتى أصبح كل واحد يدعي الزعامة منهم مطية للأجنبي فخالفوا بذلك الكتاب العزيز والسنة السنية وإجماع الأمة والقياس الصحيح التي هي أصول هذا الدين وقد حضرني إذ ذاك قول ابن عروة :

ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة

يواسيك أو يسليك أو يتوجع

ثم أني سألته عن أعمال صاحب الجلالة السيد فيصل نجل صاحب الجلالة الحسين بن علي بن عون الرفيق ملك العراق فأثنى خيرا ، فسررت كثيرا من ذلك لا سيما وأنه من السلالة الطاهرة ، وقد استبشرت بنجاح هذه الأمة التي أصبحت تسام

__________________

(٤٤) سورة البقرة ، الآية ١٩٧.

١١٢

الهوان بعد شامخ عزها وراسخ مجدها قائلا : إذا جاء الشيء على أصله لا يستغرب فهو من آل بيت النبوة المصلحين حفظه الله تعالى ووفقه للتعاون على جمع كلمة أمراء المسلمين ، لا سيما الإمامين الهمامين صاحبي الجلالة السيد عبد العزيز ملك الحجاز ونجد وملحاقتها ، والسيد يحيى حميد الدين ملك اليمن لينهضوا جميعا لإعلاء كلمة الله وعز الإسلام والعرب ، فقد ورد إذا عز العرب عز الإسلام ، وإذا ذلّ العرب ذل الإسلام. ثم سألته كيف حالكم معاشر الشيعة مع أهل السنة. فأجاب بأنه لا يوجد بيننا وبينهم اتفاق صحيح كما أنه لا يوجد بينهم أنفسهم ، وكذلك نحن مع الأسف. فقلت له وما أسباب ذلك مع أن الشدائد تجمع الكلمة وتنسى الأحقاد ، فأجاب أن الدولة المنتدبة هي السبب الوحيد في هذا الاختلاف. فقلت له : ولم ذلك؟ فقال إنه يقوم رجل من أهل السنة مثلا متظاهرا بخدمة الدين والوطن فيرفعون مقامه أمام الأجانب ويلقبونه بزعيم أهل السنة فيتقرب بذلك عند المندوب السامي للعراق الذي لا يقطع دون أمره شيء فيأمر له بكرسي فيبيع له ذمته ووجدانه فيوحي إليه بلزوم تفريق صفوف الأمة فيفعل ذلك خوفا من ذهاب معبوده الكرسي ، وكذلك يقوم رجل من الشيعة متظاهرا بما تظاهر به أخوه السني فيلقب بزعيم الشيعة فيحظى بتقريب المعتمد المومأ إليه ، فيدفع له كرسيا فيه خراب الوجدان والإثم والعدوان ويكون الشيعي مع أخيه السني كفرسي رهان في حلبة الفساد والتفريق بين العباد ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

١١٣

فقلت له إذا لا لوم على الإنكليز حيث يتمسكون بسياسة فرق تسد ، وبعبارة أخرى فرق تحكم فمصلحتهم تقضي عليهم باتباع تلك الطريقة التي أوصلتهم إلى السيطرة على كثير من الأمم ، وإنما اللوم علينا نحن العرب. فقال إن المنافقين كانوا موجودين في زمن صاحب الرسالة صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكيف بهذا الزمان. قلت ليس هذا بعذر مقبول ، كيف لا والله يقول : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(١) فيجب على الفضلاء أمثالهم أن يقوموا بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح بين الناس والسعي الحثيث في جمع كلمة الزعماء والأمراء والملوك عسى الله أن ينقذ هذه الأمة من حضيض الذل إلى سماء العز والمنعة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ)(٢). فقال هذا حق أسأله تعالى أن يوفقنا وإياكم لجمع كلمة الإسلام وإعلاء كلمة الله بين الأنام ، ثم إنه بعد رجوعي إلى العراق سالما إن شاء الله تعالى سأجتهد للسير على طريقتكم المثلى ، لعل الله يغير هذه الحال بأحسن منها. فقلت : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب» وإلى هنا انتهى الحديث بيني وبين الفاضل المشار إليه ثم ذهب كل منا إلى حال سبيله.

__________________

(٤٥) سورة آل عمران ، الآية ١٦.

(٤٦) سورة محمد ، الآية ٧.

١١٤

الفصل الثاني عشر

في بيان وجوب الإحرام عند الميقات

ثم بعد مدّة أقبلنا على رابغ الميقات فانشرح صدري وأنشدت قول القائل :

قالوا غدا نأتي ديار الحمى

وينزل الركب بمغناهم

فقلت لي ذنب فما حيلتي

بأي وجه أتلقاهم

قالوا أليس العفو من شأنهم

لا سيما لمن ترجاهم

ثم شرعت في البكاء حتى كدت أغيب عن الوجود ، ثم بعد أن صحوت ذهبت للاغتسال وأديت بذلك الغسل سنة الإحرام وبعده أحرمت بالعمرة فقط قائلا : اللهم إني أريد العمرة فيسرها لي وتقبّلها مني ، لبيك اللهم لبيك لبيك بعمرة ، لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة والملك لك ، لا شريك لك. وقد اخترت أن أكون متمتعا إذ هو أفضل من الإفراد بالحج ومن الجمع بينهما وهو القران كما ذهب إلى هذا القول الإمام مالك بن أنس المشار إليه بحديث «يوشك أن تضرب أكباد الإبل فلا يوجد أعلم من عالم المدينة» والإمام الجليل الزاهد مولانا أحمد بن حنبل الشيباني قدّس الله سرّه العزيز ، الذي أثنى عليه شيخه عالم قريش الإمام المعظم محمد بن إدريس الشافعي رضي‌الله‌عنه حيث قال :

قالوا يزورك أحمد وتزوره

قلت الفضائل لا تفارق منزله

١١٥

إن زارني فبفضله أو زرته

فلفضله فالفضل في الحالين له

فإن قال قائل إنك على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان بن ثابت رضي‌الله‌عنه والقران عنده أفضل من التمتع فما الداعي لتركك العمل بمذهبه مع كونه أشق على النفس ، وفي الحديث : أفضل العبادات أحمزها أي أشقها ، وقد كان عليه الصلاة والسلام المرسل رحمة للعالمين قارنا في حجة الوداع لا متمتعا ، فما الجواب عن هذا الإشكال؟ أقول وبالله التوفيق : إن مذهب الإمامين المشار إليهما أقوى دليلا من مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة قدس سرّه العالي في هذه الحادثة ، وتوضيح ذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر المحرمين بالحج أن يفسخوه إلى العمرة ففعلوا ذلك ، فصار الصحابة في حجة الوداع متمتعين لا مفردين ولا قارنين. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدى ولجعلتها عمرة. فيؤخذ من هذا الحديث أن الإحرام بالعمرة فقط خير من الإفراد بالحج وخير من القران فما فعلته هو الأفضل لا سيما والله تعالى يقول : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(١) فالله تبارك وتعالى يحب اليسر لا سيما على حجاج بيته الحرام والتسهيل عليهم. وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت بالحنيفية السمحة وقد رفع الله عن الأمة المحمدية الإصر أعني الشدة التي كانت على الأمم السابقة». وفي

__________________

(٤٧) سورة البقرة ، الآية ١٨٥.

١١٦

الحديث الشريف «إني لست كأحدكم أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» أي يجعل فيه عليه الصلاة والسلام قوة الطاعم الشارب وذلك حينما واصل في شهر رمضان فواصل الصحابة فنهاهم عن ذلك. قال عليه الصلاة والسلام : «إن الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه فقاربوا وسددوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» هذا مع العلم بأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها. وأين هذا العاجز الضعيف من سيد أولي العزم القوي المتين حتى يكون قارنا ويبقى خمسة وثلاثين يوما وهو محرم مع حر الحجاز والجمع المحتشد في مكة المكرمة الذي يزيدها حرارة ، زادها الله تعظيما وتكريما وأيّد مليكها العامل بالكتاب والسنة بروح منه أنه سميع الدعاء.

الفصل الثالث عشر

في بيان حال المقبل على الديار المباركة الحجازية

وأحوال رجال الحكومة العربية

ولما أقبلنا على جدّة ذات الثغر البسام داخلنا السرور وكدنا نطير فرحا بمشاهدة الديار المباركة ، فحمدنا الله تعالى على التوفيق والهداية لأداء الفريضة ثم دخلناها فشاهدنا فيها رجال الحكومة السعودية ورأينا أنوار العدالة ساطعة على ربوعها ومخيّمة على أنحائها وشاهدنا العزة الإسلامية في نفوس سكانها فانشرحت منا الصدور ، وعمّنا الحبور ،

١١٧

وأيقنا أن الله تعالى لا بد وأن يبدل هذا الذل بالعز فقد تناهى ذل أهل الإسلام ، كما تناهت غطرسة أعدائه اللئام.

لكل شيء إذا ماتم نقصان

فلا يغرّ بطيب العيش إنسان

هي الليالي كما شهدتها دول

من سره ز من ساءته أزمان

قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ)(١)

وقال الشاعر :

إذا تم أمر بدا نقصه

ترقب زوالا إذا قيل تم

فنهاية العز ابتداء الذل ، ونهاية الذل ابتداء العز ، ولا ريب في أن عز الإسلام بدأ من الجزيرة إلى أن تناهى ثم عمّنا الذل ، وفي هذا العصر تناهى فرجعنا إلى العز والحمد لله فابتدأ من الجزيرة كالسابق ، لذلك نرى أن الله تعالى لا بد وأن يعز الإسلام على يدي صاحب الجلالة الإمام المرتضى السيد عبد العزيز ناشر لواء العدالة في مملكة الواسعة وراية الأمن والأمان والاطمئنان على كافة الأهالي ، خصوصا وفود بيت الله الحرام.

__________________

(٤٨) سورة آل عمران ، الآية ١٤٠.

١١٨

الفصل الرابع عشر

في التوجه إلى مكة المكرمة والاعتماد في

بلوغ المراد على الله وحده

ولما عزمت على التوجه إلى مكة المكرمة كلفني بعض الإخوان أن أبرق إلى مولانا الملك العادل بقدومي لأداء الفريضة ، فأجبته بأنه لا ينبغي لمن يكون قاصدا ملك الأملاك وضيف بيت الله الحرام أن يشرك معه غيره. كيف لا وهو الذي بيده الخير وهو على كل شيء قدير. فلم التفت لهذا التكليف وصح عزمي على عدم رفع البرقية سائلا منه تعالى أن يوفق جلالته لجمع كلمة هذه الأمة ولمّ شعثها كي يدفع عنها شر الأغيار الذين لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ولا يحفظون عهدا لأحد ، وليس العهد عندهم إن لم تكن قوة إلا قصاصة ورق كما هو معلوم لمن تتبع أحوالهم واقتفى أثر معاهداتهم ووعودهم لا سيما مع الشرقيين خصوصا العرب والمسلمين. هذا وقد أقمنا مدة ساعتين في الثغر المشار إليه حيث زادت بنا الأشواق فامتطينا سيارة أسرع من البرق إذا لمع ، قاصدين حرم حمى الله تعالى ، مسرورين فرحين مستبشرين بمغفرة من الله ورضوان وجنات فيها نعيم مقيم ، والدموع تتساقط من العيون تساقط الدر المنثور راجين منه تعالى أن يكون حجنا مبرورا ، وسعينا مشكورا ، منشدين هذا القول :

يا عين قد صار البكا لك عادة

تبكين في فرح وفي أحزان

١١٩

وقد غابت الشمس قبل وصولنا إليه فصلينا المغرب واسترحنا من وعثاء السفر ، ثم بادرنا المسير فلمّا أقبلنا على مكة المكرمة فإذا السيد الأنصاري قال لي انظر أمامك فنظرت وإذا بأنوار الرحمة الإلهية تلمع في الأفق المحاذي للكعبة المشرفة ولا تنقطع أصلا ، فزاد سرورنا وأيقنا أن الله تجاوز عن ذنوبنا التي تعكر البحر ، وتفضل علينا بالقبول. ولا بدع فإنه مجمع أبحر الكرم والجود الذي جوده لا نهاية له ورحمته الواسعة تسع هذا العالم لقوله تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ)(١)

وهم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين لا يفرقون بين أحد من رسله بل يؤمنون بجميعهم عليهم الصلاة والسلام.

الفصل الخامس عشر

في دخول مكة المكرمة

فوصلنا ليلا وإذا بالشيخ عبد الرحمن بلّو مطوف أهالي فلسطين منتظر قدومنا وقد استقبلنا بوجهه البسام وذهب بنا إلى رحابه الفسيح وأنزلنا عنده على الرحب والسعة ضيوفا مكرمين ، وكيف لا يكون كذلك ونحن وفود بيت الله الحرام وهو المتكفل لحاج بيته بالإحسان والإكرام. وكان

__________________

(٤٩) سورة الأعراف ، الآية ١٥٧.

١٢٠