علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )

الدكتور محمّد أحمد قاسم والدكتور محيي الدين ديب

علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )

المؤلف:

الدكتور محمّد أحمد قاسم والدكتور محيي الدين ديب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الحديثة للكتاب
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

وقد سبقت التورية بلفظ (سنّة) ، ولولاه ما تهيأت التورية فيهما ، ولا فهم الفرض والنّدب الحكمان الشرعيّان اللذان صحّت بهما التورية.

٢ ـ المهيأة بلفظ بعدها

، نحو قول الشاعر (الكامل) :

لو لا التطيّر بالخلاف وأنّهم

قالوا : مريض لا يعود مريضا

لقضيت نحبي في جنابك خدمة

لأكون مندوبا قضى مفروضا

فالتورية في (مندوبا) لاحتمالها معنيين :

ـ قريب ، وهو المنتدب لقضاء حكم شرعي ، غير المقصود.

ـ بعيد ، وهو الميت الذي يندب ، وهو المعنى المورّى عنه ، وهذا هو المعنى المراد.

ولو لا ذكر (مفروضا) المتأخّر عن (مندوبا) لم يتنبّه السامع لمعنى (المندوب) ، فلمّا ذكر تهيّأت التورية بذكره.

٣ ـ المهيأة بلفظين

، لو لا كل منهما ما تهيّأت التورية في الآخر ، نحو (الخفيف) :

أيّها المنكح الثّريّا سهيلا

عمرك الله كيف يلتقيان؟

هي شاميّة إذا ما استقلّت

وسهيل إذا استقلّ يماني

فالتورية تهيّأت من اللفظين (الثريا وسهيل). وفي كل منهما معنيان :

ـ قريب ،

الثريا : النجم المعروف ، وهو المعنى المورّى به ، غير المقصود.

سهيل : النجم المعروف ، وهو المعنى المورّى به ، غير المقصود أيضا.

٨١

ـ بعيد ،

الثريا : بنت علي بن عبد الله بن الحارث ، وهو المعنى المراد المورّى عنه.

سهيل : بن عبد الرحمن ، وهو المعنى المورّى عنه ، وهو المراد.

ولو لا ذكر (الثريا) لم يتنبّه لسهيل ، وكل منهما صالح للتورية.

لقد تبيّن ممّا سبق من شرح وتفصيل أنّ التورية ضرب من التخييل ، وفيها شيء من الإلغاز ، وهي من الغموض الفنّي المستحبّ لأن المتلقّي المتمتّع بثقافة شعرية أو فنية يدرك أنها تخاطب عقله وذكاءه وفطنته ، وأنها تبعده عن المعاني المباشرة ؛ لأن الأداء المباشر يبعد عن الشعر إشعاع الإيحاءات المختلفة. فالفنّ تأمّل ، والمتذوّق يجب أن يتحلّى بذائقة قادرة على كشف ما يضيفه الشاعر والمبدع إلى الطبيعة الجمالية التي يرسمها الشاعر. إنها من الصور الخادعة التي تترك للمتلقي أن يذهب إلى تفسيرات مختلفة باختلاف قدرته على الكشف والتذوق وتفكيك عناصر الصورة المتخيّلة.

تمرينات :

١ ـ تمرين مساعد ، قال سراج الدين الورّاق (الوافر) :

أصون أديم وجهي عن أناس

لقاء الموت عندهم الأديب

وربّ الشعر عندهم (بغيض)

ولو وافى به لهم (حبيب)

تكمن التورية في لفظ (حبيب) إذ لها معنيان محتملان :

أحدهما : حبيب ، بمعنى محبوب ، وهو المعنى القريب المورى به. ويتبادر هذا المعنى إلى الذهن بسبب التمهيد له بلفظ (بغيض) وهو شاعر جاهلي.

٨٢

ثانيهما : حبيب ، هو الاسم الحقيقي للشاعر العباسي المشهور بأبي تمّام ، واسمه الكامل حبيب بن أوس. وهذا المعنى البعيد مورّى عنه ، وقد أراده الشاعر.

لهذا كانت التورية مرشّحة لأنه ذكر فيها ما يلائم المورى به قبل لفظ التورية (بغيض).

وقال طبيب العيون ، ابن دانيال (السريع) :

يا سائلي عن حرفتي في الورى

واضيعتي فيهم وإفلاسي

ما حال من درهم إنفاقه

يأخذه من أعين الناس؟

تكمن التورية في عبارة ابن دانيال (يأخذه من أعين الناس) إذ للجملة معنيان :

١ ـ المعنى الأول المورّى به وهو المعنى القريب غير المقصود ، أخذ الدرهم أجر علاج عيون الناس لأن القائل طبيب يداوي الأعين ، لهذا تبادر إلى الذهن هذا المعنى بسبب ما سبق من كلام على حرفة الشاعر.

٢ ـ المعنى الثاني المورّى عنه وهو المعنى البعيد الذي قصده الشاعر ، أخذ الدرهم من الناس مكرهين مرغمين لأنّ أعينهم تسافر خلف ما يدفعونه من دراهم لشفائها.

فالتورية مرشّحة إذا لذكر ما يلائم المعنى المورّى به.

٢ ـ قس على ما جاء في التمرين السابق واشرح التورية في الأبيات الآتية :

قال نصير الدين الحمّامي (الكامل) :

أبيات شعرك كالقصو

ر ولا قصور بها يعوق

ومن العجائب لفظها

حرّ ومعناها رقيق

٨٣

وقال سراج الدين الورّاق (مخلّع البسيط) :

فها أنا شاعر سراج

فاقطع لساني أزدك نورا

وقال بدر الدين الذّهبي (م الكامل) :

رفقا بخلّ ناصح

أبليته صدّا وهجرا

وافاك سائل دمعه

فرددته في الحال نهرا

وقال بدر الدين الذّهبي أيضا (المجتثّ) :

يا عاذلي فيه قل لي

إذا بدا كيف أسلو؟

يمرّ بي كلّ وقت

وكلّما مرّ يحلو

وقال سراج الدين الورّاق (الطويل) :

وقفت بأطلال الأحبّة سائلا

ودمعي يسقي ثمّ عهدا ومعهدا

ومن عجب أنيّ أروّي ديارهم

وحظّي منها حين أسألها الصّدى

وقال ابن الظاهر (الكامل) :

شكرا لنسمة أرضكم

كم بلّغت عني تحيّه

لا غرو إن حفظت أحا

ديث الهوى فهي الذّكيّه

وقال ابن نباته المصري (الكامل) :

والنهر يشبه مبردا

فلأجل ذا يجلو الصّدى

وقال الشابّ الظريف (م. الكامل) :

قامت حروب الدّهر ما بين الرياض السندسيّة

وأتت بأجمعها لتغزو روضة الورد الجنيّة

لكنّها انكسرت لأنّ الورد شوكته قويّة

٨٤

تجاهل العارف

١ ـ تعريفه :

جاء في كتاب الصناعتين (١) : «هو إخراج ما يعرف صحّته مخرج ما يشكّ فيه ليزيد بذلك تأكيدا».

وفي الإيضاح (٢) «هو ـ كما سمّاه السكّاكي ـ سوق المعلوم مساق غيره لنكتة».

٢ ـ مظاهره :

يتجلّى تجاهل العارف في كثير من مواقف القول ، ويأخذ مظاهر عدّة ، يصطنع فيها القائل موقفا غير الموقف الحقيقي في الظاهر ، ويوهم بأن السؤال للاستفسار والحقيقة أن السؤال تظاهر بالجهل أو بالاستفهام عن حقيقة يجهلها ، وواقع الحال أنه يعرف الحقيقة ويستنكر حينا تجاهلها ويقرّر واقعا ما كان ينبغي له أن يكون قائما.

ففي معرض التوبيخ قالت ليلى بنت طريف :

أيا شجر الخابور مالك مورقا

كأنّك لم تجزغ على ابن طريف؟!

فالشاعرة تتساءل مضخّمة الحدث وكأنّها تريد أن توقف دورة الزمن بعد وفاة ابن طريف؟ وتستنكر نضرة الشجر واخضراره إذ كان عليه أن يموت ويضرب عن الاخضرار حزنا عليه.

__________________

(١). كتاب الصناعتين ، أبو هلال العسكري ، ص ٤١٢.

(٢). كتاب الإيضاح في علوم البلاغة ، الخطيب القزويني ، ص ٥٣٠.

٨٥

فهي تشخّص الشجر فتخاطبه وتنسب إليه الجزع وهما من صفات الإنسان ، وتوبّخه على فعلته وكأنها تجهل أن الشّجر لن يكفّ عن الاخضرار حزنا على أحد.

ومن مظاهره أيضا المبالغة في القدح والذّم كما في قول زهير :

وما أدري ، وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء؟

فهل يجهل الفرق بين النساء والرّجال؟ هل التبس عليه الأمر؟أم أنّه يبالغ في الذمّ فيجرّد آل حصن من كل صفات الرجال ، ويجعلهم نساء خائفات منزويات متقاعسات عن التصدّي للعدوان والثأر للكرامة.

ومنه أيضا التولّه في الحبّ كما في قول أحدهم :

بالله يا ظبيات القاع قلن لنا

ليلاي منكنّ أم ليلى من البشر؟

فالشاعر يشبّه ليلاه بالظبية وهذا وجه متداول في التشبيه لكنّه بعد أن خبله الحبّ بات عاجزا عن تمييز ليلاه عن الظباء فيسألها هل ليلى منكن؟ أم هي من البشر؟ ترى هذا السؤال عن الحقيقة المجهولة أو المتجاهلة؟ أليس المقصود من السؤال إظهار جموح الحبّ الذي ذهب ببصره وبصيرته فبات غير قادر على التمييز بين الظبية الحقيقية والظبية الموهومة؟

وهناك مظاهر أخرى يمكن شرحها والتعرّف إلى أسرارها قياسا على ما حلّلناه لك من أمثلة وشواهد.

٨٦

تمرينات :

١ ـ اشرح ظاهرة تجاهل العارف مبيّنا الغرض منها فيما يأتي :

ألمع برق سرى أم ضوء مصباح

أم ابتسامتها بالمنظر الضاحي؟

أيا شبه ليلى ما لليلى مريضة

وأنت صحيح إنّ ذا لمحال

أقول لظبي مرّ بي وهو رائع

أأنت أخو ليلى؟ فقال : يقال

أثغر ما أرى أم أقحوان

وقدّ ما بدا أم خيزران؟

وطرف ما تقلّب أم حسام

ولفظ ما تساقط أم جمان؟

وشوق ما أكابد أم حريق

وليل ما أقاسي أم زمان؟

أريقك أم ماء الغمامة أم خمر؟

أغرّة إسماعيل أم سنّة البدر

وفيض ندى كفّيه ام باكر القطر؟؟

٨٧

اللفّ والنشر

سمّاه بعضهم «الطيّ والنشر».

١ ـ تعريفه :

جاء في الإيضاح (١) «هو ذكر متعدّد على جهة التفصيل أو الإجمال ، ثم ذكر ما لكلّ واحد من غير تعيين ، ثقة بأنّ السامع يردّه إليه».

٢ ـ أنواعه :

أ ـ أن يكون النّشر فيه على ترتيب الطيّ

، نحو قوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) القصص : ٧٣.

فلقد جمعت الآية بين الليل والنّهار فكان الطيّ أو اللّف ، ثمّ جاء النّشر على ترتيب اللّف ، فالأوّل من المتعدّد في اللفّ هو الليل ، والأول من النشر للأول من المتعدد ، في اللف وهو السكون لأن النوم والراحة يكونان في الليل ، ثم كان الثاني للثاني فالنّهار في اللف تبعه ابتغاء الرزق والسعي في الكسب في النهار.

ومنه قول ابن حيّوس (الكامل) :

فعل المدام ، ولونها ، ومذاقها

في مقلتيه ، ووجنتيه ، وريقه

ذكر ابن حيّوس في الصّدر ثلاثة أمور هي : فعل المدام ، ولونها ، ومذاقها ، ثم جاء في العجز بتفصيل لهذه الأمور الثلاثة على

__________________

(١). الإيضاح في علوم البلاغة ، الخطيب القزويني ، ص ٥٠٣.

٨٨

الترتيب : ففعل المدام في مقلتيه ، ولونها في وجنتيه (خدّيه) ، ومذاقها (طعمها) في ريقه. وهكذا كان اللّف في صدر البيت ، ثم جاء النشر في العجز على الترتيب أوّلا بأوّل.

ب ـ أن يكون النّشر على خلاف ترتيب الطيّ

، ومثاله قوله تعالى : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ* فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) آل عمران : ١٤٧ ـ ١٤٨.

فالآية تذكر دعاء المؤمنين على سبيل التفصيل ثم ذكرت الإجابة من غير ترتيب ، فقدّمت ثواب الدنيا مع تأخره في الدعاء لما كان المقام مقام القتال والنفوس متطلّعة إلى النصر ، وخصّصت ثواب الآخرة ـ دون ثواب الدنيا بالحسن للإيذان بفضله ومزيته ، وأنّه المعتدّ به عند الله.

ومنه قول ابن حيّوس (الخفيف) :

كيف أسلو ، وأنت حقف وغصن

وغزال لحظا وقدّا وردفا

يتساءل الشاعر قائلا : كيف أنسى وتطيب نفسي بالسلوان وأنت حقف (نقا رمل متراكم مستدير يشبّه به الكفل في العظم والاستدارة) وغصن وغزال؟ فهذا هو الطيّ ، ثم جاء النّشر بعد ذلك على غير ترتيب. فاللحظ للغزال والغزال آخر في الطيّ واللحظ أوّل في النشر ، ثم جاء القدّ ، والقدّ ثان في النشر وثان في الطيّ لأنه شبّه القدّ بالغصن ، والجزء الثالث من النشر كان الرّدف وقد شبّهه بالحقف والحقف جاء أوّلا في الطيّ وهكذا جاء النّشر على غير ترتيب الطيّ.

٨٩

تمارين :

١ ـ بيّن وجوه الطيّ والنشر في ما يأتي :

١ ـ آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم

في الحادثات إذا دجون نجوم

فيها معالم للهدى ومصابح

تجلو الدّجى والأخريات رجوم

٢ ـ سألته عن قومه فانثنى

يعجب من إسراف دمعي السّخي

وأبصر المسك وبدر الدّجى

فقال : ذا خالي ، وهذا أخي

٣ ـ ولمّا أبى الواشون إلا فراقنا

وما لهمو عندي وعندك من ثار

غزونا همو من ناظريك وأدمعي

وأنفاسنا بالسيف والسيّل والنّار

٤ ـ ثغر وخدّ ونهد واحمرار يد

كالطّلع والورد والرمّان والبلح

٥ ـ لقد خنت قوما لو لجأت إليهم

طريد دم ، أو حاملا ثقل مغرم

لألفيت فيهم معطيا أو مطاعنا

وراءك شزرا بالوشيج المقوّم

٦ ـ عيون وأصداغ وفرع وقامة

وخال ووجنات وفرق ومرشف

سيوف وريحان وليل وبانة

ومسك وياقوت وصبح وقرقف

٧ ـ ولحظه ومحيّاه وقامته

بدر الدّجا وقضيب البان والرّاح

٨ ـ ولا يقيم على ضيم يراد به

إلّا الأذلّان غير الحيّ والوتد

هذا على الخسف مربوط برمّته

وذا يشجّ فلا يرثي له أحد

* * *

٥ ـ طريد دم : مطارد مطلوب لثأر. المغرم : الدّين. شزرا من شزر بمعنى طعن عن يمينه وعن شماله. الوشيج : شجر الرّماح. المقوّم : المستقيم لا عوج فيه.

٦ ـ أصداغ : جمع مفرد صدغ وهو ما بين العين والأذن. الفرع : الشعر. مرشف : الفم والرّيق. قرقف : خمر مرعدة.

٧ ـ المحيّا : الوجه.

٩٠

ثالثا : مراعاة النظير

١ ـ أسماؤها :

من أسمائها الواردة في كتب البلاغة : التناسب والائتلاف والتوفيق والمؤاخاة.

٢ ـ تعريفها :

جاء في الإيضاح (١) : «هي أن يجمع في الكلام بين أمر وما يناسبه لا بالتّضاد نحو : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) الرحمن : ٥» فجمع في الآية بين الشمس والقمر وهما متناسبان لتقارنهما في الخيال ، وكونهما كوكبين سماويين. وكقول البحتري يصف إبلا هزيلة :

كالقسيّ المعطّفات بل الأس ـ

هم مبريّة بل الأوتار

شبّهها بالقسيّ والأوتار والأسهم ، لما بينها من المناسبة والائتلاف. فقد شبّه الإبل أوّلا في ضعفها بالقسيّ ، ثم ذهب إلى ما هو أدق منها وهو السّهام ، ثم ذهب إلى ما هو أدقّ وهو الأوتار.

ومنه قول ابن رشيق (٢) :

أصحّ وأقوى ما سمعناه في النّدى

من الخبر المأثور منذ قديم

أحاديث ترويها السّيول عن الحيا

عن البحر ، عن كفّ الأمير تميم

__________________

(١). الإيضاح في علوم البلاغة ، الخطيب القزويني ، ص ٤٨٨.

(٢). ديوان ابن رشيق القيرواني ، شرح د. محي الدين ديب ، ص ١٩٢.

٩١

فإنه ناسب فيه بين الصحّة ، والقوّة ، والسّماع ، والخبر المأثور ، والأحاديث والرواية ، ثم بين السيل ، والحيا ، والبحر ، وكفّ تميم ، مع ما في البيت الثاني من صحّة الترتيب في العنعنة ، إذ جعل الرواية لصاغر عن كابر ، فإن السيول أصلها المطر ، والمطر أصله البحر ، ولهذا جعل كفّ الممدوح أصلا للبحر مبالغة.

٣ ـ من مظاهرها :

١ ـ تشابه الأطراف : وهو أن يختم الكلام بما يناسب أوله في المعنى ، نحو (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الأنعام : ١٠٣. فإن اللطف يناسب ما لا يدرك بالبصر ، والخبرة تناسب من يدرك شيئا ، فإن من يدرك شيئا يكون خبيرا به.

تمارين :

١ ـ دلّ على مراعاة النظير واشرح معانيها في ما يأتي :

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) البقرة : ١٦.

(وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) الرحمن : ٦.

كأن الثريا علّقت في جبينها

وفي نحرها الشّعري وفي خدّها القمر

والطلّ في سلك الغصون كلؤلؤ

رطب يصافحه النّسيم فيسقط

والطير يقرأ والغدير صحيفة

والريح تكتب والغمام ينقّط

ضممت جناحيهم على القلب ضمّة

تموت الخوافي تحتها والقوادم

٩٢

رابعا : تأكيد المدح بما يشبه الذّم

١ ـ مكتشفه :

أوّل من اهتدى إلى هذا الضرب من البديع عبد الله بن المعتز (١) وأعطى عليه مثالين هما :

١ ـ قول النابغة الذبياني (الطويل) :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

٢ ـ قول النابغة الجعدي (الطويل) :

فتى كملت أخلاقه غير أنه

جواد فما يبقي من المال باقيا

وقد سمّاه أبو هلال العسكري (٢) ب (الاستثناء) :

غير أن تسمية ابن المعتز هي التي شاعت في ما بعد لأنّها أكثر انسجاما مع المعنى.

٢ ـ نوعاه :

أ ـ أن يستثنى من صفة ذمّ منفيّة عن الشيء صفة مدح بتقدير دخولها فيها ، نحو قول ابن الرومي (السريع) :

ليس به عيب سوى أنّه

لا تقع العين على شبهه

__________________

(١). البديع ، ابن المعتز ، طبعة دار المسيرة ، ص ٦٢.

(٢). كتاب الصناعتين ، أبو هلال العسكري ، ص ٤٢٤.

٩٣

بدأ ابن الرومي مدحه بأن نفى كلّ عيب عن الممدوح عند ما قال «ليس به عيب» ، ولكنه أتبع هذا المدح بلفظ الاستثناء (سوى) ، فأوهم السامع أنه تراجع عن تبرئة الممدوح من كل عيب ، وأنّه سيكاشفه بعيب اكتشفه فوجب ذكره. غير أن ابن الرومي خدع سامعه حين أورد بعد الاستثناء مدحا يفوق المدح الأول ، ويؤكده حين قال : «لا تقع العين على شبهه» فهو مبرّأ من كل عيب ، ولن ترى العين شبيها له في كماله.

ب ـ أن يثبت لشيء صفة مدح ، ويعقب بأداة استثناء تليها صفة مدح أخرى ، نحو ، قول النابغة الجعدي (الطويل) :

فتى كملت أخلاقه غير أنّه

جواد فما يبقي على المال باقيا

فالشاعر بدأ بيته بصفة ممدوحة هي «كمال أخلاق الفتى» ، ولكنّه أتى بعدها بلفظ الاستثناء (غير) ، فدهش السامع وتوقّع أن يذكر الشاعر ما يناقض الكمال الذي استهلّ البيت بذكره. لكنّ الشاعر لم يفعل ذلك ، بل أتى بعد الاستثناء بصفة ممدوحة أخرى ، وهي «جواد» وفصّلها بقوله : فما يبقي على المال باقيا. وفي ذلك توكيد للمدح الأوّل.

٩٤

تأكيد الذّم بما يشبه المدح

هو أسلوب شبيه بالأسلوب السابق. وهو نوعان :

أ ـ أن يستثنى من صفة مدح منفية عن الشيء صفة ذمّ بتقدير دخولها فيها ، نحو : فلان لا خير فيه إلّا أنه يسيء إلى من يحسن إليه.

فصفة المدح (خير) في فلان منفيّة ب (لا) ، وقد استثني من هذه الصفة الممدوحة المنفيّة صفة ذم (الإساءة إلى من يحسن إليه) وهي داخلة في الصفة المنفية.

ب ـ أن يثبت للشيء صفة ذم ، ثم يؤتى بعدها بأداة استثناء تليها صفة ذم أخرى له ، نحو : فلان فاسق إلّا أنّه جاهل.

فصفة الذم (فاسق) مثبتة غير منفيّة أتي بعدها بأداة الاستثناء (إلّا) ثم تليت أداة الاستثناء بصفة ذم أخرى هي (جاهل).

تمارين

١ ـ اشرح ما في الأمثلة الآتية من تأكيد المدح بما يشبه الذّم ، وبيّن ضربه :

١ ـ ولا عيب فيه غير أنّي قصدته

فأنستني الأيّام أهلا وموطنا

٢ ـ وجوه كأزهار الرّياض نضارة

ولكنّها يوم الهياج صخور

٣ ـ ولا عيب فيكم غير أن ضيوفكم

تعاب بنسيان الأحبّة والوطن

٤ ـ ولا عيب في معروفهم غير أنّه

يبيّن عجز الشاكرين عن الشّكر

٥ ـ ولا عيب فيه لا مرئ غير أنّه

تعاب له الدنيا وليس يعاب

٦ ـ فما فيه عيب غير أنّ جفونه

مراض وأنّ الخصر منه ضعيف

٧ ـ ولا عيب فيهم ظاهر غير أنّني

حسبتهم ـ لمّا نزلت بهم ـ أهلي

٩٥

٨ ـ ولا عيب في هذا الرّشا غير أنّه

له معطف لدن وخدّ منعّم

٩ ـ ولا عيب فيها غير سحر جفونها

وأحبب بها سحّارة حين تسحر

١٠ ـ هو البدر إلّا أنّه البحر زاخرا

سوى أنّه الضّرغام لكنّه وبل

٢ ـ اشرح ما في الأمثلة الآتية من تأكيد الذم بما يشبه المدح ، وبيّن ضربه :

١ ـ فلان لا أمل فيه إلّا أنّه يضرّ بمن أدّى إليه نفعا

٢ ـ فلان ما جن إلّا أنّه ساذج

٣ ـ هو الكلب ، إلّا أنّ فيه ملالة

وسوء مراعاة وما ذاك في الكلب

٤ ـ خلا من الفضل غير أنّي

أراه في الحمق لا يجارى

٥ ـ لئيم الطّباع سوى أنّه

جبان يهون عليه الهوان

٦ ـ فإنّ من لا مني لا خير فيه سوى

وصفي له بأخسّ الناس كلّهم

٩٦

حسن التعليل

١ ـ تعريفه :

هو في معجم المصطلحات (١) «أن يتلمّس الأديب للشيء أو للظاهرة علّة أدبية طريفة تناسب الغرض الذي يرمي إليه بدلا من علّته أو علّتها الحقيقية ، وذلك كقول ابن الرومي (البسيط) :

أمّا ذكاء فلم تصفرّ إذ جنحت

إلّا لفرقة ذاك المنظر الحسن

فالعلّة الأدبية التي تلمّسها ابن الرومي لاصفرار الشمس عند ميلها للغروب الخوف من فراق وجه الممدوح لا السبب العلمي المعروف من دوران الأرض حول محورها».

والطّريف في حسن التعليل أنّ المبدع ـ كاتبا أو شاعرا ـ ينكر صراحة أو ضمنا علّة الشيء المعروفة والشائعة عند الناس ليأتي بعلّة يرتئيها وتناسب الغرض الذي يرمي إليه. وفي حسن التعليل تظهر قدرة الكاتب على اختراع المعاني ، وابتداع الصّور التي لم يسبق إليها. وأكثر ما يكون تعليله صادما لأنه يخالف المألوف ويأتي بالجديد المقنع الذي لا يوافق العرف العامّ ولكنّه لا يرفض لطرافته ودقّة نظر صاحبه.

٢ ـ أقسامه :

ذهب الخطيب القزويني إلى أنه (٢) «أربعة أقسام ، لأنّ الوصف إمّا ثابت قصد به بيان علّته ، أو غير ثابت أريد إثباته ، والأوّل إمّا أن لا

__________________

(١). معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ، وهبة ـ المهندس ، ص ٨٤.

(٢). الإيضاح في علوم البلاغة ، الخطيب القزويني ، ص ٥١٨.

٩٧

يظهر له في العادة علّة ، أو يظهر له علّة غير المذكورة ، والثاني إمّا ممكن ، أو غير ممكن».

١ ـ القسم الأول : وصف ثابت غير ظاهر العلة ، مثاله قول المتنبّي (الكامل) :

لم يحك نائلك السّحاب وإنما

حمّت به فصبيبها الرّحضاء

«فنزول المطر لا يظهر له في العادة علّة» كما يقول القزويني (١).

ومنه أيضا قول أبي تمام (الكامل) :

لا تنكري عطل الكريم من الغنى

فالسّيل حرب للمكان العالي

علّل أبو تمّام عدم إصابة الغنى الكريم بتشبيه غير ظاهر العلّة عادة ؛ فالسّيل لا يصيب المكان العالي ، والغنى لا يصيب الكريم ، ووجه الشبه يكمن في أن الكريم عالي القدر كالمكان العالي ، والغنى لحاجة الناس إليه يتدفّق كالسيل الجارف من القمم فلا يحبس مياها كما لا يحبس الغني مالا. وإذا فتّشنا عن علّة خلوّ الكريم من المال ما وجدنا علّة ظاهرة لذلك ظاهرة في البيت ، وكذلك لا نجد علّة ظاهرة لعدم احتفاظ المرتفعات بمياهها.

ومن طريف الأمثلة على هذا الضرب قول أبي هلال العسكري (الكامل) :

زعم البنفسج أنّه كعذاره

حسنا فسلّوا من قفاه لسانه

__________________

(١). الإيضاح في علوم البلاغة ، الخطيب القزويني ، ص ٥١٨.

٩٨

إن خروج ورقة البنفسج إلى الخلف وصف ثابت في زهرة البنفسج ، وهذا الخروج لا علّة له لأنه هكذا خلق منذ عرف البنفسج ، لكنّ الشاعر التمس له عذرا طريفا هو الافتراء على المحبوب.

٢ ـ القسم الثاني : وصف ثابت ظاهر العلّة :

مثاله قول المتنبّي (الرّمل) :

ما به قتل أعاديه ، ولكن

يتّقي إخلاف ما ترجو الذئاب

اعتاد الناس أن يعلّلوا قتل الملوك والسلاطين لأعدائهم بنشدانهم صفاء الجوّ وعدم تعكير الأمن بالثورة أو التمرّد أو ما يشبه ذلك ، ولكن الشاعر فاجأهم بتعليل آخر غريب وغير متوقع تمثّل في خوف الملك والسلطان على الذئاب الضارية التي ترتقب أكل جثث القتلى المتساقطة تحت ضربات الملك فيوفّر لها طعامها ، ويخاف الملك أو السلطان أن يخيّب رجاءها لذلك فهو شديد الفتك بالأعداء لا كرها بهم أو خوفا منهم على ملكه لكن رغبة في توفير طعام للكواسر التي لا يريد إصابتها بخيبة أو صدمة وهي التي عودّها على توفير غذائها كلّما جرّد للعدو سلاحا.

ومنه قول أحدهم (المتقارب) :

أتتني تؤنّبني بالبكا

فأهلا بها وبتأنيبها

تقول ـ وفي قولها حشمة ـ

أتبكي بعين تراني بها؟!

فقلت : إذا استحسنت غيركم

أمرت الدموع بتأديبها

تسكب العين دمعها عادة من حزن يسببه إعراض الحبيب وهجرانه ، وفقدان عزيز وما إلى ذلك من أسباب الاكتئاب ، لكن الشاعر ابتكر علّة طريفة غير متوقّعة لتهطال الدمع تمثّلت في إرادة تأديب عينه

٩٩

لأنّها استحسنت رؤية غير الحبيب فكان الدمع قصاصا لها. وفي هذا التعليل خيال لافت وذكاء خارق ومخالفة للمألوف يجنح إليه الفن وينفرد به الفنّان الأصيل الذي يسعى للخروج على المماثلة والمشاكلة ويجنح للفرادة والتميّز.

الثالث : وصف غير ثابت : وهذا الوصف يجوز أن يكون ممكنا كما يجوز ان يكون غير ممكن.

١ ـ الوصف غير الثابت الممكن ، ومثاله ، قول مسلم بن الوليد (البسيط) :

يا واشيا حسنت فينا إساءته

نجّى حذارك إنساني من الغرق

خالف الشاعر المألوف في معنى ذهب إليه وهو حسن إساءة الواشي.

وأن يستحسن المرء وشاية الواشي أمر ممكن ، ولكنّه خالف الناس في استحسانه هذا فاضطر إلى تبرير الاستحسان قائلا : إن حذار الواشي منعه من البكاء لكي لا يشمت به وإلا فإن البكاء كان قد أغرق إنسان عينه بالدمع (الإنسان : البؤبؤ).

٢ ـ وصف غير ثابت وغير ممكن كقول القزويني (البسيط) :

لو لم تكن نيّة الجوزاء خدمته

لما رأيت عليها عقد منتطق

ذهب الشاعر إلى أن الجوزاء تريد خدمة الممدوح ، وهذه صفة غير ثابتة وغير ممكنة أيضا لا بل هي ممتنعة ، ولكنّه علّلها بعلّة طريفة ادّعاها خيال مقبول عند ما تخيّل النجوم تحيط بالجوزاء فتشكّل حولها

١٠٠