علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )

الدكتور محمّد أحمد قاسم والدكتور محيي الدين ديب

علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )

المؤلف:

الدكتور محمّد أحمد قاسم والدكتور محيي الدين ديب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الحديثة للكتاب
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

١
٢

٣
٤

مقدّمة

علوم البلاغة ثلاثة من علوم العربية تتداخل معها وتتكامل ؛ إذ من شروط البلاغة «توخّي الدّقة في انتقاء الكلمات والأساليب على حسب مواطن الكلام ومواقعه وموضوعات من يكتب لهم أو يلقى إليهم» ومردّ البلاغة عموما إلى الذّوق. وتعنى الفصاحة بالمفرد عنايتها بالتركيب ، لهذا روعيت قواعد الصرف والنحو والصوّت في سلامة النطق ، وخلوّ المفرد من تنافر الحروف ، وبعده عن الحوشيّة والغرابة ومخالفة القياس اللغوي. وكان من شروط فصاحة المركّب سلامته من ضعف التأليف ، ومن التعقيد اللفظي والمعنوي ، بهذا كلّه عدّت البلاغة أكمل علوم اللغة وأغناها وأدقّها فائدة.

نشأت هذه العلوم لخدمة النصّ القرآني المعجز الذي كان ـ ولا يزال ـ شغل الدارسين الشاغل ؛ فهو النصّ الذي تحدّى بلاغة القوم فاحتاج إلى دراسات تشرح إعجازه ، وتبيّن مجازه ، وتجلو حقيقته وكناياته ولطيف إشاراته. من هنا هذا الكمّ من الكتب البلاغية التي تناولت النصّ الشريف ككتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة ، ومعاني القرآن للفرّاء ، وكتاب تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ، وكتاب النكت في إعجاز القرآن للرمّاني ، وكتاب بيان إعجاز القرآن للخطّابي ، وكتاب إعجاز القرآن للباقلّاني ، وآخر بالعنوان نفسه للقاضي عبد الجبّار ، وصولا إلى كتاب دلائل الإعجاز للجرجاني. هكذا شغل القرآن الكريم الدارسين. ولهذا جعل أبو هلال العسكري تعلّم البلاغة فرضا على من يريد التعرّف إلى بلاغة القرآن وإعجازه ، وذهب إلى القول : «إن أحق العلوم بالتعلم ، وأولاها بالتحفظ ـ بعد المعرفة بالله جل ثناؤه ـ علم البلاغة ، ومعرفة الفصاحة ، الذي به يعرف إعجاز كتاب الله».

٥

من علوم البلاغة تتشكّل الصورة الفنّية في الشعر كما في النّثر. لهذا كانت البلاغة زاد الناقد في عملية تفكيك النّصوص بحثا عن جماليّة الصورة وعناصر التخييل. والخطبة كالقصيدة لا تخلو من الصور الجمالية ، يلجأ صاحبها إلى التحسين والتزيين شأن الشاعر الذي ينفر من المباشرة ويفزع إلى التشكيل الجميل.

من أجل هذا التكامل سلكنا في كتابنا هذا مسلكا خاصا ؛ فقدّمنا مادّته من باب النقد ، ولم نجعل التقعيد هدفا أسمى ، بل سعينا إلى توظيف القاعدة في الكشف عن أسرار الصورة ، وتبيّن عناصرها ، وكشف جماليّتها لتقوية الذائقة الفنّية والنقدية عند المتلقّي. فالقاعدة لم تعد جسدا بلا روح بل جعلتها الأمثلة المشروحة جسما نابضا فاعلا من طريق الاستقراء الذي يعمل على جلاء اللعبة الفنّية التي اعتمدها المبدع.

لهذا كلّه تميّز الكتاب بجملة من المزايا والصفات ، نذكر منها :

أ. عنايته بالجانب التراثي من علوم البلاغة إذ لا يجوز أن يبقى الدرس البلاغي بمنأى عن جهود الروّاد الأوائل ، وأن تبقى مصنّفاتهم مغيّبة عن أجيالنا.

ب. تأمين التواصل بين التراث والدراسات اللسانية الحديثة التي انتحت منحى جديدا في الكشف عن أسرار الصور البلاغية ، فعمدنا إلى الاستفادة من هذه الدراسات بالقدر الذي يغني ولا يعقّد.

ج. احتفاله بالمصطلح البلاغي ، إذ توقّف باستمرار عند حدّه اللغوي القاموسي فالاصطلاحي وربط بين الدلالتين محدّثا التحليل والتعليل معصرنا الدرس البلاغي.

د. وفرة شواهده المنتقاة بدقّة لتكون مختلفة مبنى ومعنى ، ولنقع على ما يأسر الأسماع ، ويخلب القلوب ، ويحبّب بالدرس البلاغي. هذه الشواهد هي في الأساس أسّ الدراسة ومفتاحها. لقد حرصنا على تكثيفها لأنّ الشاهد البلاغي كالشاهد النحوي منطلق الدراسة. وكم

٦

حاولنا جاهدين ألّا نكتفي بالشواهد التقليدية المستهلكة المبثوثة والمكرورة في معظم كتب البلاغة ، إذا لم تكن فيها كلّها حتى باتت كمّا تراكميا يشبه أيّ منها الآخر إن لم يكن نسخة طبق الأصل عنه.

هذه الشواهد فيها من القديم المتداول والجديد المتفرّد في بابه. وكانت النصوص في التمرينات آيات قرآنية أوّلا وأبياتا شعرية ثانيا. وكان تكثيفها هادفا إلى التطبيق المتكامل الذي يتناول الكلّي كما الجزئي من القاعدة. امتزج فيها التّليد بالطارف محاولين ـ قدر المستطاع ـ أن تكون نصوصا متماسكة ما وسعنا إلى ذلك.

ه. تنمية الحسّ البلاغي والنّقدي من طريق وضع علوم البلاغة في خدمة النّص وكشف جمالية الصورة ، لننسخ من أذهان الناس آليّة التمرينات البلاغية التي تكتفي بالتطبيق الجافّ وتهمل تأثير التركيب في جمالية الصورة. لهذا أولينا التحليل عنايتنا الفائقة وكشفنا عن نقاب المعاني ، ودرّبنا القارئ على ولوج الصورة من باب الجمالية لا من باب القاعدة الجوفاء والتطبيق المتسرّع.

و. جمعه التطبيق إلى التنظير والتكافؤ ما بين النظري والعملي من حيث الأهمية والفائدة.

ز. التّخفّف من الفهارس التي تضخّم الكتاب من غير فائدة تذكر ، والاكتفاء بفهرس المصادر والمراجع ، وفهرس المحتويات.

وفي الختام ، نرجو أن نكون قد قدّمنا فائدة تذكر لأجيالنا وأبناء لغتنا التي شرّفها الله تعالى عندما حمّلها وحيه إلى نبيّه المصطفى ، وإنّنا نشهده على اجتهادنا الصادق في الحصول على الأجرين ، ولكنّننا راضون بالأجر الواحد. إنّه نعم المولى ونعم النصير.

طرابلس في ٢ / ٣ / ٢٠٠٣

المؤلفان

٧

١ ـ البلاغة في اللغة والاصطلاح :

١ ـ ١ ـ البلاغة لغة :

جاء في اللسان (بلغ) : «بلغ الشيء يبلغ بلوغا وبلاغا : وصل وانتهى ، ... وبلغت المكان بلوغا : وصلت إليه ، وكذلك إذا شارفت عليه ، ومنه قوله تعالى (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) البقرة : ٢٣٤ أي : قاربنه. وبلغ النّبت : انتهى.» وهكذا نرى أن الدلالة اللغوية تتمحور حول الوصول ، أو مقاربة الوصول ، والانتهاء إلى الشيء والإفضاء إليه.

وإذا عدنا إلى اللسان (بلغ) ، وجدناه يقارب المعنى الاصطلاحي عند ما يقول : «والبلاغة : الفصاحة ... ورجل بليغ وبلغ وبلغ : حسن الكلام فصيحه يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه ، والجمع بلغاء ، وقد بلغ بلاغة أي : صار بليغا» وهكذا نرى أن المعنى الإضافي (حسن الكلام) مرتبط بالمعنى الحقيقي (الوصول والانتهاء) لأنّ الكلام الحسن يوصّل ما في قلب المتكلم إلى المتلقّي بعبارة لسانه المشرقة الواضحة.

١ ـ ٢ ـ البلاغة اصطلاحا :

جاء في معجم المصطلحات العربية (١) «هي مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى الحال ، فلا بدّ فيها من التفكير في المعاني الصادقة القيّمة القوية المبتكرة منسّقة حسنة الترتيب ، مع توخّي الدقّة في انتقاء الكلمات والأساليب على حسب مواطن الكلام ومواقعه وموضوعاته وحال من يكتب لهم أو يلقى إليهم».

__________________

(١). معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ، مجدي وهبه ـ كامل المهندس ، مكتبة لبنان ، ص ٤٥.

٨

لم يكتف المعجم بتعريف البلاغة ، بل تعدّاه إلى شروط تحققها في الشكل والمضمون لتكون آسرة لعقل المخاطبين ، فاعلة في قلوبهم ، شاملة للمواقف الكلامية التي يقفها المتكلّمون. وأضاف معجم المصطلحات العربية إلى الشروط المتقدم ذكرها شرطا أهم بقوله «والذّوق وحده هو العمدة في الحكم على بلاغة الكلام» وهذا يعني أن تباين الأذواق يجعل الحكم على بلاغة الكلام أمرا نسبيا ، وتصبح البلاغة بلاغات.

١ ـ ٣ ـ حدّ البلاغة في كتب التراث :

روى الجاحظ تعريفات القدامى من شعراء وكتّاب عندما سئلوا عن مفهوم البلاغة. ومن هذه التعريفات نذكر ما يأتي :

١ ـ ٣ ـ ١ ـ تفسير ابن المقفّع (ت ١٤٣ ه‍):

وجاء فيه (١) «البلاغة : اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة ؛ فمنها ما يكون في السكوت ، ومنها ما يكون في الاستماع ، ومنها ما يكون في الإشارة ، ومنها ما يكون في الاحتجاج ، ومنها ما يكون جوابا ، ومنها ما يكون ابتداء ، ومنها ما يكون شعرا ، ومنها ما يكون سجعا وخطبا ، ومنها ما يكون رسائل. فعامّة ما يكون من هذه الأبواب الوحي فيها ، والإشارة إلى المعنى ، والإيجاز ، هو البلاغة».

لقد أحسن الجاحظ عند ما ذكر تفسير ابن المقفّع مستبعدا مصطلحي : الحدّ والتعريف ؛ لأن ابن المقفع اكتفى بتقديم صفات البلاغة المتمثّلة في الإيجاز ومراعاة المقام. ولكن من حقّنا أن نتساءل عن علاقة السكوت والاستماع بالبلاغة. فبأي معيار نقيس بلاغة

__________________

(١). الجاحظ ، البيان والتبيين ، تحق عبد السلام هارون ١ / ١١٥ ـ ١١٦.

٩

الصّمت؟ وإذا كان الصمت أبلغ من الكلام في بعض المواقف المؤثرة حزنا أو فرحا ، فهل يصحّ أن يسمّى العجز عن الإبلاغ عمّا يعتمل في النفس بلاغة؟ ألا يحقّ لنا أن نسمّي الصمت آنئذ حسن تخلص ارتباطه بالبلاغة واه لأن في الصمت مساواة بين البليغ وغيره. فهل يجوز أن يستوي في عين البلاغة الأبكم والفصيح؟

١ ـ ٣ ـ ٢ ـ مفهوم (العتّابي ت ٢٢٠ ه‍) للبلاغة :

روى الجاحظ عن صديق له سأل العتّابي قائلا (١) : «ما البلاغة؟ قال : كلّ من أفهمك حاجته من غير إعادة ، ولا حبسة ، ولا استعانة فهو بليغ»

لقد اخترنا عمدا لفظ (مفهوم) لأننا رأينا أن العتّابي لم يعرّف البلاغة بقدر ما أعطى صفات البليغ. ألا يرى القارئ أن العتّابي سئل عن البلاغة فأجاب معرفا البليغ من المتكلّمين المبرّأ من العيّ والحبسة وفساد القول؟

ونترك للجاحظ نفسه شرح كلام العتّابي الذي جاء فيه (٢) : «والعتّابي حين زعم أن كل من أفهمك حاجته فهو بليغ لم يعن أن كل من أفهمنا من معاشر المولّدين والبلديين قصده ومعناه ، بالكلام الملحون ، والمعدول عن جهته ، والمصروف عن حقه ، أنه محكوم له بالبلاغة كيف كان بعد أن نكون قد فهمنا عنه» وكأن الجاحظ يقيّد الإفهام بالكلام الجاري على أنماط كلام الفصحاء من العرب.

__________________

(١). الجاحظ ، البيان والتبيين ١ / ١١٣.

(٢). الجاحظ ، البيان والتبيين ١ / ١٦١.

١٠

١ ـ ٣ ـ ٣ ـ حدّ البلاغة عند الرّماني (ت ٣٨٦ ه‍):

قال الرّماني (١) «البلاغة : إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ» فالبلاغة تعني توصيل المعنى وتمكينه في قلوب المتلقين من طريق إلباسه الصورة الجميلة من اللفظ الذي يفتن الألباب.

وهكذا نرى أن المصطلح تطوّر في هذ التعريف ليكتسب خصوصية لم يكتسبها سابقا. فلم تعد البلاغة بأوصافها ، بل أخذت تحديدا واضحا ودقيقا بقي متداولا في كتب اللاحقين ، يضيفون عليه ولكنّهم حافظوا على كنهه وفحواه.

١ ـ ٣ ـ ٤ ـ أبو هلال العسكري (ت ٣٩٥ ه‍) يتوسّع في تعريفها :

استعان العسكري بالدلالة اللغوية لفهم مصطلح البلاغة عند ما ذكر سبب التسمية قائلا : «سميّت البلاغة بلاغة لأنها تنهي المعنى إلى قلب السامع فيفهمه» (٢) ورأى أنها (٣) «من صفة الكلام لا من صفة المتكلّم ... وتسميتنا المتكلّم بأنه بليغ توسّع. وحقيقته أن كلامه بليغ».

وبعد توضيح الفصاحة معجميا ذهب إلى أن (٤) «الفصاحة والبلاغة ترجعان إلى معنى واحد وإن اختلف أصلاهما ؛ لأن كل واحد منهما إنما هو الإبانة عن المعنى والإظهار له» ويستهل الفصل الثاني من الصناعتين بتعريف واف للبلاغة جاء فيه «البلاغة كل ما تبلّغ به المعنى قلب السامع ، فتمكّنه في نفسه كتمكّنه في نفسك مع صورة مقبولة ومعرض حسن».

__________________

(١). الرّماني ، النكت في اعجاز القرآن (ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ، تحق : محمد خلف الله أحمد ومحمد زغلول عبد السلام ، دار المعارف ط / ٣ ص ٧٥ ـ ٧٦).

(٢). العسكري ، كتاب الصناعتين ، تحق البجّاوي ـ ابراهيم ، ص ١٢.

(٣). م. ن. ص ١٢.

(٤). م. ن. ص ١٣.

١١

وقد وجدنا في شرح هذا التعريف ما يمكن عدّه ردّا على تعريف ابن المقفّع. قال العسكري (١) «ومن قال : إن البلاغة إنما هي إفهام المعنى فقط ، فقد جعل الفصاحة واللكنة والخطأ والصواب والإغلاق والإبانة سواء».

وإذا كان العسكري قد وقف الفصل الثاني لتعريفه الشخصي للبلاغة ، فإنه قد جعل الفصل الثالث لتفسير ما جاء عن الحكماء والعلماء في حدود البلاغة. ثم وضع شروط اجتماع آلة البلاغة ، وهي في ظنّه (٢) «جودة القريحة وطلاقة اللسان» ومن تمام آلات البلاغة ما يأتي (٣) :

«التوسّع في معرفة العربية ، ووجوه الاستعمال لها ؛ والعلم بفاخر الألفاظ وساقطها ، ومتخيّرها ، ورديئها ، ومعرفة المقامات ، وما يصلح في كل واحد منها من الكلام» وقد شرح هذا القول بإسهاب فيما بعده من كلام متوقّفا عند الجزئيّات ليبسط فيها القول.

١ ـ ٣ ـ ٥ ـ مفهوم عبد القاهر الجرجاني (ت ٤٧١ ه‍) للبلاغة :

عقد الجرجاني في دلائل الإعجاز فصلا بعنوان (٤) : «في تحقيق القول على البلاغة والفصاحة ، والبيان والبراعة ، وكل ما شاكل ذلك» مبيّنا فيه أن «لا معنى لهذه العبارات وسائر ما يجري مجراها ممّا يفرد فيه اللفظ بالنعت والصفة ، وينسب فيه الفضل والمزيّة إليه دون المعنى غير وصف الكلام بحسن الدّلالة ، وتمامها فيما له كانت دلالة ، ثم تبرّجها في صورة هي أبهى وأزين ، وآنق وأعجب ، وأحقّ بأن تستولي على هوى النفس ، وتنال الحظ الأوفر من ميل القلوب ، وأولى بأن تطلق

__________________

(١). م. س. ص ١٦.

(٢). م. س. ص ٢٦.

(٣). م. س. ص ٢٧.

(٤). الجرجاني ، دلائل الإعجاز ، دار المعرفة ، ص ٣٥.

١٢

لسان الحامد ، وتطيل رغم الحاسد ، ولا جهة لاستعمال هذه الخصال غير أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصحّ لتأديته ، ويختار له اللفظ الذي هو أخص به ، وأكشف عنه ، وأتمّ له ، وأحرى بأن يكسبه نبلا ، ويظهر فيه مزية».

لقد قلنا مفهوم الجرجاني ولم نقل حدّه لأنه أعطى صفات مشتركة لكل من البلاغة والفصاحة والبراعة والبيان أوّلا ، ولأنه لم يحدّد البلاغة تحديدا وافيا ثانيا. فالكلام يجب أن يكون شديد الدلالة على المعنى ، ثم إنه من المستحسن أن يرصف في جملة أنيقة متبرّجة لتأتي فائقة الأناقة تبلغ الأسماع فتطربها بجرسها ، وتأسرها بجمال وسحر ألفاظها. ولتأتي العبارة بهذه الصفات على صاحبها أن يتخيّر اللفظ الذي يؤدي المعنى ولا يقصّر عنه لأن الكلام الذي تقصّر فيه الألفاظ عن تأدية المعاني كاملة وبدقة متناهية ليس كلاما بليغا.

١ ـ ٣ ـ ٦ ـ موقف ابن سنان الخفّاجي (٤٢٢ ـ ٤٦٦ ه‍):

ذهب ابن سنان في كتابه (سرّ الفصاحة) إلى أن القدامى لم يحدّوا البلاغة ، (لم يعرّفوها) لأنهم اكتفوا برصد صفاتها ، وقد تعقب تعريفات السابقين مستبعدا أن تكون محاولاتهم هذه حدودا للبلاغة فشرحها مبيّنا أنها مجرّد صفات وليست حدودا صحيحة في نظره.

ولكن ابن سنان لم يفرق بين الفصاحة والبلاغة ، وذهبت جهوده في ذلك أدراج الرياح ، فبعد أن رأى أن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ ، وأن البلاغة لا تكون إلا وصفا للألفاظ مع المعاني ، فلا يقال عن كلمة مفردة إنها بليغة ، ينتهي إلى تعريف للفصاحة جاء فيه (١) :

__________________

(١) ابن سنان الخفّاجي ، سر الفصاحة ، تحق عبد المتعال الصعيدي ، طبعة صبيح ص ٨٥.

١٣

«الفصاحة : عبارة عن حسن التأليف في الموضوع المختار» وهذا تعريف يليق بالبلاغة أيضا.

١ ـ ٣ ـ ٧ ـ موقف الخطيب القزويني (ت ٧٣٤ ه‍):

أما الخطيب القزويني فقد ذهب في مقدّمة (الإيضاح) إلى أنه لم يجد في أقوال المتقدّمين (١) «ما يصلح لتعريفهما (الفصاحة والبلاغة) به» غير أنّه انتهى بعد أن شرح الفصاحة إلى تعريف بلاغة الكلام بأنها (٢) «مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته» وبعد شرح مسهب لكلام الجرجاني نفهم منه أنّه يتبنّى موقفه من إطلاق الفصاحة والبلاغة على أوصاف راجعة إلى المعاني ، يتحدث عن بلاغة المتكلم التي يحدّها بقوله (٣) : «هي ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ».

__________________

(١). الخطيب القزويني ، الإيضاح في علوم البلاغة ، ص ٧٢.

(٢). م. ن. ص ٨.

(٣). م. ن. ص ٨٣.

١٤

٢ ـ نشأة البلاغة

٢ ـ ١ ـ [علاقة البلاغة بالقرآن]

قال تعالى في محكم آياته (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) الشعراء : ١٩٢

فالقرآن معجزة إلهية نزلت (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) الشعراء : ١٩٥

وجد فيه العرب أسلوبا مغايرا لأساليبهم ، وفصاحة لم يرق إلى مثلها بشر ، وبلاغة لم يوصف بمثلها كلام. تحدّى بلاغة العرب التي كانت موضع فخرهم وزهوهم بقوله تعالى (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) الإسراء : ٨٨

لهذا تمحورت حوله الدراسات لدرس لغته نحوا وصرفا وبلاغة ونقدا ... ورأى الدارسون أن فيه إعجازا يجب التعرّف إلى أصوله ، ومجازا يجب التطرّق إلى حقيقته ، وإيجازا يجب الوقوف على أسراره ؛ فكان هذا البيان الساطع حافزا للدراسات البلاغية التي كان القرآن موضوعها الوحيد. ولم تكن هذه الدراسات مطلبا تعليميا بقدر ما كانت مطلبا دينيا للذود عن حياض الدين وفضح أضاليل خصومه. ولا نغالي ، إن ذهبنا إلى أن القرآن الكريم تسبّب بنشأة علوم البلاغة. وقد نشأت حوله دراسات كثيرة لا حصر لها ولا عدّ. نذكر منها :

٢ ـ ١ ـ ١ ـ مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنّى (ت ٢١٠ ه‍):

استخدم أبو عبيدة لأول مرة لفظ المجاز. وألّف كتابه هذا سنة ١٨٨ ه‍ وكشف فيه عن معاني الألفاظ في سياقها من القرآن الكريم ،

١٥

وبيّن طرائق القرآن في التعبير عن المعاني وما يستحسن قوله في تفسيره. وقد توقف فيه عند وجوه المعنى ، والأوجه الإعرابية فبات شرحا إعرابيا لغويا بلاغيا في آن. ومن الظواهر البلاغية التي تطرق إليها نذكر على سبيل المثال لا الحصر : إيجاز الحذف أو المجاز المرسل بعلاقته المحلية عند ما فسّر قوله تعالى (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) يوسف : ٨٢. وقد سمّى فيه المجاز العقلي بالمجاز اللغوي حيث أسند الفعل إلى غير ما هو له في الظاهر. وعرض لعدد من صور الالتفات ، ولمّح إلى ما يسمّى بالاستعارة التمثيلية. ويبدو أن مجاز أبي عبيدة صار سجلا مفتوحا إذ كتب فيه كل من :

١. قطرب ، محمد بن المستنير (ت ٢٠٦ ه‍) وله : مجازات القرآن.

٢. أبي زكريا الفرّاء (ت ٢٠٧ ه‍) وله : مجاز القرآن.

٣. ثعلب ، أبي العباس أحمد بن يحيى (ت ٢٩١ ه‍) وله : مجاز الكلام وتصاريفه.

وذكر ابن النديم أسماء عشرات الكتب المؤلفة في معاني القرآن ومشكله ومجازه للكسائي ، والأخفش ، والرؤاسي ، ويونس بن حبيب ، وابن الأنباري ، والزجّاج ، وثعلب وغيرهم (١) ، كما ذكر أسماء عشرات الكتب التي ألّفت في غريب القرآن لكلّ من أبي عبيدة ، ومؤرج السدّوسي ، وابن قتيبة ، واليزيدي ، وابن سلّام ، والطبري ، والسجستاني ، والعروضي ، والبلخي ، وابن خالويه (٢).

هذا الفيض من الكتب التي تناولت معاني القرآن ومجازه ساعدت على نشأة البلاغة وتحديد بعض أبوابها.

__________________

(١). ابن النديم ، الفهرست ، ص ٣٧.

(٢). ابن النديم ، الفهرست ، ص ٣٧.

١٦

ومن الدراسات القرآنية التي خاضت في قضايا البلاغة نذكر :

٢ ـ ١ ـ ٢ ـ كتاب معاني القرآن للفرّاء (ت ٢٠٧ ه‍):

هو كتاب في تفسير القرآن وإعراب ما أشكل إعرابه ، وتوجيه الإعراب في خدمة المعاني ، ومن أجل ذلك أشرب تفسيره بكثير من البحوث البلاغية. يمثل الكتاب ذروة النضج عند الفرّاء لأنه أملاه سنة ٢٠٤ ه‍ ، أي قبل وفاته بأعوام.

فلقد تحدّت فيه بشكل خاص عن الحذف الذي قاده إلى الكلام على الإيجاز. وكما قبل الحذف والإيجاز قبل كذلك الزيادة ولو عارض في ذلك موقف المتزمتين الذين ينكرون أيّ زيادة في النص القرآني. وتوقّف عند ضروب التكرار والفائدة الدلالية والبلاغية منه. كما تناول فنّ التعريض في مواضع متفرقة وقد وجد فيه بعدا عن المباشرة ومخاطبة لذكاء المتلقي وفطنته. واستوقفه ما يسمى بالفواصل القرآنية فدرس موسيقاها ونغميّة الإيقاع فيها.

نكتفي بذكر هذه القضايا البلاغية التي عرضها الفرّاء في كتابه لأنها كافية للتدليل على علاقة البلاغة بالدراسات القرآنية.

٢ ـ ١ ـ ٣ ـ كتاب تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة (ت ٢٧٦ ه‍):

تحدّث ابن قتيبة في كتابه هذا عن المجاز ذاهبا إلى أن «للعرب المجازات في الكلام ، ومعناها طرق القول ومآخذه» (١) وذكر من هذه المجازات كلا من الاستعارة ، والتمثيل ، والقلب ، والتقديم ، والتأخير ، والحذف ، والتكرار ، والإخفاء ، والإظهار ، والتعريض ، والإفصاح ، وغيرها من أبواب البلاغة.

__________________

(١) ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن ، ص ٢٠ ، طبعة دار التراث ١٩٧٣ م تحق السيد أحمد صقر.

١٧

لكن الموضوع البلاغي الذي شغله كثيرا هو موضوع المجاز الذي أفرد له بابا مستقلّا أكد فيه إيمانه بوجود المجاز في اللغة أولا وفي القرآن ثانيا ، وعدّد الأمثلة التي تثبت شيوعه في اللغة. وكان بحثه في المجاز توطئة للكلام على الاستعارة جاعلا المجاز المرسل منضويا تحتها وكذلك الأمر بالنسبة إلى الكناية. ورأى أن الالتفات من أساليب البلاغة العربية.

٢ ـ ١ ـ ٤ ـ كتاب النكت في إعجاز القرآن للرّماني (ت ٣٨٤ ه‍):

من أهم موضوعات البلاغة في هذا الكتاب قول المؤلف (١) «والبلاغة على عشرة أقسام : الإيجاز ، والتشبيه ، والاستعارة ، والتلاؤم ، والفواصل ، والتجانس ، والتصريف ، والتضمين ، والمبالغة ، وحسن البيان».

وقد جاء كلامه على هذه الأقسام متفاوتا إذ شغلت الأمثلة والشواهد حيّزا كبيرا من الكلام ، أما التعريفات البلاغية فكانت غاية في الإيجاز.

وفي سياق الحديث عن الإيجاز تطرّق إلى الإطناب والتطويل ، مثنيا على الإطناب لأنه يفصّل المعنى وفقا للمقام. أما التطويل فليس من البلاغة في شيء لأنه تكلف الكثير من الكلام للقليل من المعاني.

وقد ذهب الرماني إلى أن الشعراء يتفاضلون في باب التشبيه ، وهو على كل حال على طبقات من الحسن. كما رأى أن الاستعارة أبلغ من الحقيقة نظرا لأثرها النفسي في المتلقّين. وقد فاضل بين الفواصل والسجع مشيدا بالفواصل لأنّها تابعة للمعاني في حين كانت المعاني تابعة للأسجاع.

__________________

(١). الرمّاني ، النكت في إعجاز القرآن ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ، ص ٨٢.

١٨

٢ ـ ١ ـ ٥ ـ كتاب بيان إعجاز القرآن للخطّابي (ت ٣٨٨ ه‍):

بنى كتابه على طريقة النظم حين ذهب فيه إلى أن الكلام (١) «إنّما يقوم بهذه الأشياء الثلاثة : لفظ حامل ، ومعنى به قائم ، ورباط لهما ناظم. وإذا تأمّلت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة ، حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه ، ولا ترى نظما أحسن تأليفا ، وأشدّ تلاؤما وتشاكلا من نظمه».

وتحدّث بإسهاب عن فصاحة الكلمة لأنها في نظره جزء من فصاحة الكلام وبلاغته وحسن النظم. ووصف الكلمة بالفصاحة والجزالة البعيدة عن الغرابة ولأنّ البلاغة في نظره لا تعبأ بالغرابة.

٢ ـ ١ ـ ٦ ـ كتاب إعجاز القرآن للباقلّاني (ت ٤٠٦ ه‍):

من ركائز إعجاز القرآن عنده براعة النظم المتمثّلة في :

ـ مخالفته في الشكل والقالب ما عهد عن العرب في كلامها.

ولهذا عقد لنفي وجود الشعر والسّجع في القرآن الكريم فصلين كاملين من كتابه.

ـ آيات القرآن في سوره جميعا اعلى فصاحة وبلاغة من كلام العرب ، وهي تتنقّل بين إيجاز وإطناب واقتصار ، وبين صور مختلفة من الحقيقة والمجاز والاستعارة. ولهذا عقد فصلا للبديع أثبت فيه أن ضروب البديع الرائع عند العرب مقصّرة عن بلوغ ضروبه الواردة في محكم آياته. فلقد ذهب إلى القول (٢) : «... والوجوه التي نقول إن إعجاز القرآن يمكن أن يعلم منها فليس مما يقدر البشر على التّصنع له ، والتوصل إليه بحال».

__________________

(١). الخطّابي ، بيان إعجاز القرآن ضمن (ثلاث رسائل في إعجاز القرآن) دار المعارف ط ٣ ، ص ٢٧.

(٢). الباقلّاني ، إعجاز القرآن ١ / ١٤٤.

١٩

ومن الموضوعات البلاغية التي تحدث عنها بإسهاب نذكر : السّجع والترصيع ، والتشبيه ، والاستعارة ، والمماثلة ، والكناية ، والإيجاز ، والإطناب ، والحقيقة والمجاز ، ... اختار الباقلّاني النظم طريقا للإعجاز. ونظمه مختلف عن سجع الكهّان والعرب ، وعن خطبهم. وكلامه «خارج عن الوحشيّ المستكره ، والغريب المستنكر ، وعن الصيغة المتكلّفة».

٢ ـ ١ ـ ٧ ـ كتاب إعجاز القرآن للقاضي عبد الجبّار (ت ٤١٥ ه‍):

كتاب إعجاز القرآن للقاضي عبد الجبار أحد أجزاء كتابه الكبير (المغني في أبواب التوحيد والعدل). والقاضي معاصر للباقلّاني وكتابه يحمل التسمية نفسها التي أطلقها الباقلّاني على كتابه ، غير أن القاضي تطرق في كتابه لموضوعات لم يتناولها الباقلّاني. تعرض القاضي في كتابه للفصاحة مبيّنا أسرارها وأسبابها ، ووجد أنها تقوم على ركيزتين هما : ـ جزالة اللفظ.

ـ حسن المعنى.

ولكنّه خلص إلى أن النظم وحده يظهر ذلك. ولهذا ذهب إلى القول (١) : «فلا معتبر في الفصاحة بقصر الكلام وطوله وبسطه وإيجازه لأن كل ضرب من ذلك ربما كان أدخل في الفصاحة في بعض المواضع من صاحبه» وكأنه يريد أن يثبت صحة القاعدة البلاغية القائلة : لكل مقام مقال.

ومن أبواب البلاغة التي تحدث عنها القاضي نذكر كلا من : التكرار وأنواعه ، والتطويل والإيجاز ، ولم يعد التطويل عيبا بالمطلق ،

__________________

(١). القاضي عبد الستار ، المغني في أبواب العدل والتوحيد ج ١٦ ص ٢٠٠ ـ ٢٠١.

٢٠