علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )

الدكتور محمّد أحمد قاسم والدكتور محيي الدين ديب

علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )

المؤلف:

الدكتور محمّد أحمد قاسم والدكتور محيي الدين ديب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الحديثة للكتاب
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

يشبه الذم ، التوجيه ، سوق المعلوم مساق غيره ، الاعتراض ، الاستتباع ، الالتفات ، تقليل اللفظ ولا تقليله.

وثانيهما عنوانه ما يرجع إلى اللفظ ويتضمن : التجنيس ، ردّ العجز على الصدر ، القلب ، الأسجاع ، والترصيع.

وبهذا يكون السكّاكي قد سلك طريق التخصيص والبعد عن التعميم الذي كان سائدا وباتت أبواب كل علم من علوم البلاغة محدّدة المعالم واضحة القسمات.

وفي هذا الاتجاه التخصصي نذكر محمد بن علي الجرجاني (ت ٧٢٩ ه‍) الذي توصل في كتابه (الإشارات والتنبيهات في علم البلاغة) إلى تعريف علم البديع تعريفا رائدا جامعا مانعا يقول فيه (١) : «علم البديع : علم يعرف منه وجوه تحسين الكلام ، باعتبار نسبة بعض أجزائه إلى بعض بغير الإسناد والتعليق ، مع رعاية أسباب البلاغة» ورتّب أبواب البديع تحت عنوانين كبيرين هما :

١. المحسنات المعنوية :

وتتضمن : المطابقة ، المقابلة ، المناسبة ، التفويف ، المشاكلة ، الاستطراد ، العكس ، الإرصاد ، النقض ، التورية ، المزاوجة ، الجمع ، التفريق ، التقسيم ، الجمع مع التفريق ، الجمع مع التقسيم ، الجمع مع التفريق والتقسيم ، اللف والنشر ، التجريد ، المبالغة ، المحاجّة ، التعليل ، تأكيد المدح بما يشبه الذم ، الاستتباع ، الإدماج ، التوجيه ، التجاهل ، القول بالموجب ، الاطراد.

__________________

(١) الإشارات والتنبيهات في علم البلاغة ، محمد علي الجرجاني ، تحق عبد القادر حسين ، ص ٢٥٧.

٦١

٢. المحسنات اللفظية :

وتتضمن : الجناس التام ، الجناس الناقص ، الملحق بالجناس ، ردّ العجز على الصدر ، الأسجاع ، التصريع ، لزوم ما لا يلزم.

وهكذا باتت أبواب البديع مقنّنة بإحكام ولم تعد خاضعة للمدّ والجزر والتداخل مع غيرها من أبواب البلاغة.

وسلك هذا الاتجاه التّخصصي أيضا الخطيب القزويني (ت ٧٣٤ ه‍) في كتابه الإيضاح في علوم البلاغة حيث أفرد القسم الثالث لعلم البديع الذي تضمن عنده المحسنات المعنوية وتتضمن : المطابقة ، المقابلة ، مراعاة النظير ، تشابه الأطراف ، التفويف ، الإرصاد ، المشاكلة ، الاستطراد ، المزاوجة ، العكس ، التورية ، الاستخدام ، اللف والنشر ، الجمع ، التفريق ، التقسيم ، الجمع مع التفريق ، الجمع مع التقسيم ، الجمع مع التقسيم والتفريق ، تأكيد المدح بما يشبه الذم ، تأكيد الذم بما يشبه المدح ، الاستتباع ، التوجيه ، الهزل الذي يراد به الجدّ ، تجاهل العارف ، القول بالموجب ، الاطراد.

أما المحسنات اللفظية فتتضمّن : الجناس ، ردّ العجز على الصدر ، السجع ، الموازنة ، القلب ، التشريع ، لزوم ما لا يلزم ، وأنهى الباب بكلام على شرط الحسن في البديع اللفظي.

وهذا التبويب الذي انتهى إليه الخطيب القزويني هو التبويب الذي استقر عليه الدرس البديعي في يومنا هذا. وإذا كان هناك من تغيير فإنه يبقى في حدود التعديل الطفيف الذي يلحق بالأجزاء التفصيلية ولا يصيب الجوهر إصابة تذكر.

٦٢

٢ ـ ٣ ـ دلالة المصطلح في حقبة ما بعد الخطيب القزويني إلى يومنا هذا :

تبدو هذه الحقبة واسعة جدا ، ولكن التقنين الذي أنجزه القزويني ورفاقه يسهّل على الباحث أمر ملاحقة هذا المصطلح ورصد التطور الدلالي الذي أصابه. فالمصطلح حدد وظيفة البديع وربطها بتحسين الكلام حتى بات البديع أدنى مكانة من علمي المعاني والبيان لهذا كان تابعا وذيلا لهما.

ولأن البلاغة تعليمية فإن كتب البلاغة تعليمية على العموم وهي محكومة بطابع المتابعة لما جاء في كتب المتقدمين حتى لتجد أن الشواهد على أبواب البديع تكاد تكون مكررة والتعليق عليها أو شرحها وتحليلها شبه غائبين.

ومحاولات الإفادة من الألسنية لتعميق الدراسة البلاغية ومقاربة النصوص بوحي من علومها وبخاصة علم الدلالة لا تزال متعثّرة تسلك طريقها بصعوبة ومشقة ، والمقلدون أسياد الساح يسخنّون كلام القدامى الذي فقد الكثير من نكهته.

٦٣

المحسّنات المعنوية :

ـ الطباق والمقابلة.

ـ التورية.

ـ تجاهل العارف.

ـ اللف والنشر (مراعاة النّظير).

ـ تأكيد المدح بما يشبه الذمّ.

ـ تأكيد الذم بما يشبه المدح.

ـ حسن التعليل.

ـ الإرصاد.

٦٤

الطّباق

١ ـ أسماؤه :

أطلقت عليه أسماء عديدة منها :

التطبيق ، والطباق ، والتضاد ، والمطابقة ، والتكافؤ.

٢ ـ تعريفه :

أ ـ قاموسيا :

قال الخليل (١) : «طابقت بين الشيئين إذا جمعت بينهما على حذو واحد وألزقتهما».

وجاء في اللسان (طبق) : «تطابق الشيئان : تساويا. والمطابقة :الموافقة. والتطابق : الاتفاق. وطابقت بين الشيئين : إذا جعلتهما على حذو واحد وألزقتهما ...

والمطابقة : المشي في القيد. والمطابقة : أن يضع الفرس رجله في موضع يده. ومطابقة الفرس في جريه : وضع رجليه مواضع قدميه».

ب ـ اصطلاحا :

جاء في معجم المصطلحات (٢) : «هو الجمع بين الضّدين أو المعنيين المتقابلين في الجملة».

وجاء في الإيضاح (٣) : «هو الجمع بين المتضادّين ، أي معنيين متقابلين في الجملة».

وكتب البلاغة لم تدخل على هذا التعريف أي تعديل أو شرح.

__________________

(١). كتاب العين ، الخليل بن أحمد ، تحق مهدي المخزومي وابراهيم السامرائي ٥ / ١٠٩.

(٢). معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ، وهبة ـ المهندس ، ص ١٣٠.

(٣). الإيضاح في علوم البلاغة ، الخطيب القزويني ، ص ٤٧٧.

٦٥

ورأى د. عبد العزيز عتيق (١) أنه «ليس بين التسمية اللغوية والتسمية الاصطلاحية أدنى مناسبة».

غير أن استنتاجه لا يخلو من ضعف التفسير والتأويل. ولو ردّ المعنى الاصطلاحي إلى المعنى القاموسي بلطف الصنعة لوجد مناسبة كبرى بين المعنيين. ألا يرى د. عتيق في وضع الرجل موضع القدم شيئا من الجمع بين المتضادين أو المعنيين المتقابلين في الجملة؟ ثم ألا يرى شبها بين مشي المقيّد راسفا في قيوده ، وبين الكاتب والشاعر يطابقان في كلامهما؟

٣ ـ صوره :

١ ـ الطباق الحقيقي :

وهو ما كان طرفاه لفظين متضادين في الحقيقة ويكونان :

أ ـ اسمين :

كما في قوله تعالى (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) الكهف : ١٨.

ب ـ فعلين :

كقوله تعالى (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) النجم : ٤٣ ـ ٤٤.

ج ـ حرفين :

كقوله تعالى (.. وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَ) البقرة : ٢٢٨.

__________________

(١) علم البديع ، عبد العزيز عتيق ، ص ٧٧.

٦٦

د ـ مختلفين :

كقوله تعالى (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) آل عمران : ٤٩ فاللفظ الأول فعل (أحيي) ، والثاني اسم (الموتى).

٢ ـ الطباق المجازي :

ويكون طرفاه غير حقيقتين أي مجازيّين.

ومثاله قوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) الأنعام : ١٢٢.

فقد فسّر المفسّرون هذه الآية بقولهم : كان ضالا فهديناه.

وعلى المعنى المقصود يكون الطباق مجازيا. ولو أخذ اللفظان على الحقيقة لبقي الطباق قائما بين ميتا (اسم) وأحييناه (فعل).

وقد سماه قدامة بن جعفر (التكافؤ) وأعطى مثلا عليه قول الشاعر (الطويل).

إذا نحن سرنا بين شرق ومغرب

تحرّك يقظان التراب ونائمه

فالمطابقة بين «اليقظان والنائم» ونسبتهما إلى التراب على سبيل المجاز لا الحقيقة. ولو نظرنا إليه على سبيل الحقيقة ما امتنع الطباق بين (يقظان) و (نائم) و (شرق) و (مغرب).

٣ ـ الطباق المعنوي :

هو ما كانت المقابلة فيه بين الشيء وضده في المعنى لا في اللفظ. وخير مثال عليه قوله تعالى : (قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ* قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) يس : ١٥ ـ ١٦. فمعنى الآية الثانية : إن الله يعلم إنا لصادقون. وبذلك يتم التّضاد المعنوي بين الآيتين ، ولو كان التضاد في اللفظين مفقودا.

٦٧

٤ ـ أقسامه :

أ ـ طباق الإيجاب :

وهو ما لم يختلف فيه الضدان إيجابا وسلبا نحو : خير المال عين ساهرة لعين نائمة. فالقول مشتمل على الشيء وضده (ساهرة ونائمة).

ب ـ طباق السّلب :

وهو الجمع بين فعلي مصدر واحد مثبت ومنفي ، نحو قوله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الزّمر : ٩.

فالفعل (يعلمون) أثبت في الطرف الأول من الطباق ونفي ب (لا) في الطرف الثاني.

ويكون طرفاه أمرا ونهيا كما في قوله تعالى : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) المائدة : ٤٤. فالطرف الأول نهي (لا تخشوا) ، والطرف الثاني أمر (إخشون) ومن أمثلته (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) المائدة : ١١٦. فالفعل (علم) جاء مثبتا مرة ومنفيا مرة أخرى.

٥ ـ ما يلحق بالطّباق :

أ ـ الطباق الخفيّ :

وهو ما تكون فيه المطابقة خفية لتعلق أحد الركنين بما يقابل الآخر تعلّق السببية ، نحو قوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) الفتح : ٢٩. فالرحمة ليست مقابلة للشدة ؛ لكنها مسبّبة عن اللين الذي هو ضد الشدّة.

٦٨

ب ـ إيهام التضاد :

وهو ما جمع فيه بين معنيين غير متقابلين عبّر عنهما بلفظين يتقابل معناهما الحقيقيان. ومنه قول دعبل الخزاعي. (الكامل) :

لا تعجبي يا سلم من رجل

ضحك المشيب برأسه فبكى

وأراد دعبل ب (ضحك المشيب برأسه ظهور الشيب ظهورا تاما ولا تقابل بين البكاء وظهور الشيب (المجازي). لكن الضحك بمعناه الحقيقي مضاد للبكاء.

* أهمية الطباق ودوره :

ليس الطباق بالضرورة ترفا لفظيا فحسب ، بل هو تعبير في أكثر الأحيان عن حركة نفسية متوهجة ، وصراع بين ما هو كائن وما يجب أن يكون ، بين الراهن والمتوقع. والمبدع يلجأ إليه لتصوير الهوة القائمة بين واقع مرفوض ومستقبل مأمول. والقصد منه العمل على بناء عالم مخالف لما هو قائم حالم بالأفضل. فكثرة المتعارضات تشف عن غليان داخلي ورفض للأمر الواقع.

تمرينات :

١ ـ بيّن مواضع الطباق في الأمثلة الآتية ، ووضح نوعه في كل مثال : قال تعالى : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) آل عمران: ٢٦.

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) البقرة : ٢٨٦.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً) البقرة : ٢٢.

٦٩

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) البقرة : ٨ و٩.

وقال الشاعر :

وننكر إن شئنا على الناس قولهم

ولا ينكرون القول حين نقول

على أنني راض بأن أحمل الهوى

وأخرج منه لا عليّ ولا ليا

لهم جلّ ما لي إن تتابع لي غنى

وإن قلّ مالي لم أكلّفهم رفدا

سلي إن جهلت الناس عنّا وعنهم

فليس سواء عالم وجهول

أما والذي أبكى وأضحك والذي

أمات وأحيا والذي أمره الأمر

خلقوا وما خلقوا لمكرمة

فكأنهم خلقوا وما خلقوا

وقد أطفأوا شمس النهار وأوقدوا

نجوم العوالي في سماء عجاج

ولقد عرفت ، وما عرفت حقيقة

ولقد جهلت وما جهلت خمولا

مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطّه السيل من عل

٢ ـ قال المتنبي وهو يغادر مصر باكيا على فاتك (ديوان المتنبي ، شرح العكبري ٤ / ١٥٥ وما بعدها) :

١. حتّام نحن نساري النجم في الظّلم

وما سراه على خفّ ولا قدم

٢. تسوّد الشمس منا بيض أوجهنا

ولا تسوّد بيض العذر واللّمم

٣. لا أبغض العيس لكني وقيت بها

قلبي من الحزن أو جسمي من السّقم

٤. طردت من مصر أيديها بأرجلها

حتى مرقن بنا من جوش والعلم

٥. قد بلّغوا بقناهم فوق طاقته

وليس يبلغ ما فيهم من الهمم

٦. من لا تشابهه الأحياء في شيم

أمسى تشابهه الأموات في الرّمم

٧. ما زلت أضحك إبلي كلّما نظرت

إلى من اختضبت أخفافها بدم

٨. أسيرها بين أصنام أشاهدها

ولا أشاهد فيها عفّة الصنّم

٧٠

٩. حتى رجعت وأقلامي قوائل لي

المجد للسّيف ليس المجد للقلم

١٠. من اقتضى بسوى الهنديّ حاجته

أجاب كلّ سؤال عن هل بلم

١١. ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة

بين الرّجال ولو كانوا ذوي رحم

١٢. سبحان خالق نفسي كيف لذّتها

فيما النفوس تراه غاية الألم

١٣. وقت يضيع ، وعمر ليت مدّته

في غير أمّته من سالف الأمم

١٤. أتى الزمان بنوه في شبيبته

فسرّهم ، وأتيناه على الهرم

* * *

١. أدرس الطباق وأنواعه ، ومدى قدرته على تصوير الغليان الداخلي الذي يتحكّم بنفس الشاعر.

٧١

المقابلة

١ ـ تعريفها :

هي إيراد الكلام ثم مقابلته بمثله في المعنى واللفظ على جهة الموافقة أو المخالفة.

وجاء في الإيضاح (١) «هي أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو معان متوافقة ، ثم بما يقابلهما أو يقابلها على الترتيب».

٢ ـ بين المقابلة والطباق :

ـ لا يكون الطباق إلا بين الأضداد ، والمقابلة تكون بين الأضداد وغير الأضداد.

ـ لا يكون الطباق إلا بين ضدّين فقط ، والمقابلة تكون بين أكثر من اثنين.

٣ ـ صورها :

أ ـ مقابلة اثنين باثنين :

ومثالها قوله تعالى (فَلْيَضْحَكُوا ١ قَلِيلاً ٢ وَلْيَبْكُوا ١ كَثِيراً) ٢ التوبة : ٨٢

فالآية الكريمة تشتمل في صدرها على معنيين يقابلهما في عجزها معنيان على الترتيب. ففي صدرها الضحك والقلة قابلهما في العجز البكاء والكثرة.

__________________

(١). الإيضاح في علوم البلاغة ، الخطيب القزويني ، ص ٤٨٥.

٧٢

ب ـ مقابلة ثلاثة بثلاثة :

ومثالها قول المتنبي : (الطويل)

فلا الجود ١ يفني ٢ المال والجدّ مقبل

ولا البخل ١ يبقي ٢ المال والجدّ مدبر ٣

فالمقابلة على الترتيب بين «الجود ويفني ومقبل» و «البخل ويبقي ومدبر».

وكقوله تعالى (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) الأعراف : ١٥٧.

في الآية مقابلتان الأولى : يأمرهم والباء والمعروف في مقابل ـ ينهاهم وعن والمنكر

والثانية : يحل ولهم والطيبات في مقابل يحرّم وعليهم والخبائث.

ج ـ مقابلة أربعة بأربعة :

ومثالها قول جرير : (الطويل)

وباسط ١ خير ٢ فيكم ٣ بيمينه ٤

وقابض ١ شرّ ٢ عنكم ٣ بشماله ٤

فقابل بين باسط وقابض ، وخير وشر ، وفيكم وعنكم ، وبيمينه وبشماله.

د ـ مقابلة خمسة بخمسة :

ومثالها قول صفيّ الدين الحلّي (البسيط) :

كان ١ الرضا ٢ بدنوّي ٣ من ٤ خواطرهم ٥

فصار ١ سخطي ٢ لبعدي ٣ عن٤ جوارهم٥

فالمقابلة بين كان وصار ، والرضا والسخط ، والدنو والبعد ، ومن وعن ، وخواطرهم وجوارهم على مذهب من يرى أن المقابلة تجوز بغير الأضداد.

٧٣

ه ـ مقابلة ستة بستة :

ومثاله قول شرف الدين الأربلي (الطويل) :

على ١ رأس ٢ عبد ٣ تاج ٤ عزّ ٥ يزينه ٦

وفي ١ رجل ٢ حرّ ٣ قيد ٤ ذلّ ٥ يشينه ٦

فالمقابلة بين على وفي ، ورأس ورجل ، وعبد وحرّ ، وتاج وقيد ، وعزّ وذلّ ، ويزينه ويشينه.

* رأى علماء البديع أن أعلى رتب المقابلة وأبلغها ما كثر فيه عدد المقابلات لكن شريطة الابتعاد عن التكلف والاسراف فيه.

وقد اشترط السّكاكي أن تقتصر المقابلة على الأضداد فحسب.

تمارين

١ ـ بيّن مواقع المقابلة في ما يأتي :

قال تعالى :

١. (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) الحديد : ٢٣

٢. (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) الليل : ٥ ـ ١٠.

وقال الشاعر :

٣. يا أمّة كان قبح الجور يسخطها

دهرا فأصبح حسن العدل يرضيها

٤. قابلتهم بالرضا والسّلم منشرحا

ولّوا غضابا فوا حربي لغيظهمو

٥. بواطئ فوق خدّ الصبح مشتهر

وطائر تحت ذيل الليل مكتتم

٦. أزورهم وسواد الليل يشفع لي

وأنثني وبياض الصبح يغري بي

٧. حلو الفكاهة مرّ الجدّ قد مزجت

بشدّة البأس منه رقّة الغزل

٧٤

٨. فتى تمّ فيه ما يسرّ صديقه

على أنّ فيه ما يسوء الأعاديا

٩. ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا

وأقبح الكفر والإفلاس في الرّجل!

١٠. فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت

ولا البخل يبقيها إذا هي تذهب

١١. تسرّ لئيما مكرمات تعزّه

وتبكي كريما حادثات تهينه

١٢. فإذا حاربوا أذلّوا عزيزا

وإذا سالموا أعزّوا ذليلا

١٣. شريت الفتك بالثّمن الربيح

وبعت النسك بالقصف النجيح

٧٥

التورية

١ ـ أسماؤها :

ذكر لها البلاغيّون أسماء عديدة منها :

أ. الإيهام ، ذكره الخطيب التبريزي (١).

ب. التوجيه ، ذكره ابن أبي الأصبع (٢).

ج. التخيير ، ذكره غير واحد من البلاغيين.

٢ ـ تعريفها :

أ ـ لغة :

جاء في اللسان (ورى) : «وريّت الشيء وواريته : أخفيته. وتوارى : استتر. ووريت الخبر : جعلته ورائي وسترته. ووريت الخبر أورّيه تورية : إذا سترته وأظهرت غيره ... والتّورية : السّتر».

ب ـ إصطلاحا :

عرفها الخطيب التبريزي بقوله (٣) : «وهي أن يطلق لفظ له معنيان : قريب ، وبعيد ، ويراد به البعيد منهما». فالتورية عبارة عن دالّ واحد له مدلولان : الأول مدلول قريب لا يلائم المقام لذلك فهو ملغى ومستبعد. والثاني بعيد يلائم المقام مقبول ومعتمد.

__________________

(١). الإيضاح في علوم البلاغة ، الخطيب القزويني ، ص ٤٩٩.

(٢). تحرير التحبير ، ابن أبي الاصبع المصري.

(٣). الإيضاح في علوم البلاغة ، الخطيب القزويني ، ص ٤٩٩.

٧٦

٣ ـ أنواعها :

اكتفى القزويني بقسمتها قسمين هما : تورية مجرّدة وتورية مرشّحة.

١ ـ التورية المجرّدة :

وهي التي لم يذكر فيها شيء مما يلائم المورّى به (المعنى القريب) ولا مما يلائم المورى عنه (المعنى البعيد) ، نحو قوله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) طه : ٥.

فكلمة التورية (استوى) لها معنيان :

١ ـ الاستقرار في المكان ـ المعنى القريب غير المقصود لأن الله تعالى منزّه عنه.

٢ ـ الاستيلاء والملك ـ المعنى البعيد المقصود.

ولم يذكر في الآية من لوازم المعنى البعيد أو المعنى القريب شيء ؛ فلهذا كانت مجرّدة.

ومنه قول الشاعر القاضي عياض في سنة كان فيها شهر كانون معتدلا أزهرت فيه الأشجار (البسيط) :

كأنّ كانون أهدى من ملابسه

لشهر تموّز أنواعا من الحلل

أو الغزالة من طول المدى خرفت

فما تفرّق بين الجدي والحمل

فالتورية في (الغزالة) فلم يذكر الشاعر قبل الغزالة أو بعدها ما يشير إلى أنه قصد بها ذلك الحيوان البريّ المشهور بطول العنق وسواد العين وما إلى ذلك ، ولا من أوصاف المعنى المورّى عنه (الشمس) كالإشراق والغروب وما إليهما. ولهذا كانت التورية مجرّدة.

٧٧

٢ ـ التورية المرشّحة :

وهي التي ذكر فيها ما يلائم المورّى به ، وهو أقوى درجات الإيهام في التورية لأنه يقوّي المعنى القريب فيخفي المعنى البعيد المقصود ويكون هذا الذكر :

أ ـ قبل لفظ التورية :

ومثالها قوله تعالى (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) الذاريات : ٤٧.

والتورية في (بأيد) لأنها تحتمل معنيين :

ـ المعنى القريب : وهو الجارحة ، اليد الحقيقية. وهذا المعنى مورّى به ، وقد سبقت بلفظ (بنيناها) على جهة الترشيح وهو من لوازم اليد.

ـ المعنى البعيد : قوّة الخالق وعظمته وهذا المعنى مورّى عنه ، وهو المراد ؛ لأن الخالق جل وعلا منزّه عن المعنى الأول.

ومنها أيضا قول يحيى بن منصور (الطويل) :

فلما نأت عنّا العشيرة كلّها

أنخنا فحالفنا السيوف على الدّهر

فما أسلمتنا عند يوم كريهة

ولا نحن أغضينا الجفون على وتر

فالتورية في (الجفون) لاحتمال اللفظ معنيين هما :

ـ المعنى القريب : وهو جفون العين الحقيقية ، وهذا هو المعنى المورّى به ، وقد سبقه لازم من لوازمه على جهة الترشيح.

(أغضينا) لأن الإغضاء من لوازم العين.

ـ المعنى البعيد : جفون السيوف (أغمادها) ، وهو المعنى المورّى عنه. وهذا هو المعنى المراد لأن السّيف إذا أغمد انطبق الجفن عليه ، وإذا جرّد انفتح.

٧٨

ب ـ بعد لفظ التورية :

نحو قوله (السريع) :

مذ همت من وجدي في خالها

ولم أصل منه إلى اللّثم

قالت : قفوا واستمعوا ما جرى

خالي قد هام به عمّي

فالتورية : في (خالها) لاحتماله معنيين :

أ ـ المعنى القريب ، خال النسب ، أخو الأم ، وهو المعنى المورّى به ، وقد ذكر لازمه (العمّ) بعده على جهة الترشيح.

ب ـ المعنى البعيد ، الشّامة التي تظهر في الوجه غالبا ، وعدّها الناس أمارة حسن ، وهو المعنى المورّى عنه ، وهذا المعنى الأخير هو المقصود.

٣ ـ التورية المبيّنة :

وهي ما ذكر فيها لازم المورّى عنه فيعين على الاهتداء إليه ، ويكون هذا الذكر :

أ ـ قبل لفظ التورية

، كقول البحتري (الكامل) :

ووراء تسديد الوشاح مليّة

بالحسن تملح في القلوب وتعذب

فالتورية في (تملح) لاحتمال اللفظ معنيين :

أ ـ المعنى القريب ، الملوحة ضد العذوبة ، وهو المعنى المورّى به وغير المراد.

ب ـ المعنى البعيد ، الملاحة أي الحسن ، وهو المعنى المورّى عنه وهو المراد ، وقد تقدّم عليه من لوازمه (مليّة بالحسن).

٧٩

ب ـ بعد لفظ التورية

، ومنه قول الشاعر (الطويل) :

أرى ذنب السّرحان في الأفق طالعا

فهل ممكن أن الغزالة تطلع؟

في البيت توريتان ، أولاهما (ذنب السّرحان). وفيها معنيان :

أ ـ قريب ، وهو ذنب الحيوان (الذئب) ، وهو المعنى المورّى به.

ب ـ بعيد ، أول ضوء النّهار ، وهو المعنى المورّى عنه ، وهذا المعنى هو المعنى المراد. وقد بيّنه بذكر لازم بعده بقوله (طالعا).

ثانيتهما (الغزالة) وفيها معنيان :

أ ـ قريب ، وهو الغزالة الوحشية المعروفة ، وهو المعنى المورّى به الذي لم يقصده الشاعر.

ب ـ بعيد ، وهو الشمس ، وهو المعنى المورّى عنه وقد بيّنه الشاعر بذكر لازمه بعده (تطلع) وهذا هو المعنى المقصود.

٤ ـ التورية المهيأة

، وهي على ثلاثة أنواع :

١ ـ المهيأة بلفظ قبلها

، نحو قول ابن سناء الملك في الملك المظفّر (الطويل) :

وسيرك فينا سيرة عمريّة

فروّحت عن قلب وأفرجت عن كرب

وأظهرت فينا من سميّك سنّة

فأظهرت ذاك الفرض من ذلك النّدب

فالتورية في (الفرض والنّدب) وفيهما معنيان :

ـ قريب ، وهو أن يعني الشاعر بهما الأحكام الشرعية ، وهو المعنى المورّى به ، غير المقصود.

ـ بعيد ، وهو أن يكون الفرض بمعنى العطاء ، والنّدب صفة المرء السريع في قضاء الحاجات ، وهو المعنى المورّى عنه (المقصود).

٨٠