علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )

الدكتور محمّد أحمد قاسم والدكتور محيي الدين ديب

علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )

المؤلف:

الدكتور محمّد أحمد قاسم والدكتور محيي الدين ديب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الحديثة للكتاب
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

٣ ـ الأسلوب الخطابي :

عرّفه معجم المصطلحات بقوله (١) : «هو الذي يمتاز بقوة المعاني والألفاظ ورصانة الحجج ، كما يمتاز بالجمال والوضوح وكثرة المترادفات والتكرار».

الخطابة ـ كما قال القدامى ـ فنّ يهدف إلى الإقناع والتأثير. وللوصول إلى الإقناع كان على الخطيب أن يتحلى بقوة المعاني وجزالة الألفاظ ، وبالحجة والبرهان الساطع الذي يسقط دليل المخاطبين ويفضح زيف ادعاءاتهم. فالعقل الخصيب يستنبط الحجج والأدلة والبراهين التي ترسّخ مقولة الخطيب وتقنع المخاطبين بوجهة نظره.

ولأن الخطبة تلقى في حفل فإن أمورا شكلية تتدخل لإنجاحها. فنبرات صوت الخطيب وحسن إلقائه ، ومحكم إشاراته ، عناصر مساعدة على أداء خطابي ناجح. كما يعمد الخطيب إلى التكرار الذي يقتضيه المقام. فالمخاطبون قد يتخلفون عن تتبّع أفكار الخطيب فيلجأ إلى التكرار اللفظي أو المعنوي ليثبت الفكرة في عقولهم. هذا التكرار مستحبّ في الخطبة شريطة أن يراعى مستوى المخاطبين الفكري والثقافي ، ولهذا نرى الخطيب الناجح لا يميت الطاقة الإيحائية الكامنة في الألفاظ المكررة بل يلجأ إلى المرادفات ويتقرّب من مخاطبيه بضرب الأمثال والابتعاد عن الرّتابة المملة بتمويج العبارة بين الخبر والإنشاء والتنقل بين التقرير والاستفهام والتعجب والاستنكار. وكثيرا ما يلجأ الخطيب إلى الطباق الموظف توظيفا حسنا ليبين الفرق بين حال قائمة وحال زائلة ، بين ما هو كائن ، وبين ما هو واجب أن يكون. وكذلك المقابلة التي تقوم على تعدد الطباقات التي تخاطب العقول والقلوب وتؤثر في الحواس وتأسر الأسماع. وفي الأسلوب الخطابي

__________________

(١). معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ، وهبة ـ المهندس ، ص ٢٣.

٤١

يزواج الخطيب بين المباشرة عندما يرى أن تسمية الأمور بأسمائها مفيدة ومساعدة على الإقناع ـ وبين الفنية العالية التي تخاطب ذكاء المخاطبين وقدرتهم على التحليل والفهم والاستنتاج.

٤٢

بين الفصاحة والبلاغة

ألفاظ الأديب التي يستخدمها في فنّه هي نفسها تلك الألفاظ التي يستخدمها جميع الناس في كلامهم ، ويتحدثون بها ويكتبون ، لكنه يستطيع بهذه الأداة المألوفة حين يحسن التوفيق بين حروفها ، وتركيب ألفاظها ، واختيار الأصلح منها أن ينطق بالسحر الحلال ، الذي تقبله النفس ، وينشرح له الصدر ، ويمكنه بهذا أن يخرج فنا يفوق جميع الفنون ، ويسمو عليها.

وإذا صدر الكلام من المتحدث على تلك الصورة وصفه النقاد والبلاغيون بالفصاحة والبلاغة ، وقد شاع استعمالهما في كتب النقد والبلاغة ، وعرفهما العرب صنوين تستعملان معا ، أو تستعمل الواحدة مكان الأخرى (١).

وكان النقاد والبلاغيون الأوائل لا يفرقون بينهما. فالجاحظ في كتابه «البيان والتبيين» يجعل الفصاحة والبلاغة والبيان مترادفات تدل على معنى واحد. أما أبو هلال العسكري فقد أورد فيهما رأيين :

الأول : «أن الفصاحة والبلاغة ترجعان إلى معنى واحد ، وإن اختلف أصلهما ، لأن كل واحد منهما إنما هو الإبانة عن المعنى والإظهار له» (٢).

والثاني يقول فيه : إن الفصاحة مقصورة على اللفظ ، والبلاغة مقصورة على المعنى : «ومن الدليل على أن الفصاحة تتضمن اللفظ ، والبلاغة تتضمن المعنى ، أن الببغاء يسمّى فصيحا ولا يسمى بليغا إذ هو مقيم الحروف وليس له قصد إلى المعنى الذي يؤديه ، وقد يجوز مع

__________________

(١). المعاني في ضوء أساليب القرآن ، د. عبد الفتاح لاشين ، ص ٥٩.

(٢). كتاب الصناعتين ، العسكري ص ١٣.

٤٣

هذا أن يسمى الكلام الواحد فصيحا بليغا إذا كان واضح المعنى ، سهل اللفظ ، جيد السبك ، غير مستكره فجّ ، ولا متكلف وخم ، ولا يمنعه من أحد الاسمين شيء فيه من إيضاح المعنى وتقويم الحروف» (١).

أما صاحب الصّحاح فقد قال : البلاغة هي الفصاحة (٢). وابن سنان قال عنهما : «إن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ ، والبلاغة لا تكون إلا وصفا للألفاظ مع المعاني ، لا يقال في كلمة واحدة لا تدل على معنى يفضل عن مثلها بليغة وإن قيل فيها فصيحة ، وكل كلام بليغ فصيح ، وليس كل فصيح بليغا» (٣).

وقال عنهما ابن الأثير : «وسمي الكلام بليغا لأنه بلغ الأوصاف اللفظية والمعنوية ، والبلاغة شاملة للألفاظ والمعاني ، وهي أخص من الفصاحة ، كالإنسان والحيوان ، فكل إنسان حيوان وليس كل حيوان إنسان وكذلك يقال : كل كلام بليغ فصيح ، وليس كل كلام فصيح بليغا» (٤).

أما الخطيب القزويني فهو آخر من وقف عند البلاغة من المتأخرين ، فجمع بحوث العلماء الذين سبقوه ، ورتب بحث الألفاظ ترتيبا علميا فجعل البحث عن معنى «الفصاحة» مقدمة لعلوم البلاغة ، وأصبح للفصاحة مضمونها وجعلها صفة للكلمة المفردة ، والكلام والمتكلم ، فقال : «للناس في تفسير الفصاحة والبلاغة أقوال مختلفة ، لم أجد ـ فيما بلغني منها ـ ما يصلح لتعريفها به ، ولا ما يشير إلى الفرق بين كون الموصوف بهما الكلام وكون الموصوف بهما المتكلم ؛ فالأولى أن نقتصر على تلخيص القول فيهما بالاعتبارين ، فنقول :

__________________

(١). المصدر نفسه ، ص ١٤.

(٢). الصحاح مادة «بلغ».

(٣). سرّ الفصاحة ، ابن سنان ، ص ٤٩.

(٤). المثل السائر ، ابن الأثير ١ / ١١٨.

٤٤

كل واحدة منهما تقع صفة لمعنيين :

احدهما : الكلام ، كما في قولك «قصيدة فصيحة ، أو بليغة» و «رسالة فصيحة ، أو بليغة».

والثاني : المتكلم ، كما في قولك «شاعر فصيح ، أو بليغ» «وكاتب فصيح أو بليغ».

والفصاحة خاصة تقع صفة للمفرد ؛ فيقال : «كلمة فصيحة» ولا يقال : «كلمة بليغة» (١).

وعلى هذا فالبلاغة كل والفصاحة جزؤه ، وعليه أيضا : الفصاحة من صفات المفرد كما هي من صفات المركب ، وهذا الرأي هو الذي استقرّت عليه بحوث البلاغة أخيرا (٢).

__________________

(١). الإيضاح ، الخطيب القزويني ص ٧٢.

(٢). المعاني في ضوء أساليب القرآن د. عبد الفتاح لاشين ، ص ٦٤.

٤٥

تمرينات

١ ـ قال صفي الدين الحلي (ت ٧٥٠ ه‍) (الخفيف) :

١. إنما الحيزبون والدّردبيس وال

طّخا والنّقاخ والعلطبيس

٢. والغطاريس والعقنفس والغر

نق والخربصيص والعيطموس

٣. لغة تنفر المسامع منها

حين تروى ، وتشمئزّ النفوس

٤. أين قولي : هذا كثيب قديم

ومقالي : عقنقل قدموس؟

٥. خلّ للأصمعيّ جوب الفيافي

في جفاف تخفّ فيه الرؤوس

٦. إنما هذه القلوب حديد

ولذيذ الألفاظ مغناطيس

أسئلة :

١ ـ ما الذي أخلّ بفصاحة المفرد في هذه الأبيات؟ أدرس ذلك بالتفصيل.

٢ ـ طرح الشاعر في أحد الأبيات سؤالا استنكاريا بيّن موقفه فيه من الغريب. دلّ على هذا البيت واشرحه مبيّنا رأيك.

٣ ـ طرح الشاعر في أحد الأبيات رأيه في اللغة الواجب اعتمادها لتأسر المسامع والنفوس. دلّ عليه ، واشرحه مبينا رأيك في موقفه هذا.

قاموس المفردات :

١ ـ الحيزبون : المرأة العجوز. الدّردبيس : الرجل الهرم. الطخا :

السحاب الرقيق المرتفع. النقاخ : الخالص من كل شيء ، أو الماء البارد والنوم في أمن وعافية. العلطبيس : الأملس البراق.

٤٦

٢ ـ الغطاريس : جمع غطريس ، وهو المتكبر. العقنفس : السيء الخلق. الغرنق : الأبيض الناعم. الخربصيص : القرط في الأذن. العيطموس : المرأة الطويلة الجميلة.

٣ ـ عقنقل : كثيب من الرمل المتراكم. قدموس : قديم.

٤ ـ جوب الفيافي : اجتياز الصحارى.

٢ ـ قال الشاعر :

١. أضهلتني لمّا مدحتك جاعلا

إياك في يوم النّزال فدوكسا

٢. وجعلت زندك خنشليلا ماضيا

منه أديم الأرض بالجثث اكتسى

٣. لم أحظ منك بغير ماء بارد

فمتى نقاخ الماء أحيا الأنفسا؟

* * *

٤. أحيك الثّوب يلبسه صديقي

وموددة الصديق ليوم ضيق

٥. وأشعر بالتعاسة حين يمسي

تعيس الحظّ في الدنيا رفيقي

٦. رفيقي كان بهلولا فأمسى

قليل الخير يصفع في الطريق.

* * *

٧. عانيت يوما في الجبال عصبصا

فنزلت عن قمم الجبال لأهربا

٨. شللت يميني عند مسّ الماء من

وديانها فعزمت أن لا أشربا

* * *

أسئلة :

١ ـ ما الذي أخل بفصاحة المفرد في هذه الأبيات جميعها؟

٢ ـ فتش في (لسان العرب) عن معاني المفردات الآتية : التعاسة ، تعيس ، بهلول ، عصبصبا مبينا بعد ذلك أسباب عدم فصاحتها.

٤٧

٣ ـ في البيت الرابع موضعان فيهما إخلال بفصاحة المفرد. ابحث عنهما مبينا السبب.

قاموس المفردات :

١ ـ أضهل : أعطى القليل. الفدوكس : الأسد.

٢ ـ الخنشليل : السيف.

٣ ـ نقاخ : عذب.

٣ ـ قال الشاعر :

١. لك الخير غيري رام من غيرك الغنى

وغيري بغير اللاذقية لاحق

٢. وازورّ من كان له زائرا

وعاف عافي العرف عرفانه

٣. أنّى يكون أبا البرايا آدم

وأبوك والثقلان أنت محمد؟

٤. ومن جاهل بي وهو يجهل جهله

ويجهل علمي أنه بي جاهل

٥. لمّا رأى طالبوه مصعبا ذعروا

وكاد لو ساعد المقدور ينتصر

٦. وليست خراسان التي كان خالد

بها أسد إذ كان سيفا أميرها

٧. ألا ليت شعري هل يلومنّ قومه

زهيرا على ما جرّ من كل جانب

أسئلة :

١ ـ ما الذي أخلّ بفصاحة الكلام في هذه الأبيات المتفرقة؟

٢ ـ أعد رصف البيت الثالث بحسب معانيه وتبيّن بعد ذلك ما وقع فيه من خلل في فصاحة الكلام.

٣ ـ ما العيب الذي أخل بفصاحة الكلام في البيت الثاني؟ أشرحه.

٤٨

٤ ـ جاء في كتاب الصناعتين ص ٣٤ :

... حدثني سعيد بن حميد ، قال : نظر رجل إلى علقمة ، وتحته بغل مصريّ حسن المنظر ؛ فقال : إن كان مخبر هذا البغل كمنظره فقد كمل. فقال أبو علقمة : والله لقد خرجت عليه من مصر ، فتنكّبت الطريق مخافة السّرّاق ، وجور السلطان ؛ فبينما أنا أسير في ليلة ظلماء قتماء طخياء (١) مدلهمّة حندس (٢) داجية ، في صحصح (٣) أملس ، إذ أحسن بنبأة (٤) من صوت نغر (٥) ، أو طيران ضوع (٦) ، أو نغض سبد (٧) ؛ فحاص عن الطريق متنكّبا لعزّة نفسه ، وفضل قوّته ، فبعثته باللّجام فعسل (٨) ، وحرّكته بالركاب فنسل (٩) ، وانتعل الطريق يغتاله معترما ، والتحف الليل لا يهابه مظلما. فو الله ما شبّهته إلا بظبية نافرة ، تحفزها فتخاء شاغية (١٠). قال الرّجل : ادع الله وسله أن يحشر هذا البغل معك يوم القيامة ، قال : ولم؟ قال : ليجيزك الصّراط بطفرة (١١).

أسئلة :

١ ـ ما الذي أخل بفصاحة المفرد في هذا النص؟

٢ ـ هل ترى فيه إخلالا بفصاحة المركّب؟ اشرحه.

قاموس المفردات :

__________________

(١) طخياء : مظلمة.

(٢) الحندس : الليل المظلم.

(٣) الصحصح : ما استوى من الأرض.

(٤) النبأة : الصوت الخفي.

(٥) نغر : فرخ العصافير.

(٦) ضوع : طائر من طيور الليل.

(٧) النغص : التحرك.

والسّبد : طائر ليّن الريش إذا وقع عليه قطرتان من الماء جرى.

(٨) عسل : اضطرب في عدوه وهزّ رأسه.

(٩) نسل : أسرع.

(١٠) فتخاء : عقاب لينة الجناح. والشاغية : وصف لنوع منها.

(١١) الطفرة : الوثبة المرتفعة.

٤٩

علوم البلاغة

قسم البلاغيّون علوم البلاغة ثلاثة أقسام هي :

١. علم المعاني : وأبرز موضوعاته :

ـ الإسناد الحقيقي والإسناد المجازي ، وأحوال المسند والمسند إليه.

ـ الخبر والإنشاء وأغراضهما وأقسامهما.

ـ القصر وطرقه.

ـ الفصل والوصل ومواضعهما.

ـ الإيجاز والإطناب والمساواة.

٢. علم البيان :

وأبرز أبوابه :

ـ التشبيه وأنواعه وأغراضه وقيمته الجمالية.

ـ الحقيقة والمجاز وأنواعهما.

ـ الاستعارة وأنواعها.

ـ الكناية وأقسامها وأنواعها.

ـ الصورة الشعرية ومكوّناتها بين النقد والبلاغة.

٣. علم البديع :

وأبرز أبوابه :

أ ـ المحسّنات المعنوية : الطّباق ، المقابلة ، المبالغة ، التورية ، الالتفات ، اللف والنّشر ، مراعاة النظير ، التجريد ، الإرصاد ، التضمين ، الاقتباس.

٥٠

ب ـ المحسّنات اللفظية : الجناس ، السّجع ، رد العجز على الصدر ، لزوم ما لا يلزم ، الموازنة ، التشريع ، الترصيع ... وقد اعترض المحدثون على هذا التقسيم الثلاثي ، وذهب د. شفيع السيد (١) إلى أنه لم يكن معروفا قبل عصر السكاكي. وذهب إلى أن (٢) «المباحث البلاغية التي تضمنتها العلوم الثلاثة متشابكة ومتداخلة ، ويمكن رؤيتها بأكثر من وجه ، فبعض العبارات مثلا تعالج في موضوع الاستعارة ، وفي الوقت نفسه تمثل لونا من ألوان البديع وهكذا» إن هذا التداخل واقع وحقيقة لا جدال فيها ، ولكن إذا كانت الوجوه البلاغية متعددة في المكان الواحد فهل يعني هذا عدم صحة الفصل بين هذه العلوم؟

فالتعبير الواحد قد يكون مكللا بالسجع والطباق والجناس والتشبيه أو الاستعارة وما إلى ذلك ويبقى لكل من هذه الأبواب سماته ومميزاته.

__________________

(١) البحث البلاغي عند العرب ، د. شفيع السيّد ، ص ١٤٢.

(٢) م. ن. ص ١٤٣.

٥١

أولا : علم البديع

١ ـ تعريفه :

١ ـ ١ ـ البديع لغة :

جاء في اللسان (بدع) : «بدع الشيء يبدعه بدعا وابتدعه : أنشأه وبدأه ... والبديع : الشيء الذي يكون أولا ... والبديع : المحدث العجيب. وأبدعت الشيء : اخترعته لا على مثال ...

والبديع : من أسماء الله تعالى لإبداعه الأشياء وإحداثه إياها ، وهو البديع الأول من كل شيء. وجاء في القرآن الكريم (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الأنعام : ١٠١ أي خالقها ومبدعها».

فالبديع إذا الخلق والإبداع ومن هنا يجب التركيز على التميّز والفرادة لا على المشاكلة والمماثلة في ضروب البديع وأفانينه.

٢ ـ ١ ـ البديع اصطلاحا :

جاء في معجم المصطلحات (١) «البديع : تزيين الألفاظ أو المعاني بألوان بديعة من الجمال اللفظي أو المعنوي ، ويسمّى العلم الجامع لطرق التزيين».

وهكذا نرى أن معجم المصطلحات ركز على جانب التزيين في هذا العلم وجعله ثانويا في التعبير البلاغي في حين ركز المعنى القاموسي على جانب الخلق والإبداع فكان أساسيا وجوهريا في التعبير البلاغي لا ضربا من الكماليات.

__________________

(١). معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ، وهبة ـ المهندس ، ص ٤٣.

٥٢

وللخطيب القزويني (ت ٧٣٤ ه‍) تعريفان يكادان يكونان تعريفا واحدا ، يقول في أولهما (١) : «هو علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة» كما يقول في ثانيهما (٢) : «هو علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الدلالة».

وهكذا يقصّر المعنى الاصطلاحي عن المعنى القاموسي في إظهار أهمية البديع الذي بدأ خلقا لا على مثال إلى تحسين الكلام وبهرجته وتزيينه شريطة أن يطابق مقتضى الحال وتبقى الدلالة واضحة غير غامضة أو زائفة.

هذا المعنى الاصطلاحي المركّز على التزيين حمل بعض الدارسين على تحديد دوره وحصره بالصورة الصوتية عند ما قال : «البديع والعروض والقافية علوم تهتم أساسا بالصورة الصوتية في التعبير الشعري» (٣).

٢ ـ تطور مصطلحه :

خضع مصطلح البديع إلى مدّ وجزر في دلالته عند البلاغيين القدامى. لهذا كان لا بد من دراسته عبر حقبتين زمنيتين هما :

١. الحقبة الأولى : وهي مرحلة ما قبل القرن السابع الهجري.

٢. الحقبة الثانية : وهي مرحلة القرن السابع الهجري وما بعده.

__________________

(١) التلخيص في علوم البلاغة ، الخطيب القزويني ص ٣٤٧.

(٢). الإيضاح في علوم البلاغة ، الخطيب القزويني ، ص ٤٧٧.

(٣). الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي والنّقدي ، الولي محمد ، ص ٥١.

٥٣

٢ ـ ١ ـ دلالة المصطلح في الحقبة الأولى :

أطلق مصطلح البديع في هذه الحقبة على الشعر المحدث الذي أتى به شعراء العصر العباسي المجددون. ويبدو أن الشعراء أنفسهم أول من أطلق هذا المصطلح على الشعر الجديد المتميّز عن سابقه بجمالية التعبير وحداثته. دليلنا على ذلك ما جاء في ترجمة صريع الغواني (مسلم بن الوليد ت ٢٠٨ ه‍) من أنه (١) «أول من قال الشعر المعروف بالبديع ، هو لقب هذا الجنس البديع واللطيف. وتبعه فيه جماعة ، وأشهرهم فيه أبو تمام الطائي فإنه جعل شعره كله مذهبا واحدا فيه. ومسلم كان متفنّنا متصرفا في شعره» ويبدو أن المعنى القاموسي قد رجحت كفته في هذا المصطلح لأن الافتنان والتصرف الذي يعني الإتيان بالجديد المتميز هما الطاغيان على دلالته.

ولكن هذا الجديد الذي أتى به مسلم لم يكن محمودا في عصره لذلك روى الأصفهاني قول أحدهم الذي جاء فيه (٢) «أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد ، جاء بهذا الذي سمّاه الناس البديع ، ثم جاء الطائي بعده فتفنّن فيه».

ويبدو أن الجاحظ (ت ٢٥٥ ه‍) قد سبق إلى هذا المصطلح في الدراسات البلاغية حيث قال (٣) : «ومن الخطباء الشعراء ممن كان يجمع الخطابة والشعر الجيد والرسائل الفاخرة مع البيان الحسن : كلثوم بن عمرو العتّابي ، وكنتيته أبو عمرو ، وعلى ألفاظه وحذوه ومثاله في البديع يقول جميع من يتكلف مثل ذلك من شعراء المولّدين ، كنحو منصور النّمري ، ومسلم بن الوليد الأنصاري وأشباههما».

__________________

(١). الأغاني ، أبو الفرج الأصفهاني ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ١٩ / ٣١.

(٢). م. ن ١٩ / ٣١.

(٣). البيان والتبيين ، الجاحظ ١ / ٥١.

٥٤

وإذا كان الجاحظ قد ذكر التكلف فإنّه لا يعني التّصنّع أو التّصنيع بل هو يريد تصوير إرادة هؤلاء على الإتيان بالجديد الذي لم يسبق له مثال. ثم إن هذا الجديد صار تيارا شعريا عند ما كثر أنصاره ، وها هو الجاحظ يضيف إلى أسماء أتباع البديع أسماء أخرى حيث يقول (١) : «كان العتّابي يحتذي حذو بشّار في البديع. ولم يكن في المولدين أصوب بديعا من بشار وابن هرمة».

ويبدو أن الجاحظ قد نقل هذا المصطلح من الرواة ، فهو يعترف بذلك عند ما يقول معلّقا على شعر الأشهب بن رميلة (شاعر مخضرم) (٢) «وهذا الذي تسميه الرواة البديع» وهو يرى أن البديع مرتبط بالإبداع وعدم المماثلة والمشاكلة. ثم إنه يرى أن (٣) «البديع مقصور على العرب ، ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة ، وأربت على كل لسان. والراعي كثير البديع في شعره ، وبشار حسن البديع ، والعتّابي يذهب في شعره في البديع مذهب بشار» وهكذا يرى أن البديع مقصور على العرب لأن لغتهم فاقت كل لغة في قدرتها على التوليد والاشتقاق اللذين يعطيانها قدرة على التولد الذاتي المساعد على تفجير طاقاتها الكامنة فيأتي المبدعون بكل جديد. وكان يضيف في كل مرة إلى شعراء هذا التيار البديعي أسماء جديدة.

وبعد أن شاع البديع في شعر الأقدمين وفي خطبهم نهض ابن المعتزّ (ت ٢٩٦ ه‍) بجمع ضروبه في كتاب حمل اسم البديع. فكان بذلك أول من أفرده بدراسة مستقلة ، لكنها لا تخلو من شوائب. وقد حدد ابن المعتز هدفه من تأليفه بقوله (٤) : «قد قدّمنا في أبواب كتابنا هذا

__________________

(١) البيان والتبيين ، الجاحظ ١ / ٥١.

(٢). البيان والتبيين ، الجاحظ ٤ / ٥٥.

(٣) البيان والتبيين ، الجاحظ ٤ / ٥٥ ـ ٥٦.

(٤) البديع ، ابن المعتزّ ، دار الجيل ص ٧٣ ـ ٧٤.

٥٥

بعض ما وجدنا في القرآن واللغة وأحاديث رسول الله (صلعم) وكلام الصحابة والأعراب وغيرهم وأشعار المتقدمين من الكلام الذي سماه المحدثون البديع ، ليعلم أن بشّارا (ت ١٦٧ ه‍) ومسلما (ت ٢٠٨ ه‍) وأبا نواس (ت ١٩٨ ه‍) ومن تقيّلهم ، وسلك سبيلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن ، ولكنه كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم حتى سمي بهذا الاسم» فابن المعتزّ ينفي سبق المحدثين إلى هذا الفن ولكنه يعترف بكثرته في أشعارهم. وهذا ما صرح به في نهاية مقدمته قائلا (١) : «وإنما غرضنا في هذا الكتاب تعريف الناس أن المحدثين لم يسبقوا المتقدمين إلى شيء من أبواب البديع».

قسم ابن المعتز كتابه إلى خمسة أبواب هي : الاستعارة ، والتجنيس ، والمطابقة ، وردّ أعجاز الكلام على ما تقدّمها ، والمذهب الكلامي.

وانتهى ابن المعتز إلى أن ضروب البديع محصورة في هذه الأبواب الخمسة لكنه رأى أن إضافة أي باب إليها ضرب من التعسف والمعاندة (٢) «قد قدمنا أبواب البديع الخمسة وكمل عندنا ، وكأني بالمعاند المغرم بالاعتراض على الفضائل قد قال : البديع أكثر من هذا» ثم أضاف إلى هذه الأبواب مجموعة أخرى سماها (محاسن الكلام والشعر) وهي عنده عصيّة على الحصر وبابها مفتوح في نظره للإضافة والمخالفة (٣) «ومن أضاف من هذه المحاسن أو غيرها شيئا إلى البديع ، وحسن الخروج من معنى إلى معنى ، وتأكيد المدح بما يشبه الذم ، وتجاهل العارف ، والهزل الذي يراد به الجدّ ، والتعريض والكناية ،

__________________

(١). م. ن. ص ٧٦.

(٢). البديع ، ابن المعتز ، ص ١٥١.

(٣). البديع ، ابن المعتز ، ص ١٥٢.

٥٦

والإفراط في الصفة ، وحسن التشبيه ، وإعنات الشاعر نفسه في القوافي وتكلفه ، وحسن الابتداءات. والملاحظ أن المحدثين قد جعلوا الكثير من هذه المحاسن أبوابا من البديع.

والملاحظ أن ابن المعتز قد جمع فيه أبواب البلاغة بعلومها الثلاثة ، وربما كان سبب ذلك تعريفه الضبابي للبديع الذي رأى أن (١) «البديع اسم موضوع لفنون من الشعر ، يذكرها الشعراء ونقاد المتأدبين منهم ، فأما العلماء باللغة والشعر القديم فلا يعرفون هذا الاسم ، ولا يدرون ما هو». ولهذا قال أحد النقاد المعاصرين (٢) «وليس لكلمة البديع التي جاءت في عنوان الكتاب صلة بما سماه البلاغيون في العصور المتأخرة (علم البديع) ... وإنما المقصود بها ألوان طريفة من التعبير لم تكن شائعة مألوفة في استعمالات الشعراء والكتاب». وعلى الرغم من ذلك يبقى الكتاب من أولى المحاولات الجادة في تدوين علم البديع. والعلوم لا تبدأ مكتملة بل هي تتكامل وتتماهى باطّراد وتستقل بعد نضجها وصلابة عودها.

ثم جاء بعده قدامة بن جعفر (ت ٣٣٧ ه‍) فألف كتابا عنوانه (نقد الشعر) يقع في ثلاثة فصول أورد فيها سبعة وعشرين نوعا من أنواع البديع اتفق فيها مع ابن المعتز في سبعة أنواع فقط ، وانفرد بعشرين نوعا. وقد اختلفا أحيانا في التسمية ، فما سمّاه قدامة (المبالغة) ورد عند ابن المعتز تحت مصطلح (الإفراط في الصفة) وما سماه (التكافؤ) سمّاه ابن المعتز (المطابقة) ، وما سماه (المطابق) و (المجانس) سماه ابن المعتز (التجنيس). واختلفا في دلالة الالتفات.

__________________

(١) البديع ، ابن المعتز ، ص ١٥١ ـ ١٥٢.

(٢) البحث البلاغي عند العرب ، د. شفيع السيد ، ص ٦٩.

٥٧

ثم تلاهما أبو هلال العسكري (ت ٣٩٦ ه‍) في كتاب الصناعتين الذي ابتكر فيه ستة أنواع ، وأخرج منه أنواعا رأى أنها تنضوي تحت بابي : المعاني والبيان ، فنحا البديع معه منحى متخصصا. وقد اعترف العسكري أن القدامى سبقوه إلى تسعة وعشرين نوعا بلاغيا ، وأنه ابتكر ستة أنواع هي : التشطير ، والمجاورة ، والتطريز ، والمضاعف ، والاستشهاد ، والتلطّف. وجاء علم البديع في الباب التاسع من أبواب الكتاب وقسمه إلى خمسة وثلاثين فصلا هي : الاستعارة والمجاز ، والتطبيق ، والتجنيس ، المقابلة ، صحّة التقسيم ، صحّة التفسير ، الإشارة ، الأرداف والتوابع ، المماثلة ، الغلوّ ، المبالغة ، الكناية والتعريض ، العكس والتبديل ، التذييل ، الترصيع ، الإيغال ، الترشيح ، ردّ الأعجاز على الصدور ، التكميل والتتميم ، الالتفات ، الاعتراض ، الرجوع ، تجاهل العارف ، الاستطراد ، جمع المؤتلف والمختلف ، السلب والإيجاب ، الاستثناء ، المذهب الكلامي ، التشطير ، المحاورة ، الاستشهاد والاحتجاج ، التعطف ، المضاعف ، التطريز ، التلطّف.

وادّعى العسكري أنه بذلك حصر أنواع البديع ، منتهيا إلى رأي شبيه برأي ابن المعتز القائل إن الأقدمين عرفوا هذه الأنواع ، وأن المحدثين أسرفوا فيها حتى اشتهروا بها. وقد صرّح برأيه هذا قائلا (١) : «فهذه أنواع البديع التي ادعى من لا رواية له ولا دراية عنده أن المحدثين ابتكروها ، وأن القدماء لم يعرفوها ، وذلك لما أراد أن يفخّم أمر المحدثين ؛ لأن هذا النوع من الكلام إذا سلم من التكلف ، وبرئ من العيوب ، كان في غاية الحسن ونهاية الجودة».

لقد توسّع مفهوم البديع عند العسكري حتى بدا وكأنه مترادف مع البلاغة في مفهومها العام.

__________________

(١). كتاب الصناعتين ، أبو هلال العسكري ، ص ٢٧٣.

٥٨

أما الباقلّاني (ت ٤٠٣ ه‍) فقد ذكر في (إعجاز القرآن) نحوا من خمسة وعشرين نوعا منبّها إلى أن وجوه البديع أكثر من ذلك ، ولكنه لم يهدف في كتابه إلى إحصائها وذكرها جميعا.

وابن رشيق (ت ٤٥٦ ه‍) يذكر في كتابه (العمدة) باب المخترع والبديع ، مشيرا إلى وفرة ضروب البديع وقد وسعته قدرته على ذكر ثلاثة وثلاثين بابا منه هي : المجاز ، الاستعارة ، التمثيل ، المثل السائر ، التشبيه ، الإشارة ، التتبيع ، التجنيس ، الترديد ، التصوير ، المطابقة ، المقابلة ، التقسيم ، التفسير ، الاستطراد ، التفريع ، الالتفات ، الاستثناء ، التتميم ، المبالغة ، الإيغال ، الغلو ، التشكيك ، الحشو وفضول الكلام ، الاستدعاء ، التكرار ، نفي الشيء بإيجابه ، الاطّراد ، التضمين والإجارة ، الاتساع ، الاشتراك ، التغاير.

لكن مفهوم البديع يتوسّع كثيرا مع أسامة بن منقذ (ت ٥٨٤ ه‍) في كتاب عنوانه (البديع في نقد الشعر) حيث يندرج تحته خمسة وتسعون نوعا على غير تمييز بين البيان والبديع والمعاني حتّى ليصحّ فيه ما قاله ابن أبي الإصبع (١) «وإذا وصلت إلى بديع ابن منقذ وصلت إلى الخبط والفساد العظيم ، والجمع من أشتات الخطأ وأنواعه من التوارد والتداخل ، وضم غير البديع والمحاسن ، كأنواع من العيوب ، وأصناف من السرقات» ومن يراجع فهرس الموضوعات يجد عناوين جديدة لا يجدها في غيره من كتب البديع ، نحو : باب النادر والبارد ، وباب الرشاقة والجهامة ، باب الطاعة والعصيان ، باب الأواخر والمقاطع ، باب التعليم والترسيم وغيرها كثير.

__________________

(١) تحرير التحبير ، ابن أبي الإصبع المصري ، ١ / ٩١ لجنة إحياء التراث الإسلامي.

٥٩

٢ ـ ٢ ـ دلالة المصطلح في الحقبة الثانية :

تبدأ الحقبة في القرن السابع الهجري وفيها اتجاهان : الأول محافظ تابع مفهوم القدامى الذي توسع في أبواب البديع وعلى رأس هذا الاتجاه نذكر ابن أبي الإصبع المصري (ت ٦٥٤ ه‍) حيث بلغ البديع في كتابه (تحرير التحبير) مئة وثلاثة وعشرين بابا ، جمعها من بديع ابن المعتز ونقد الشعر لقدامة بن جعفر حيث أخذ من الأول سبعة عشر بابا ومن الثاني ثلاثة عشر. وعدّ هذه الأبواب أصولا. ثم جمع ستين بابا عدّها فروعا مضيفا إلى هذه الأبواب الفروع والأصول ثلاثين بابا حتى بلغ مجموع أبوابه مئة وثلاثة وعشرين بابا.

ولكن ابن أبي الإصبع قد جمح إلى الكلام على أبواب لا علاقة لها بالبديع ، بل هي من النقد أقرب وبخاصة ما يتعلق منها بنقد الشعر.

ومن هذا الاتجاه أيضا صفيّ الدين الحلّي (ت ٧٥٠ ه‍) الذي نظم بديعية تقع في مئة وخمسة وأربعين بيتا. وجاء بعده عز الدين الموصلي (ت ٧٨٩ ه‍) فنظم بديعية مساوية لبديعية الحلي في عدد أبياتها. وابن حجّة الحموي (ت ٨٣٧ ه‍) نظم بديعية في مئة واثنين وأربعين بيتا. وفي كل بيت من أبيات هذه البديعيات ذكر لغرض بلاغي أو أكثر لكن النزعة الانفلاشية في توسيع مدى البديع طاغية عليها جميعا.

وثانيهما نحا منحى التحديد والتخصيص وعلى رأسه السكاكي (ت ٦٢٦ ه‍) الذي عده النقاد رأس مدرسة التّقنين في كتابه مفتاح العلوم حيث قسم فيه أبواب البديع قسمين ، أولهما عنوانه : ما يرجع إلى المعنى ويشمل : المطابقة ، المقابلة ، المشاكلة ، مراعاة النظير ، المزاوجة ، اللفّ والنشر ، الجمع ، التفريق ، التقسيم ، الجمع مع التفريق ، الجمع مع التقسيم ، الجمع مع التفريق والتقسيم ، الإيهام ، تأكيد المدح بما

٦٠