علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )

الدكتور محمّد أحمد قاسم والدكتور محيي الدين ديب

علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )

المؤلف:

الدكتور محمّد أحمد قاسم والدكتور محيي الدين ديب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الحديثة للكتاب
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

الباب الخامس

القصر

١ ـ تعريفه :

عرّفه الجرجاني بقوله (١) : «القصر في اللغة : الحبس. يقال : قصرت اللقحة على فرسي ، إذا جعلت لبنها له لا لغيره.

وفي الاصطلاح : تخصيص شيء بشيء وحصره فيه».

وعرّفه معجم المصطلحات العربية بقوله (٢) : «هو ، في علم المعاني العربي ، تخصيص صفة بموصوف أو موصوف بصفة بطريقة معينة» ويسمّى الشيء الأول مقصورا والشيء الثاني مقصورا عليه. وهما : طرفا القصر

٢ ـ نوعاه : ينقسم القصر باعتبار الحقيقة والواقع الى نوعين هما :

١ ـ القصر الحقيقي :

وهو كما عرّفه الجرجاني (٣) : «تخصيص الشيء بالشيء بحسب الحقيقة ، وفي نفس الأمر بأن لا يتجاوزه الى غيره أصلا». ويكون القصر الحقيقي إمّا :

أ. تحقيقيا : ومثاله : إنّما الأرض كرة.

ب. ادعائيا : ومثاله : لا إمام سوى العقل.

__________________

(١). كتاب التعريفات ، الجرجاني ، ص ١٨٣.

(٢). معجم المصطلحات العربية في اللغة والادب ، وهبة ـ المهندس ص ١٦٢.

(٣). كتاب التعريفات ، الجرجاني ، ص ١٨٣.

٣٤١

٢ ـ القصر الإضافي :

وهو كما عرّفه الجرجاني (١) : «الإضافة الى شيء آخر بأن لا يتجاوزه الى ذلك الشيء ، وإن أمكن ان يتجاوزه الى شيء آخر في الجملة».

يرى البلاغيون أن الاختصاص فيه نسبي نحو : ما كاتب إلّا عبد الحميد ، فإنك تقصد قصر الكتابة عليه بالنسبة الى شخص آخر غيره كابن المقفّع مثلا ، وليس قصدك أنه لا يعرف كاتب سواه ، لأنّ الواقع يكذب هذا ويشهد ببطلانه. والقصر الإضافي قسمان هما :

أ. قصر إفراد :

وهو تخصيص شيء بشيء ، وفيه اعتقاد المخاطب الشركة ، فنقطع بالقصر معنى الاشتراك ، نحو : ما شوقي إلّا شاعر ، ردا على من اعتقد انه شاعر وكاتب معا.

ب. قصر قلب :

وهو تخصيص شيء مكان شيء إذا اعتقد المخاطب العكس وقلب عليه حكمه ، نحو : ما سافر إلّا عمر. ردا على من اعتقد أن المسافر أحمد لا عمر ، فيعكس عليه حكمه ويقلب له.

وقد أضيف إليهما قسم ثالث هو :

ج. قصر تعيين :

إذا كان المخاطب متردّدا في الحكم ، نحو : الأرض متحركة لا ثابتة. ردّا على من شكّ وتردّد في الحكم.

__________________

(١). كتاب التعريفات ، الجرجاني ، ص ١٨٣.

٣٤٢

٣ ـ تقسيم القصر باعتبار طرفيه :

يقسم كل من القصر الحقيقي والإضافي ، باعتبار طرفيهما ، الى قسمين :

أ. قصر صفة على موصوف :

وهو ان تحبس الصفة على موصوفها ، وتختص به ، فلا يتّصف بها غيره ، وإن كان يحتمل أن يكون لهذا الموصوف صفات أخرى غيرها ، ومثاله :

ـ لا رازق إلّا الله (حقيقي).

ـ لا خطيب إلّا أنت (إضافي).

ب. قصر موصوف على صفة :

وهو ان يحبس الموصوف على الصفة ، ويختص بها دون غيرها ، وإن كان من المحتمل ان يشاركه غيره فيها. ومثاله :

ـ ما الله إلّا خالق كل شيء (حقيقي).

ـ ما محمد إلّا رسول قد خلت من قبله الرسل (إضافي).

* يعرف نوع القصر ، أهو قصر صفة على موصوف ام موصوف على صفة ، بما في العبارة من تقديم وتأخير ، فإن كان المقدّم صفة فهو قصر صفة على موصوف ، وإن كان موصوفا فهو قصر موصوف على صفة. فكل مقدّم مقصور ، وكل مؤخر مقصور عليه.

٤ ـ طرق القصر :

عرفت العرب طرقا كثيرة للقصر أشهرها الطرق الاصطلاحية الآتية :

٣٤٣

أ. النفي مع الاستثناء :

ويكون المقصور عليه ما بعد أداة الاستثناء نحو :

ـ لا يفوز إلّا المجد.

ـ (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ).

ـ لم يبق سواك نلوذ به.

ويشترط في القصر ب (لا) أن يكون بعد الإثبات ، والمقصور عليه فيها هو المذكور قبلها ، المقابل لما بعدها.

ب. القصر ب (إنّما):

ويكون المقصور عليه مؤخرا وجوبا ، نحو : إنّما الأمم الأخلاق ...

والمقصور ب (إنّما) هو المذكور بعدها ، وفي تقديم ما حقّه التأخير هو اللفظ المتقدّم.

ج. العطف ب (لا) أو (بل) أو (لكن):

إذا كان العطف ب (لا) كان المقصور عليه مقابلا لما بعدها ، نحو : الأرض متحركة لا ثابتة.

وإذا كان العطف ب (بل) أو (لكن) كان المقصور عليه ما بعدها نحو : ما الأرض ثابتة بل متحركة.

ما الأرض ثابتة لكن متحركة.

د. تقديم ما حقّه التأخير :

ويكون المقصور عليه هنا هو المقدّم ، نحو : على الرجال العاملين نثني.

ومثل هذا القصر لا يعرف إلّا بالذوق السليم.

٣٤٤

تمارين :

١ ـ بيّن في ما يأتي نوع القصر ، وعيّن كلّا من المقصور والمقصور عليه :

قال تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) البقرة : ٢٥٥. وقال (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) محمد : ٣٦. وقال (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) الفاتحة : ٥. وقال تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) فاطر : ٢٨. وقال تعالى (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) آل عمران : ١٤٤.

وقال لبيد (الطويل) :

وما المرء إلّا كالهلال وضوئه

يوافي تمام الشهر ثم يغيب.

وقال ابن الرومي :

 ـ أمواله في رقاب الناس من منن

لا في الخزائن من عين ومن نشب

 ـ الى الله أشكو لا الى الناس انّني

أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب

 ـ إنما يدافع عن أحسابكم عليّ.

٢ ـ بيّن نوع القصر ، وطريقه ، وعيّن كلا من المقصور والمقصور عليه في ما يأتي:

 ـ ما الدهر عندك إلّا روضة أنف

يا من شمائله في دهره زهر

 ـ ليس عار بأن يقال فقير

إنما العار أن يقال بخيل

 ـ يتغابى لهم وليس لموق

بل للبّ يفوق لبّ اللبيب

 ـ يهتز عطفاه عند الحمد يسمعه

من هزّة المجد لا من هزّة الطّرب

٣٤٥

 ـ وما قلت إلّا الحقّ فيك ولم تزل

على منهج من سنّة المجد لا حب

 ـ وما العيش إلّا مدّة سوف تنقضي

وما المال إلّا هالك وابن هالك

 ـ وما يريغون بالنّعمى مكافأة

لكن يقضوّن ما للمجد من أرب

 ـ إنّما الدنيا متاع زائل

فاقتصد فيه وخذ منه ودع

 ـ عمر الفتى ذكره لا طول مدّته

وموته خزيه لا يومه الدّاني

 ـ وإنّما اولادننا بيننا

أكبادنا تمشي على الأرض

 ـ وما الدّهر إلّا من رواة قصائدي

إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا

٣٤٦

الباب السادس

الوصل والفصل

١ ـ تعريفهما :

الوصل : عطف جملة على اخرى بالواو.

الفصل : ترك هذا العطف.

٢ ـ بلاغة الوصل :

لا تتحقّق إلّا بالواو العاطفة فقط ، لأنّ (الواو) هي الأداة التي تخفى الحاجة اليها ، ويحتاج العطف بها الى لطف في الفهم ، ودقّة في الإدراك ، إذ لا تفيد إلّا مجرّد الرّبط ، وتشريك ما بعدها لما قبلها في الحكم ، نحو : مضى وقت الكسل ، وجاء زمن العمل ، وقم واسع في الخير.

أما العطف ب (الفاء) فيفيد مع التشريك الترتيب والتعاقب ،

وب (ثم) يفيد الترتيب مع التّراخي. فلا يقع اشتباه في استعماله.

٣ ـ مواضع الوصل :

يجب الوصل بين الجملتين في ثلاثة مواضع :

١ ـ إذا اتّحدت الجملتان في الخبرية او الإنشائية لفظا ومعنى أو معنى فقط :

١ ـ اتحادهما في الخبرية ومثاله (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) الانفطار : ١٣ ـ ١٤. اتفاق الجملتين في الخبرية لفظا ومعنى.

٣٤٧

٢ ـ اتحادهما في الانشائية ومثاله (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) الاعراف : ٣١. اتحادهما في الانشائية لفظا ومعنى.

٣ ـ إنشائية معنى ، خبرية في اللفظ ، ومثاله (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) البقرة : ٨٣. فجملة (لا تَعْبُدُونَ) إنشائية معنى لأنها بمعنى لا تعبدوا ، وأخذ الميثاق يقتضي الأمر والنهي ، فإذا وقع بعده خبر أوّل بالأمر أو النهي ، وقد عطفت عليها جملة (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وهي إنشائية لفظا ومعنى لأنها على تقدير (واحسنوا بالوالدين إحسانا) فالجملتان اتفقتا في الإنشائية معنى وإن اختلفتا في اللفظ ، لذا عطفت الثانية على الأولى ، لوجود الجامع ولا مانع من العطف.

٤ ـ خبرية معنى ، إنشائية لفظا (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) الشرح : ١ ـ ٢.

فالجملة الثانية خبرية في اللفظ والمعنى ، وقد عطفت على جملة (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) وهي وإن كانت مصّدرة باستفهام فهي في معنى الخبر لأن المعنى (شرحنا لك صدرك). فتكون الاولى إنشائية لفظا خبرية معنى وبذلك اتفقت مع الثانية فصحّ العطف بينهما لوجود الجامع ، ولا مانع من العطف.

٢ ـ إذا اختلفتا خبرا وإنشاء ، وأوهم الفصل خلاف المقصود :

ومثاله : ـ لا ، وبارك الله فيك. جوابا لمن سألك : هل لك حاجة أساعدك في قضائها.

ـ لا ، ويرحمك الله. جوابا لمن سألك : هل شفيت من مرضك.

٣٤٨

ف (لا) في الجملة الأولى قائمة مقام جملة خبرية تقديرها (لا حاجة لي) وكذلك القول في الجملة الثانية. والجملتان : بارك الله فيك ، ويرحمك الله ، جملتان خبريتان لفظا إنشائيتان معنى والعبرة بالمعنى.

ويجب التأكيد على وجود الواو في صدر الجملة الثانية لأن تركها يوهم السامع بالدعاء عليه ، وهو خلاف المقصود ، لأن الغرض الدعاء له. ولهذا وجب الوصل. وعطف الجملة الثانية الدعائية الإنشائية على الأولى الخبرية المقدّرة بلفظ (لا) لدفع الإيهام ، وكلا الجملتين لا محل لها من الأعراب.

٣ ـ إذا قصد إشراكهما في الحكم الاعرابي :

إذا كان للجملة الأولى محلّ من الإعراب ، وقصد تشريك الجملة الثانية لها في الإعراب حيث لا مانع. ومثاله :

قول أبي العلاء (الوافر) :

وحبّ العيش أعبد كلّ حر

وعلّم ساغبا أكل المرار.

١ ٢

فالجملة الولى (أعبد كلّ حر) في محل رفع خبر للمبتدأ (حبّ) ، وأراد الشاعر إشراك الثانية لها في الحكم الاعرابي ، فعطفها عليها بالواو. والجملتان خبريتان فعلّيتان فعلهما ماض.

وقول المتنبي (الطويل) :

وللسرّ منيّ موضع لا يناله

نديم ، ولا يفضى إليه شراب

١ ٢

فالجملة الأولى (لا يناله نديم) في محل رفع صفة ل (موضع) ، وأراد اشراك الجملة الثانية لها في هذا الحكم فعطفها

٣٤٩

عليها بالواو. والجملتان متّحدتان خبرا ، متناسبتان معنى فلا داعي للفصل بينهما.

وقال بشّار (الطويل) :

وأدن الى القربى المقرّب نفسه

ولا تشهد الشورى امرأ غير كاتم

١ ٢

فالجملتان هنا متّحدتان إنشاء ، ومتناسبتان في المعنى لذلك عطفت الثانية على الاولى.

* الأحسن ان تنفق الجملتان في الاسمية والفعلية ، والفعليتان في الماضوية والمضارعية ، أي ان تعطف الاسمية على مثلها ، وكل من الماضوية والمضارعية على مثلها.

تمارين :

١ ـ بيّن مواضع الوصل في ما يأتي ، واذكر السبب :

قال تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) الاسراء : ٢٩. وقال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) الفرقان : ٣٥ وقال تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ* فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ* وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) الحج : ٤٩ ـ ٥١.

وقال الرسول (ص) : «اتق الله حيثما كنت ، واتبع السينة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن».

وقال أبو بكر (ر) : «أيها الناس ، إنّي ولّيت عليكم ولست بخيركم».

٣٥٠

وقال الامام علي (ر) : «دع الإسراف مقتصدا ، واذكر في اليوم غدا ، وأمسك من المال بقدر ضرورتك ، وقدّم الفضل ليوم حاجتك».

٢ ـ بيّن مواضع الوصل ، واذكر السبب :

١ ـ يشمّر للّجّ عن ساقه

ويغمره الموج في السّاحل

٢ ـ تأتي المكاره حين تأتي جملة

وأرى السرور يجيء في الفلتات

٣ ـ وكلّ امرئ يولي الجميل محبّب

وكلّ مكان ينبت العزّ طيّب

٤ ـ اضرب وليدك وادلله على رشد

ولا تقل هو طفل غير محتلم

٥ ـ يجود بالنفس إن ضنّ الجواد بها

والجود بالنفس أقصى غاية الجود

٦ ـ نسيبك من ناسبت بالودّ قلبه

وجارك من صافيت لا من تصاقب

٧ ـ إنّما هذه الحياة متاع

والسّفيه الغبيّ من يصطفيها

٨ ـ ما مضى فات ، والمؤمّل غيب

ولك الساعة التي أنت فيها

٩ ـ قد يدرك الراقد الهادي برقدته

وقد يخيب أخو الرّوحات والدّلج

١٠ ـ يصدّون في البأساء من غير علة

ويمتثلون الأمر والنهي في الخفض

١١ ـ أعزّ مكان في الدّنا سرج سابح

وخير جليس في الزمان كتاب

١٢ ـ وغدر الفتى في عهده ووفائه

وغدر المواضي في نبوّ المضارب

١٣ ـ العين عبرى والنفوس صوادي

مات الحجا وقضى جلال النادي

١٤ ـ لا الدّمع غاض ولا فؤادك سالي

نزل الحمام عرينة الرئبال

١٥ ـ فإذا رأيتك حار دونك ناظري

وإذا مدحتك حار فيك لساني

٣٥١

٤ ـ مواضع الفصل :

إذا ترادفت الجمل ، ووقع بعضها إثر بعض ربطت بالواو العاطفة لتكون على نسق واحد. ولكن قد يعرض لها ما يوجب ترك الواو فيها إمّا لأن الجملتين متحدّتان صورة ومعنى ، وإمّا لأنّهما بمنزلة المتحدتين ، وإمّا لأنه لا صلة بينهما في الصورة أو في المعنى.

ويقع الفصل في خمسة مواضع هي :

١ ـ " كمال الاتصال".

وهو اتحاد الجملتين اتحادا تاما ، بحيث تكون الجملة الثانية : توكيدا للأولى ، أو لا بد منها ، أو بيانا لها. ومثاله :

ـ قال تعالى : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) الطارق : ١٧.

فالجملة الثانية (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) توافق الجملة الأولى التي سبقتها لفظا ومعنى ، وهي توكيد لفظي للأولى ، وبذلك صارت الصلة قوية بينهما بحيث لا تحتاجان الى رابط ، لأنّ التوكيد من المؤكد كالشيء الواحد ، لذا ترك العطف لعدم صحّة عطف الشيء على نفسه.

ـ وقال تعالى : (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ* أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) الشعراء : ١٣٢ ـ ١٣٣.

فالآية الثانية بمنزلة بدل البعض ، لأنّ ما يعلّمونه يشمل ما في الجملة الثانية من النعم الأربع وغيرها من سائر النعم ، ولم يعطف بين الجملتين بالواو لقوّة الربط بينهما.

ـ وقال تعالى : (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ* قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) المؤمنون : ٨١ ـ ٨٢.

٣٥٢

فالآية الثانية شارحة وموضّحة ، وأوفى بتأدية المعنى من الأولى. فهي واقعة موقع بدل الكل من الأولى ، ولذا ترك العطف لقوّة الربط بين الجملتين.

ـ وقال تعالى (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ* اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) يس : ٢٠ ـ ٢١. فالآية الثانية بدل اشتمال من الأولى ، لأنّ المراد من الأولى حمل المخاطبين على اتباع الرسل ، والثانية أوفى لأن معناها : لا تخسرو شيئا من دنياكم وتربحو صحّة دينكم ، فيكون لكم جزاء الدنيا والآخرة ، فترك العطف بين الجملتين لقوّة الربط بينهما.

ـ وقال تعالى (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) البقرة : ٤٩. فصلت جملة (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) عن (يَسُومُونَكُمْ) لأن الثانية موضّحة للأولى فكانت بمنزلة عطف البيان ، لذلك ترك العطف لقوّة الربط بينهما ، لأن عطف البيان لا يعطف على متبوعه.

٢ ـ كمال الانقطاع.

وهو ان يكون بين الجملتين تباين تام. وأوضح ما يكون ذلك إذا تقاطعتا :

١ ـ خبرا وإنشاء :

نحو (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الحجرات : ٩. فصلت الجملة الثانية عن الأولى لأن الأولى (وَأَقْسِطُوا) إنشائية لفظا ومعنى ،

٣٥٣

والثانية (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) خبرية لفظا ومعنى ، فبينهما تباين تام وانقطاع كامل ممّا يستوجب الفصل بينهما.

٢ ـ واختلافهما معنى :

نحو : نجح خالد وفّقه الله. فالثانية إنشائية لفظا خبرية معنى.

٣ ـ ألّا يكون بين الجملتين مناسبة في المعنى ولا ارتباط :

ومثاله :

إنّما المرء بأصغريه

كل امرئ رهن بما لديه

فلا مناسبة بين الجملة الثانية والأولى لأنّ كلّا منهما مستقلة بنفسها.

٣ ـ شبه كمال الاتصال :

وهو أن تكون الجملة الثانية شديدة الارتباط بالأولى ، حتّى لكأنّها جواب عن سؤال نشأ من الأولى.

ويكون السؤال عن سبب عام كما في قوله (الخفيف) :

قال لي : كيف أنت؟ قلت : عليل

سهر دائم وحزن طويل

ويكون السؤال عن سبب خاص كقوله تعالى (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) يوسف : ٥٣. فقد فصلت الجملة الثانية عن الأولى لأنّها واقعة في جواب سؤال مقدّر ، وكأنه قيل : هل النفس أمّارة بالسّوء؟ فقيل : إن النفس لأمّارة بالسوء.

وقد يفهم السؤال من السياق كقوله (الكامل) :

زعم العواذل أنّني في غمرة

صدقوا ولكن غمرتي لا تنجلي.

كأنه سئل : أصدقوا في زعمهم أم كذبوا؟ فأجاب : صدقوا.

٣٥٤

٤ ـ شبه كمال الانقطاع :

وهو ان تسبق جملة بجملتين يصحّ عطفها على الأولى لوجود المناسبة ، ولكن في عطفها على الثانية فساد في المعنى فيترك العطف بالمرّة ، دفعا لتوهّم أنه معطوف على الثانية. نحو :

وتظنّ سلمى أنّني أبغي بها

بدلا أراها في الضلال تهيم

فجملة (أراها) يصح عطفها على جملة (تظن) لكن يمنع من ذلك توهم العطف على جملة (أبغي بها) فتكون الثالثة من مظنونات سلمى ، مع أنّه غير المقصود ولهذا امتنع العطف.

٥ ـ التوسّط بين الكمالين :

وهو أن تكون الجملتان متناسبتين وبينهما رابطة قوية لكن يمنع من العطف مانع هو عدم قصد التشريك في الحكم كقوله تعالى (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ* اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ..) البقرة : ١٤. لقد فصلت جملة (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) عن جملة (إِنَّا مَعَكُمْ) مع التناسب ووجود الجامع بينهما المصحح للعطف لوجود المانع ، وهو أنّه لم يقصد تشريك جملة (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) لجملة (إِنَّا مَعَكُمْ) في الحكم الاعرابي ، وهو انها مفعول القول ، فيقتضي ذلك أن جملة : الله يستهزئ بهم تكون من مقول المنافقين ، وهي ليست كذلك بل هي من كلام الله سبحانه ولذلك فصل بينهما.

٣٥٥

تمارين :

١ ـ بيّن مواضع الفصل في ما يأتي واذكر السبب :

١ ـ وما الدهر إلّا من رواة قصائدي

إذا قلت شعرا أصبح الدّهر منشدا

٢ ـ الناس للناس من بدو وحاضرة

بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم

٣ ـ يا صاحب الدنيا المحبّ لها

أنت الذي لا ينقضي تعبه

٤ ـ ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا

إنّ السّماء ترجّى حين تحتجب

٥ ـ إن نيوب الزّمان تعرفني

أنا الذي طال عجمها عودي

٦ ـ لا يعجبّنك إقبال يريك سنا

إنّ الخمود لعمري غاية الضّرم

٧ ـ يقولون إنّي أحمل الضّيم عندهم

أعوذ بربّي أن يضام نظيري

٨ ـ نفسي له نفسي الفداء لنفسه

لكنّ بعض المالكين عفيف

٩ ـ يهوى الثّناء مبرّزّ ومقصّرّ

حبّ الثناء طبيعة الإنسان

١٠ ـ حكم المنيّة في البرية جاري

ما هذه الدنيا بدار قرار.

٢ ـ بيّن مواضع الوصل والفصل في ما يأتي واذكر السبب :

١ ـ ألا من يشتري سهرا بنوم؟

سعيد من يبيت قرير عين

٢ ـ اخط مع الدهر إذا ما خطا

واجر مع الدهر كما يجري

٣ ـ لا تدعه إن كنت تنصف نائبا

هو في الحقيقة نائم لا نائب

٤ ـ وقد كان يروي المشرفيّ بكفّه

ويبلغ أقصى حجرة الحيّ نائله

٥ ـ وتظن سلمى أنني ابغي بها

بدلا ، أراها في الظّلام تهيم

٦ ـ الفقر فيما جاوز الكفافا

من اتقى الله رجا وخافا

٣٥٦

الباب السابع

الإيجاز والإطناب والمساواة

لا يعدو التعبير عن المعاني التي تجول في الذهن ، وعن العواطف التي يجيش بها الصدر ، طريقا من هذه الطرق الثلاث :الإيجاز ، والإطناب ، والمساواة. وسنبحث كلّ طريق بحثا منفصلا.

أوّلا : الإيجاز :

١ ـ ١. تعريفه :

عرّفه الجرجاني بقوله (١) : «أداء المقصود بأقلّ من العبارة المتعارفة».

وعرّفه معجم المصطلحات العربية بقوله (٢) : «هو التعبير عن المعاني الكثيرة باللفظ القليل».

وعلينا ان ندرك ان الإيجاز لغة يفيد التقّصير ، وأنّه في الاصطلاح يعني : اندراج المعاني الكثيرة تحت اللفظ القليل.

وقد رأى البلاغيون ان الألفاظ القليلة فيه يجب أن تفي بالمراد مع الإبانة والإفصاح وتناسقها مع حال المخاطب.

مثاله ، قوله تعالى (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) الأعراف : ١٩٩. فلقد جمعت الآية على قصرها مكارم الأخلاق جميعا دون إخلال أو حذف ملبس.

ومثاله أيضا قوله (ص) : (إنّما الأعمال بالنيّات) فالحديث يتضمّن معاني كثيرة تشعّ بها الألفاظ وتومئ إليها من غير إخلال

__________________

(١). كتاب التعريفات ، الجرجاني ، ص ٣٢.

(٢). معجم المصطلحات العربية في اللغة والادب ، وهبة ـ المهندس ص ١٦٢.

٣٥٧

بالمعنى. لهذا قال الرمّاني (١) : «الإيجاز تقليل الكلام من غير إخلال بالمعنى».

١ ـ ٢. نوعاه :

ينقسم الإيجاز الى قسمين ، هما :

أ ـ إيجاز قصر :

وهو ما تزيد فيه المعاني على الألفاظ ولا يقدّر فيه محذوف ، ويسمى أيضا إيجاز البلاغة لأن الأقدار تتفاوت فيه.

مثاله قوله تعالى (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) الأعراف : ٥٤. لقد جمعت الآية فأوعت حتى إنه روي أنّ ابن عمر (ر) قرأها فقال : من بقي له شيء فليطلبه.

ومثاله أيضا قوله (ص) : (الضعيف أمير الرّكب). فالحديث جمع من آداب السفر والعطف على الضعيف ما لا يسهل التعبير عنه إلّا بالقول المسهب.

ومنه قول السموءل (الطويل) :

وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها

فليس الى حسن الثناء سبيل

فقد جمع البيت الصفات الحميدة من سماحة وشجاعة وتواضع وحلم وصبر واحتمال مكاره في سبيل طلب الحمد إذ كل هذه مما تضيم النفس.

وبهذا النوع من الإيجاز تغنّى البلاغيّون فقالوا : «القليل الكافي خير من كثير غير شاف».

__________________

(١). النكت في اعجاز القرآن ، الرمّاني ، ص ٧٧.

٣٥٨

ب ـ إيجاز حذف :

ويكون بحذف شيء من العبارة لا يخلّ بالفهم ، مع وجود قرينة لفظية أو معنوية تدلّ على المحذوف. ويكون هذا المحذوف.

أ ـ حرفا :

كقوله تعالى (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) مريم : ٢٠. فلقد حذفت النون من (أكن) تخفيفا.

ب ـ اسما مضافا :

كقوله تعالى (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) الحج : ٧٨ والمحذوف (سبيل) وجاهدوا في سبيل الله ...

ج ـ اسما مضافا اليه :

كقوله (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) الأعراف : ١٤٢ فحذف المضاف اليه (ليال) والتقدير بعشر ليال.

د ـ اسما موصوفا :

كقوله تعالى (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) مريم : ٦٠ أي عملا صالحا.

ه ـ اسما صفة :

كقوله تعالى (مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) ص : ٥١ أي وشراب كثير بدليل ما قبله.

٣٥٩

و ـ شرطا :

كقوله تعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) آل عمران : ٣١ أي فإن تتّبعوني يحببكم الله.

ز ـ جواب شرط :

كقوله تعالى (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) الزمر : ٧٣. كأنه قيل : قد حصلوا على النعيم المقيم. والحذف هنا أبلغ من الذكر لأن النفس تذهب فيه كل مذهب ، ولو ذكر الجواب لقصر على وجه واحد تتضمّنه العبارة ، والحذف يترك للنفس أن تقدّر ما يحلو لها رؤيته ...

ح ـ مسندا :

كقوله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) لقمان : ٢٥ أي خلقهن الله.

ط ـ مسندا اليه :

كقول حاتم الطائي (الطويل) :

أماويّ ما يغني الثّراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر.

أي إذا حشرجت النّفس.

ي ـ المعطوف :

كقوله تعالى (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) الحديد : ١٠ والتقدير : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ، ومن أنفق من بعده وقاتل. والقرينة الدالة على ذلك قوله تعالى بعد ذلك (أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) الحديد : ١٠

٣٦٠