علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )

الدكتور محمّد أحمد قاسم والدكتور محيي الدين ديب

علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )

المؤلف:

الدكتور محمّد أحمد قاسم والدكتور محيي الدين ديب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الحديثة للكتاب
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

١ ـ ج. الآلية :

يرد فيها اللفظ الدال على الآلة او الأداة ويراد به : أثرها.

ويقتصر فيها على ذكر الآلة التي يؤدى بها الفعل بدلا من ذكر الفعل نفسه. فالآلة في الأصل هي السّبب المؤدي الى ذلك الفعل ، نحو : ضربته عصا ، والمراد ضربته بالعصا.

ففي (عصا) مجاز مرسل لأنّه استغنى بذكر آلة الضرب عن ذكر فعل الضرب نفسه. فالعلاقة آلية والقرينة ضربته.

ومثالها قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) ابراهيم : ٤.

والآية استخدمت (اللسان) والمراد به اللغة. والمعلوم أن اللسان آلة تؤدى بها اللغة. لذلك كان في الآية مجاز مرسل إذ ذكر الآلة (اللسان) وأراد اللغة التي تؤدي به ، فالعلاقة آلية ، والقرينة حالية.

ومثالها ايضا قول الشاعر (الطويل) :

وما من يد إلّا يد الله فوقها

وما ظالم إلّا سيبلى بأظلم.

أراد الشاعر بيد (القوة) وصار معنى كلامه : ما من قوّة إلا قوّة الله فوقها لكن المعلوم عند الناس أن اليد هي آلة القوّة. لذلك كان في البيت مجاز مرسل إذ ذكر الآلة (اليد) وأراد القوّة التي تؤدى بها.

فالعلاقة آلية والقرينة حالية.

ومثاله قول المتنبي في كافور (البسيط) :

جود الرجال من الأيدي وجودهم

من اللّسان فلا كانوا ولا الجود.

٢٢١

ذكر المتنبي اليد واللسان مريدا بهما : المال والقول ، فاستعاض بذكر الآلة عمّا تحدثه. لقد أقام المتنبي مقابلة بين الجود الحقيقي والجود المزيّف. فالأصل أن يأمر اللسان بإعطاء المال واليد تحوّل ذلك الأمر الى حقيقة فيكون ها هنا بينهما تتابع واتساق.

اللسان ـ أمر بالجود ـ اليد ـ اعطاء المال.

لكنّ المتنبي لمس الخلل في هذه السلسلة عند كافور فقارن بين الشكل الأصلي التام في الجود والشكل الأبتر عند كافور فأخرج الصورة في تركيب يقوم على مجاز مرسل ومقابلة يتوسّطها لفظ (جود) بل يبدأ به البيت وينتهي به ولكن بدايته إيجاب ونهايته سلب.

١ ـ د. الملزومية (إطلاق اسم الملزوم على اللازم):

مثال ذلك : دخلت الشّمس من النافذة والمقصود نورها لا جرمها. فكلمة الشمس مجاز مرسل علاقته الملزومية ، لأنّ المعنى الحقيقي للشمس هو جرمها وجرمها ملزوم للمعنى المجازي الذي هو الضوء. والقرينة (دخلت).

ومنها أيضا قوله عليه الصلاة والسّلام (لا تسبّوا الأموات فإنّهم قد أفضوا إلى ما قدّموا).

فالذي قدّموه هو اعمالهم وأقوالهم التي يترتّب عليها جزاؤهم وعقابهم ، والجزاء والعقاب من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم.

١ ـ ه. اللازمية :

وهي كون الشيء يلزم وجوده عند وجود شيء آخر ، أي حين يكون المعنى الحقيقي للكلمة المذكورة في العبارة لازما للمعنى المجازي.

٢٢٢

مثال ذلك : أنظر الحرارة ونحن نشير الى النّار. وطلع الضّوء ونحن نقصد الشمس والقرينة في ذلك : انظر وطلع.

والحرارة لازمة للنّار إذ لا نار بلا حرارة ، والضوء لازم للشمس فهي أمّ الأضواء ، والنظر ليس وصفا حقيقيا للحرارة بل النّار والطلوع ليس وصفا حقيقيا للضوء بل للشمس.

ننتهي الآن من العلاقات الغائية وننتقل الى العلاقات الكميّة.

٢ ـ العلاقة الكميّة :

وتتضمن العلاقات الفرعية الآتية :

٢ ـ أ. الكلّية :

يرد اللفظ الدال على الكل ويراد به الجزء ، ويستعمل فيها اللفظ الدّال على الكل ويراد جزء منه. وهي تقابل الجزئية ، فنذكر الكلّ ونحن نريد جزءا منه.

مثالها قوله تعالى (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) نوح : ٧.

لقد ذكرت الآية (أَصابِعَهُمْ) ولكن من الطبيعي ألّا يكون بقدرتهم وضع أصابعهم كلها في آذانهم ، بل الطبيعي أن يضعوا أطراف أصابعهم في آذانهم. ففي الآية إذا مجاز مرسل إذ ذكر الكل (الأصابع) وأريد به الجزء (أطرافها) والعلاقة كليّة.

ومثالها أيضا قوله تعالى (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) آل عمران : ١٦٧.

٢٢٣

ذكرت الآية (أفواههم) والمراد ألسنتهم لأن اللسان آلة القول ولكنّ اللسان جزء من الفم ، لذلك كان في الآية مجاز مرسل إذ ذكر الكل (الفم) والمراد به الجزء (اللسان) فالعلاقة كلية.

ومثالها أيضا قول المتنبي :

أقمت بأرض مصر فلا ورائي

تخبّ بي الرّكاب ولا أمامي.

فمن الطبيعي أن الشاعر لم يقم في أرض مصر بكاملها بل هو أقام في جزء منها. فلقد ذكر الكل وأراد الجزء. فالعلاقة إذا كليّة.

٢ ـ ب. الجزئية :

يرد اللفظ الدال على الجزء ويراد به الكلّ.

وفيها نذكر الجزء ويراد الكلّ ، نحو قوله تعالى (فَكُّ رَقَبَةٍ) البلد : ١٣. فالآية أتت على تحرير الرّقيق وعنت بفك رقبة تحرير العبد. فالرقبة جزء من العبد ، والآية أرادت العبد كله لا رقبته وحدها. لذلك كان في الآية مجاز مرسل علاقته الجزئية والقرينة حالية.

وكقول الكميت (الطويل) :

ولم يلهني دار ولا رسم منزل

ولم يتطرّبني بنان مخضّب.

فالشاعر ذكر البنان وأراد به الحبيبة صاحبة البنان. فالبنان المخضّب جزء من الفتاة والشاعر أراد الفتاة كلّها لا إصبعها وحده.

لذلك كان في شعره مجاز مرسل علاقته الجزئية.

٢٢٤

ومثالها أيضا قول الشاعر (الوافر) :

وكم علّمته نظم القوافي

فلمّا قال قافية هجاني.

لقد ذكر الشاعر (قافية) مرادا بها قصيدة. ولكن القافية جزء من القصيدة لذلك كان في البيت مجاز مرسل علاقته الجزئية.

ومنها : بثّ الحاكم عيونه في المدينة ، أراد بثّ جواسيسه ، فالعيون جزء من الجواسيس وكان الانتقال من الجزء الى الكلّ.

٢ ـ ج. العمومية : (إطلاق الاسم العام وإرادة الخاصّ).

وهي استعمال اللفظ الدّال على العموم لشيء يكون من مشتملاته ، نحو (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) الشعراء : ٢٢٤.

فالآية لم تعن عموم الشعراء لأنّه جاء بعدها استثناء لبعضهم (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الشعراء : ٢٢٧.

٢ ـ د. الخصوصية : (استعمال اللفظ الخاص للدلالة على العموم).

من ذلك قوله تعالى (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) المنافقون : ٤.

استخدمت الآية لفظ العدوّ وأرادت الأعداء بدليل ضمير الجماعة العائد إليه في (فاحذرهم).

ومن ذلك أيضا قوله تعالى (عَلِمَتْ نَفْسٌ) التكوير : ١٤.

والمقصود كلّ نفس.

وهكذا تنتهي العلاقة الكمّية وتفرعّاتها الجزئية ونبدأ بالعلاقة المكانية وتفرّعاتها.

٢٢٥

٣ ـ العلاقة المكانيّة :

وتنضوي تحتها العلاقات الفرعيّة الآتية :

٣ ـ أ. المحلّية :

يرد اللفظ الدال على المحلّ ويراد ما حلّ به. وفيها يذكر المحلّ ويراد ما يحلّ به ، نحو : ركبت البحر. فأنت لم تركب البحر وإنما ركبت السفينة التي تمخر عبابه. ففي البحر مجاز لأنني ذكرت المحلّ (البحر) ، وأنا أريد الحالّ فيه (السفينة) والقرينة (ركبت) فالعلاقة محليّة.

ومثالها قوله تعالى (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) الأنعام : ٦. فالآية تريد بالسّماء المطر ، ولهذا فقد ذكرت المحلّ الذي يأتي منه المطر (السماء) وأرادت المطر نفسه فالعلاقة إذا محلية.

وكقول ابن لنكك في هجاء المتنبّي (البسيط) :

لكنّ بغداد ـ جاد الغيث ساكنها ـ

نعالهم في قفا السقّاء تزدحم.

فلقد ذكر الشاعر بغداد ، وأراد أهلها الذين يحلّون فيها ، ولقد أورد لفظ نعالهم دلالة على ذلك. ففي البيت مجاز مرسل لأنه ذكر المحل (بغداد) وهو يريد الحالّين فيه (أهل بغداد) والقرينة نعالهم.

فالعلاقة إذا محلية.

ومثالها أيضا قول عنترة (الكامل) :

فشككت بالرمح الأصمّ ثيابه

ليس الكريم على القنا بمحرّم.

٢٢٦

فلقد ذكر ثيابه وهو يريد جسمه ، ولكنّ الجسم يحلّ في الثيّاب. ففي البيت مجاز مرسل لأنه ذكر المحل (الثياب) وهو يريد الحالّ فيه الجسم والقرينة شككت. فالعلاقة إذا محليّة.

٤ ـ ب. الحالّيّة :

يرد اللفظ الدال على الحالّ ويراد به المحلّ.

وتقابل المحليّة ، فنذكر فيها الحالّ بدلا من المحلّ الذي حلّ فيه. مثالها قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) آل عمران : ١٠٧.

والمقصود ب (رَحْمَتِ اللهِ) جنّة الله ، والجنّة هي المحلّ الذي تحلّ فيه رحمة الله ، ففي الآية مجاز مرسل ، إذ ذكرت الآية الحالّ (الرحمة) وأرادت المحلّ (الجنّة) بقرينة (هُمْ فِيها خالِدُونَ) والعلاقة حاليّة.

ومثالها أيضا قول الشاعر (الطويل) :

ألماّ على معن وقولا لقبره

سقتك الغوادي مربعا ثم مربعا.

(مربعا ثم مربعا : اربعة أيام ثم أربعة أخرى وهكذا ...).

لقد ذكر الشاعر (معنا) والمقصود (قبر معن) فمعن هو الحالّ فيه. ففي البيت مجاز مرسل إذ ذكر الحالّ (معن) وأراد المحلّ (القبر) بقرينة وقولا لقبره. والعلاقة حاليّة.

ومثالها أيضا قول المتنبي في هجاء كافور (البسيط) :

إنّي نزلت بكذّابين ، ضيفهم

عن القرى وعن التّرحال محدود.

٢٢٧

لقد ذكر الشاعر (الكذّابين) وقصد أرض الكذّابين لأنّ الكذّابين يحلّون في هذه الأرض. ففي البيت مجاز مرسل إذ ذكر الحالّين (الكذّابين) ، وأراد المحلّ (أرض الكذابين) بقرينة قوله (نزلت) والعلاقة حاليّة.

٣ ـ ج. المجاورة :

المقصود بالمجاورة التعبير بالمجاور عمّا جاوره ، ويكون ذلك حين يكون المعنى الحقيقي للفظ المذكور مجاورا للمعنى المجازي.

وقد أهمل البلاغيّون هذه العلاقة لأنه بالامكان الاستغناء عنها إما بعلاقة المحليّة ، وإما باللازميّة والملزوميّة.

ننتقل الآن الى الضرب الأخير من العلاقات وهو العلاقة الزمانيّة.

٤ ـ العلاقة الزّمانية : وينضوي تحتها :

٤ ـ أ. الماضوّية (اعتبار ما كان).

يرد اللفظ الدال على طور من الأطوار قد انقضى ويراد به طور سابق على ذلك الطور أو هو تسمية الشيء بما كان عليه.

وتكون هذه الحالة عندما نستعمل كلمة تطلق على ما كان عليه الشيء. ونحن نقصد ما آل اليه بعد ذلك. مثالها قوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) النساء : ٢.

ففي كلمة يتامى مجاز مرسل لأنه ذكر ما كان ، وهو يريد ما آل اليه اليتامى من بلوغهم سن الرشد ، وهي السّنّ التي يفقدون فيها صفة اليتم والقصور فترد عليهم أموالهم. فكأن الآية تريد وآتوا الراشدين أموالهم

والقرينة حالية والعلاقة اعتبار ما كان.

٢٢٨

ومثالها أيضا قوله تعالى (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) طه : ٧٤.

ففي كلمة (مجرما) مجاز مرسل لأن الآية ذكرت ما كان عليه في الدنيا من إجرام. والقرينة حالية ، والعلاقة اعتبار ما كان.

ومثالها قول ابن حمديس :

لا أركب البحر أخشى

عليّ منه المعاطب

طين أنا وهو ماء

والطين في الماء ذائب

ففي كلمة (طين) مجاز مرسل لأن أصل الانسان من طين ، فأبو البشر آدم كان من تراب وطين. فالطين إذا رمز للانسان باعتبار ما كان عليه في الأصل ، والعلاقة بين الانسان والطين علاقة تاريخ أو هي علاقة ماضوية.

أما البيت الأول ففيه مجاز مرسل أيضا وعلاقته الكليّة إذ إن الركوب يكون في جزء من البحر ، وقد تكون العلاقة فيه محليّة على أساس أن الركوب يكون في السفينة وهي حالّة في البحر الذي هو المحلّ.

٤ ـ ب. المستقبليّة (اعتبار ما سوف يكون).

يرد اللفظ الدال على طور من الأطوار التي يكون عليها شيء ما وإرادة طور لاحق ، أو هو تسمية الشيء بما يكون. وتقابل العلاقة السابقة ، إذ نذكر ما سوف يؤول إليه الشيء ونحن نقصد ما كان عليه.

مثالها قوله تعالى : (قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) يوسف : ٣٦.

٢٢٩

ففي كلمة (خمرا) مجاز مرسل والعلاقة مستقبلية فالآية تريد ما كان عليه الخمر قبل العصر (العنب) وذكرت ما يكون عليه بعد العصر (الخمر) والقرينة (أعصر) فهنا مجاز مرسل علاقته مستقبلية أو اعتبار ما سيكون.

ومثالها أيضا قوله تعالى : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) الصافات : ١٠١.

ففي كلمة (حليم) مجاز مرسل والعلاقة مستقبلية لأن الآية تريد ما سيكون عليه الغلام لا ما هو عليه الآن. والحلم صفة لا يكتسبها الإنسان إلّا بعد الإدراك ولا يوصف بها الغلام.

ومثالها أيضا قول أحمد شوقي يصف التلامذة :

وتلك الأواعي بأيمانهم

حقائب فيها الغد المختبي

لقد أراد شوقي أن حقائبهم فيها الكتب والدفاتر وعدّة الدراسة فذكر ما يكون منها (الغد) أي المستقبل ولم ينظر الى ما هو كائن الآن والعلاقة مستقبلية لأنه اعتبر ما سيكون.

في جمالية المجاز المرسل وأهميّته :

يؤدي المجاز المرسل دورا هاما في بلاغة التعبير لأنه يوسّع دلالته ويبعث على التامّل الذي يخلّص العبارة من المباشرة المملّة ويفتح المجال واسعا امام الخيال الذي يشكّل الصور التي يستسيغها ذوقه. إنّه يشحن الألفاظ بدلالات جديدة من غير إماتة للمعنى الحقيقي.

وعند ما يبدو التعميم والشمولية في المجاز المرسل فإن ذلك يدلّ على مبالغة لطيفة وان الصورة تطوي وراءها احيانا مزيدا من

٢٣٠

الإحساس بالصورة المقصودة. وعندما نستبدل الكلّ بالجزء نحسّ بالمبالغة وعندما يلخّص الجزء الكلّ يتمّ تشخيص الكل بشكل متميّز عن الأشياء الأخرى.

لهذا فإن المجاز على علاقة بالرسم والتصوير ، وهذان يتطلّبان استخدام نظام صارم مرتبط بالألوان والأشكال والأبعاد وكذلك المجاز المرسل ليس استخداما عشوائيا للألفاظ بل هو نظام عام مرتبط بالحياة والتراث. وإذا كان المجاز ركيزة الصورة فإنّه بذلك يحدّد بدقّة وجهة نظر المبدع للأشياء ويبلور رؤيته للكون.

وتكمن أهميته في أنّه يضفي على الصورة رونقا ويوسّع دائرة الإيحاء ويكمّل وظيفة اللغة من خلال الرؤيا الفنّية للأشياء. وهو يساعد على التركيز لفهم الحذف الحاصل في أوجه المجاز وعلاقاته. وإذا كان مستحبا فيه الغموض الفنّي فإن هذا الغموض لا يعني التعقيد والإلغاز ، ففي المجاز المرسل يتشوّق القارئ الى تحصيل الصورة كاملة فيشعر بلذّة الاكتشاف بعد أن أعمل عقله وخياله في اكتشاف العلاقات القائمة بين ضروب المجاز. لهذا كان الشعر كشفا لما فيه من ألفاظ موحية بمعان قريبة وبعيدة تساعد القرائن اللفظية والمعنوية على اكتشافها.

تمرينات :

١ ـ أدرس المجاز المرسل في ما يأتي واشرحه مبينا علاقاته وأهمّيتها في بناء الصورة.

قال تعالى : (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) الأعراف : ٢٦.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) ابراهيم : ٤.

(فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) الصافات : ١٤٣.

(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) البقرة : ١٨٥.

٢٣١

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) الأحزاب : ١.

(لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) الأعراف : ١٧٩.

(يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ) آل عمران : ١٦٧.

وقال الشاعر :

١ ـ أكلت دما إن لم أرعك بضرّة

بعيدة مهوى القرط طيّبة النشر.

٢ ـ كم بعثنا الجيش جرّا

را وأرسلنا العيونا

٣ ـ ألا من رأى الطفل المفارق أمّه

بعيد الكرى عيناه تنسكبان

٤ ـ وما من يد إلّا يد الله فوقها

ولا ظالم إلّا سبيلي بأظلم

٥ ـ رأيتك محض الحلم في محض قدرة

ولو شئت كان الحلم منك المهنّدا

٦ ـ ملك شاد للكنانة مجدا

أحكمت وضع أسّه آباؤه.

٧ ـ لا يغرّنك ما ترى من أناس

إنّ تحت الضّلوع داء دويّا.

٨ ـ فضع السّوط وارفع السيّف حتّى

لا ترى فوق ظهرها أمويّا.

٩ ـ قل للجبان إذا تأخّر سرجه

هل أنت من شرك المنيّة ناج؟

١٠ ـ وكأسا شربت على لذّة

وأخرى تداويت منها بها

٢٣٢

ب ـ المجاز العقلي

١ ـ تعريفه :

«هو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له ، لعلاقة ، مع وجود قرينة تمنع إرادة الإسناد الحقيقي». والمقصود ب (ما في معناه) : المصدر ، واسم الفاعل ، واسم المفعول ، والصفة المشبّهة واسم التفضيل ... وهي مشتقات تعمل عمل الفعل.

٢ ـ بين المجاز المرسل والمجاز العقلي :

ـ لا يكون المجاز العقلي إلّا في إسناد ، أي : في ما كان فيه المعنى قائما على مسند ومسند إليه.

ـ أن الأصل في تسميته عائدة إلى أن المجاز هنا ليس في اللفظ نفسه كالاستعارة والمجاز المرسل ، بل في الإسناد ، أي : في العلاقة بين المسند والمسند اليه ، وهي تدرك بالعقل.

أمثلة : الجاحظ كاتب شهير ، جاء بغداد وهو في الخمسين.

أسندنا في هاتين الجملتين الكتابة الى الجاحظ إسنادا حقيقيا لأن الجاحظ نفسه هو الذي اتّصف بالكتابة أو هو القائم بها. كما أسندنا المجيء الى بغداد إليه وهو ايضا إسناد حقيقي للأسباب عينها. فلقد أسندنا في هاتين الجملتين الفعل الى فاعله الأصلي حسب الظاهر.

مثال آخر :

إذا قال المؤمن : أنبت الله الزرع ، فإن إسناد الفعل (أنبت) إلى الله إسناد حقيقي.

٢٣٣

أما إذا قال المؤمن : أنبت الربيع الزرع ، فإن إسناده الفعل (أنبت) إلى الربيع إسناد مجازي لأنّه يؤمن أن الذي ينبت الزرع هو الله تعالى وليس الربيع. والربيع هو زمن يكون فيه الإنبات ليس إلا.

ويجري التجوّز في المجاز العقلي في الإسناد دون المعنى. فالألفاظ فيه تدلّ على ما وضعت له في اللغة ، ولكن المتكلم يخرج بها عن الوجه المعهود في إجرائها في التركيب النحوي فيستأنف إجراء تركيبيا جديدا لها.

وسمّي هذا المجاز مجازا عقليا لأنّه يقوم على تكسير رابط عقلي يجري به تأليف الكلام. فعندما نقول ذعر الذعر نكون قد أسندنا الذعر الى الذعر فالذعر يشارك الكائن الحي ذلك الفعل وهذا تجوّز من حيث المعقول لا من حيث اللغة. لهذا كان المجاز في المثل على مستوى الجملة النحوية.

٣ ـ علاقات المجاز العقلي (الإسناد المجازي).

٣ ـ أ. العلاقة الزمانية :

يكون المسند إليه زمنا يشتمل على الفعل المسند أو ما في معناه : ويسند فيها الفعل الى الزمان الذي وقع فيه ، نحو : عركته الأيام ، وأدركه الوقت ، ونبت الربيع. والمراد : عركته التجارب ، وأدركته المشاغل ، ونبت العشب. فأسند الأفعال : (عرك ، أدرك ، نبت) إلى (الأيام ، الوقت ، الربيع) وكل منها مسند إليه غير حقيقي ، لأن المسند إليه الحقيقي هو ما حصل في هذه الأزمان أي (التجارب ، المشاغل ، العشب).

ففي كل من الجمل الثلاث مجاز عقلي أسندنا فيه الفعل إلى زمنه بدلا من الفاعل الحقيقي ، والقرينة حالية. والعلاقة زمنية.

٢٣٤

ومنه قول جرير (الطويل) :

لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السّرى

ونمت وما ليل المطيّ بنائم.

فأسند النوم الى الليل وهو زمان النوم.

ومنه قول طرفة (الطويل) :

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا

ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد.

فأسند الإبداء الى الأيام بينما هو في الحقيقة لما في الأيام من أحداث.

٣ ـ ب. العلاقة المكانيّة :

ويكون المسند إليه مكانا يجري فيه المسند (الفعل أو ما في معناه). ويسند فيها الفعل إلى المكان الذي وقع فيه ، كقولنا : حديقة غنّاء ، ومكان مزدحم ، ضجّت القاعة وجرى النهر.

ونحن نريد حديقة طيورها غناء

ومكانا مزدحم الناس

وضج القوم في القاعة.

فأسندنا الأفعال أو ما في معناها (غناء ، مزدحم ، ضجّت ، جرى) الى المكان الذي وقعت فيه (حديقة ، مكان ، قاعة ، مجرى) وليس الى الفاعل الحقيقي لكل منها (الطيور ، الناس ، القوم ، النهر) ففي كل من الجمل الأربع مجاز عقلي أسندنا فيه الفعل أو ما في معناه الى مكانه بدلا من إسناده الى الفاعل الحقيقي ، والعلاقة مكانية.

ومثله قول الشاعر (الوافر) :

إذا سقط السّماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

٢٣٥

أراد المطر ، والسّماء مكان المطر.

وقول آخر (الطويل) :

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

وسالت بأعناق المطيّ الأباطح.

يريد : سالت أعناق المطي في الأباطح وهي المكان للسيل.

وقول آخر (المتقارب) :

يغنّي كما صدحت أيكة

وقد نبّه الصبح أطيارها.

يريد صداح الطيور التي في الأيكة.

وفي البيت علاقة زمانية أيضا هي أن الصبح زمن التنبيه.

٣ ـ ج. المصدريّة :

تكون في التراكيب التي يسند فيها الفعل أو ما في معناه الى المصدر من لفظه : وفيها يسند الفعل الى مصدره بدلا من الفاعل الحقيقي.

نحو : دارت دورة الدهر. الله جلّ جلاله ، جن جنون الرجل.

ونحن نريد : دار الدهر ، وجلّ الله ، وجنّ الرجل.

ولكننا أسندنا الأفعال الى مصادرها (دورة ، جلال ، جنون) وكل منها مسند إليه بدلا من إسنادها الى الفاعل الحقيقي (الدهر ، الله ، الرجل) ففي كل من الجمل الثلاث مجاز عقلي أسند فيه الفعل الى مصدره فالعلاقة مصدرية.

ومنه قول الشاعر (البسيط) :

قد عزّ عزّ الألى لا يبخلون على

أوطانهم بالدم الغالي إذا طلبا.

٢٣٦

وقول الشاعر (الطويل) :

سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم

وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.

وقول أبي تمام :

تكاد عطاياه يجن جنونها

إذا لم يعوّذها برقية طالب.

وقول بدوي الجبل :

أرى أن هذا الأمر قد جدّ جدّه

فكونوا لنا حصنا نكن لكم حصنا

٣ ـ د. الفاعليّة :

يكون بإسناد ما بني للمفعول (اسم المفعول) الى الفاعل :

ويسند فيها الفعل الى صيغة اسم المفعول ، والمراد اسم الفاعل نحو : ليل مستور ، وسيل مفعم.

والمراد ليل ساتر وسيل مفعم. فاستعملت صيغة اسم المفعول (مستور ، مفعم) وانت تريد معنى الفاعلية (ساتر ، مفعم) ففي العبارتين مجاز عقلي أسند فيه المبني للمفعول الى الفاعل والقرينة حالية والعلاقة فاعلية.

ـ ومنه قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) مريم : ٦١.

أي كان وعده آتيا.

ـ وقوله تعالى : (جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) الاسراء : ٤٥ ، أي حجابا ساترا.

ومثل هذه العلاقة نادر في اللغة.

٢٣٧

٣ ـ ه. المفعولية :

وتكون في تركيب يقوم على إسناد الفعل أو ما في معناه الى المفعول به في الأصل. ويسند فيها الفعل الى صيغة اسم الفاعل والمراد اسم المفعول نحو : مكان آمن ، طريق سالك ، غرفة مضيئة. والمقصود : مكان مأمون ، وطريق مسلوك ، وغرفة مضاءة. فاستعملنا صيغة اسم الفاعل (آمن ، سالك ، مضيئة) ونحن نريد معنى المفعولية (مأمون ، مسلوك ، مضاءة) ففي العبارات الثلاث مجاز عقلي أسند فيه المبني للفاعل الى المفعول ، والقرينة حالية ، فالعلاقة مفعولية.

ومنه قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ* فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) القارعة : ٦ ـ ٧.

ومنه قول الاعشى :

حتى يقول الناس ممّا رأوا

يا عجبا للميّت الناشر.

اي المنشور.

ومنه قول الحطيئة :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي.

أي المطعوم المكسّو. فالحطيئة نسب الى المهجو فعل الإطعام والإكساء ويريد أنه يطعم ويكسى.

٣ ـ و. السّببية :

ويكون المسند اليه في التركيب القائم على المجاز العقلي سببا في إحداث المسند.

ويسند فيها الفعل الى السبب الذي أدّى اليه :

٢٣٨

نحو : نبت الغيث ، فتح القائد المدينة ، بنت الحكومة جامعة.

والمعروف أن الذي نبت هو العشب والغيث هو سبب نباته.

وان الذي فتح المدينة هم الجنود والقائد هو السبب وان البنائين هم الذين بنوا الجامعة والحكومة هي السبب في البناء. ولقد أسندت الأفعال في الجمل الثلاث الى أسبابها بدلا من إسنادها إلى الفاعلين الحقيقيين (العشب ، الجنود ، البنائين).

ومنه قوله تعالى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) غافر : ٣٦.

لقد أسندت الآية فعل (ابن) الى فاعل هو ضمير مستتر عائد الى هامان ، وهامان ليس الفاعل الحقيقي بل الفاعل الحقيقي هو العمال لكن هامان هو السبب فالعلاقة سبّبية.

ومنه قول المتنبّي في ملك الروم بعدما هزمه سيف الدولة.

ويمشي به العكّاز في الدير تائبا

وقد كان يأبي مشي أشقر أجردا

والعكاز هنا هو سبب المشي أو آلته على وجه الدقّة ، والمجاز يتمثل في إسناد فعل المشي الى العكاز ، والحال أنه وسيلة في إحداث المشي.

وقول الشاعر :

وإنّا لمن معشر أفنى أوائلهم

قيل الكماة ألا أين المحامونا؟

الأصل أن يسند فعل الإفناء الى الحرب ، لكن الشاعر طرح ذلك وأسند فعل القتل الى النداء الذي يحمل قومه على دخول الحرب. فالقيل

٢٣٩

ليس الفاعل الحقيقي إنما هو سبب الإفناء لأنه يدعو الاوائل الى النجدة وهي التي تؤدي الى القتل والإفناء.

تمارين :

١ ـ وضّح المجاز العقلي في ما يأتي وبيّن علاقته وقرينته.

قال المتنبي :

صحب الناس قبلنا ذا الزمانا

وعناهم من شأنه ما عنانا

وتولّوا بغصّة كلّهم من

ه وإن سرّ بعضهم أحيانا

ربّما تحسن الصّنيع ليالي

ه ولكن تكدّر الإحسانا

وكأنّا لم يرض فينا بريب الدّ

هر حتّى أعانه من أعانا

كلّما أنبت الزمان قناة

ركّب المرء في القناة سنانا

وقال غيره :

تكاد عطاياه يجنّ جنونها

إذا لم يعوّذها برقية طالب

وقال المتنبي :

أبا المسك أرجو منك نصرا على العدا

وآمل عزّا يخضب البيض بالدّم

ويوما يغيظ الحاسدين وحالة

أقيم الشقا فيها مقام التنّعم

 ـ يأمر السيف في الرقاب وينهى

ولمصر على القذا إغضاء

 ـ إنّ الدّيار تريق ماء شؤونها

كالأمهات وتندب الأحياء

 ـ بناها فأعلى والقنا يقرع القنا

وموج المنايا حولها متلاطم

٢٤٠