علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )

الدكتور محمّد أحمد قاسم والدكتور محيي الدين ديب

علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )

المؤلف:

الدكتور محمّد أحمد قاسم والدكتور محيي الدين ديب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الحديثة للكتاب
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

عنه بشيء من خصائصه (القتل والإحياء) والجامع بينهما : الموت والحياة ، والقرينة : قتل وأحيا. وعلى هذا التفسير تكون الاستعارة مكنّية.

لكن إذا أوّلنا البيت على الوجه الآتي :

المستعار منه : القتل والإحياء مذكوران. المستعار له : تجنّب البخل محذوف ، وتجديد السّماح محذوف أيضا. والجامع بينهما : الزّوال والاندثار وتجديد السّماح. والقرينة : قتل وأحيا. وبهذا التأويل تكون الاستعارة تصريحية. لكن الوجه الاول أبين واظهر لأنه خال من التعسّف في التأويل.

ومن هذا القبيل قول دعبل الخزاعي :

لا تعجبي يا سلم من رجل

ضحك المشيب برأسه فبكى

في لفظ (ضحك) استعارة تصريحية. المستعار منه : الضحك مذكور ، المستعار له : ظهور الشّيب محذوف. الجامع بينهما : الإشراق ، القرينة : المشيب. ولكن يمكن تأويل البيت بشكل آخر هو : المستعار منه : الإنسان محذوف وقد كني عنه بشيء من خصائصه (الضحك). المستعار له : الشّيب مذكور. الجامع بينهما : التدرّج في ظهور البياض ، القرينة : الضحك. وعليه تكون الاستعارة مكنيّة.

* تجدر الإشارة الى أن البلاغيين يذهبون الى أن الاستعارة المكنيّة أبلغ من الاستعارة التصريحية لأنّها أكثر قدرة على تشخيص الصور وبعث الحياة فيها.

٢٠١

تمرينات :

١ ـ بيّن نوع الاستعارة في ما يأتي وأشرحها مبيّنا السبّب.

قال شوقي في رثاء عمر المختار :

يا ويحهم نصبوا منارا من دم

يوحي الى جيل الغد البغضاء

يا أيّها السّيف المجرّد بالفلا

يكسو السّيوف على الزمان مضاء

وقال أبو ريشة في إحدى قصائده :

وقف التاريخ في محرابها

وقفة المرتجف المضطرب

كم روى عنها أناشيد النّهى

في سماع العالم المستغرب

أيّ أنشودة خزي غصّ في

بثّها بين الأسى والكرب

لمّت الآلام منّا شملنا

ونمت ما بيننا من نسب

وقال المتنبي :

نامت نواطير مصر عن ثعالبها

فقد بشمن وما تفنى العناقيد

وقال أبو العتاهية مهنئا المهديّ بالخلافة :

أتته الخلافة منقادة

إليه تجرّر أذيالها

وقال آخر :

وإذا العناية لاحظتك عيونها

نم فالمخاوف كلّهنّ أمان

وقال غيره في وصف مزيّن :

إذا لمع البرق في كفّه

أفاض على الوجه ماء النّعيم

٢٠٢

له راحة سيرها راحة

تمرّ على الوجه مرّ النّسيم

وقال شوقي :

ولد الهدى فالكائنات ضياء

وفم الزّمان تبسّم وثناء

وقال البحتري :

أتاك الرّبيع الطلق يختال ضاحكا

من الحسن حتّى كاد ان يتكلّما

وقال خليل مطران :

والأفق معتكر قريح جفنه

يغضي على الغمرات والأقذاء

٢٠٣

البحث الثاني

الاستعارة باعتبار الجامع

يكون لفظ الاستعارة ، أي لفظ المستعار منه على رأي الجمهور :

أ. أصلا في الكلام أي جامدا.

ب. تابعا لذلك الأصل أي مشتقا.

وبذلك تنقسم الاستعارة قسمين هما :

١ ـ الاستعارة الأصلية :

وهي ما كان فيها لفظ المستعار منه جامدا ، أي اسم جنس أو اسم معنى. مثال ذلك قول ابن العميد (الكامل) :

قامت تظلّلني ومن عجب

شمس تظلّلني من الشمس

لفظ الاستعارة هو (شمس) في عجز البيت إذ شبّه الفتاة بالشمس لاشراقها. فالمستعار منه : الشمس وقد صرّح بذكره. والشمس اسم جامد. لذلك كانت الاستعارة تصريحية باعتبار المستعار منه. المستعار له : الفتاة (محذوف). والجامع بينهما : الإشراق والجمال. والقرينة : تظلّلني. وبذلك تكون الاستعارة تصريحية باعتبار المستعار منه ، أصلية باعتبار لفظ الاستعارة.

ومنها قوله تعالى (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) الاسراء : ٢٤.

شبّهت الآية الذلّ بطائر. فالمستعار منه الطائر غير مذكور في الكلام وكني عنه بشيء منه (الجناح). المستعار له : الذلّ. والجامع بينهما : الانقياد. والقرينة : أخفض. ولفظ الاستعارة (المستعار منه)

٢٠٤

الطائر اسم ذات بمنزلة الجامد. وبذلك تكون الاستعارة مكنّية تصريحية.

٢ ـ تبعيّة :

تكون الاستعارة تبعيّة اذا كان لفظ الاستعارة فيها :

ـ اسما مشتّقا.

ـ أو فعلا.

ـ أو اسم فعل.

ـ أو اسما مبهما.

ـ أو حرفا.

مثال ذلك قوله تعالى (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) مريم : ٤ شبّهت الآية ظهور الشيّب باشتعال النار.

المستعار منه : النار وقد استعار منها الاشتعال. المستعار له : الشّيب. الجامع بينهما : التّدرّج في الاشراق والوضوح. وقد اشتق من الاشتعال فعل (اشتعل) مصرّحا بذكر المستعار منه ، فهي اذا : استعارة تصريحية لجهة المستعار منه ، وتبعية لأن لفظ الاستعارة فعل (اشتعل).

وقال أبو ماضي (م. الكامل) :

السّحب تركض في الفضاء الرّحب ركض الخائفين.

ففي قوله : تركض استعارة تصريحية. فالشاعر شبّه حركة السّحب في السّماء ، بالركض. والجامع بينهما السّرعة. والقرينة السّحب. لذلك يكون الشاعر قد حذف المستّعار له (تحرّك السّحب) واشتق من الركض فعل تركض مصرّحا بلفظ المستعار منه وهو فعل (تركض) فكانت الاستعارة تصريحية تبعيّة.

٢٠٥

ويمكن تاويل البيت بشكل آخر هو :

المستعار منه : الإنسان محذوف وقد كني عنه باحدى صفاته (الرّكض). والمستعار له : السّحب (مذكور). الجامع بينهما : السّرعة والقرينة (تركض). فالاستعارة على هذا الوجه من التأويل استعارة مكنيّة وأصلية باعتبار لفظها.

تمرينات :

١ ـ اذكر نوع الاستعارة في ما يأتي بعد شرح أركانها وأبعاد صورتها.

 ـ عضّنا الدّهر بنابه

ليت ما حلّ بنابه

 ـ بلد صحبت به الشبيبة والصّبا

ولبست ثوب اللهو وهو جديد

 ـ يا كوكبا ما كان أقصر عمره

وكذاك عمر كواكب الأسحار

 ـ ضوء يشعشع في سواد ذوائبي

لا أستضيء به ولا أستصبح

بعت الشباب به على مقة له

بيع العليم بأنّه لا يربح

 ـ إنّ التباعد لا يضرّ

اذا تقاربت القلوب

 ـ حول أعشاشها على الأشجار

قد تقاسمنا القيان وهي تغنّي

 ـ دقّات قلب المرء قائلة له

إن الحياة دقائق وثوان

 ـ أما ترى ظفرا حلوا سوى ظفر

تصافحت فيه بيض الهند والّلمم.

٢٠٦

البحث الثالث

الاستعارة باعتبار ما يقترن بطرفيها

تكون الاستعارة باعتبار ما يقترن بها من صفات تلائم المستعار له او المستعار منه.

أ. مرشّحة.

ب. مجرّدة.

ج. مطلقة.

ولا ينظر الى القرينة لأنها جزء من الاستعارة أصيل غير طارئ. أما الصفات فطارئة.

أ ـ المرشحة :

هي التي اقترنت بما يلائم المستعار منه فقط ، نحو : رأيت أسدا في الجبهة يزأر. فالوصف يزأر يلائم المستعار منه (الأسد) ، ولم نضف الى المستعار له (البطل الشجاع) أيّ صفة ، أما القرينة فموجودة (في الجبهة). ولهذا صارت الاستعارة :

تصريحية : لأن المستعار منه (الأسد) مذكور.

أصلية : لأن لفظ المستعار منه (الأسد) جامد.

مرشّحة : لأنه ذكر فيها ما يلائم المستعار منه (يزأر).

ومنها قول المتنبّي (البسيط) :

أتى الزّمان بنوه في شبيبته

فسرّهم وأتيناه على الهرم

شّبه المتنبّي الزمان بإنسان بجامع التطوّر والتحوّل من حال إلى أخرى. والمستعار منه (الإنسان) محذوف وكني عنه بشيء من

٢٠٧

خصائصه (بنوه) وهي القرينة. ثم أتى بما يلائم هذه الخاصة حين ذكر شبيبته والهرم. ولكنه لم يذكر ما يلائم المستعار له. لذلك كانت الاستعارة :

مكنيّة : لأن المستعار منه (الإنسان) محذوف ورمز إليه بما يدلّ عليه من صفاته (بنوه).

أصلية : لأن لفظ المستعار منه اسم جامد.

مرشّحة : لأنّه ذكر فيها ما يلائم المستعار منه (بنوه).

ب ـ المجرّدة :

هي التي اقترنت بما يلائم المستعار له دون المستعار منه ، نحو : رأيت أسدا في الجبهة يرمي العدو بسهامه. فقد ذكر ما يلائم المستعار له (البطل الشجاع) حين قيل : يرمي العدو بسهامه. أما المستعار منه فلم يرد ما يلائمه. لذلك كانت الاستعارة مجرّدة.

ومنه قول نعيمة في النهر المتجمّد :

يا نهر قد نضبت مياهك فانقطعت عن الخرير.

في البيت : استعارة مكنيّة لأن الشاعر شبّه النهر بإنسان وحذف المستعار منه (الانسان) وكنى عنه بشيء من خصائصه (النداء).

ـ واستعارة أصلية لأن لفظ المستعار منه اسم جامد.

ـ ومجرّدة لأن الشاعر أتى بما يلائم المستعار له (نضبت مياهك ، وانقطعت عن الخرير) ولم يأت بما يلائم المستعار منه (الانسان).

٢٠٨

ج ـ المطلقة :

وهي التي اقترنت بما يلائم المستعار منه والمستعار له معا ، أو هي التي لم تقترن بما يلائم أيّا منهما ، نحو :

رأيت أسدا في الجبهة. لم يرد في هذه الاستعارة ما يناسب المستعار له (البطل) ، ولا ما يناسب المستعار منه (الأسد) ولهذا سميت الاستعارة مطلقة.

ونحو : رأيت أسدا في الجبهة يزأر ويرمي العدو بسهامه. لقد ورد في هذه الاستعارة ما يلائم المستعار له (البطل) وهي عبارة (يرمي العدوّ بسهامه). كما ورد فيها ما يلائم المستعار منه (الأسد) وهو الفعل (يزأر) لهذا كانت الاستعارة مطلقة.

وقال المتنبّي :

إذا غامرت في شرف مروم

فلا تقنع بما دون النجوم.

شبّه المتنبّي الغايات البعيدة السامية بالنجوم والجامع بينهم السمّو والرفعة وصعوبة المنال. وحذف المستعار له (الغايات البعيدة) وصرّح بلفظ المستعار منه (النجوم) لهذا كانت الاستعارة تصريحية ولأن لفظ المستعار منه جامد فالاستعارة أصلية. والشاعر لم يأت فيها بما يلائم أيّا من المستعار منه أو المستعار له فصارت الاستعارة مطلقة.

وقال المتنبّي أيضا :

في الخدّ إن عزم الخليط رحيلا

مطر تزيد به الخدود محولا.

٢٠٩

الدموع الجارية حزنا على فراق الأحبة تشبه في انهمالها على وجه الحبيب المطر المتساقط بغزارة. لكنّ الشاعر بفطنته لاحظ فارقا بينهما لأنّ المطر يخلّف خضرة في الأرض التي يغيثها ، في حين تخلّف الدموع المرض والشحوب في وجه الحبيب الشاكي بعاد حبيبه.

فالاستعارة تصريحية أولا لأنّه صرّح فيها بلفظ المستعار منه (مطر) وحذف المستعار له (الدموع) وهي استعارة أصلية ثانيا لأن لفظ المستعار منه اسم جنس. واخيرا إنّها استعارة مطلقة لأنّ الشاعر أتى بما يلائم كلّا من المستعار له (الخد) عند ما ذكر الدموع ، والمستعار منه (المطر) عند ما ذكر (المحول).

* يجب التنبّه الى أن الحكم على الاستعارة وتصنيفها (مرشّحة أو مجرّدة أو مطلقة) لا يتم إلّا بعد أن تستوفي الاستعارة قرينتها. والقرينة بناء على ذلك لا تعد في جانب أي من المستعار له أو المستعار منه.

٢١٠

تمرينات :

١ ـ دل على نوع الاستعارة في ما يأتي معلّلا ذلك بشرح واف.

قال الشاعر :

 ـ يؤدّون التحيّة من بعيد

الى قمر من الإيوان باد

 ـ قوم إذا الشرّ أبدى ناجذيه لهم

طاروا إليه زرافات ووحدانا

 ـ وليلة مرضت من كلّ ناحية

فما يضيء لها نجم ولا قمر

 ـ نامت نواطير مصر عن ثعالبها

فقد بشمن وما تفنى العناقيد

 ـ يا بدر يا بحر يا غمامة يا لي

بث الشّرى يا حمام يا رجل

 ـ وعد البدر بالزيارة ليلا

فإذا ما وفى قضيت نذوري

 ـ والبحر كم ساءلته فتضاحكت

أمواجه في صوتي المتقطع

 ـ فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت

وردا وعضّت على العنّاب بالبرد

 ـ وقفت وما في الموت شكّ لواقف

كأنك في جفن الرّدى وهو نائم

 ـ فالخمر ياقوتة والكأس لؤلؤة

من كّف جارية ممشوقة القدّ

تسقيك من عينها خمرا ومن يدها

خمرا فما لك من سكرين من بدّ

لي نشوتان وللنّدمان واحدة

شيء خصصت به من بينهم وحدي

٢١١

البحث الرابع

الاستعارة التمثيليّة

هي استعارة شائعة في الأمثال السائرة نثرا وشعرا ومن خصائصها :

ـ حذف المشبّه عادة.

ـ وحذف أداة التشبيه.

ولذلك عرّفت بأنّها :

تركيب استعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة معناه الأصلي.

من أمثلتها القول المأثور : يدسّ السّمّ في الدّسّم. وهذا مثل يطلق في وصف من يظهر الخير ويبطن الشرّ. ولقد حذف منه المشبّه لأن تقدير الكلام : من يظهر الخير ويبطن الشرّ كمن يدسّ السّمّ في الدّسم. والمشبه (من يظهر الخير ويبطن الشرّ) محذوف ، وأداة التشبيه محذوفة أيضا ، ولكن بقي المشبه به. ولقد فهمنا المراد من المثل وهو المعنى المجازي لا المعنى الحقيقي بواسطة القرينة أو السّياق.

وأريد بهذا القول التّمثيل ، لهذا سمّيت الاستعارة تمثيلية.

ومن أمثلتها قول الكميت معاتبا مؤيدي بني أمّية في حربهم ضدّ بني هاشم :

فيا موقدا نارا لغيرك ضوؤها

ويا حاطبا في غير حبلك تحطب

٢١٢

فالشاعر شبّه هؤلاء بمن يشعل نارا ليضيء درب غيره وتبقى دربه مظلمة أو بمن يحتطب لينتفع غيره بما يحتطب. ففي كلّ من الصّدر والعجز استعارة تمثيلية.

ومنها أيضا قول المتنبّي (الوافر) :

ومن يك ذا فم مرّ مريض

يجد مرّا به الماء الزلالا.

يصاب الإنسان المريض بمرارة في فمه حتى إذا شرب الماء العذب تذوّقه مرّا كالحنظل. ولكنّه لم يقصد هذا المعنى الظاهر من البيت بل قصد فيه حسادّه وعائبي شعره فنسب هذا العيب الى ذوقهم الشعرّي المريض وضعف إدراكهم الأدبي. فالمشبّه هنا حال حسّاده والمشبّه به حال المريض الذي يجد الماء الزّلال مرّا. لهذا كانت الاستعارة تمثيلية.

ومنها ما جاء في المثل «قطعت جهيزة قول كلّ خطيب».

وأصل المثل أنّ قوما اجتمعوا يتشاورون في قضيّة الثأر لأحد قتلاهم وبينما هم يتشاورون جاءت فتاة اسمها جهيزة وأخبرتهم أن القاتل قد قتل ، فقال أحد المتحاورين : قطعت جهيزة قول كلّ خطيب. وهو تركيب يتمثّل به في كل موطن يؤتى فيه بالقول الفصّل. فالمشبّه والمشبّه به صورة منتزعة من متعدّد.

٢١٣

تمرينات :

١ ـ دلّ على الاستعارة التمثيلية في ما يأتي واشرحها.

ـ إنّك لا تجني من الشوك العنب.

ـ أخذ القوس باريها.

ـ لا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين.

ـ المورد العذب كثير الزّحام.

ـ لكلّ جواد كبوة.

ـ أصاب عصفورين بحجر واحد.

 ـ تريدين لقيان المعالي رخيصة

ولا بدّ دون الشّهد من إبر النّحل

 ـ إذا ما الجرح رمّ على فساد

تبيّن فيه إهمال الطبيب

 ـ متى يبلغ البنيان يوما تمامه

إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟

 ـ ومن ملك البلاد بغير حرب

يهون عليه تسليم البلاد

 ـ إذا اعتاد الفتى خوض المنايا

فأيسر ما يمرّ به الوحول

 ـ زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا

أبشر بطول سلامة يا مربع

 ـ إذا قالت حذام فصدّقوها

فإنّ القول ما قالت حذام

 ـ ومن يجعل الضّرغام للصيّد بازه

تصيّده الضّرغام في ما تصيّدا

٢١٤

المجاز المرسل وعلاقاته

عرّفنا سابقا المجاز لغة واصطلاحا ونبحث الآن عن تعريف البلاغيين للمجاز المرسل.

١ ـ تعريفه :

جاء في الإيضاح (١) «هو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه وما وضع له ملابسة غير التشبيه ، كاليد إذا استعملت في النّعمة ، لأنّ من شأنها أن تصدر عن الجارحة ، ومنها تصل الى المقصود بها ، ويشترط أن يكون في الكلام إشارة الى المولي لها ، فلا يقال : اتّسعت اليد في البلد ، أو اقتنيت يدا ، كما يقال : اتّسعت النعمة في البلد أو : اقتنيت نعمة ، وإنّما يقال : جلّت يده عندي ، وكثرت أياديه لديّ ونحو ذلك».

يقود كلام القزويني الى استنتاج مفاده أنّ في المجاز علاقة بين أمرين ، أو مجموعة من العلاقات ، فاذا انحصرت هذه العلاقة في التشبيه كان المجاز ضربا من الاستعارة ، وإذا لم تكن العلاقة مقيّدة بالتشبيه بل أرسلت لتشمل أنواعا كثيرة من العلاقات كان المجاز مرسلا.

وإذا كان تعريف القدامى مشوبا بالغموض أو اللّبس فإن للمحدثين تعريفات أكثر وضوحا وشمولية. نذكر من هذه التعريفات ما يأتي :

هو كلمة استعملت في غير معناها الأصلي ، لعلاقة غير المشابهة ، مع قرينة لفظية أو حالية مانعة من إرادة المعنى الأصلي.

__________________

(١). الإيضاح في علوم البلاغة ، الخطيب القزويني ، ص ٣٩٧.

٢١٥

وجاء في تعريف آخر (١) «إنّه مجاز لغوي يرتبط فيه المعنى الحقيقي بالمعنى المجازي بعلاقة غير المشابهة ، وسمّي بالمرسل ، لأنّه غير مقيّد بعلاقة المشابهة ، إذ إنّ الإرسال في اللغة الاطلاق ، والمجاز الاستعاري مقيّد بادّعاء أن المشبّه من جنس المشبّه به والمجاز المرسل مطلق على هذا القيد.

وقيل : إنما سمّي مرسلا لأنه لم يقيّد بعلاقة مخصوصة بل ردّد بين علاقات كثيرة».

لشرح تعريف القزويني شرحا عصريا من خلال المثال الذي جاء في التعريف وهو اليد إذا استعملت في النعمة ، قيل : جلّت يده عندي ، وكثرت أياديه لديّ. لم يجىء في المثل كثرت نعمه لدي بل حلّ لفظ أياديه محلّ نعمه. والذي سهّل على القائل قوله هذا وجود علاقة منطقيّة بين المعنيين. فالشاعر اختزل المسافة القائمة بين اليد والنعمة. فاليد الجارحة هي التي تحدث الإحسان. فالمحسن صاحب النعم يهب النعم بوساطة يده فيحدث الجميل أو الإحسان لهذا ترسّخت العلاقة بين اليد والإنعام ، وبالتكرار والتلازم ازدادت العلاقة بين اليد والنعمة وغاب الأعيان (المحسن والمحسن اليه ونوع العطاء). فاليد آلة العطاء والمال سبب في النعمة إذ اليد سبب في النعمة. فاختزلت مرحلة من مراحل تطوّر المعنى ، وبذلك تحوّلت اليد من معنى الجارحة الى معنى النعمة. والذي سهّل عمليّة التحوّل هذه العلاقة السببية بين المعنيين.

لهذا قال أحدهم (٢) «ففي المجاز المرسل يعبر اللفظ من مدلوله الأصلي الى مدلوله المجازي عن طريق صلة تجمع بينهما يبصرها الذهن فيهتدي بها الى تحليل الخطاب التحليل المقبول».

__________________

(١). المجاز المرسل والكناية ، يوسف أبو العدوس ، ص ١٥.

(٢). دروس في البلاغة العربية ، الأزهر الزّنّاد ، ص ٥٤.

٢١٦

٢ ـ العلاقات في المجاز المرسل.

تحدّث البلاغيون بإسهاب عن هذه العلاقة غير المشابهة فذكروا عددا غير قليل فاق العشرين علاقة ، وقد اكتفى الخطيب القزويني بذكر تسع منها ، وهي في الواقع كافية تغني عن ذكر العلاقات الهامشية الأخرى. تتمحور هذه العلاقة حول أربعة محاور ينضوي تحت كلّ منها عدد من العلاقات ، وهي :

١ ـ العلاقة الغائيّة : وينضوي تحتها :

أ. السببّية (استعمال السّبب للدلالة على النتيجة).

ب. المسبّبية (استعمال النتيجة للدلالة على السّبب).

ج. الآلية.

د. الملزومية (إطلاق اسم الملزوم على اللازم).

ه. اللازمية.

٢ ـ العلاقة الكمّية : وينضوي تحتها :

أ. الكلّية.

ب. الجزئية.

ج. العمومية (إطلاق الاسم العام وإرادة الخاص).

د. الخصوصية (استعمال اللفظ الخاص للدلالة على العموم).

٣ ـ العلاقة المكانيّة : وينضوي تحتها :

أ. المحلّية (استعمال الحاوي للدّلالة على المحتوى).

ب. الحاليّة.

ج. المجاورة.

٢١٧

٤ ـ العلاقة الزمانية : وينضوي تحتها :

أ. الماضوّية (اعتبار ما كان).

ب. المستقبليّة (اعتبار ما سيكون).

وسنفصّل القول في هذه العلاقات وفق هذه التّصنيفات.

١ ـ أ. السّببّية :

يجري هنا استعمال اللفظ الدال على السبب وتراد به نتيجته فنذكر السّبب. ونحن نريد المسبّب ، نحو : ما زلنا نطأ الغيث حتى أتيناكم.

لقد قلنا الغيث ونحن نريد العشب المسبّب عن الغيث. ففي هذا القول مجاز مرسل لأننا ذكرنا السّبب (الغيث) ، وأردنا المسبّب (العشب) فالعلاقة سببّية والقرينة (نطأ) والارتباط بين الغيث والعشب خارجي لأن لكل منهما حقلا دلاليا مستقلّا.

ومثالها أيضا قوله تعالى (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) آل عمران : ٥٤. فالمراد من (وَمَكَرَ اللهُ) وعاقبهم الله على مكرهم. ففي مكر مجاز مرسل ذكر السبب (المكر) وأراد ما يتسبّب عنه من عقوبة فالعلاقة سببّية.

ومثالها أيضا قول عمرو بن كلثوم (الوافر) :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا.

ذكر الشاعر الجاهلي (الجهل) وهو يريد ما يتسبّب عنه من عذاب وعقاب. فكان المجاز مرسلا.

٢١٨

ومثله قول السموءل (الطويل) :

تسيل على حدّ الظّبات نفوسنا

وليس على غير الظّبات تسيل.

فالذي يسيل على حدّ الظّبات هو الدماء لا النفوس ، ولكن لمّا كان وجود النّفس في الجسد سببا في وجود الدم فيه استطاع الشاعر إحلال كلمة النفوس محل الدماء لأن النفس سبب لوجود الدم. فالعلاقة بين النفوس والدّماء سببّية والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي للنفوس مذكورة (على حدّ الظبات) فالنفس الحقيقية لا تسيل على حدّ الظبات.

وقد قسم البلاغيون علاقة السببّية أقساما هي :

أ. السببيّة القابلية ، أي تسمية الشيء باسم قابله ، نحو : سال الوادي ، أي الماء.

ب. السببيّة الصورية ، نحو تسمية اليد بالقدرة ، لأنّ القدرة صورة اليد لحلولها منها حلول الصورة في المادّة.

ج. السببيّة الفاعليّة ، نحو : نزل السّحاب ، أي المطر بإطلاق اسم فاعل الشيء على الشيء ، فالمطر يصدر عن السّحاب.

د. السببيّة الغائية ، نحو : شرب عنبا ، والمقصود شرب خمرا لأن الخمر غاية العنب.

وقد خالف الأصوليون هذه التسميات الأربع لأسباب عقليّة حملتهم على تعليلات تخالف تعليلات البلاغيين.

١ ـ ب. المسبّبيّة :

يرد اللفظ الدال على المسبب ويراد به سببه.

٢١٩

وتذكر فيها النتيجة أو المسبّب ونحن نريد السبب الذي أدّى اليه ، نحو : أمطرت السّماء ذهبا.

فالقائل يريد المطر وهو سبب اكتساب الرّزق ، فالذّهب مسبّب عن المطر ، والقائل استغنى بذكر المسبّب عن ذكر السبب. ولهذا كان في كلامه مجاز مرسل علاقته مسبّبية والقرينة : أمطرت السماء.

ومثالها أيضا قوله تعالى : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) النساء : ١٠.

والآية في آكلي اموال اليتامى. ووردت النار لأن مآل آكلي اموال اليتامى الى النار وهي المسبّبية عن أكلهم هذه الأموال ، فذكرت المسبّب (النار) وأرادت السّبب (أموال اليتامى المأكولة) ففي الآية مجاز مرسل علاقته تبعا لما ذكر المسبّبية لأنّ الإنسان لا يأكل نارا ، لكنّه يأكل الطعام الحرام الذي يسبّب لصاحبه النار ، فالنار مسبّبة عن اكل الحرام.

ومثالها قول للشاعر يصف غيثا :

أقبل في المستنّ من ربابه

أسنمة الآبال في سحابه.

 (المستن : الواضح. الرّباب : السّحاب الأبيض. الآبال : جمع إبل ، أسنمة : ج سنام)

فهذا الغيث هو سبب نماء أسنمة الإبل.

وهكذا يكون الشاعر قد ذكر المسبّب وهو يريد السبب.

فالرّباب سبب ، ونماء الأسنمة مسبّب عنه.

٢٢٠