علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )

الدكتور محمّد أحمد قاسم والدكتور محيي الدين ديب

علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )

المؤلف:

الدكتور محمّد أحمد قاسم والدكتور محيي الدين ديب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الحديثة للكتاب
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

ويصبّ فيه كل واد ممتلئ بالماء تصطخب أمواجه فتجرّ كل شيء وتجتاح الركام من طمي ونبات. في هذه الحالة من الهيجان يدخل الخوف إلى قلب الملّاح فيبقى معتصما بمقدّمة السفنية وقد أدركه الخوف وأعياه الجهد. الفرات في حالة فيضانه هذه ليس أجود من النّعمان الذي لا يحول عطاء اليوم عنده دون عطاء الغد في حين يبقى فيضان الفرات موسميّا وعند ذوبان الثلج في المنبع. لقد استطرد الشاعر في وصف المشبّه به ثم استدار فنّيا ليجعل المشبّه أعلى رتبة من المشبّه به في حال كماله هذا.

وقد استخدم الشاعر الواسطة اللفظية وما ـ ... بأجود.

وقد سلك الأخطل طريق النابغة فتوكأ عليه في تشبيهه الاستطرادي هذا محدثا تعديلا طفيفا فيها عند ما قال (البسيط) :

وما الفرات ـ إذا جاشت غواربه

في حافتيه وفي أوساطه العشر

وزعزعته رياح الصّيف واضطربت

فوق الجآجئ من آذيّة غدر

مسحنفر من جبال الروم يستره

منها أكافيف فيها دونه زور

يوما ـ بأجود منه حين تسأله

ولا بأجهر منه حين يجتهر

وقد أفرط الأعشى في اعتماد هذا الضرب من التشبيه ، وربما كرّره في القصيدة الواحدة. ففي قصيدة مدح بها قيس بن معد يكرب عمد إليه مرّتين وعدّة أبياتها تسعة وستّون بيتا.

والتشبيه الأوّل مؤلّف من أربعة أبيات هي (المتقارب) :

 ـ وما رائح روّحته الجنوب

يروّي الزروع ويعلو الدّيارا

 ـ يكبّ السّفين لأذقانه

ويصرع بالعبر أثلا وزارا

 ـ إذا رهب الموج نوتيّه

يحطّ القلاع ويرخي الزيارا

١٨١

 ـ بأجود منه بأدم العشا

ر لطّ العلوق بهنّ احمرارا (١)

ولعلّه من الواضح التّقارب بين هذه المعاني الواردة في أبيات الأعشى وأبيات كلّ من النابغة والأخطل.

وبعد ثلاثة أبيات من هذا التشبيه الاستطرادي أنشأ الأعشى تشبيها استطراديا آخر قوامه ثلاثة أبيات هذه المرة (٢).

ومن أطول التشابيه الاستطرادية تشبيه للأعشى وصف فيه الأسد ، وعدّته عشرة أبيات (٣) من البيت ٢١ إلى البيت ٣٠ ، وفي القصيدة نفسها عاد إلى تشبيه استطرادي عدّة أبياته ثلاثة ، لكنّه في وصف كرم الممدوح هذه المرّة ، من البيت ٣١ وحتى البيت ٣٣.

وقد أحصيت في ديوان الأعشى ثلاثة عشر تشبيها استطراديا حافظ أكثرها على العدد الشائع من الأبيات وهو أربعة أبيات.

وقد يقصر التشبيه الاستطرادي إذ يقتصر على بيت واحد كقول طفيل الغنوي (الطويل) :

فما أمّ أدراص بأرض مطلّة

بأغدر من قيس إذا الليل أظلما

وقد أحصى أحد الباحثين (٤) ثمانية وخمسين تشبيها استطراديا لاثنين وعشرين شاعرا جاهليا كان نصيب الأعشى وحده منها ثلاثة عشر تشبيها.

__________________

(١). ديوان الأعشى الكبير ، شرح محمد قاسم ، ص ١٧٩ ـ ١٨٠.

(٢). ديوان الأعشى الكبير ، شرح محمد قاسم ، ص ١٨١.

(٣). م. ن ، ص ٩٧.

(٤). المجلة العربية للعلوم الإنسانية عدد ٧ مجلّد : ٥ شتاء ١٩٨٥ ص ١٣٠ وما بعدها ، د. عبد القادر الرّباعي.

١٨٢

تمرينات :

١ ـ دلّ على التشابيه الاستطرادية واشرحها مبيّنا قيمتها الجمالية :

قال الأعشى (ديوانه ص ٩٩) :

وما فلج يسقي جداول صعنبى

له شرع سهل على كلّ مورد

ويروي النبيط الزرق من حجراته

ديارا تروّى بالأتيّ المعمّد

بأجود منه نائلا ، إنّ بعضهم

كفى ماله باسم العطاء الموعّد

وقال أوس بن حجر (ديوانه ص ١٠٥) :

وما خليج من المروّت ذو حدب

يرمي الضّرير بخشب الطّلح والضال

يوما بأجود منه حين تسأله

ولا مغبّ بترج بين أشبال

وقال الأعشى (ديوانه ص ١٩١) :

وما مزبد من خليج الفرا

ت يغشى الإكام ويعلو الجسورا

يكبّ السفين لأذقانه

ويصرع بالعبر أثلا ودورا

بأجود منه بما عنده

فيعطي المئين ويعطي البدورا

١٨٣

المجاز

١ ـ تعريفه :

أ ـ لغة :

جاء في اللسان (جوز) : «جزت الطريق ، وجاز الموضع جوزا وجوازا ومجازا : سار فيه وسلكه ... وجاوزت الشيء الى غيره وتجاوزته بمعنى أي أجزته ... وتجاوز عن الشيء : أغضى ، وتجاوز فيه أفرط».

فالمجاز لغة يعني إذا السيّر والتجاوز والتسامح والتخطّي ، لأنّ اللسان أورد معنى العفو والتسامح عند ما أورد المعنى الديني للفظ : «تجاوز الله عنه أي عفا».

وفي المعجم الوسيط «المجاز : المعبر. ومن الكلام : ما تجاوز ما وضع له من المعنى» فهل نلمح في المعبر معنى التغيير؟ وهل يكون الانتقال من مكان الى آخر كانتقال اللفظ من معنى الى آخر؟فيدخل اللفظ توسّع في الدلالة أو انزياح دلالي.

ب ـ اصطلاحا :

جاء في معجم المصطلحات (١) «المجاز : كل الصيّغ البلاغية التي تحتوي تغييرا في دلالة الألفاظ المعتادة. ويندرج تحت هذا كل أنواع المجاز في البلاغة العربية ما عدا الكناية التي لا يمنع استعمال ألفاظها في غير ما وضعت له من إرادة المعنى الأصلي لهذه الألفاظ».

__________________

(١). معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ، وهبة ـ المهندس ، ص ١٨٤.

١٨٤

وفي تعريفات الشريف الجرجاني (١) «هو اسم لما أريد به غير ما وضع له لمناسبة بينهما كتسمية الشجاع أسدا» واضح أن الجرجاني يتحدّث عن انزياح دلالي شرط وجود مناسبة بين الدلالة الأولى والدلالة الثانية.

ج ـ تعريف البلاغيين :

عرّفه الجرجاني بقوله (٢) : «المجاز كلّ كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والأول».

يفهم من هذا التعريف ان المجاز مختصّ بالكلمة المفردة في حين وسّع معجم المصطلحات دائرته ليشمل الصّيغ أيضا.

ثم وسّع عبد القاهر تعريفه بقوله (٣) : «وإن شئت قلت : كل كلمة جزت بها ما وقعت له في وضع الواضع الى ما لم توضع له من غير أن تستأنف منها وضعا للملاحظة بين ما تجوز بها اليه وبين أصلها الذي وضعت له في وضع واضعها».

فالتوسّع في الشرح والتعريف أبقى المجاز محصورا في الكلمة المفردة ولم يتناول الصيغ كما في معجم المصطلحات.

أما الخطيب القزويني فرأى ان المجاز يكون في المفرد وفي المركّب. وهو عنده (٤) «الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب على وجه يصحّ مع قرينة عدم إرادته ، فلا بدّ من العلاقة ليخرج الغلط والكناية» فاذا كان الخطيب القزويني قد تكلم هنا على المجاز المفرد ، فانه تكلم في مكان آخر على المجاز المركب الذي

__________________

(١). كتاب التعريفات ، الشريف الجرجاني ، ص ٢١٤.

(٢). اسرار البلاغة ، عبد القاهر الجرجاني ، ص ٣٠٤.

(٣). م. ن. ص ٣٠٤.

(٤). التلخيص في علوم البلاغة. الخطيب القزويني ، ص ٢٩٤.

١٨٥

يعني (١) «اللفظ المركّب المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي تشبيه التمثيل للمبالغة في التشبيه».

وهكذا نصل الى تعريف جامع للمجاز يوسّع دلالته ليشمل المفرد والمركّب. وهذا التوسّع يعبّر عن حقيقة الدلالة البلاغية للمجاز.

نستخلص من هذه التعريفات شروط المجاز الآتية :

١. وجوب توافر علاقة تسوّغ نقل اللفظ من معناه الحقيقي الى معناه غير الحقيقي.

٢. امكانية قيام هذه العلاقة على المشابهة أو على غير المشابهة.

٣. وجوب توافر قرينة لفظية او معنوية تساعد على تمييز المعنى الحقيقي من المعنى المجازي المقصود.

٢. غايات المجاز وفوائده :

من أهم الغايات التي يحققها المجاز ما يأتي :

١. التوسّع :

للألفاظ معان حقيقية سمّاها الدلاليون المعاني الأصلية للألفاظ وتنحصر هذه المعاني بالدلالة القاموسية للفظ ، وهذه المعاني القاموسية ثابتة وموحّدة. لكن الدّلاليين تكلموا أيضا على المعاني الاضافية للفظ. والمعنى الاضافي في نظرهم معنى خاص غير موحّد مرتبط بثقافة المبدع أوّلا وبالصور الجديدة والمعاني الجديدة التي يتجاوز فيها المبدع الموروث اللغوي والتعبيري. إنّه ضرب من الإبداع

__________________

(١). الايضاح في علوم البلاغة. الخطيب القزويني ، ص ٤٣٨.

١٨٦

في العلاقات القائمة بين الألفاظ يتوسّع فيه يمنة ويسرة ليعطي للمعنى القاموسي للألفاظ معاني إضافية يساعده في انتاجها التخييل. من هنا كان الكلام على توسيع الدلالة التي لا تتحدّد بشكل دقيق الّا اذا رصفت الألفاظ في عبارة او في سياق ، فقوله : له عليّ يد ، لا ينظر فيه الى معنى اليد الحقيقي بل ينظر الى المعنى الإضافي للفظ وهو الجميل او المساعدة مادية كانت او معنوية. والتوسّع أتى من كون العطاء أصلا أداته اليد فتوسّع المبدعون في دلالتها حتى صارت بمعنى المساعدة والفضل.

٢. التوكيد.

من الغايات التي يحققها المجاز التوكيد لأنه وسيلة من وسائل ترسيخ المعنى بشكل غير مباشر يتطلّب من المتلقّي تخييلا معينا يصبح فيه المعنى أبلغ مّما كان عليه في الحقيقة.

٣. التشبيه.

وهو بارز جدا في المجاز ، فعندما نقول : جاء القمر معبّرين بذلك عن وصول فتاة جميلة ، نكون قد شبّهنا الفتاة بالقمر وأضفنا الى هذه الفتاة اسما جديدا لما بينها وبين القمر من شبه مع وجود قرينة مانعة من ايراد المعنى الحقيقي. وهكذا يكون :

طلع القمر (على الحقيقة) خاليا من التشبيه. أما

جاء القمر (على المجاز) فهو متضمن تشبيه الفتاة الجميلة بالقمر.

ففي المجاز اذا ابتكار معنى جديد للفظ قد يكون معنى فرديا يكسب صاحبه صفة التّميّز والفرادة ، وقد يكون معنى عاما ـ كما في

١٨٧

المثال السابق ـ يكسب صاحبه صفة المقلّد ، فتتراجع عنه صفة الابتكار والاختراع.

والملاحظ أن التوسع الدلالي او الانزياح الدلالي عملية واعية قائمة على رصد الصلات المشتركة بين المعنى الاصلي والمعنى المجازي .. فإذا عدنا الى المثال السابق (جاء القمر) لاحظنا ان العلاقة القائمة بين القمر والوجه الجميل لا تحتاج الى تعليل وتفسير.

١٨٨

الحقيقة

١ ـ تعريفها :

أ ـ لغة :

جاء في اللسان (حقق) : «والحقيقة ما يصير اليه حقّ الأمر ووجوبه. وبلغ حقيقة الأمر أي يقين شأنه ... والحقيقة في اللغة : ما أقرّ في الاستعمال على أصل وضعه ، والمجاز ما كان بضدّ ذلك».

فالحقيقة تعني إذا المعنى الأصلي المتعارف عليه في المعجمات وفي أصل الاستعمال. والمجاز موجّه نحو المعاني الإضافية للفظ التي يغلب عليها طابع الجدّة والابتكار والخصوصية.

وقد ذكر الخطيب القزويني تعريفا لغويا آخر مفاده (١) : «والحقيقة إما فعيل بمعنى مفعول ، من قولك : حققت الشيء أحقه ، إذا أثبتّه ، أو فعيل بمعنى فاعل من قولك : حقّ الشيء يحق اذا ثبت ، أي المثبّتة أو الثابتة في موضعها الأصلي».

ب. اصطلاحا :

جاء في كتاب التعريفات (٢) : «الحقيقة : كل لفظ يبقى على موضوعه ، وقيل : ما اصطلح الناس على التخاطب [به]».

إنها المعنى الحقيقي للفظ المبرّأ من كلّ المعاني الإضافية.

ويتضح معناها أكثر في تعريف المحدثين الذي جاء فيه (٣) : «هي مدلول الكلمة المستعملة فيما وضعت له بحيث تدلّ على معناها بنفسها

__________________

(١). الإيضاح في علوم البلاغة ، الخطيب القزويني ، ص ٣٩٥.

(٢). كتاب التعريفات ، الشريف الجرجاني ، ص ٩٤.

(٣). معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ، وهبة ـ المهندس ، ص ٨٥.

١٨٩

من غير حاجة الى علاقة أو قرينة ، وذلك كاستعمال القمر للكوكب المعروف لا للوجه المشرق مثلا».

وعرّفها الخطيب القزويني (١) بقوله : «هي الكلمة المستعملة في ما وضعت له في اصطلاح التخاطب».

مثال توضيحي للحقيقة والمجاز :

قال المتنبّي وقد نظر الى السّحاب (الوافر) :

تعرض لي السّحاب وقد قفلنا

فقلت اليك إنّ معي السحابا

فشم في القبّة الملك المرجّي

فأمسك بعدما عزم انسكابا

قال العكبري (٢) في شرح هذين البيتين : «يريد أن السحاب أمسك عن الانسكاب لئلا يخجل من وجوده لتقصيره عنه».

لقد ورد لفظ السّحاب مرتين في البيت الأول. وهو مستخدم بمعناه الحقيقي في الصدر ، وبمعناه المجازي في العجز لأنّ المقصود به الممدوح الكريم. وهذا مجاز لأن اللفظ استخدم في غير ما وضع له في الاصطلاح ، والقرينة تكمن في المشابهة ، إذ السحاب يجود بالمطر والكريم يجود بالمال ، وفي أحاديث الناس اليومية ما يشبه ذلك.

لهذا نفى بعض البلاغيين وجود مجاز في القرآن الكريم ، وردّ عليهم ابن قتيبة بقوله (٣) : «إنّ المجاز شائع في كلام العرب ، ولو كان المجاز كذبا ، وكل فعل ينسب الى غير الحيوان باطلا لكان أكثر كلامنا فاسدا».

__________________

(١). الإيضاح في علوم البلاغة ، الخطيب القزويني ، ص ٣٩٢.

(٢). شرح ديوان المتنبي ، العكبري ، ١ / ١٤٦.

(٣). تأويل مشكل القرآن ، ابن قتيبة ، دار الكتب المصرية ، ص ١١.

١٩٠

والواقع ان الزمخشري ألّف معجم أساس البلاغة وذكر فيه المعنى اللغوي بايجاز كليّ ، وفصّل الكلام على المعاني المجازية حتى عدّ المعجم معجم المعاني المجازية ، وهو معجم لم يسبق الى مثله.

وهذا رسم بياني يختصر ما تقدم من كلام على الحقيقة والمجاز ويوضّح أنواع المجاز التي سوف نتناولها بالتفصيل.

١٩١

الاستعارة

١ ـ تعريفها :

أ ـ لغة :

جاء في اللسان (عور) : «استعار : طلب العاريّة. واستعاره الشيء واستعاره منه : طلب منه ان يعيره إياه ... واستعاره ثوبا فأعاره إياه».

وفي المعجم الوسيط : «استعار الشيء منه : طلب أن يعطيه إياه عاريّة. ويقال : استعاره إيّاه».

فالدلالة المعجمية للفظ تؤكد أن الاستعارة نقل الشيء من حيازة شخص الى شخص آخر.

ويعلّل أحد القدامي التسمية بقوله (١) : «وإنما لقّب هذا النوع من المجاز بالاستعارة اخذا لها من الاستعارة الحقيقية ، لأن الواحد منا يستعير من غيره رداء ليلبسه ، ومثل هذا لا يقع الا من شخصين بينهما معرفة ومعاملة ، فتقضي تلك المعرفة استعارة احدهم من الآخر ، فاذا لم يكن بينهما معرفة بوجه من الوجوه فلا يستعير أحدهما من الآخر من اجل الانقطاع».

ب ـ اصطلاحا.

جاء في التعريفات (٢) : «الاستعارة ادّعاء معنى الحقيقة في الشيء للمبالغة في التشبيه مع طرح ذكر المشبّه من البيتين كقولك : لقيت أسدا وانت تعني به الرّجل الشجاع».

__________________

(١). الطراز ، العلوي ، دار الكتب ١ / ١٩٨.

(٢). كتاب التعريفات ، الشريف الجرجاني ، ص ٢٠.

١٩٢

فالتعريف ركّز على العلاقة القائمة بين التشبيه والاستعارة لأن الاستعارة أساسا تشبيه حذف أحد طرفيه (المشبه أو المشبه به).

وهي في معجم المصطلحات العربية اقتباس قول السكّاكي (١) : «هي تشبيه حذف منه المشبّه به او المشبه ، ولا بدّ أن تكون العلاقة بينهما المشابهة دائما ، كما لا بدّ من وجود قرينة لفظية أو حالّية مانعة من إرادة المعنى الأصلي للمشبّه به أو المشبّه».

ولم يبعد تعريف الجرجاني عن هذا عندما قال (٢) : «اعلم أنّ الاستعارة في الجملة أن يكون لفظ الأصل في الوضع اللغوي معروفا تدلّ الشواهد على أنه اختص به حين وضع ، ثم يستعمله الشاعر او غير الشاعر في غير ذلك الأصل ، وينقله اليه نقلا غير لازم ، فيكون هناك كالعاريّة».

واضح من هذه التعريفات انّ الاستعارة مجاز تنزاح فيها الدّلالة عن المعنى الاساسي للفظ الى أحد المعاني الإضافية. ولهذا ذهب المحدثون الى أنها أبلغ من التشبيه (٣) : «لأن التشبيه مهما تناهي في المبالغة ، فلا بدّ فيه من ذكر المشبّه والمشبّه به. وهذا اعتراف بتباينهما ، وأنّ العلاقة ليست الا التشابه والتداني ، فلا تصل الى حدّ الاتحاد ، بخلاف الاستعارة ففيها دعوى الاتحاد والامتزاج ، وان المشبه والمشبه به صارا معنى واحدا» وكلام الهاشمي هذا استكمال لما بدأه الجرجاني بقوله (٤) : «وهي أمدّ ميدانا ، وأشدّ افتنانا ، وأكثر جريانا ، وأعجب حسنا وإحسانا ، وأوسع سعة ، وأبعد غورا ، وأذهب نجدا في

__________________

(١). معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ، وهبة ـ المهندس ، ص ١٩.

(٢). اسرار البلاغة ، عبد القاهر الجرجاني ، ص ٢٢.

(٣). جواهر البلاغة ، السيّد احمد الهاشمي ، ص ٣٠٣ ـ ٣٠٤.

(٤). أسرار البلاغة ، عبد القاهر الجرجاني ، ص ٣٢.

١٩٣

الصناعة وغورا ، من أن تجمع شعبها وشعوبها ، وتحصر فنونها وضروبها».

٢. مكانة الاستعارة :

رأى أرسطو أن (١) : «أعظم الأساليب حقّا هو أسلوب الاستعارة ... وهو آية الموهبة».

ولم يزد الغربيّون على ما جاء من إجلالها واحترامها في كلام الجرجاني ، ولكن لا بدّ من ذكر بعض أقوالهم لإظهار أهميتها في الدراسات النقدية الحديثة.

أما جان كوهين فيرى أن الاستعارة (٢) : «تشكل الخاصيّة الأساسية للغة الشعرية».

ويرى الناقد الأسباني tessaG.y.agetrO (٣) : «ان الشعر هو اليوم الجسر العالي للاستعارات ... ويحتمل أن تكون الاستعارة طاقة الانسان الأكثر خصبا» ويذهب آخر الى جعلها سلطان المجاز.

٣. أركان الاستعارة :

ذكرنا ان الاستعارة تشبيه بليغ حذف أحد طرفيه ، فلا بدّ فيها إذا من :

١. مشبّه ،

٢. مشبّه به وما اليهما.

__________________

(١). فن الشعر ، أرسطو ، ترجمة د. محمد شكري عيّاد ، دار الكاتب العربي ، القاهرة ، ١٩٦٧ ، ص ١٢٨.

(٢). نقلا عن الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي والنقدي ، الولي محمد ، ص ٨.

(٣). م. ن. ص ٥٥.

١٩٤

فالمشبّه والمشبّه به ، وإن لم يظهرا فيها واضحين ، فإنهما مقدران ولهذا أطلق مصطلح (الجامع) على وجه الشّبه. وهكذا تصبح أركانها كما يأتي.

١. المستعار له : (المشبّه).

٢. المستعار منه : (المشبّه به).

٣. الجامع : (وجه الشبه).

٤. المستعار : هو عند بعضهم لفظ المشبّه به وان كان محذوفا ، وعند السكاكي لفظ المشبّه. لكن لا بدّ من اعتماد رأي الجمهور.

مثال ذلك : بكت السّماء فضحكت الأرض.

شبّهت السماء الممطرة بامرأة تبكي ، والأرض المرتوية بامرأة تضحك. أما الاستعارة فتكمن في الفعلين (بكت وضحكت) ، إذ شبّه انهمار المطر بالبكاء ، وارتواء الأرض بالضحك ، فيكون المستعار له (الانهمار والارتواء) والمستعار منه (البكاء والضحك).

لنبحث الآن عن أركان الاستعارة في المثال السابق :

١. المستعار له : المشبّه هو : السماء+ الأرض.

٢. المستعار منه : المشبّه به هو : المرأة في الحالين.

٣. الجامع : وجه الشّبه (إنهمار المطر ـ إنهمار الدمع)

(اشراق الأرض ـ اشراق الوجه)

٤. المستعار : لفظ المشبه به وإن كان محذوفا في نظر الجمهور (المرأة).

١٩٥

ولا بد من قرينة تهدي الى وجود الاستعارة. وتكمن هذه القرينة في لفظ يشير الى وجودها بعد ما نقل من معناه الحقيقي الى معناه المجازي. وهو هنا (بكت+ ضحكت) فقد نقلا من معناهما الحقيقي (البكاء والضحك) الى معنى مجازي جديد (الإمطار+ الإرواء) وبذلك أشار الى وجود الاستعارة في اللفظين (السماء والأرض).

وليس ضروريا أن تكون القرينة لفظية دائما ، فقد تكون حالية مفهومة من السّياق كما في قول المتنبي مخاطبا سيف الدولة (١) (الكامل) :

عيب عليك ترى بسيف في الوغى

ما يفعل الصمصام بالصمصام؟

ففي لفظ (صمصام) الأول استعارة إذ شبه سيف الدولة بالصمصام (السيف) والقرينة حالية تفهم من السياق. وقال العكبري في معنى البيت :

«أنت سيف في حدّتك ومضائك فلا تحتاج الى سيف».

٤. أقسام الاستعارة :

قال الخطيب القزويني (٢) :

«الاستعارة تنقسم باعتبار الطرفين ، وباعتبار الجامع ، وباعتبار الثلاثة ، وباعتبار اللفظ ، وباعتبار أمر خارج عن ذلك كله».

وهكذا قسم البلاغيون المحدثون الاستعارة الى أقسام تبعا لاعتبارات محدّدة :

أ. باعتبار المستعار منه : الاستعارة مكنّية وتصريحية.

__________________

(١). شرح ديوان المتنبي ، العكبري ، ٤ / ١٠.

(٢). الإيضاح في علوم البلاغة ، الخطيب القزويني ، ص ٤١٨.

١٩٦

ب. باعتبار الجامع (لفظ الاستعارة) : الاستعارة أصلية وتبعية.

ج. باعتبار الثلاثة (ما يقترن بطرفيها) : الاستعارة مرشّحة ومجرّدة ومطلقة وتمثيلية.

وسنأتي الى درس كل من هذه الأقسام دراسة مفصلة.

١٩٧

البحث الأول

الاستعارة باعتبار المستعار منه

تقسم الاستعارة باعتبار ما يذكر من الطرفين الى :

١ ـ الاستعارة المكنيّة :

عرّفها السّكاكي بقوله (١) : «هي أن تذكر المشبّه وتريد به المشبّه به دالّا على ذلك بنصب قرينة تنصبها. وهي ان تنسب إليه وتضيف شيئا من لوازم المشبّه به المساوية مثل أن تشبّه المنيّة بالسبع ، ثم تفردها بالذكر مضيفا اليها على سبيل الاستعارة التخييلية فتقول : مخالب المنيّة نشبت بفلان طاويا لذكر المشبّه به ، وهو قولك : الشبيهة بالسّبع».

وشاهد السكّاكي مأخوذ من قول الشاعر (الكامل) :

وإذا المنية أنشبت أظفارها

ألفيت كلّ تميمة لا تنفع

إذ شبّه الشاعر المنيّة بالسّبع. فالمستعار منه (السبع) محذوف ، وكني عنه بشيء من خصائصه (الأظفار). المستعار له (المنيّة) مذكور. القرينة (الأظفار) والجامع بينهما هو الاغتيال.

لمزيد من التوضيح يمكن القول : هي الاستعارة التي حذف منها المستعار منه (المشبّه به) ورمز اليه بما يدلّ عليه من صفاته ، ولا بدّ فيها من ذكر المستعار له (المشبّه). مثال ذلك قوله تعالى (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) الذاريات : ٤١ شبّهت الريح التي لا تحمل المطر بالمرأة العاقر التي لا تحمل الجنين.

__________________

(١). مفتاح العلوم ، السكّاكي ، ت. نعيم زرزور ، دار الكتب العلمية ، بيروت ١٩٨٣ ، ص ٣٧٨ ـ ٣٧٩.

١٩٨

فالمستعار منه المرأة محذوف ، وكني عنه بصفة من صفاته (العقم) والمستعار له : الريح مذكور. والقرينة : العقيم. والجامع بينهما : عدم الإخصاب.

ومثالها أيضا قول الحجّاج (١) : «وإنّي لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها ، وإنّي لصاحبها». لقد شبّه الحجّاج رؤوس مخاطبيه بالثمار اليانعة. المستعار منه (الثمار اليانعة) محذوف وكني عنه بشيء من خصائصه (الإيناع). المستعار له : الرؤوس مذكور. القرينة : أينعت. والجامع بينهما : الاستدارة والارتفاع فوق جذوع يمكن انفصالها عنها.

٢. الاستعارة التصريحيّة :

هي ما صرّح فيها بلفظ المستعار منه (المشبّه به) وحذف المستعار له (المشبّه) كقول المتنبّي مادحا سيف الدولة ومعرّضا بملك الرّوم (٢) (الطويل) :

فأقبل يمشي في البساط فما درى

الى البحر يمشي أم الى البدر يرتقي

موطن المجاز هنا (الى البحر يمشي ، الى البدر يرتقي). فالبحر والبدر خرجا عن معناهما الحقيقي ليدلا على شخص الممدوح (سيف الدولة) والعلاقة بين الدلالة الحقيقية والدلالة المجازية تقوم على المشابهة ، إذ شبّه سيف الدولة بالبحر في جوده على مذهب الأقدمين والمحدثين ، وشبّهه بالبدر في رفعة مقامه. وسكت عن المشبه وذكر المشبّه به لهذا كانت الاستعارة تصريحية.

__________________

(١). العقد الفريد ، ابن عيد ربّه ، ٤ / ١٢٠.

(٢). شرح ديوان المتنبي ، العكبري ، ٢ / ٣١٢.

١٩٩

مثال آخر من قول المتنبي (١) أيضا (الوافر) :

وألقى الشّرق منها في ثيابي

دنانيرا تفرّ من البنان

شّبه دوائر الضوء المتسلّلة إليه عبر أوراق الشجّر بدنانير زئبقية تستعصي على الإمساك بها ، فالمستعار منه الدنانير مذكور مصرّح بذكره ، والمستعار له : الدوائر الضوئية محذوفة. والقرينة : ألقى الشرق والجامع بينهما : الاستدارة والبياض والصّفرة.

ومثالها من القرآن الكريم قوله تعالى (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ابراهيم : ١.

شبّهت الآية الضلال بالظلمات ، والهدى بالنور. والمستعار منه (الظلمات) مذكور مصرّح به. المستعار له : الضلال محذوف.

الجامع بينهما : عدم الاهتداء. القرينة : الحالية.

في الصورة الثانية : المستعار منه : النور وقد صرّح به المستعار له : الهدى محذوف. الجامع بينهما : الاهتداء. والقرينة حالية.

٣. صور مشتركة بين المكنّية والتصريحية.

قال ابن المعتزّ :

جمع الحقّ لنا في إمام

قتل البخل وأحيا السّماحا

شّبه الشاعر البخل والسّماح بانسان يقتل ويحيي. فالمستعار له :البخل والسّماح مذكوران. والمستعار منه : الإنسان محذوف وقد كني

__________________

(١). شرح ديوان المتنبي ، العكبري ، ٤ / ٢٥٣.

٢٠٠