علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )

الدكتور محمّد أحمد قاسم والدكتور محيي الدين ديب

علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )

المؤلف:

الدكتور محمّد أحمد قاسم والدكتور محيي الدين ديب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الحديثة للكتاب
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

فالمشبه : البنفسج ، والمشبّه به ، أثر اللّطم في خدود الملاح ، ووجه الشّبه محذوف (اللون) ، والأداة : يحكي مذكور.

٣ ـ تشبيه بليغ :

وهو ما حذفت منه الأداة ووجه الشّبه معا ، فهو مؤكّد مجمل.

وهو أعلى التشابيه بلاغة ومبالغة في آن. ويأتي على صور متعدّدة تبعا لموقع المشبّه به من الإعراب. وأشهر هذه الصور :

أ. أن يكون المشبّه به خبرا للمشبّه

، كقول (عمر أبو ريشة) :

يا بلادي وأنت نهلة ظمآ

ن وشبّابة على فم شاعر

فالمشبّه أنت ، والمشبّه به : نهلة ظمآن (وهي في محلّ رفع خبر المبتدأ) الأداة : محذوفة ، ووجه الشّبه مثلها محذوف وتقديره (الجمال).

وهناك تشبيه آخر. المشبّه : أنت ، المشبّه به : شبّابة وهو معطوف على الخبر (نهلة) ، والأداة محذوفة ووجه الشّبه مثلها محذوف.

ومثاله أيضا قول السيّاب :

عيناك غابتا نخيل ساعة السّحر

أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر

فوجه الشّبه وأداة التشبيه غائبان وبغيابهما فتح الباب أمام الذهن ليتطّلع إلى وجوه اللقاء الممكنة بين الطرفين فإذا هما شيء واحد ، أو كالواحد وهذا مدخل البلاغة فيه.

ب ـ أن يكون المشبّه به حالا للمشبّه ، ومثاله : دخل نمرا ، وخرج هرّا

١٦١

فالمشبّه محذوف تقديره هو ، والمشبّه به نمرا (حال) والأداة ووجه الشّبه غائبان محذوفان. والقول نفسه يصحّ في : خرج هرّا ،

ومثاله أيضا قول علي محمود طه :

صاح بالشّمس لا يرعك عذابي

فاسكبي النّار في دمي وأريقي

وخذي الجسم حفنة من رماد

وخذي الرّوح شعلة من حريق

في البيت تشبيهان :

في الأول : المشبّه : الجسم ، المشبّه به : حفنة ، وهو حال من المشبّه ، والأداة ووجه الشّبه محذوفان.

في الثاني : المشبّه : الرّوح ، والمشبّه به : شعلة ، وهو حال من المشبّه ، والأداة ووجه الشّبه محذوفان.

ج ـ أن يكون المشبّه به مضافا إلى المشبّه :

ومثاله : لبس المريض ثوب العافية. فالمشبّه العافية ، والمشبّه به ثوب ، والعافية مضافة إلى الثوب. ومنه أيضا قوله الياس فرحات :

هلّا مننت بلقيا أستردّ بها

فجر الشّباب فشمس العمر في الطّفل؟

في البيت تشبيهان :

في الأول : المشبّه (الشباب) مضاف إليه ، المشبّه به : (فجر) أضيف إلى المشبّه .. والأداة ووجه الشّبه محذوفان.

في الثاني : المشبّه : العمر (مضاف إليه) ، والمشبّه به : الشمس (مضاف إلى المشبّه) والأداة ووجه الشّبه محذوفان.

وهذا من باب إضافة المشبّه به إلى المشبّه.

١٦٢

د ـ أن يكون المشبّه به مفعولا به ثانيا ، والمشبّه مفعولا أوّلا ،

ومثاله قول المازني في وردة ذابلة :

ولو استطعت حنيت أض

لاعي على ذاوي سناها

وجعلت صدري قبرها

وجعلت أحشائي ثراها

في البيت الثاني تشبيهان :

في الأوّل : المشبّه : صدري مفعول به أوّل ل (جعل) ، والمشبّه به : قبرها : مفعول به ثان ل (جعل). والأداة ووجه الشّبه محذوفان.

ه ـ أن يكون المشبّه به مفعولا مطلقا مبيّنا للنّوع ،

على أن يكون المشبّه مصدرا مقدّرا من الفعل العامل فيه ، ومثاله قول المازني في الوردة الذابلة.

وضممتها ضمّ الحبي

ب عسى يعود لها صباها

فالمشبّه : الضمّ (مصدر مقدّر من الفعل ضممتها) والتقدير ضممتها ضمّا كضمّ ... والمشبّه به : ضمّ : مفعول مطلق من الفعل ضمّ. والأداة ووجه الشّبه محذوفان.

و ـ أن يكون المشبّه به مجرورا ب (من) البيانية التي تبينّ المشبّه

، كقول الشابّي :

ورفرف روح غريب الجمال

بأجنحة من ضياء القمر

١٦٣

المشبّه : أجنحة الروح ، المشبّه به : ضياء القمر مسبوق ب (من) البيانية التي بيّنت نوع الأجنحة ، والأداة ووجه الشّبه ، محذوفان.

ز. أن يكون المشبّه به أحد التوابع ،

ومثاله قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) الأحزاب : ٤٥. شبّه عليه الصلاة والسلام بالمصباح المنير الذي يهدي البشر إلى الله تعالى.

فالمشبّه النبيّ والمشبّه به : سراجا (معطوف على الحال شاهدا) والأداة ووجه الشبه محذوفان.

تمارين :

١ ـ بيّن أنواع التشبيه في ما يأتي :

 ـ وسهيل كوجنة الحبّ في اللو

ن وقلب المحبّ في الخفقان

 ـ وشربت الفجر خمرا

في كؤوس من أثير

 ـ سحبت الدّياجي فيه سود ذوائب

لأعتنق الآمال بيض ترائب

 ـ ثوب الرياء يشفّ عمّا تحته

فإذا اكتسيت به فإنّك عاري

 ـ علق المجاعة مصّ بعض دمائه

وتعسّف الحكام مصّ الباقي

 ـ وقف التاريخ في محرابها

وقفة المرتجف المضطرب

 ـ أأمانيّ كلّها من تراب

وأمانيك كلّها من عسجد

 ـ ونشربها فتتركنا ملوكا

وأسدا ما ينهنهنا اللقاء

 ـ إذا نلت منك الودّ فالمال هيّن

وكل الذي فوق التراب تراب

 ـ فعلت بنا فعل السّماء بأرضه

خلع الأمير وحقّه لم نقصه

 ـ إذا الدولة استكفت به في ملمّة

كفاها فكان السّيف والكفّ والقلبا

 ـ لك سيرة كصحيفة ال

أبرار طاهرة نقيّة

١٦٤

 ـ ذهبت جدّة الشتاء ووافا

نا شبيها بك الربيع الجديد

ودنا العيد وهو للناس حتّى

يتقضّى وأنت للعيد عيد

 ـ قصور كالكواكب لامعات

يكدن يضئن للساري الظلاما

 ـ إذا ما الرعد زمجر خلت أسدا

غضابا في السّحاب لها زئير

 ـ أشبهت أعدائي فصرت أحبهم

إذ كان حظّي منك حظّي منهم

 ـ ليلتي هذه عروس من الزّن

ج عليها قلائد من جمان

هرب النّوم عن جفوني فيها

هرب الأمن عن فؤاد الجبان

 ـ الورد في أعلى الغصون كأنه

ملك تحفّ به سراة جنوده

 ـ إنّما النفس كالزّجاجة والع

لم سراج وحكمة الله زيت

فإذا أشرقت فإنّك حيّ

وإذا أظلمت فإنّك ميت

 ـ وترى الغصون تميل في أوراقها

مثل الوصائف في صنوف حرير

 ـ والورد في شطّ الخليج كأنّه

رمد ألمّ بمقلة زرقاء

وإليك موجزا بأقسام التشبيه :

١ ـ باعتبار الأداة :

الأداة مذكورة ـ ت مرسل

الأداة محذوفة ـ ت مؤكد

٢ ـ باعتبار وجه الشبه :

وجه الشبه مذكور ـ ت مفصّل

وجه الشبه محذوف ـ ت مجمل

١٦٥

٣ ـ باعتبار الأداة ووجه الشّبه معا :

الأداة محذوفة ووجه الشبه مذكور ـ ت مؤكّد+ مفصّل

الأداة مذكورة ووجه الشبه محذوف ـ ت مرسل+ مجمل

الأداة محذوفة ووجه الشبه محذوف ـ ت بليغ ـ مؤكّد+ مجمل

صور التشبيه البليغ :

١. المشبّه به خبر للمبتدأ.

٢. المشبّه به حال للمبتدأ.

٣. المشبّه به مضاف إلى المشبّه.

٤. المشبّه به مفعول ثان والمشبّه مفعول أول.

٥. المشبّه به مفعول مطلق والمشبّه مصدر مقدّر.

٦. المشبّه به مجرور بمن.

٧. المشبّه به أحد التوابع.

١٦٦

البحث الخامس

تشبيه التّمثيل وغير التمثيل

أولا : تشبيه التمثيل :

١ ـ تعريفه :

هو ما كان وجه الشّبه فيه صورة منتزعة من متعدّد ، أو هو الذي يكون وجه الشّبه فيه مركّبا.

٢ ـ شروطه :

اشترط البلاغيّون تركيب الصورة فيه ، سواء أكانت العناصر التي تتألف منها صورته أو تركيبته حسّية أو معنوية.

وكلّما كانت عناصر الصورة أكثر ، كان التشبيه أبعد وأبلغ.

٣ ـ أمثلته :

قال ابن الرومي (المنسرح) :

أوّل بدء المشيب واحدة

تشعل ما جاورت من الشّعر

مثل الحريق العظيم تبدؤه

أوّل صول صغيرة الشّرر

في هذين البيتين مشهدان متفقان في وجوه عديدة تلتقي لتكوّن في النهاية وجها واحدا. للأجزاء المكوّنة لكل مشهد قيمة في تجمّعها ولا قيمة لكل جزء منفردا. يتكوّن المشهد الأول من الأجزاء الآتية :

غزا الشيب شعر الشاعر فبدأ بشعرة بيضاء ثم توسّع في هذا الشعر الأسود حتّى قضى عليه قضاء مبرما فاتسعت دائرة البياض وتوارت دائرة السّواد. المشهد الثاني المقابل يتمثّل في حريق عظيم بدأ بشرارة صغيرة ثم أخذت نيرانه تتوسّع ملتهمة كل ما يقع في طريقها.

١٦٧

لنبحث في هذين المشهدين المتقابلين عن عناصر تشبيه التمثيل : فبين المشيب وبقايا النار جامع البياض المشرب بالسواد الخجول.

والمشيب يأتي على الشعر بأكمله تدريجيا والنار تلتهم كل ما يقف بوجهها تدريجيا أيضا.

الشّيب يبدأ بشعرة واحدة والحريق العظيم تبدؤه شرارة صغيرة وهكذا فإن تشبيه التمثيل هذا يتكوّن من :

تشبيه (١) وفيه : مشبه (١) + مشبّه به (١) + وجه شبه (١)

تشبيه (٢) وفيه : مشبه (٢) + مشبّه به (٢) + وجه شبه (٢)

تشبيه (٣) وفيه : مشبه (٣) + مشبّه به (٣) + وجه شبه (٣)

والخلاصة أن تشبيه التمثيل مكوّن من مشبّه متعدّد+ وجه شبه متعدّد+ مشبّه به متعدّد.

ولهذا كان تشبيه التمثيل محتاجا إلى عمليّات ذهنية متلاحقة لفكّ أجزائه والتعرّف إلى التماثل القائم بين هذه الأجزاء. فالصورة فيه أشبه بالومضات (فلاش) المتلاحقة التي تجسّد في النهاية صورة متكاملة ولهذا كانت الصورة مشهدا متتابعا ، ويجب التنبّه إلى أن المعوّل عليه في التعدّد هو وجه الشّبه فقط.

وقال ابن المعتزّ (الوافر) :

كأنّ سماءنا لمّا تجلّت

خلال نجومها عند الصّباح

رياض بنفسج خضل نداه

تفتّح بينه نور الأقاحي

في البيتين مشهدان متفقان في وجوه عديدة. يتكوّن المشهد الأوّل من الأجزاء الآتية.

تجلّت السّماء صباحا وقد انتشرت نجومها فبدت زرقاء بيضاء صفراء.

١٦٨

المشهد الثاني يتكوّن من الأجزاء الآتية : رياض متناثرة يجتمع فيها البنفسج المخضّل بالندى إلى جانب روضة أخرى من الأقاحي التي تفتّح زهرها الأبيض المشوب بصفرة.

لنبحث في هذين المشهدين المتقابلين عن عناصر تشبيه التّمثيل : بين تجلّي السماء وانتشار نجومها صباحا وبين رياض البنفسج المتناثرة جامع الزرقة البنفسجية.

بين ندى الصبّاح وندى الأزاهير جامع اخضلال ونداوة.

بين روض النجوم المتناثرة ورياض الأرض جامع التناثر في النجوم الذي يقابله تناثر الورود وتفرّقها في المرج الفسيح الذي يشبه رحابة السّماء وتداخل الألوان البنفسجي والأبيض والأصفر ، يشبه تداخل ألوان السّماء وقد انحسرت النجوم في مكان منها وتناثرت في مكان آخر.

فوجه الشّبه كما ترى صورة منتزعة من متعدّد ، ولو حذفنا شيئا من المشبّه أو المشبّه به لاختلّ التوازن بين أجزاء المشهدين المتقابلين ، واختل معه وجه الشّبه الجامع بين أجزاء صورتي المشبّه والمشبّه به.

وقال البحتري في شقائق النعمان (الطويل) :

شقائق يحملن النّدى فكأنه

دموع التّصابي في خدود الخرائد

عناصر المشهدين متضافرة لتقديم صورة متكاملة. لنبحث عن هذه العناصر

في المشهد الأول : شقائق النعمان+ الندى الذي يكلّلها

في المشهد الثاني : خدود الملاح+ دموع التّصابي المتساقطة

ووجه الشبه مكوّن من قطرات جميلة صافية تلمع فوق سطوح جميلة بيضاء مشوبة بصفرة. ولهذا كان وجه الشّبه منتزعا من متعدّد

١٦٩

لا يمكن حذف جزء من المشبّه أو المشبّه به وإلّا فإن وجه الشبه الجامع بين أجزائهما يختلّ ويتعطّل تناسق الصورة وتفقد رونقها.

ثانيا : تشبيه غير التّمثيل :

١ ـ تعريفه :

هو ما كان فيه وجه الشّبه مفردا ، أي أنه ليس صورة منتزعة من متعدّد.

٢ ـ أمثلته :

قال البحتري (الخفيف) :

هو بحر السّماح والجود فازدد

منه قربا تزدد من الفقر بعدا

فعناصر التشبيه هي : المشبه : الممدوح ، والمشبّه به : البحر ، وجه الشبه : الجود. وهكذا فإنّ وجه الشبه ليس صورة منتزعة من متعدّد كما في تشبيه التمثيل.

وقال أبو بكر الخالدي (م الرّمل) :

يا شبيه البدر حسنا

وضياء ومنالا

وشبيه الغصن لينا

وقواما واعتدالا

أنت مثل الورد لونا

ونسيما وملالا

زارنا حتى إذا ما

سرّنا بالقرب زالا

فالمشبّه في هذه الأبيات جميعا هو الحبيب. أمّا المشبّه به فهو على التوالي : البدر والغصن والورد.

١٧٠

وجه الشّبه فيها صفات متعدّدة ولكنّها مفككة وليست مجموعة ومترابطة لتكوّن كلّا موحّدا إذ يمكن الاكتفاء بجزء منها وحذف أجزاء أخرى. ويبقى التشبيه قائما بعكس ما يحدث في تشبيه التمثيل الذي تكوّن عناصره كلّا مستقلّا لا يتخلّى عن أيّ جزء من أجزائه ولا يقوم إلّا بعناصره مجتمعة.

تمرينات :

١ ـ ميّز تشبيه التمثيل من غيره فيما يأتي :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ) الكهف : ٤٥.

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) الحديد : ٢٠.

وقال الشاعر :

 ـ المستجير بعمرو عند كربته

كالمستجير من الرّمضاء بالنّار

 ـ كأنّ مثار النّقع فوق رؤوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

 ـ عيناه عالقتان في نفق

كسراج كوخ نصف متّقد

 ـ والصّدر فارقه الرّجاء فقد غدا

وكأنّه بيت بلا مصباح

 ـ وليل كموج البحر أرخى سدوله

عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

 ـ لله نهر سال في بطحاء

أحلى ورودا من لمى الحسناء

 ـ يطأ الثرى مترفقا من تيهه

فكأنّه آس يجسّ عليلا

 ـ يهزّ الجيش حولك جانبيه

كما نفضت جناحيها العقاب

 ـ فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإنّ المسك بعض دم الغزال

١٧١

وقال السيّاب :

عيناك حين تبسمان تورق الكروم

وترقص الأضواء كالأقمار في نهر

يرجّه المجداف وهنا ساعة السّحر

كأنّما تنبض في غوريهما النّجوم

وتغرقان في ضباب من أسى شفيف

كالبحر سرّح اليدين فوقه المساء

دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف

والموت والميلاد والظّلام والضيّاء

١٧٢

البحث السادس

التشبيه الضّمني

١ ـ تعريفه :

هو تشبيه لا يوضع فيه المشبّه والمشبّه به في صورة من صور التشبيه المعروفة ، بل يلمحان في التركيب.

من هذا التعريف ندرك أنّه مضمر في النّفس وأنه يؤثر فيه التلميح على التّصريح.

كما أن التسمية تشير إلى أن التشبيه غير ظاهر في الكلام وإنّما على المتلقّي أن يفهمه ضمنا لأنّه يخاطب ذكاءه وفطنته.

ويؤتى بهذا النوع من التشبيه ليدلّ على أنّ الحكم الذي أسند إلى المشبّه ممكن وإن لم يغب عنه جانب التّخييل.

٢ ـ مزاياه :

من أهم المزايا التي يختصّ بها نذكر ما يأتي :

ـ لا تظهر فيه الأداة أو وجه الشّبه بشكل صريح.

ـ لا يرتبط فيه المشبّه بالمشبّه به ارتباطهما المعروف في باقي أنواع التشبيه ، بل تلمح بينهما العلاقة من خلال المعنى الذي يكاد يخفيه التشبيه.

ـ هو أبلغ من غيره ، وأنفذ في النفوس والخواطر لاتخاذه جانب التلميح واكتفائه به.

ـ يكثر وروده في الحكم والمواعظ والأمثال.

ـ كثيرا ما يأتي في جملتين متواليتين لكلّ منهما معناها المستقلّ ، وقد تربط جملة المشبّه به بجملة المشبّه بحرف الواو ، كقول أبي فراس (الطويل) :

١٧٣

تهون علينا في المعالي نفوسنا

ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر

أو بحرف الفاء كقول المتنبي (الوافر) :

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإنّ المسك بعض دم الغزال

٣ ـ أمثلته :

قال ابن الرّومي (الخفيف) :

قد يشيب الفتى وليس عجيبا

أن يرى النّور في القضيب الرّطيب

لم يقل ابن الرّومي : الفتى وقد وخطه الشّيب كالغصن الرّطيب عند إزهاره لكنّه أتى بهذا المعنى ضمنا ؛ ولهذا سمّي هذا التشبيه ضمنيا.

وقال أبو فراس (الطويل) :

سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم

وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

لم يقل أبو فراس : أنا إذا اشتدّ الخطب على قومي كالبدر الذي ينير الليلة الظلماء ، بل ترك للمخاطبين أن يستنتجوا ذلك ، وسيذهب ذهنهم إلى مثل هذا التشبيه لمجرّد سماعهم عجز البيت.

وقال غيره (الكامل) :

ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت

وقع السّهام ونزعهنّ أليم

يفهم البيت على أنّه تشبيه وإن غاب منه ما يدلّ على التشبيه.

لقد سكت الشاعر عن جزء من الصورة مطالبا القارئ أو المتلقّي باكتشافه ، وليس من الصعب اكتشافه. فالمتلقّي يدرك أنّ الشاعر يشبّه

١٧٤

نظرة الحبيبة وإعراضها برشق السّهام ونزعها من جسد المطعون بها ، فعينا الحبيبة ترشق بنظراتها الحبيب أو تعرض عنه فيكون لرشقها وإعراضها ألم كألم يحدثه الطّعن بالسّهام أو نزعها من جسد المطعون.

وقال المتنبّي (الخفيف) :

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميّت إيلام

لم يقل المتنبي إنّ المتهاون بكرامته مرّة لا يحسّ بذلّ جديد يصيبه لأن كرامته ميتة ، والكرامة الميتة كالجسد الميت لا يتألم إذا جرح جرحا جديدا. لقد مثّل الشطر الثاني المشبّه به ولم يرتبط بالصدر الذي يمثّل المشبّه بأيّ رابط لفظي ، لكنّ الارتباط المعنوي عوّض عن الرابط اللفظي.

٤ ـ بين التشبيه الضمني والتشبيه التمثيلي :

ـ الأداة ووجه الشّبه محذوفان وجوبا في التشبيه الضمني لكنّهما محذوفان جوازا في التشبيه التمثيلي.

ـ المشبّه والمشبّه به معنى مركّب في كليهما من عدّة أجزاء.

ـ تربط المشبّه بالمشبّه به علاقة نحوية أو إعرابية في التشبيه التمثيلي ، ولا يرتبطان في التشبيه الضمني بأية علاقة نحوية ، بل تكون جملة المشبّه به استئنافية لا محلّ لها من الإعراب غالبا.

١٧٥

تمرينات

١ ـ بيّن نوع التشبيه ، وادرس أركانه واشرحه مبيّنا جماليّة الصورة :

 ـ ضحوك إلى الإبطال وهو يروعهم

وللسيّف حدّ حين يسطو ورونق

 ـ وما أنا منهم بالعيش فيهم

ولكن معدن الذّهب الرّغام

 ـ تزدحم القصّاد في بابه

والمنهل العذب كثير الزّحام

 ـ نرجو النّجاة ولم تسلك مسالكها

إنّ السفينة لا تجري على اليبس

 ـ والليل تجري الدّراري في مجرّته

كالرّوض تطفو على نهر أزاهره

 ـ إنّ الهلال إذا رأيت نموّه

أيقنت أن سيصير بدرا كاملا

 ـ إطراقه يخشى ويرهب صمته

والسّيف محذور وإن لم يشهر

 ـ لهيب قلبي أفاض الدّمع من بصري

والعود يقطر ماء حيث يحترق

 ـ ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا

إنّ السّماء ترجّى حين تحتجب

 ـ غادة زانها من الغصن قدّ

ومن الظبي مقلتان وجيد

 ـ وزهاها من فرعها ومن الخذ

دين ذاك السّواد والتوريد

١٧٦

البحث السابع

التشبيه المقلوب

١ ـ تعريفه :

هو تشبيه معكوس يصير فيه المشبّه مشبّها به بادّعاء أنّ وجه الشّبه فيه أقوى.

٢ ـ أمثلته :

قال أحدهم (الكامل) :

وبدا الصّباح كأنّ غرّته

وجه الخليفة حين يمتدح

فالمشبه : غرّة الصّباح وتباشيره. والمشبّه به : وجه الخليفة.

فالشاعر شبّه تباشير الصّباح في ضيائها بوجه الخليفة عندما يسمع المديح. وقد خرج الشاعر على المألوف في تشبيهه لأنّ المألوف والمتداول أن يشبّه وجه الخليفة بتباشير الصّباح ولكنّ الشاعر عكس الآية بهدف الإغراب والمبالغة.

وقال بشّار (البسيط) :

وذات دلّ كأنّ البدر صورتها

باتت تغنّي عميد القلب سكرانا

المشبّه به : المرأة الحبيبة المدلّلة ، والمشبّه : البدر. فالشاعر كسر المألوف وخلخل العلاقة بين المشبّه والمشبّه به ، فقلب المعادلة وصدم القارئ لأنّه خرج على المألوف الذي استنفدت طاقاته الإيحائية ، فخرّب العلاقة بين المشبّه والمشبّه به ليأتي بجديد مبالغ فيه.

١٧٧

فبدل أن تشبه المرأة الجميلة البدر صار البدر عند الشاعر يشبه المرأة الجميلة لأن وجه الشّبه أقوى في المشبّه به منه في المشبّه ، ولهذا فإنّ الشاعر يزعم أن المرأة الحبيبة أجمل من البدر.

لهذا عدّ التشبيه المقلوب ضربا من التجديد في الأساليب القديمة.

٣ ـ من شروطه :

الشرط الرئيس في استعماله ألّا يرد إلّا في ما جرى عليه العرف لدى العرب ، وهذا الشرط يحافظ على وضوح صورة القلب والانعكاس ، وإلّا فإنه يصبح ضربا من الإلغاز.

٤ ـ قيمته البلاغية :

سمّاه ابن جنّي : غلبة الفروع على الأصول ، وقال : لا تجد شيئا من ذلك إلّا والغرض منه المبالغة».

وسمّاه ابن الأثير في المثل السائر «الطّرد والعكس» وقال عنه عبد القاهر «هو جعل الفرع أصلا والأصل فرعا».

لهذا عدّ التشبيه المقلوب ضربا من المبالغة وكسر الرتابة في التشابيه المبتذلة التي مجّها الذوق وملّها السمع لفرط تردّد المعاني المكرورة ، فجاء التشبيه المقلوب ليقضي على الرّتابة ويحدث ضربا جديدا من العلاقات القائمة بين طرفي التشبيه.

تمارين

١ ـ دلّ على التشبيه المقلوب واشرحه ، واذكر أسباب كونه تشبيها مقلوبا :

 ـ كأنّها حين لجّت في تدفّقها

يد الخليفة لمّا سال واديها

١٧٨

 ـ في طلعة البدر شيء من محاسنها

وللقضيب نصيب من تثّنيها

 ـ وترى الغصون تميل في أوراقها

مثل الوصائف في صنوف حرير

 ـ وكأن أجرام السّماء لوامعا

درر نثرن على بساط أزرق

 ـ البدر أشبه ما رأيت بها

حين استوى وبدا من الحجب

وابن الرشا لم يخطها شبها

بالجيد والعينين واللّبب

١٧٩

البحث الثامن

التشبيه الدائري (الاستطرادي)

١ ـ تعريفه :

هو تشبيه يبدأ ب (ما) ، وينتهي ب (الباء) الداخلة على أفعل التفضيل (أفعل). وغالبا ما يكون بين الفاتحة والخاتمة وصف للمشبّه به عادة قد يطول ، وقد يقصر ، ليعود في النهاية ويفضّل المشبّه على المشبّه به.

وتكمن قيمته في طول نفسه واتساع عبارته حيث يترك الشاعر المشبّه ليسترسل في تصوير المشبّه به وتعظيمه ليعود في البيت الأخير منه فيفضّل المشبه على المشبّه به زيادة في المبالغة والغلوّ.

وأكثر ما ورد بأربعة أبيات ، وقد يرد في أقلّ من أربعة.

وربّما سمّي استطراديا لأنّ الشاعر يستطرد فيه إلى تفصيل أجزاء المشبّه به والإحاطة بمناحي الجمال والعظمة فيه ليكون في تفضيل المشبّه عليه إغراق في التعظيم والمفاضلة.

٢ ـ أمثلته :

قال النابغة (البسيط) :

١ ـ فما الفرات ـ إذا هبّ الرّياح له

ترمي أو اذيّه العبرين بالزّبد

٢ ـ يمدّه كلّ واد مترع لجب

فيه ركام من الينبوت والخضد

٣ ـ يظلّ من خوفه الملّاح معتصما

بالخيزرانة بعد الأين والنّجد

٤ ـ يوما ـ بأجود منه سيب نافلة

ولا يحول عطاء اليوم دون غد

أراد النابغة أن يبالغ في وصف كرم النعمان فذهب إلى أنّ الفرات في حال فيضانه الأكبر عند ما ترمي أمواجه بالزّبد على ضفّتيه

١٨٠