علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )

الدكتور محمّد أحمد قاسم والدكتور محيي الدين ديب

علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )

المؤلف:

الدكتور محمّد أحمد قاسم والدكتور محيي الدين ديب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الحديثة للكتاب
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

ويأتي بعد السكّاكي الخطيب القزويني (ت ٧٣٤ ه‍) ليعرّفه التعريف الذي بقي متداولا في كتب البلاغة إلى يومنا هذا ، حيث يقول (١) : «وهو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه». وهذا هو التعريف الذي اعتمده معجم المصطلحات العربية الذي تقدّم ذكره.

البيان والدلالة :

إن تأثّر الخطيب القزويني بالبحث المنطقي حمله على تقديم علم البيان بمقدّمة تحدّث فيها عن أنواع الدلالة. فلقد ذهب الخطيب القزويني إلى أن (٢) «دلالة اللفظ : إمّا ما وضع له ، أو على غيره» وتحدث عن :

أ ـ الدلالة الوضعيّة ، وهي ـ كما يفهم من كلامه ـ التي يتطابق فيها المدلول مع اللفظ الذي وضع له من غير زيادة أو نقصان ، كدلالة لفظ (البيت) على البيت الحقيقي.

ب ـ الدلالة التّضمّنية ، وهي ـ كما يفهم من كلامه ـ التي يدلّ اللفظ فيها على جزء ما وضع له كأن يطلق البيت على غرفة منه ، لأن جزء المعنى متضمّن في المعنى الكلّي وداخل فيه كالغرفة بالنسبة إلى البيت.

ج ـ الدلالة الالتزامية : وهي ـ كما يفهم من كلامه ـ التي يدلّ فيها اللفظ على لازم معناه الموضوع له كدلالة الإنسان على الضّحك ، ودلالة الأسد على الشجاعة. فمعنيا الضحك والشجاعة

__________________

(١). الإيضاح في علوم البلاغة ، الخطيب القزويني ، ص ٣٢٦.

(٢). الإيضاح في علوم البلاغة ، الخطيب القزويني ، ص ٣٢٦.

١٤١

غير داخلين في مفهوم كلمة (إنسان) وكلمة (أسد) ولكنّهما أمران لازمان لهما.

وقد جمع الدلالتين : التضمّنية ، والالتزامية تحت عنوان الدلالة العقلية.

وذهب البلاغيّون المتأخّرون إلى أن علم البيان لا يتعلّق البحث فيه بالدلالة الوضعية ؛ لأنّ التعبير المستخدم في معناه الأصلي ليس فيه زيادة أو نقصان في وضوح الدلالة. أمّا الدلالتان الأخريان فهما لبّ الدراسة البيانية ؛ لأنّ المعنى الواحد قد يكون جزءا من معنى آخر أو لازما له ، فإذا استخدم اللفظ الدال على ذلك

المعنى ، وأريد به معنى آخر مرتبط به ارتباط التّضمّن أو الالتزام كان هناك مجال للتفاوت في وضوح الدلالة وغموضها.

وسنرى أثر هاتين الدلالتين في أسلوبي المجاز المرسل والكناية بشكل واضح ، وسوف نلمح ظلالهما في الاستعارة ، والتشبيه ولو على تفاوت بين مظهر منه وآخر.

١٤٢

البحث الأوّل

التّشبيه

١ ـ تعريفه :

التشبيه لغة : هو التّمثيل ، شبّهت هذا بذاك ، مثّلته به. والتشبيه اصطلاحا : بيان أن شيئا أو أشياء شاركت غيرها في صفة أو أكثر ، بإحدى أدوات التشبيه المذكورة أو المقدّرة المفهومة من سياق الكلام.

والتعريف الجامع هو : صورة تقوم على تمثيل شيء (حسّي أو مجرّد) بشيء آخر (حسّي أو مجرّد) لاشتراكهما في صفة (حسّية أو مجرّدة) أو أكثر. وقد عرّفه القزويني بقوله (١) : «التشبيه : الدلالة على مشاركة أمر لآخر في معنى». وهذا يعني أنّ المتشابهين ليسا متطابقين في كل شيء.

٢ ـ التشبيه في نظر البلاغيين :

ذهب قدامة بن جعفر (ت ٣٣٧ ه‍) إلى أن التشبيه (٢) «إنّما يقع بين شيئين بينهما اشتراك في معان تعمّهما ، ويوصفان بها ، وافتراق في أشياء ينفرد كل واحد منهما عن صاحبه بصفتها» وهذا التعريف موافق لما جاء به بعد حين من الدّهر الخطيب القزويني الذي تقدّم ذكره ولو كان المتأخّر أقلّ وضوحا من المتقدّم.

ويزيد فهم الرّماني للتشبيه التعريف وضوحا. فالرمّاني (ت ٣٨٦ ه‍) ، ذهب إلى أنّه (٣) «العقد على أنّ أحد الشيئين يسدّ مسدّ الآخر في حسّ أو عقل».

__________________

(١). الإيضاح في علوم البلاغة ، الخطيب القزويني ، ص ٣٢٨.

(٢). نقد الشعر ، قدامة بن جعفر ، تحق كمال مصطفى ، ص ١٠٩.

(٣). النكت في إعجاز القرآن ، الرمّاني ، ص ٨٠.

١٤٣

وقد قسمه الرمّاني إلى :

أ ـ تشبيه حسّي ، كماءين ، وذهبين ، يقوم أحدهما مقام الآخر.

ب ـ تشبيه نفسي ، كتشبيه قوّة عنترة بقوّة غيره من الأبطال.

والتقسيم الثاني الذي ذهب إليه جاء فيه :

ـ تشبيه شيئين متفقين بأنفسهما كتشبيه الجوهر بالجوهر ، وتشبيه السّواد بالسّواد.

ـ تشبيه شيئين مختلفين لمعنى يجمعهما ، كتشبيه الشدّة بالموت ، والبيان بالسّحر الحلال.

والتقسيم الثالث جاء فيه :

ـ تشبيه بلاغة ، كتشبيه أعمال الكفّار بالسّراب.

ـ تشبيه حقيقة ، كتشبيه الدينار بالدينار.

والملاحظ أن الرمّاني قد أتعب نفسه في التفصيل والإتيان بتسميات مختلفة ومتعدّدة ، لأن بعض التسميات مكرّرة أو هي نفسها في الدلالة والوصف. فتشبيه الحقيقة هو نفسه تشبيه شيئين متفقين بأنفسهما ، وتشبيه البلاغة هو نفسه تشبيه شيئين مختلفين لمعنى يجمعهما.

أما عبد القاهر الجرجاني (ت ٤٧١ ه‍) فذهب إلى أنّه يوجد نوعان من التشبيه ، نرى في أحدهما وجه الشبه قائما فعلا في كلا الطرفين ، كأن يكون مدركا بإحدى الحواس ، أو هو أمر عقلي راجع إلى الفطرة. وسمّى هذا النوع من التشبيه (التشبيه الحقيقي الأصلي). أما في ثانيهما فلا يتحقق وجه الشبه فعلا في كلا الطرفين ، بل يوجد في أحدهما على الحقيقة ، وفي الآخر على التأويل كما في قولنا : كلامه

١٤٤

كالعسل في حلاوته ، فالحلاوة قائمة حقيقة في العسل ، ولكنها غير حقيقية في الكلام. وهذا التشبيه يسمّيه عبد القاهر تشبيه التمثيل. وربّما أطلق عليه اسم الشّبه العقلي لأن التأويل من عمل العقل. هذا التشبيه التمثيلي الذي نادى به عبد القاهر مختلف عن تشبيه التمثيل الذي تعارف عليه البلاغيون كما سنرى لاحقا.

٣ ـ أركان التشبيه :

تواضع البلاغيون على أنّ للتشبيه أربعة أركان هي :

١ ـ المشبّه :

وهو الركن الرئيس في التشبيه ، تخدمه الأركان الأخرى ، ويغلب ظهوره ، لكنّه قد يضمر للعلم به على أن يكون مقدّرا في الإعراب ، وهذا التقدير بمنزلة وجوده. مثاله قول عمران بن حطّان مخاطبا الحجّاج (الكامل) :

أسد عليّ وفي الحروب نعامة

فتخاء تنفر من صفير الصافر

فلفظ أسد خبر لمبتدأ محذوف تقديره أنت ، وعليه يكون المشبّه ضميرا مقدّرا في الإعراب ، وهو ماثل في المعنى وإن لم يظهر بلفظه.

والفتخاء : الناعمة.

٢ ـ المشبّه به :

تتوضّح به صورة المشبّه ، ولا بدّ من ظهوره في التشبيه.

يشترك مع المشبّه في صفة أو أكثر إلّا أنّها تكون بارزة فيه أكثر من بروزها في المشبّه.

* يسمّى المشبّه والمشبّه به طرفي التشبيه.

١٤٥

٣ ـ وجه الشبّه :

هو الصفة المشتركة بين المشبّه والمشبّه به ، وتكون في المشبّه به أقوى وأظهر مما هي عليه في المشبّه. قد يذكر وجه الشّبه ، وقد يحذف كما سيأتي ، وإذا ذكر جاء غالبا على إحدى صورتين هما :

أ ـ مجرورا ب (في) ، كما في قول ابن الرومي :

يا شبيه البدر في الحسن

وفي بعد المنال

ب ـ تمييزا ، ومثاله قول أحدهم :

يا شبيه البدر حسنا

وضياء ومنالا

وإذا جاء على خلاف هاتين الصورتين ، فلا بدّ من تأويله بإحداهما. مثال ذلك قول أحدهم :

العمر مثل الضّيف أو

كالطّيف ليس له إقامة

وتأويل وجه الشبه : العمر مثل الضّيف أو كالطيف في قصر إقامته.

٤ ـ أداة التشبيه :

هي كل لفظ دلّ على المشابهة ، وقد تكون :

أ ـ حرفا

، كالكاف ، كما في قوله تعالى (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) يس : ٣٩.

أو كما قال أبو القاسم الشابّي :

عذبة أنت كالطفولة كالأحلام

كاللحن كالصّباح الجديد

كالسّماء الضحوك كاللية القمراء

كالورد كابتسام الوليد

وقد كرّر الأداة (الكاف) ثماني مرّات في البيتين. كما تكون كأن أداة التشبيه كما في قول الطيّب صالح في رواية عرس الزين

١٤٦

«والزين واقف في مكانه ، في قلب الدائرة ، بقامته الطويلة وجسمه النحيل فكأنه صاري المركب».

ب ـ اسما :

والأسماء المتداولة في هذا الباب هي : مثل ، شبه ، مثل ، مماثل ، قرن ، مضارع ، محاك ، وما كان بمعناها أو مشتقّا منها. مثال ذلك قول المجنون في ظبية :

أيا شبه ليلى لا تراعي فإنّني

لك اليوم من وحشيّة لصديق

وقول آخر :

كم وجوه مثل النهار ضياء

لنفوس كالليل في الإظلام

ج ـ فعلا ،

والأفعال المحتملة في هذا الباب هي : شابه ، حاكى ، ضارع ، ماثل ، ومضارع هذه الأفعال وما شابهها. وأمثلته قول أحدهم :

تفّاحة جمعت لونين قد حكيا

خدّي حبيب ومحبوب قد اتّفقا

وكقول آخر :

وكأنّ البنفسج الغضّ يحكي

أثر اللّطم في خدود الغيد

تحدّث الجرجاني عن دور الأداة ودلالتها بقوله (١) : «تقول : زيد كالأسد أو مثل الأسد ، أو شبيه بالأسد ، فتجد ذلك كلّه تشبيها غفلا ساذجا ثم تقول : كأنّ زيدا الأسد ، فيكون تشبيها أيضا ، إلا أنّك ترى بينه وبين

__________________

(١). دلائل الإعجاز ، عبد القاهر الجرجاني ، ص ٣٢٦.

١٤٧

الأوّل بونا بعيدا ؛ لأنّك ترى له صورة خاصة ، وتجدك قد فخّمت المعنى ، وزدت فيه بأن أفدت أنّه من الشجاعة وشدّة البطش ، وأنّ قلبه قلب لا يخامره الذّعر ، ولا يدخله الرّوع بحيث يتوهّم أنه الأسد بعينه ، ثم تقول : لئن لقيته ليلقينّك منه الأسد ، فتجده قد أفاد هذه المبالغة لكن في صورة أحسن وصفة أخص ، وذلك أنّك تجعله في (كأنّ) يتوهّم أنه الأسد ، وتجعله هاهنا يرى منه الأسد على القطع ، فيخرج الأمر عن حدّ التوّهّم إلى حدّ اليقين» لهذا عدّ التشبيه البليغ الذي حذف منه وجه الشّبه وأداة التشبيه أقوى انواع التشبيه لأنّه يرفع المشبّه إلى مرتبة المشبّه به إلى حدّ المماثلة التامّة.

أمثلة موضّحة :

قال الشاعر :

كم وجوه مثل النهار ضياء

لنفوس كالليل في الإظلام

في البيت تشبيهان :

١ ـ يشبّه وجوه بعض الناس بالنهار في ضيائها وجمالها (في الأوّل).

٢ ـ يشبّه في الثاني نفوس هؤلاء بالليل في تجهّمها وإظلامها.

في الأول : المشبه : وجوه. المشبّه به : النهار. أداة التشبيه : مثل (اسم). وجه الشّبه : ضياء.

في الثاني : المشبه : نفوس ، المشبّه به : الليل ، وجه الشبه : الإظلام ، أداة التشبيه : الكاف (حرف).

وقال آخر :

أنت مثل الغصن لينا

وشبيه البدر حسنا

١٤٨

في البيت تشبيهان :

في الأول : المشبّه : أنت ، المشبّه به : الغصن ، أداة التشبيه : مثل ، وجه الشبه : لينا.

في الثاني : المشبّه : أنت ، المشبّه به : البدر ، أداة التشبيه : شبيه ، وجه الشّبه : حسنا.

تقسيم طرفي التشبيه إلى حسّي وعقلي :

ينقسم طرفا التشبيه (المشبّه والمشبّه به) إلى حسيّين أو عقليين ، أو مختلفين.

١ ـ الطرفان الحسّيان :

وهما اللذان يدركان بإحدى الحواس. ويكونان :

أ ـ من المبصرات :

إذا كانا يدركان بالبصر من الألوان والأشكال والمقادير والحركات وما إلى ذلك ، كقول الشاعر :

أنت نجم في رفعة وضياء

تجتليك العيون شرقا وغربا

شبّه الممدوح بالنجم في رفعته وضيائه وذكر العيون آلة البصر التي ترى المشبّه والمشبّه به. فالطرفان حسّيان يقعان تحت البصر. ومثله تشبيه الخدّ بالورد ، وتشبيه الوجه بالقمر ، وتشبيه الشعر بالليل.

ب ـ ويكونان من المسموعات ،

مثال ذلك تشبيه صوت المغنّي بصوت البلبل ، ومنه قول امرئ القيس في رجل غاظه ميل زوجته نحوه :

١٤٩

يغطّ غطيط البكر شدّ خناقه

ليقتلني والمرء ليس بقتّال

شبّه أمرؤ القيس الزوج الهائج بصوت الفتيّ من الإبل الذي شدّ خناقه بحبل ليروّض. والطرفان حسّيان مسموعان.

ج ـ ويكونان من المذوقات :

ومنه تشبيه الريق بالشهد والخمر ، أو كقول الشاعر :

كأنّ المدام وصوب الغمام

وريح الخزامى وذوب العسل

يعلّ بها برد أنيابها

إذا النجم وسط السّماء اعتدل

فالخمر وماء الغيوم وذوب العسل تشبّه جميعا بريق الحبيبة.

والمشبّه والمشبّه به من المذوقات.

د ـ ويكونان في المشمومات :

كتشبيه رائحة فم الحبيبة بالمسك وأنفاس الطفل بعطر الزهر.

ه ـ ويكونان في الملموسات :

كتشبيه الجسم بالحرير في قول الشاعر :

لها بشر مثل الحرير ومنطق

رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر

٢ ـ الطرفان العقليّان :

وهما اللذان يدركان بالعقل والوجدان ، والمقصود بالوجدان تلك المشاعر النفسية من ألم ، ولذّة ، وغضب ، ورضا ، وسعادة ، وشقاء ، وما إلى ذلك.

فلو شبّهنا العلم بالحياة كان طرفا التشبيه عقليّين ، فلا العلم محسوس ولا الحياة وإنّما يدركان بالعقل وحده.

١٥٠

وهناك تشابيه يخترعها العقل وليس لها كيان خارجي سمّاها البلاغيون بالتشابيه الوهمية. وهي ما لا يدرك بإحدى الحواس ، ولكنّه لو وجد فأدرك ، لكان مدركا بها. ومثالها ، قوله تعالى في شجرة الزقّوم التي تخرج في أصل الجحيم (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) الصافات : ٦٥. فالشياطين ليس لها وجود خارجي محسوس ، بل هي من عالم الغيب ؛ لذلك فرؤوسها غير معروفة إلّا ما أخبرت به الشريعة ، لكنها لو وجدت فأدركت لكان ادراكها عن طريق حاسة البصر. وكذلك القول في ما قاله امرؤ القيس :

أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

فالغول وأنيابها مما لا يدرك باحدى الحواس ، ولكنها لو أدركت لكان ادراكها من طريق حاسة البصر.

وأعلم أن الوهمّي لا وجود لهيئته ولا لجميع مادّته ، والخيالي جميع مادّته موجودة دون هيئة.

٣ ـ الطّرفان المختلفان :

وهما اللذان يتكوّنان من مشبّه حسّي ومشبّه به عقلي ، أو العكس.

أ ـ تشبيه المعقول بالمحسوس :

ومثاله قوله تعالى (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) البقرة : ١٧١.

فالكفر شيء عقلي ، والمشبّه به الناعق الذي يصوّت للأغنام حسّي.

١٥١

وكقول الشاعر :

إنّ حظّي كدقيق

في يوم ريح نثروه

ثمّ قالوا لحفاة

في أرض شوك إجمعوه

فالمشبّه (الحظّ) أمر معنوي يدركه العقل ، والمشبّه به (الدقيق) أمر حسّي يدركه اللمس والبصر.

ب ـ تشبيه المحسوس بالمعقول :

ومثاله قوله تعالى (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ* طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) الصافات : ٦٤ ـ ٦٥.

فالمشبه (طلعها) حسّي يدرك بالعين واللمس ، والمشبّه به (رؤوس الشياطين) عقلي.

وكقول الشاعر :

وندمان سقيت الراح صرفا

وأفق الليل مرتفع السّجوف

صفت وصفت زجاجتها عليها

كمعنى دقّ في ذهن لطيف

فالمشبه (صفاء الخمر وصفاء زجاجتها) حسّي يدرك بالعين ، أمّا المشبه به (معنى دقّ) فعقلي لا يدرك بالحواس. ومثل هذا كثير في شعر المحدثين.

١٥٢

البحث الثاني

طرفا التشبيه من حيث الإفراد والتركيب

١ ـ المفرد وأنواعه :

المفرد بلاغيا : كل ما ليس مركّبا ، نحو : الولد نظيف ، الولدان نظيفان ، الأولاد نظيفون.

ويكون المفرد :

١ ـ مطلقا : إذا لم يقيّد بشيء نحو : ثغر كالدرّ ، وخدّ كالورد ، ولحظ كالسهم.

٢ ـ مقيّدا : إذا أتبع بإضافة ، أو وصف ، أو حال ، أو ظرف ، أو سوى ذلك. ويجب أن يكون لهذا القيد تأثير في وجه الشّبه. نحو : الساعي بغير طائل كالرّاقم على الماء.

وطرفا التشبيه يمكن أن يكونا مطلقين ، أو مقيدين ، أو مختلفين ، أي أن يكون أحدهما مطلقا والثاني مقيّدا ، نحو : الشمس كالمرآة في يد المشلول ، واللؤلؤ المنظوم كالثّغر.

٢ ـ المركّب وأنواعه :

المركّب بلاغيا : هو الصورة المكوّنة من عدد من العناصر المتشابكة والمتماسكة.

قد يكون طرفا التشبيه :

أ ـ مركّبين ، نحو قول المعرّي :

كأنّ سهيلا والنجوم وراءه

صفوف صلاة قام فيها إمامها

فالمشبه مركّب من سهيل والنجوم الأخرى وراءه.

١٥٣

والمشبّه به مركّب من الإمام القائم في المحراب ومن المصلين الذين اصطفوا وراءه ، ومثاله قول بشّار بن برد :

كأن مثار النّقع فوق رؤوسنا

وأسيافنا ، ليل تهاوى كواكبه

المشبه مركب من النقع مثارا فوق الرؤوس ، ومن السيوف اللامعة المتهاوية على رؤوس الأعداء.

والمشبّه به مركّب أيضا من الليل الدامس المظلم ، ومن الكواكب اللامعة المتهاوية.

ب ـ مختلفين :

كأن يكون المشبه مفردا والمشبّه به مركّبا نحو قوله :

وحدائق لبس الشقيق نباتها

كالأرجوان منقّطا بالعنبر

المشبه هو (الحدائق) مفرد مقيّد بالوصف.

والمشبّه به مركّب من الأرجوان المنقّط بالعنبر.

أو أن يكون المشبّه مركّبا والمشبّه به مفردا نحو قوله :

لا تعجبوا من خاله في خدّه

كلّ الشقيق بنقطة سوداء

المشبه مركب من الخال والخد.

والمشبه به مفرد وهو (الشّقيق).

ولعلّك لاحظت أنّه متى ركّب أحد الطرفين فلا يكاد يكون الآخر مفردا مطلقا بل يكون مركّبا أو مفردا مقيّدا كما رأيت في الأمثلة السابقة.

١٥٤

البحث الثالث

طرفا التشبيه باعتبار تعدّدهما

يعمد الأدباء والشعراء أحيانا إلى تشبيه عدّة أشياء مفردة بعدّة أشياء مفردة. وهذا الضرب من التشبيه قسمه البلاغيون أقساما هي :

١ ـ التشبيه الملفوف :

هو ما تعدّد طرفاه على أن يؤتي بالمشبّهات أوّلا على طريق العطف وغيره ، ثم يؤتي بالمشبّهات بها كذلك. ومثاله قول الشاعر :

ليل وبدر وغصن

شعر ووجه وقدّ

خمر ودرّ وورد

ريق وثغر وخدّ

ففي البيت الأول تعدّد المشبّه في الشطر الأول ، فهناك ثلاثة مشبّهات هي : الليل والبدر والغصن على طريقة العطف بالواو.

وفي الشطر الثاني ثلاثة مشبّهات بها وهي شعر ووجه وقدّ.

وهكذا نرى أن الشاعر شبّه الشعر بالليل ، والوجه بالبدر ، والقدّ بالغصن ، ولعلّك لاحظت أنه عند ما تعدّد الطرفان معا نتج أكثر من تشبيه.

وقل مثل ذلك في البيت الثاني.

٢ ـ التشبيه المفروق :

وهو ما تعدّد طرفاه أيضا على أن يؤتي بكل مشبّه إلى جانب ما شبّه به على التوالي.

ومثاله قول المرقّش الأكبر :

النّشر مسك والوجوه دنا

نير وأطراف الأكفّ عنم

١٥٥

ففي البيت ثلاثة تشابيه لم يفصل فيها بين المشبّه والمشبّه به ، وهي :

تشبيه النّشر بالمسك ، والوجوه بالدنانير ، وأطراف الأكفّ بالعنم.

٣ ـ تشبيه التسوية :

وهو ما تعدّد فيه المشبّه وبقي المشبّه به مفردا. ومثاله قول لبيد ابن ربيعة العامري :

وما المال والأهلون إلّا ودائع

ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع

فالمشبّه متعدد (المال والأهلون) والمشبّه به مفرد (ودائع).

٤ ـ تشبيه الجمع :

هو عكس تشبيه التسوية ، يفرد فيه المشبّه ، ويتعدّد المشبّه به ، نحو قول شوقي يصف طائرة :

ذهبت تسمو فكانت أعقبا

فنسورا فصقورا فحماما

المشبه مفرد : الطائرة.

المشبه به مركّب ـ أعقبا+ نسورا+ صقورا+ حماما.

وكقول الآخر :

كأنّما يبسم عن لؤلؤ

منضدّ أو برد أو أقاح

المشبه مفرد هو الأسنان.

المشبه به مركّب ـ اللؤلؤ المنظوم+ البرد+ الأقاح.

١٥٦

تمارين

١ ـ أذكر أحوال طرفي التشبيه في ما يأتي :

 ـ كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي

 ـ الخدّ ورد ، والصّدغ غالية

والرّيق خمر ، والثّغر كالدّرّ

 ـ شعر الحبيب وحالي

كلاهما كاللّيالي

وثغره في صفاء

وأدمعي كاللآلي

 ـ غزوتهم من مقلتيك وأدمعي

ومن نفسي بالسّيف والسّيل والنّار

 ـ فرعاء تسحب من قيام شعرها

وتغيب فيه وهو ليل أسحم

فكأنّها فيه نهار مشرق

وكأنّه ليل عليها مظلم

 ـ وعينان ، قال الله كونا فكانتا ،

فعولان بالألباب ما تفعل الخمر

 ـ أهديت عطرا مثل طيب ثنائه

فكأنّما أهدى له أخلاقه

 ـ والشمس من بين الأرائك قد حكت

سيفا صقيلا في يد رعشاء

 ـ كأنّ فجاج الأرض وهي عريضة

على الخائف المطلوب كفّة حابل

 ـ تشرق أعراضهم وأوجههم

كأنّها في نفوسهم شيم

 ـ تبكي فتذري الدرّ من نرجس

وتمسح الورد بعنّاب

١٥٧

البحث الرابع

أقسام التشبيه باعتبار الأداة ووجه الشّبه

أولا : باعتبار الأداة :

يقسم التشبيه باعتبار الأداة إلى :

١ ـ تشبيه مرسل :

وهو ما ذكرت فيه الأداة. مثال ذلك قوله :

إنّما الدّنيا كبيت

نسجه من عنكبوت

حضرت الأداة وحضورها كما يقول أحدهم (١) «يبقي على البعد أو الفضاء الفاصل بين الطّرفين في تصنيف الموجودات».

٢ ـ تشبيه مؤكّد :

وهو ما حذفت منه الأداة ، مثاله قول أحدهم :

أنت نجم في رفعة وضياء

تجتليك العيون شرقا وغربا

فأداة التشبيه محذوفة والتقدير : أنت مثل النّجم ، أو أنت كنجم ... ومن المؤكّد ما أضيف فيه المشبّه به إلى المشبّه ، ومثاله :

والرّيح تعبث بالغصون وقد جرى

ذهب الأصيل على لجين الماء

والشاعر يريد تشبيه الأصيل بالذّهب ، والماء باللّجين.

وهذا الضرب من التشبيه أبلغ ، وأوجز ، وأشدّ وقعا في النفس ، والنكتة في بلاغته أنّه يجعل المشبّه والمشبّه به شيئا واحدا. وقد وفّق

__________________

(١). دروس في البلاغة العربية ، الأزهر الزنّاد ، ص ٢٣.

١٥٨

الأزهر الزنّاد إلى تفسير علّة التسمية فقال (١) : «بغياب الأداة ينتقل التركيب من إخبار بالمشابهة إلى إخبار بالمشبّه به عن المشبّه ، فهو هو ، وهذا مدخل التوكيد فيه ، لذلك سمّي بالمؤكّد. وفيه تضيق المسافة الفاصلة بين الطرفين فتصل التطابق أو تكاد ... فغياب الأداة إيهام بالتطابق ، وهو أمر يرتبط بغياب شحنة المعقولية التي يقوم عليها الجمع بين طرفي التشبيه والتي تعبّر عنها الأداة».

ثانيا : باعتبار وجه الشّبه :

يقسم التشبيه باعتبار وجه الشبه إلى :

١ ـ تشبيه مجمل :

وهو ما حذف منه وجه الشّبه ، وبغيابه أجمل المتكلّم في الجمع بين الطرفين فسمّي مجملا ، مثاله قول ابن الرومي في مغنّ.

فكأن لذّة صوته ودبيبها

سنة تمشّى في مفاصل نعّس

لم يذكر الشاعر وجه الشّبه لأنّه يدرك بسرعة وهو التلذّذ والارتياح. وقد كشف الأزهر الزنّاد عن سرّ التسمية وأثرها بقوله (٢) : «وبهذا الإجمال لم يقصد الباثّ إلى تحديد مجال التقاطع وإنّما تركه غائما. وهو دون شكّ يعوّل في ذلك على حدس سامعه في الاهتداء إلى ذلك المجال».

__________________

(١). دروس في البلاغة العربية ، الأزهر الزنّاد ، ص ٢٣.

(٢). دروس في البلاغة العربية ، الأزهر الزنّاد ، ص ٢٢.

١٥٩

٢ ـ تشبيه مفصّل :

وهو ما ذكر فيه وجه الشّبه. مثال ذلك قوله مفتخرا :

أنا كالماء إن رضيت صفاء

وإذا ما سخطت كنت لهيبا

فوجه الشّبه مذكور في التشبيه وهو (صفاء+ لهيبا). ورأى الأزهر الزّناد أنّ (١) «بذكره يفصّل المتكلّم وجه الجمع بين طرفي التشبيه فيسهّل على المتقبّل (السامع أو القارئ) العثور على السّمة التي يشترك فيها الطرفان. ولذلك سمّي هذا التشبيه مفصّلا. وهذا التفصيل يبقي على الانفصال الموجود بين طرفي التشبيه إذ يشعر الباثّ سامعه بأنه يقرن بين الطرفين في نقطة واحدة وهما شيئان متمايزان في سائر السّمات».

ثالثا : باعتبار الأداة ووجه الشّبه معا :

يقسم التشبيه باجتماعهما وافتراقهما إلى :

١ ـ مؤكّد مفصّل :

وهو ما حذفت منه الأداة : وذكر وجه الشّبه ، ومثاله :

أنت نجم في رفعة وضياء

تجتليك العيون شرقا وغربا

الأداة محذوفة ، ووجه الشبه مذكور (الرّفعة والضياء).

٢ ـ مرسل مجمل :

وهو ما ذكرت فيه الأداة وحذف وجه الشّبه ، كقوله :

وكأنّ البنفسج الغضّ يحكي

أثر اللّطم في خدود الغيد

__________________

(١). م. ن. ، ص ٢٢.

١٦٠