تاريخ مدينة دمشق - ج ٧٤

أبي القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشافعي [ ابن عساكر ]

تاريخ مدينة دمشق - ج ٧٤

المؤلف:

أبي القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشافعي [ ابن عساكر ]


المحقق: علي شيري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٩
الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٢ الجزء ٣٣ الجزء ٣٤ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١ الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠

يا أمير المؤمنين ، ما يبكيك؟ قال : هشام ، إن في الجسد مضغة إليها يأوي خيره وشره ، فأصلحوا قلوبكم تصلحوا ، فإنه لا عمل لمن لا نية له ، ولا آخر لمن لا خشية له ، وإن أيمن أحدكم وأشأمه لسانه ، فمن حفظ لسانه أراح نفسه ، وسلم المسلمون منه. وإن أقواما صحبوا سلطانهم بغير ما حق عليهم فعاشوا بخلاقهم ، وأكلوا بألسنتهم ، وخلفوا الأمة بالمكر والخيانة والخديعة. ألا وكل ذلك في النار. ألا فلا يقربنا من أولئك أحد ولا سيما خالد بن عبد الله ، وعبد الله بن الأهتم ، فإنهما رجلان بيّنان وبعض البيان يشبه السحر. ألا وإنّ كل راع مسئول عن رعيته ، وكل وزير مأخوذ بجنايته ، ومعروض عليه قوله ، لا إقالة له فيه ، فمن صحبنا بخمس : فأبلغنا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ، ودلّنا على ما لا نهتدي له من العدل ، وأعاننا على الخير ، وترك ما لا يعنيه ، وأدى الأمانة التي حملها منا ومن جماعة المسلمين فحيهلا به ، ومن كان على غير ذلك ففي غير حل من صحبتنا ، والدخول علينا.

ثم جاء مزاحم فقال (١) : يا أمير المؤمنين ، هذا محمد بن كعب بالباب ، قال : أدخله. فلما دخل ـ وعمر يمسح (٢) عينيه من الدموع ـ قال : ما الذي أبكاك يا أمير المؤمنين؟ قال هشام : فأخبرته الحديث (٣) ، فقال محمد : يا أمير المؤمنين ، إنما الدنيا سوق من الأسواق ، فمنها خرج الناس بما ضرهم ، ومنها خرجوا بما نفعهم ، وكم من قوم قد غرهم مثل الذي أصبحنا فيه حتى أتاهم الموت ، فاستوعبهم ، فخرجوا منها ملومين ، لم يأخذوا منها لما أحبوا من الآخرة عدة ، ولا لما كرهوا جنة ، واقتسم ما جمعوا من لا يحمدهم ، وصاروا إلى من لا يعذرهم ، فنحن محقوقون أن ننظر إلى تلك الأعمال التي نغبطهم بها أن نخلفهم فيها ، وأن ننظر إلى تلك الأعمال التي نتخوف عليهم منها أن نكفّ عنها ، فاتق الله يا أمير المؤمنين ، واجعل عقلك (٤) في شيئين : انظر الذي يجب أن يكون معك إذا قدمت على ربك [فقدمه بين يديك ، وانظر الأمر الذي تكره أن يكون معك إذا قدمت على ربك](٥) فابتغ به البدل حيث يوجد البدل ، ولا تذهبن إلى سلعة قد بارت على من كان قبلك ترجو أن تجوز عنك ، فاتق الله

__________________

(١) الخبر من هنا رواه أبو نعيم في حلية الأولياء ٥ / ٣١٣ في ترجمة عمر بن عبد العزيز.

(٢) في الحلية : فدخل ، ولم يمسح عينيه من الدموع.

(٣) في الحلية : فقال هشام بن مصاد : أبكاه كذا وكذا.

(٤) في الحلية : واجعل قلبك في اثنتين.

(٥) ما بين معكوفتين زيادة عن حلية الأولياء لاقتضاء السياق.

٤١

يا أمير المؤمنين ، وافتح الأبواب ، وسهل الحجاب ، وانصر المظلوم ، وردّ المظالم. ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان بالله عزوجل : من إذا رضي لم يدخل رضاه في الباطل ، وإذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق ، وإذا قدر لم يتناول ما ليس له.

[١٠٠٦٧] هشام بن مطيع الدمشقي

أحد شيوخ الصوفية. كان أحسن خلق الله كلاما. نظر يوما إلى رجل ، يساوم بغلام جميل ليشتريه ، فقام ينظر حتى قطع أمره مع صاحبه ، وهمّ أن يزن له ، فجلس إلى جانبه ، فقال : يا أخي ، إنّي ما عرفتك ، ولا عرفتني ، ولا كلّمتك ، ولا كلّمتني ، وقد رأيتك على أمر لم يسعني فيك إلا تسديدك ، وبذل النصيحة لك ، فإنه أول ما يجب للمسلم على أخيه النصيحة إذا رآه على حالة لا يرضاها ، وقد رأيتك تنظر إلى هذا الغلام نظرا ، لا ينظر مؤمن إلى مثله إلا من غفلة اشتغل بها عن طاعة ربه ، ثم رأيتك وأنت تريد أن تزن فيه مالا لا أدري ما أقول فيه : أحلال (١) هو أم حرام؟ فلئن كان حراما فحقيق على مثلك ألّا يجمع على نفسه أمرين ، وإن كان حلالا فينبغي أن تضعه في موضع يشبه الحلال. واعلم أنه لم يصب المؤمن بمصيبة ، ولا بلي ببليّة أعظم عليه من نكتة (٢) تسكن في قلبه ، فينقطع بها عن طاعة ربه عزوجل.

[١٠٠٦٨] هشام بن يحيى بن قيس

أبو الوليد ـ ويقال : أبو عثمان ـ الغساني

حدث عن أبيه عن عمرة (٣) عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«القطع من ربع دينار فصاعدا» [١٤٣٧١].

وحدث عن عروة بن رويم بسنده إلى عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«من كان وصلة لأخيه المسلم إلى ذي سلطان في مبلغ برّ أو تيسير عسرة أعانه الله عزوجل على إجازة الصراط يوم القيامة عند دحض (٤) الأقدام» [١٤٣٧٢].

__________________

(١) بالأصل : «أحلالا».

(٢) النكتة : نقطة سوداء في شيء صاف.

(٣) هي عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية المدينة والدة أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن الأنصاري ، وكانت في حجر عائشة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انظر ترجمتها في تهذيب الكمال ٢٢ / ٣٨٢.

(٤) دحض برجله : فحص بها ، وحضت رجله : زلقت ، ومكان مدحضة إذا كان لا تثبت عليهما الأقدام (تاج العروس : دحض).

٤٢

وفي رواية :

«ثبّت الله قدمه يوم القيامة عند دحض الأقدام» [١٤٣٧٣].

وحدث عن أبيه قال : سمعته يقول :

لا تحزنوا ابني ، فقد بلغني أن الفرحة (١) تشبّ الصبيّ.

قال إبراهيم بن هشام :

أقبل رجل إلى أبي هشام بن يحيى فقال : اكتب إلى مالك بن دلهم (٢) إلى مصر يستعملني ، فكتب له الكتاب. فلما عنونه كتب : من هشام بن يحيى إلى مالك بن دلهم ، فقال له الرجل : ما أخذ الكتاب حتى تبدأ بمالك في العنوان ، فقال : ويحك! هذا سبيلي وسبيل من أكتب إليه ، فكتب له الذي أراد. فلما ورد على مالك إلى مصر قال : ما هذا كتابه ، إنه عوّدني أنه يبدأ بنفسه في كتابه ، قال له الرجل : قد أراد أن يفعل ذلك ، وأنا سألته هذا ، قال : لست أقبله حتى ترجع إليه ، فيكتب بخطه ، فرجع إلى أبي من مصر ، فكتب له وبدأ بنفسه. فلما ورد الكتاب على مالك قال : الآن صحّ كتابه ، فولاه ما أراد.

كان (٣) هشام بن يحيى جليسا لسعيد بن عبد العزيز ، فقال له يوما : كان عندنا صاحب شرطة يقال له عبيدة (٤) بن رياح (٥) ، وكان غشوما ظلوما ، فأتته امرأة ، فقالت : إن ابني يعقّني ، ويظلمني ، فأرسل معها الشرط ، فلما صاروا بها في الطريق قالوا لها : إن أخذ ابنك ضربه [أو](٦) قتله ، قالت : كذا؟ قالوا : نعم ، فمرت بكنيسة على بابها شمّاس ، فقالت : خذوا هذا ، هذا ابني ، فقالوا له : أجب عبيدة بن رياح (٧). فلما مثل بين يديه قال له : تضرب أمك ،

__________________

(١) الفرحة بالضم ، وتفتح : المسرة والبشرى ، وهي أيضا ما يعطيه المفرّح لك أو يثيبه مكافأة له. (تاج العروس : فرح).

(٢) هو مالك بن دلهم بن عمير بن مالك ، ولي مصر من قبل الرشيد على صلاتها وخراجها فقدمها سنة ١٩٢ وبقي إلى صفر سنة ١٩٣. انظر ولاة مصر للكندي ص ١٧١ ـ ١٧٢ والنجوم الزاهرة ٢ / ١٣٧.

(٣) الخبر في تاريخ الإسلام (حوادث سنة ١٢١ ـ ١٤٠) ص ٤٨٢ في ترجمة عبدة بن رباح نقلا عن أبي مسهر.

(٤) كذا بالأصل : عبيدة ، وضبطت في الإكمال ٦ / ٥٠ بفتح العين وكسر الباء والذي في تاريخ الإسلام : «عبدة» ومثله في الجرح والتعديل ٦ / ٨٩ والتاريخ الكبير ٦ / ١١٤ وتاريخ أبي زرعة الدمشقي ١ / ٣٨١ و ٥٨١.

(٥) كذا بالأصل : «رياح» بالراء والياء بالمثناة من تحتها ، ومثلها في الإكمال ٦ / ٥٠ ، والذي في المصادر السابقة : «رباح» بالباء الموحدة.

(٦) استدركت عن تاريخ الإسلام.

(٧) في تاريخ الإسلام : أجب الأمير.

٤٣

وتعقها؟ قال : ما هي أمي ، قال : وتجحدها أيضا؟ خذوه ، فضربه ضربا وجيعا ، وأرسله ، فقالت : إن أرسلته معي ضربني ، فقال : هاتوه ، فأركبها على عنقه وقال : كرّوا عليه النداء ، وقولوا : هذا جزاء من يضرب أمه ، ويعقها ، فمر به رجل ممن يعرفه ، فقال له : ما هذا؟ فقال : من لم يكن له أم فليمض إلى عبيدة بن رياح حتى يجعل له أما.

[١٠٠٦٩] هضاب بن طوق اللخمي الكاتب

ولي هضاب خراج دمشق ، ومساحتها في ولاية المنصور. كان المنصور بعث المعدلين ـ يعني : المساح ـ إلى أجناد الشام سنة أربعين وإحدى وأربعين ومائة ، فعدلوا الأراضي ما في أيدي المسلمين والأنباط على تعديل مسمى ، ولم يعدل الغوطة في تلك السنة حتى بعث المنصور هضاب بن طوق ومحرز بن زريق ، فعدلوا الأشربة بالغوطة ، وأمرهم ألا يضعوا أيديهم على شيء من القطائع (١) القديمة ولا الأشربة خراجا ، وأن يمضوها لأهلها عشرا ، ووضعوا الخراج على ما بقي منها بأيدي الأنباط ، وعلى الأشربة المحدثة بعد سنة مائة ، إلى السنة التي عدل فيها.

[١٠٠٧٠] هقل واسمه محمد ـ ويقال : عبد الله ـ

ولقبه : هقل ـ بن زياد بن عبيد الله ، ويقال : ابن عبيد

أبو عبد الله السكسكي

من دمشق.

[روى عن بكر بن خنيس ، وحريز بن عثمان ، وخالد بن دريك ، وطلحة بن عمرو المكي ، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ، وعبيد بن زياد الأوزاعي ، وعمر بن قيس المكي ، والمثنى بن الصباح ، ومعاوية بن يحيى الصدفي ، وهشام بن حسان.

روى عنه بقية بن الوليد ، والحكم بن موسى ، وخالد بن نجيح ، والربيع بن روح ،

__________________

(١) القطائع جمع قطيعة ، وهي طائفة من أرض الخراج ، والقطائع إنما تجوز في عفو البلاد التي لا ملك لأحد فيها ولا عمارة فيها لأحد ، فيقطع الإمام المستقطع منها قدر ما يتهيأ له عمارته بإجراء الماء إليه (تاج العروس : قطع).

[١٠٠٧٠] ترجمته في تهذيب الكمال ١٩ / ٢٩٦ وتهذيب التهذيب ٦ / ٤٤ والجرح والتعديل ٩ / ١٢٢ وسير الأعلام ٨ / ٣٧٠ وتذكرة الحفاظ ١ / ٢٦٢ والعبر ١ / ٢٢٧ والتاريخ الكبير ٨ / ٢٤٨. وهقل : بكسر أوله وسكون القاف / تقريب.

٤٤

وسعيد بن الحكم بن أبي مريم ، وسليمان بن عبد الرحمن ، وسوار بن عمارة ، وعبد الله بن صالح المصري ، وأبو مسهر ، وعبد الحميد بن بكار البيروتي ، وعلي بن حجر المروزي ، وعمر بن عبد الواحد ، وعمرو بن أبي سلمة التنيسي ، وعمرو بن هاشم البيروتي ، وعمران بن يزيد بن أبي جميل ، والليث بن سعد ، وابنه محمد ، ومروان بن محمد الطاطري ، ومسرة بن معبد ، ومنصور بن عمار ، وموسى بن خالد ، وهشام بن إسماعيل العطار ، وهشام بن عمار](١).

[قال البخاري](٢) :

[هقل بن زياد الشامي السكسكي الدمشقي البيروتي ، أبو عبد الله نسبه علي بن حجر](٣).

[قال أبو محمد بن أبي حاتم](٤) :

[هقل بن زياد السكسكي الدمشقي ، أبو عبد الله.

كان أعلم الناس بالأوزاعي وبمجلسه وحديثه وفتياه عشرة أنفس أولهم هقل بن زياد.

قال أحمد بن حنبل : كان أبو مسهر يرضى هقل بن زياد.

قال يحيى بن معين : سمعت أبا مسهر يقول : ما كان هاهنا أحد أثبت في الأوزاعي من هقل.

سئل أبو زرعة عن هقل بن زياد فقال : دمشقي كاتب الأوزاعي ثقة ، سئل أبي عن هقل بن زياد. فقال : صالح الحديث](٥).

[قال الفسوي : هو أعلى أصحاب الأوزاعي.

قال أبو سعيد بن يونس : قدم الهقل مصر ، وكتب عنه أهلها](٦).

__________________

(١) ما بين معكوفتين استدرك عن تهذيب الكمال ١٩ / ٢٩٦ ـ ٢٩٧.

(٢) زيادة للإيضاح.

(٣) زيادة عن التاريخ الكبير ٨ / ٢٤٨.

(٤) زيادة للإيضاح.

(٥) ما بين معكوفتين استدرك عن الجرح والتعديل ٩ / ١٢٢ ـ ١٢٣.

(٦) ما بين معكوفتين زيادة عن سير الأعلام ٨ / ٣٧١.

٤٥

[ذكره أحمد بن هارون بن روح البرديجي في الطبقة الرابعة من الأسماء المنفردة.

ذكره أبو الحسن بن سميع في الطبقة السادسة من الشاميين.

قال أبو زرعة الرازي والعجلي والنسائي : ثقة.

قال العباس بن الوليد بن مزيد البيروتي : كان اسم الهقل بن زياد محمدا ، فغلب عليه الهقل ، فهو لقب.

حدث عن الأوزاعي قال : قال عطاء عن ابن عباس.

أن رجلا أصابته جراحة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأصابته جنابة ، فاستفتى ، فأفتي بالغسل ، فاغتسل فمات ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «قتلوه ، قتلهم الله. ألم يكن شفاء العيّ (١) السؤال؟» قال عطاء : فبلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن ذلك فقال : «لو غسل جسده وترك رأسه حيث أصابه الجرح أجزأه» [١٤٣٧٤].

وحدث عن هشام بن حسان القردوسي (٢) بسنده إلى أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه ، وليشرب بيمينه ، وليأخذ بيمينه ، وليعط بيمينه ، وإن الشيطان يأكل بشماله ، ويشرب بشماله ، ويعطي بشماله ، ويأخذ بشماله» [١٤٣٧٥].

وحدث عن الأوزاعي بسنده إلى أبي سعيد الخدري قال :

نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن اختناث (٣) الأسقية (٤).

قال : وهو الشرب من أفواهها.

كان هقل ثقة ، حافظا متقنا ، توفي سنة تسع وسبعين ومائة (٥).

__________________

(١) العي بكسر العين : قصور الفهم.

(٢) هو هشام بن حسان القردوسي ، أبو عبد الله البصري ، والقراديس ولد قردوس بن الحارث بن فهم بن غنم ... بن نصر بن الأزد. ترجمته في تهذيب الكمال ١٩ / ٢٤١.

(٣) خنث القربة وخنّثها واختنثها : ثنى فاها إلى خارج فشرب منه (النهاية لابن الأثير : خنث).

(٤) الأسقية جمع سقاء : ظرف الماء إذا كان من جلد.

(٥) سير الأعلام ٨ / ٣٧١ وزيد فيه : توفي ببيروت ، ولكنه مات قبيل الشيخوخة. وانظر تهذيب الكمال ١٩ / ٢٩٨.

٤٦

[١٠٠٧١] همام بن أحمد ـ ويقال : ابن محمد ـ بن عبد الباقي

أبو مروان القرشي ، قال : ويظن أنه همام بن أبي شيبان

حدث عن أبيه عن مروان بن عبد الملك بن عبد الله بن عبد الملك قال (١) :

لما أراد الوليد بن عبد الملك بناء مسجد دمشق احتاج إلى صناع (٢) كثير ، فكتب إلى الطاغية بأن وجّه إليه (٣) بأربع مائة صانع من صنّاع الروم ، فإنّي أريد أن أبني مسجدا لم يبن من مضى قبلي ، ولا من يكون بعدي مثله ، فإن أنت لم تفعل غزوتك بالجيوش ، وأخربت الكنائس في بلدي ، وكنيسة بيت المقدس ، وكنيسة الرها ، وسائر آثار الروم في بلدي ، فأراد الطاغية أن يفضه عن بنائه ، ويضعف عزمه ، فكتب إليه : لئن كان أبوك فهمها ، وغفل منها إنها لوصمة عليك ، وإن كنت فهمتها وغيبت عن أبيك إنها لوصمة عليه ، وأنا موجه إليك ما سألت ، فأراد أن يعمل له جوابا ، فحشر له عقلاء من الرجال في خطة المسجد ، يتفكرون في ذلك ، فدخل الفرزدق ، فقال : ما بال الناس مجتمعين؟ فقيل له : السبب كيت وكيت ، فقال : أنا أجيبه من كتاب الله. قال الله تبارك الله من قائل : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً)(٤) فسرّي عنه.

[١٠٠٧٢] همام بن إسماعيل ،

أظنه ابن عبيد الله بن أبي المهاجر

حدث عن زمعة بن يزيد عن جبير عن أبي الدرداء ـ قال : لا أعلمه إلا رفعه ـ قال :

«من قال في أمر مسلم ما ليس فيه ليؤذيه ، حبسه الله في ردغة (٥) الخبال يوم القيامة حتى يقضي بين الناس» [١٤٣٧٦].

__________________

(١) الخبر في البداية والنهاية ٦ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠ أحداث سنة ٩٦.

(٢) البداية والنهاية : صناعا في الرخام.

(٣) كذا بالأصل.

(٤) سورة الأنبياء ، الآية : ٧٩. وسليمان هو ابن داود ، ففهمه الله ما لم يفهمه أبوه.

(٥) ردغة بالتحريك ، وبالفتح ثم سكون : الوحل الكثير الشديد. والماء والطين ، وردغة الخبال : عصارة أهل النار هكذا فسرّ به حديث «من قال في مؤمن ما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال» (تاج العروس : ردغ).

٤٧

[١٠٠٧٣] همّام بن غالب بن صعصعة بن ناجية

ابن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم

أبو فراس (١) بن أبي خطل (٢) التميمي البصري

الشاعر ، المعروف بالفرزدق

وفد على معاوية يطلب ميراث عمه الحتات (٣) ، ووفد على الوليد بن عبد الملك ، وعلى هشام بن عبد الملك (٤) ، وقيل إنه لم يفد إلا على هشام.

[أرسل عن علي ، ويروي عن أبي هريرة ، والحسين ، وابن عمر ، وأبي سعيد ، وطائفة. وعنه الكميت ، ومروان الأصفر ، وخالد الحذاء ، وأشعث الحمراني ، والصعق بن ثابت ، وابنه لبطة ، وحفيده أعين بن لبطة](٥).

قال همام : حدثني الطرماح بن عدي الشاعر قال (٦) :

لقيت نابغة بني جعدة الشاعر ، فقلت له : لقيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : نعم ، وأنشدته قصيدتي التي أقول فيها :

بلغنا السماء مجدنا وجدودنا (٧)

وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

قال : فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد بدا الغضب في وجهه ، فقال : «إلى أين يا أبا ليلى؟»

__________________

[١٠٠٧٣] ترجمته في وفيات الأعيان ٦ / ٨٦ والأغاني ٢١ / ٢٧٦ والشعر والشعراء ص ٣٨١ والخزانة ١ / ١٠٥ وآمالي المرتضى ١ / ٤٣ ومعجم الأدباء ١٩ / ٢٩٧ وسير الأعلام ٤ / ٥٩٠ والعبر للذهبي ١ / ٢٣٦ وشذرات الذهب ١ / ١٤١ معجم الشعراء ٤٦٥ والبداية والنهاية ٦ / ٤٠٩ ديوانه ط. بيروت. وأنساب الأشراف ١٢ / ٦٥.

(١) في شذرات الذهب : أبو الأخطل.

(٢) في وفيات الأعيان : أبو الأخطل ، وفي جمهرة ابن حزم كان له أخ يقال له : الأخطل ، وفي الأغاني : كان له أخ يقال له : «هميم» ويلقب «الأخطل».

(٣) كذا بالأصل : الحتات ، وفي البداية والنهاية ٦ / ٤١٠ «الحباب» والمثبت يوافق ما جاء في الأغاني ٢١ / ٣٦٧ و ٣٦٨ وتاريخ الطبري ٥ / ٢٤٢ وهو الحتات بن يزيد التميمي المجاشعي وفد في قومه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فآخى بينه وبين معاوية راجع سيرة ابن هشام ٤ / ٢٢٣ وأنساب الأشراف ١٢ / ١٠٧.

(٤) ولم يصح ذلك ، قاله ابن كثير في البداية والنهاية ٦ / ٤١٠.

(٥) ما بين معكوفتين استدرك عن سير الأعلام ٤ / ٥٩٠ وانظر البداية والنهاية ٦ / ٤٠٩ ـ ٤١٠.

(٦) الخبر والشعر في الإصابة ٣ / ٥٣٨ ـ ٥٣٩ من طريق علي بن محمد الدمشقي بسنده عن يعلى بن الأشدق عن النابغة الجعدي وذكره والاستيعاب ٣ / ٥٨٣ (هامش الإصابة).

(٧) الاستيعاب : «مجدنا وسناؤنا».

٤٨

فقلت : إلى الجنة يا رسول الله ، قال : «أجل إن شاء الله». فلما رأيته سرّي عنه قلت (١).

ولا خير في حلم إذا لم يكن له

بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا

ولا خير في جهل إذا لم يكن له

حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا

فقال لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يفضض الله فاك» مرتين (٢) [١٤٣٧٧].

قال الفرزدق :

رآني أبو هريرة فقال لي : يا فرزدق ، إني أراك صغير القدمين ، وأنا سمعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

«إن لي حوضا كما بين أيلة وعمان فإن استطعت أن يكون لقدميك عليه موضع فافعل» [١٤٣٧٨].

وفي آخر بمعناه (٣) :

فاطلب لهما موضعا في الجنة ، فقلت : إن لي ذنوبا كثيرة ، فقال : لا تأيس (٤) ، فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن بالمغرب بابا مفتوحا (٥) لا يغلق ـ [زاد في رواية :](٦) حتى تطلع الشمس من مغربها» [١٤٣٧٩].

وفي آخر فقال :

إن التوبة لا تزال تقبل ما لم تطلع الشمس من مغربها. عمل عبد عمل من شيء.

وفي حديث آخر فقال :

إن قدميك صغيرتان ، وكم من محصنة قد قذفتها ، وإن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حوضا ما بين أيلة إلى كذا وكذا ، وهو قائم بذناباه يقول : «إليّ إليّ» ، فإن استطعت فلا تحرمه. قال : فلما قدمت قال : ما صنعت من شيء فلا تعظمه.

__________________

(١) البيتان في الاستيعاب والإصابة.

(٢) زيد في الاستيعاب : وكان من أحسن الناس ثغرا وكان إذا سقطت له سن نبتت أخرى ، قال : وفي رواية عبد الله بن جراد لهذا الخبر قال : فنظرت إليه كأن فاه البرد المنهل يتلألأ ويبرق ما سقطت له سن ولا نقلت لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أجدت لا يفضض الله فاك».

(٣) رواه ابن كثير في البداية والنهاية ٦ / ٤١٠.

(٤) في البداية والنهاية : لا بأس.

(٥) زيد في البداية والنهاية : للتوبة.

(٦) ما بين معكوفتين استدرك عن هامش الأصل ، وبعده صح.

٤٩

وللفرزدق رحلة مع أبيه ، وهو صغير إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (١). قال الفرزدق : دخلت مع أبي على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وبين يديه سيوف يذوقها (٢) ، فقال لأبي : من أنت؟ قال : غالب بن صعصعة ، قال : ذو الإبل الكثيرة؟ قال : نعم. قال : فما فعلت؟ قال : ذعذعتها (٣) النوائب والحقوق ، فقال : ذلك خير سبيلها ، من هذا معك؟ فقال : هذا ابني همام ، وهو يقول الشعر (٤) ، فقال : علمه القرآن ، فهو خير له (٥).

سمي الفرزدق لشبه وجهه بالخبزة ، وهي فرزدقة. اسمه همّام. والفرزدق : الرغيف الضخم الذي تتخذ منه النساء الفتوت ، ويقال للقطعة من العجين التي تبسط فيخبز منها ، شبّه وجهه بذلك لأنه كان غليظا جهما (٦).

قال الجارود :

كان رجل من بني رياح له : ابن وثيل (٧) ـ وكان شاعرا ـ أتى الفرزدق بماء بظهر الكوفة على أن يعقر هذا مائة من الإبل ، وهذا مائة من الإبل إذا وردت الماء. فلما وردت الإبل قاما إليها بالسيوف يكسعان (٨) عراقيبها ، فخرج الناس على الحمران والبغال يريدون اللحم ، وعلي ابن أبي طالب عليه‌السلام بالكوفة ، فخرج على بغلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم البيضاء ، وهو ينادي : يا أيها الناس ، لا تأكلوا من لحومها ، فإنه أهلّ (٩) لغير الله.

كان بسر بن سعيد (١٠) من العباد المنقطعين وأهل الزهد في الدنيا ، وكان ثقة ، كثير

__________________

(١) الخبر في أنساب الأشراف ١٢ / ٦٤ والأغاني ٢١ / ٢٨٣.

(٢) أي يفحصها ويختبرها ، من قولهم : ذقت القوس إذا جذبت وترها لتنظر ما شدتها (انظر اللسان : ذوق).

(٣) ذعذعتها النوائب أي فرقتها.

(٤) في الأغاني : فقال : إن ابني هذا من شعراء مضر ، فاسمع منه.

(٥) في أنساب الأشراف : فإنه خير له من الشعر.

(٦) انظر أنساب الأشراف ١٢ / ٦٥ والأغاني ٢١ / ٢٧٦ وسير الأعلام ٤ / ٥٩٠ ووفيات الأعيان ٦ / ٩٩ وقال ابن خلكان والقول الأول أصح لأنه كان أصابه جدري في وجهه ثم برأ منه فبقي وجهه جهما متغضنا. القول الأول : أنه كان جهم الوجه.

(٧) بالأصل : «أثال» وفي تاريخ الإسلام : «أثيل» والمثبت «وثيل» عن وفيات الأعيان ٦ / ٨٦ وهو سحيم بن وثيل الرياحي ، وهو شاعر ، وكان رئيس قومه ، وانظر الأغاني ٢١ / ٢٢٢.

(٨) يكسعان أي يضربان (اللسان : كسع).

(٩) يقال : أهل الذابح : رفع صوته عند ذبح الضحية باسم من قدمها قربانا له.

(١٠) هو يسر بن سعيد مولى الحضرميين ، كان ينزل دار الحضرميين ببني جديلة. انظر أخباره في تهذيب الكمال ٣ / ٤٤.

٥٠

الحديث ، ورعا ، وكان قد أتى البصرة في حاجة له ، ثم أراد الرجوع إلى المدينة ، فرافقه الفرزدق الشاعر. فلم يشعر أهل المدينة إلا وقد طلعا عليهم في محمل ، فعجب أهل المدينة لذلك. وكان الفرزدق يقول : ما رأيت رفيقا خيرا من بسر بن سعيد. وكان بسر يقول : ما رأيت رفيقا خيرا من الفرزدق (١).

قال الفرزدق :

لقيت أبا هريرة بالشام ، فقال لي : أنت الفرزدق؟ قلت : نعم ، قال : أنت الذي يقول الشعر؟ قلت : [نعم](٢) ، قال : اتق وانظر ، فلعلك إن بقيت تلقى قوما يخبرونك أن الله لن يغفر لك ، فلا تقنطنّ من رحمة الله (٣).

قال الفرزدق :

رأيت أنف عرفجة (٤) من ذهب ، وكان أصيب أنفه يوم الكلاب (٥) ، فاتخذ أنفا من فضة (٦) ، فأنتن عليه ، فرأيته بعد ذلك صنعه من ذهب. وزعم منصور بن سعيد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره بذلك (٧).

قال الفرزدق (٨) :

خرجت من البصرة أريد العمرة ، فرأيت عسكرا في البرية (٩) ، فقلت : عسكر من هذا؟

__________________

(١) الخبر في الطبقات الكبرى لابن سعد ٥ / ٢٨٢ في ترجمة بسر بن سعيد ، وتهذيب الكمال ٣ / ٤٥ من طريق محمد ابن سعد.

(٢) بياض بالأصل ، واستدركت اللفظة للإيضاح.

(٣) الأغاني ٢١ / ٣٩٣ باختلاف الرواية.

(٤) هو عرفجة بن أسعد بن كرب التيمي ، بصري ، صحابي ، انظر ترجمته في أسد الغابة ٣ / ٥١٨ والإصابة ٢ / ٤٦٧ رقم ٥٥٠٨.

(٥) يوم الكلاب في الجاهلية. والكلاب بالضم : موضع بالدهناء بين اليمامة والبصرة ، وقيل ماء ما بين الكوفة والبصرة ، وقيل : ماء بين جبلة وشمام على سبع ليال من اليمامة انظر معجم البلدان. وهما يومان ، يوم الكلاب الأول ، ويوم الكلاب الثاني. انظر في روايتهما أيام العرب لأبي عبيدة ٢ / ٤٥ والعقد الفريد ـ بتحقيقي ـ ٥ / ١٩٢ ـ ١٩٤.

(٦) في أسد الغابة : ورق.

(٧) الحديث رواه أحمد بن حنبل في المسند ٧ / ٢٢ رقم ١٩٠٢٨ طبعة دار الفكر من طريق يزيد بن هارون أخبرنا أبو الأشهب عن عبد الرحمن بن طرفة أن جده عرفجة ، وذكره.

(٨) الخبر باختلاف الرواية في الأغاني ٢١ / ٣٥٩ ـ ٣٦٠ وتاريخ الطبري ٦ / ٢١٨ والفتوح لابن الأعثم ٥ / ١٢٤.

(٩) كان لقاؤهما في الصفاح كما في الطبري ، والشقوق كما في الفتوح لابن الأعثم ، انظر معجم البلدان.

٥١

قالوا : عسكر الحسين بن علي عليه‌السلام ، فقلت : لأقضينّ بحق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه ، فأتيته ، فسلّمت ، فقال : من الرجل؟ فقلت : الفرزدق بن غالب ، قال : هذا نسب قصير ، فقلت : أنت أقصر مني نسبا ، أنت ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لي : أبو من؟ قلت : أبو فراس ، فقال لي : يا أبا فراس ، كيف خلّفت الناس؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ قلت : من البصرة ، أريد العمرة ، وما سألت عنه من أمر الناس فقلوبهم معك ، وسيوفهم مع بني أمية ، والقضاء ينزل من السماء ، فاغرورقت عيناه ، وقال : هكذا الناس في كل زمان أتباع لذي الدينار والدرهم ، والدين لغو على ألسنتهم ، فإذا فحصوا بالابتلاء قل الديانون.

قال الفرزدق (١) :

لقيت حسينا ، فقلت : بأبي أنت لو أقمت حتى يصدر الناس لرجوت أن ينقصف أهل الموسم معك ، فقال : لم آمنهم يا أبا فراس (٢) ، قال : فدخلت مكة ، فإذا فسطاط وهيئة (٣) ، فقلت : لمن هذا؟ قالوا : لعبد الله بن عمرو بن العاص ، فأتيته ، فإذا شيخ أحمر ، فسلمت : فقال : من؟ قلت : الفرزدق ، أترى أن أنصر حسينا ، قال : إذا تصيب أجرا وذخرا ، قلت : بلا دنيا ، فأطرق ثم قال : يا ابن غالب ، لتتمن خلافة يزيد ، فانظرن ، فكرهت ما قال : فسببت يزيد ومعاوية ، قال : مه ، قبحك الله ، فغضبت فشتمته وقمت. فلو حضره حشمه لأوجعوني. فلما قضيت الحج رجعت ، فإذا عير ، فصرخت ، ألا بايعا (٤) الحسين ، فردوا على الأفناء.

قال إسماعيل بن يسار :

لقي الفرزدق حسينا ، فسلّم عليه ، فوصله بأربع مائة دينار ، فقالوا : يا أبا عبد الله ، تعطي شاعرا متهترا؟! فقال : إنّ خير ما أمضيت من مالك ما وقيت به عرضك ، والفرزدق شاعر لا يؤمن ، فقال قوم لإسماعيل : وما عسى أن يقول في الحسين ، ومكانه مكانه ، وأبوه وأمه من قد علمت؟ قال : اسكتوا ، فإن الشاعر ملعون ، إن لم يقل في أبيه وأمه قال في نفسه.

قال الفرزدق (٥) :

__________________

(١) الخبر باختلاف الرواية في تاريخ الطبري ٣ / ٢٩٦ (حوادث سنة ٦٠) والبداية والنهاية ٥ / ٦٧٣.

(٢) الذي في تاريخ الطبري : فقلت : بأبي وأمي يا بن رسول الله! ما أعجلك عن الحج؟ فقال : لو لم أعجل لأخذت.

(٣) في الطبري : فإذا بفسطاط مضروب في الحرم ، وهيئته حسنة.

(٤) كذا بالأصل.

(٥) تاريخ الطبري ٣ / ٢٩٧ والبداية والنهاية ٥ / ٦٧٣.

٥٢

لما خرج الحسين لقيت عبد الله بن عمرو فقلت له : إن هذا الرجل قد خرج فما ترى؟ قال : أرى أن تخرج معه (١) ، فإنك إن أردت دنيا أصبتها ، وإن أردت آخرة أصبتها ، فرحلت نحوه. فلما كنت ببعض الطريق بلغني قتله ، فرجعت إلى عبد الله فقلت : أين ما قلت لي؟ قال : كان رأيا رأيته (٢).

قال مغيرة (٣) :

لم يكن أحد من أشراف العرب بالبادية كان أحسن دينا من صعصعة (٤) جد الفرزدق ، ولم يهاجر ، وهو الذي أحيا ألف (٥) موءودة ، وحمل على ألف فرس ، وهو الذي افتخر به الفرزدق ، فقال (٦) :

ومنا الذي منع الوائدات

فأحيا الوئيد فلم يوأد

قال صعصعة بن ناجية (٧) :

أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلمت ، وعلمني آيا من القرآن ، فقلت : يا رسول الله ، إنّي عملت في الجاهلية أعمالا ، فهل في ذلك من أجر ، قال : «وما هي؟» قال : أضللت (٨) ناقتين لي عشراوين ، فخرجت أبغيهما على جمل لي ، فبينا أنا أسير إذ رفع لي بيتان في فضاء من الأرض ، فقصدت نحوهما ، فإذا في أحدهما شيخ ، فقلت : هل أحسست من ناقتين عشر اوين ، قال : وما نارهما (٩)؟ قلت : ميسم (١٠) بني دارم ، قال : قد وجدتهما ، وقد

__________________

(١) في الطبري : فقال لي : ويلك ، فهلا اتبعته ، فو الله ليملكن.

(٢) البداية والنهاية : قيل أراد الهزل بالفرزدق ـ يعني عبد الله بن عمرو بن العاص.

(٣) الخبر والشعر في أنساب الأشراف ١٢ / ٦٢ والاستيعاب ٢ / ١٩٥ (هامش الإصابة) وأسد الغابة ٢ / ٤٠٤ والإصابة ٢ / ١٨٦.

(٤) هو صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان .... بن زيد مناة بن تميم جد الفرزدق ، انظر ترجمته في أسد الغابة ٢ / ٤٠٤.

(٥) في أنساب الأشراف : مائة.

(٦) ديوان الفرزدق ١ / ١٧٣ (ط. بيروت).

(٧) الحديث في أسد الغابة ٢ / ٤٠٥ من طريق يحيى بن محمود عن أحمد بن عمرو بن الضحاك حدثنا أبو موسى حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي سوية المنقري ، حدثنا عباد بن كسيب حدثني الطفيل بن عمرو ، عن صعصعة بن ناجية ، وذكره ، ورواه أبو الفرج في الأغاني ٢١ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠. وأنساب الأشراف ١٢ / ٦١ ـ ٦٢.

(٨) أسد الغابة : ضلّت.

(٩) النار : السمة (اللسان) والأغاني.

(١٠) في اللسان : وسم : يقال إن فلانا لدوابه ميسم أي أثر الجمال والعتق.

٥٣

ولدتهما ، وظأرتا (١) على أولادهما ، وقد أحيا الله بهما أهل بيت من قومك من مضر ، فبينا هو يخاطبني إذ قالت امرأة من البيت الآخر : قد ولدت ، قد ولدت ، قال : وما ولدت؟ إن كان غلاما فقد شاركنا في قومنا (٢) ، وإن كان جارية فادفناها (٣) ، قلت : وما هذه المولودة؟ قال : ابنة لي ، قلت : هل لك أن تبيعنيها؟ قال : تقول لي هذا وقد أخبرتك أني من العرب من مضر؟ قلت : إنّي لا أشتري منك رقبتها ، إنما أشتري منك روحها؟ قال : بكم؟ قلت : بناقتيّ (٤) ، قال : على أن تزيدني بعيرك هذا ، قلت : نعم ، على أن ترسل معي رسولا ، فإذا بلغت أهلي دفعته إليه ، ففعل. فلما بلغت أهلي دفعت الجمل للرسول ، ثم فكرت ثم قلت : والله إن هذه لمكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب ، كنت لا أسمع بموءودة إلا اشتريتها بناقتين عشراوين وجمل ، فجاء الإسلام وقد استحييت (٥) ثلاث مائة وستين ، من الموءودة (٦) ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا باب من الخير ، (٧) ولك أجره إذ منّ الله عليك بالإسلام». قال : وذلك مصداق قول الفرزدق :

وجدّي الذي منع الوائدات

وأحيا الوئيد فلم يوأد (٨)

مات غالب بن صعصعة أبو الفرزدق بسيف كاظمة (٩) ، فدفن على رابية (١٠) ، فآلى الفرزدق على نفسه أن يكون قبر أبيه مأهولا معمورا لا يستجير به أحد إلا أجاره ، ولا يلوذ به عان إلّا فكّه ، ولا يأتيه غارم إلا أدى عنه. فلما شرعت العداوة بين الفرزدق وبين بني جعفر بن كلاب ، وعزم أن يهجوهم خرجت امرأة من رؤسائهم ـ قيل : إنها أم ذي الأهدام نفيع ـ ومضت إلى سيف كاظمة ، وضربت على قبر أبي الفرزدق فسطاطا ، وأقامت به أياما.

__________________

(١) تقرأ بالأصل : «وقراتهما» والمثبت عن الأغاني.

(٢) في الأغاني : قوتنا.

(٣) الأغاني : «فادفنوها» وفي أسد الغابة : فادفنيها.

(٤) في الأغاني : بناقتي هاتين وولديهما.

(٥) كذا بالأصل ، وفي الأغاني وأسد الغابة : أحييت.

(٦) زيد في الأغاني : أشتري كل واحدة منهن بناقتين عشراوين وجمل.

(٧) في الأغاني وأسد الغابة : البر.

(٨) ليست هذه الرواية في الديوان ، انظره ١ / ١٧٣.

(٩) كاظمة جو على سيف البحر في طريق البحرين من البصرة ، فيه ركايا كثيرة ، راجع معجم البلدان ومعجم ما استعجم.

(١٠) أنساب الأشراف ١٢ / ٦٤.

٥٤

فلما رحلت عنه حملت حصيات من قبره ، فأتت بها الفرزدق ، فألقتها بين يديه ، وقالت له : سألتك بصاحب هذه التربة إلا أعفيتني من ذكرك في هجائك في شعر ، قال : وربّ الكعبة اليمانية لاذكرتك بسوء أبدا ، فهاجى بني جعفر بن كلاب. فلما صار إليها قال (١) :

عجوز تصلي الخمس عانت بغالب

فلا والذي عاذت به لا أضيرها (٢)

لئن نافع لم يرع أرحام أمّه

وكانت كدلو لا يزال يعيرها (٣)

لبئس دم المولود مسّ ثيابها

عشية نادى بالغلام بشيرها

وإني على إشفاقها من مخافتي

وإن عقّها بي نافع (٤) لمجيرها

وكان رجل من بني منقر (٥) كاتب غلاما له كان منشؤه البادية على ألف درهم على أن يؤديها إليه بعد حول ، فسعى فيها ، ومضى الحول ، ولم يصل إليها ، فخرج من البصرة متنكرا حتى أتى سيف كاظمة (٦) ، فحمل من قبر [غالب أبي](٧) الفرزدق حصيات وأتى بهن الفرزدق ، وهو واقف بالمربد (٨) ، يبيع إبلا له ، فألقاهن في حجره ، وقال : إنّي مستجير غارم ، قال : وما بك ، لا أبا لك؟ فأنشده :

بقبر ابن ليلى غالب عذت بعد ما

خشيت الردى أو أن أردّ على قسر

بقبر امرئ تقري المئين عظامه

ولم يك إلا غالبا ميت يقري

فقال لي استقدم أمامك إنما (٩)

فكاكك (١٠) أن تلقى الفرزدق في المصر

__________________

(١) الخبر والأبيات في الأغاني ٢١ / ٣٥٤ ـ ٣٥٥ والبيت الأول في أنساب الأشراف ١٢ / ٧٤ والبيت الأول والأخير في الديوان ١ / ٣٦٧ والخبر والبيتان الثاني والثالث في أنساب الأشراف ١٢ / ٩٣ ـ ٩٤.

(٢) روايته في أنساب الأشراف :

أتتني فعاذت من هجائي بغالب

فلا والذي شق استها لا أضيرها

(٣) عار يعير : عاب أو اتلف.

(٤) هو نفيع بن صفار المحاربي ، كما في أنساب الأشراف ١٢ / ٩٣.

(٥) الخبر والأبيات في الكامل للمبرد ٢ / ٦١٢ ـ ٦١٣ وأنساب الأشراف ١٢ / ٦٤ والبيتان الأول والثاني في الأغاني ٢١ / ٣٥٠ و ٣٩٨.

(٦) يعني في المكان الذي قبر فيه غالب والد الفرزدق.

(٧) ما بين معكوفتين سقط من الأصل واستدرك للإيضاح عن الأغاني.

(٨) المربد : بالكسر ثم السكون وفتح الباء الموحدة ، قال الأصمعي : المربد كل شيء حبست فيه الإبل ، ولهذا قيل مربد النعم بالمدينة ، وبه سمي مربد البصرة. وإنما كان موضع سوق الإبل ، انظر معجم البلدان ٥ / ٩٧ ـ ٩٨.

(٩) الأغاني ٢١ / ٣٥٠ فأخبرني قبر ابن ليلى فقال لي وفيها ٢١ / ٣٩٨ فخاطبني.

(١٠) أنساب الأشراف ١٢ / ٦٤ شكاكك.

٥٥

فقال له الفرزدق : مالك؟ قال : إني مكاتب ، وقد عجزت ، قال : وكم كتابك؟ قال : ألف درهم ، قال : لك ألف لكتابك ، وألف معونة لك ، ولك ناقة سوداء ، ولك كسوة سابغة ، قال : فأعطني ، قال : والله لا تريم من مكانك حتى أفي لك بما قلت ، فعجل ذلك ليله.

ولما (١) وجه الحجاج بتميم بن زيد (٢) إلى السند (٣) قدم البصرة فحمل من أهلها قوما كثيرا ، وحمل معه رجلا قصابا ، يقال له خنيس (٤). فلما نظرت أمه إلى ذلك ركبت بعيرا لها ، ولحقت بقبر غالب ، فحملت منه حصيات ، ثم أتت بهن الفرزدق ، فألقتهن على بابه ، فخرج مذعورا ، فقال : ما بك؟ قالت : ابني وواحدي ، قال : وأين هو؟ قالت : مع تميم ابن زيد (٥) بالسند ، فدعا برجل ، فقال : اكتب ما أمليه عليك ، فكتب (٦) :

تميم بن زيد لا تكوننّ حاجتي

بظهر فلا يعيا (٧) على جوابها

وهب لي خنيسا (٨) واحتسب (٩) فيه منّة

لعبرة (١٠) أم ما يسوغ شرابها

أتتني فعاذت يا تميم بغالب

وبالحفرة السافي عليها ترابها

وقد علم الأقوام أنك ماجد

وليث إذا ما الحرب شبّ شبابها (١١)

فلما قرأ تميم الكتاب لم يدر حبيش (١٢) ، أم خنيس (١٣) ، فقال : انظروا من كان في هذا العسكر له هذا الاسم ، فرجعوا به إلى الفرزدق ، فأصابوا ستة (١٤) نفر من خنيس وحبيش فوجّه

__________________

(١) الخبر والأبيات في الأغاني ٢١ / ٣٥٣ ـ ٣٥٤ و ٣٦٤ و ٣٩٨ والكامل للمبرد ٢ / ٦١١ ـ ٦١٢ ووفيات ٦ / ٨٦ وأنساب الأشراف ١٢ / ٧٤.

(٢) بالأصل : «بدر» تصحيف ، والصواب عن المصادر السابقة.

(٣) انظر تاريخ خليفة بن خياط ص ٣٥٩ وفيه أن هشام بن عبد الملك عزل خالد بن عبد الله بن الجنيد عن السند وولى تميم بن زيد القيني. وهو تميم بن زيد القضاعي ثم أحد بني القين بن جسر،كما في الأغاني ٢١ / ٣٥٣.

(٤) في أنساب الأشراف والأغاني : «حبيش» في أنساب الأشراف : فتى من تميم ثم من بني يربوع ، وأمه من طيئ.

(٥) بالأصل : بدر.

(٦) والأبيات في ديوان الفرزدق ١ / ٨٥ ـ ٨٦.

(٧) أنساب الأشراف : «يخفى عليك» وفي الأغاني : «يخفى علي».

(٨) الأغاني وأنساب الأشراف : «حبيشا» ورسمت في الكامل : حسا.

(٩) الأغاني وأنساب الأشراف : واتخذ.

(١٠) الأغاني : «لغصّة» وأنساب الأشراف : «فحوبة».

(١١) في وفيات الأعيان والكامل : «شهابها» وليس البيت في الديوان ولا الأغاني ولا أنساب الأشراف.

(١٢) بدون إعجام بالأصل ، والمثبت عن الأغاني وأنساب الأشراف.

(١٣) أنساب الأشراف : حنيش.

(١٤) في أنساب الأشراف : «ثمانية عشر رجلا» وفي الأغاني : عدة.

٥٦

بهم إليه ، وقيل إنه لما حضر إليه الستة نفر : سأل عن ابن العجوز البصرية فقال أحدهم : أنا هو ، فكتب له منشور ونقل عطاؤه إلى البصرة ، وكتب منشورا : لا يزعجه أحد حتى يقول هو : قد فرغت من حاجة تميم بن زيد ، وأعطاه ألف درهم ، وحمله على البريد إلى البصرة ، وأجاب الفرزدق عن كتابه ، ووجه مع الجواب عشرة آلاف درهم ثم تأمل الخمسة الباقين ، فقال : قد أتي بكم وكل واحد منكم يرجو ، والرجاء ذمام ، والله لا خيّبت آمالكم ، فكتب لكلّ واحد منهم منشورا ، وأمر لهم بنفقاتهم إلى مواطنهم.

قال عبد الكريم :

دخلت على الفرزدق ، فتحرك ، فإذا في رجليه قيد ، فقلت : ما هذا يا أبا فراس؟! قال : حلفت ألّا أخرجه من رجلي حتى أحفظ القرآن (١).

قال جرير :

نبعة الشعر الفرزدق (٢).

قال ابن شبرمة :

كان الفرزدق أشعر الناس.

قال أبو عمرو بن العلاء :

لم أر بدويا أقام بالحضر إلّا فسد لسانه غير رؤبة بن العجاج والفرزدق ، كأنهما زادا على طول الإقامة جدة وحدة.

قال المبرد : قال لي الفتح بن خاقان :

أيهما تقدّم ، الفرزدق أم جريرا؟ فقلت : كلاهما عندي غاية ، وفي الذروة ، وإنما أقول على قدر الخاطر : إذا أحببت المسامحة والسهولة ، وقلة التكلف ملت إلى جرير ، وإذا أحببت الركانة والرزانة ملت إلى الفرزدق.

قال أبو يحيى الضبي (٣) :

__________________

(١) أنساب الأشراف ١٢ / ٦٨.

(٢) طبقات الشعراء للجمحي ص ١١١.

(٣) الخبر والأبيات في طبقات الشعراء للجمحي.

٥٧

لما هرب الفرزدق من زياد حين استعدى (١) عليه بنو نهشل في هجائه أباهم (٢) أتى سعيدا (٣) ، وهو على المدينة أيام معاوية ، فاستجاره فأجاره ، والحطيئة وكعب بن جعيل حاضراه فأنشده الفرزدق (٤) :

ترى النفر (٥) الجحاجح من قريش

إذا ما الأمر (٦) في الحدثان آلى

بني عم النبي ورهط عمرو

وعثمان الألى غلبوا فعالا

قياما ينظرون إلى سعيد

كأنهم يرون به هلالا

فقال الحطيئة : هذا والله الشعر ، لا ما تعلّل به منذ اليوم أيها الأمير ، فقال كعب بن جعيل : فضّله على نفسك ، ولا تفضّله على غيرك ، فقال : بلى والله أفضله على نفسي وعلى غيري. أدركت من قبلك وسبقت من بعدك [ثم قال له الحطيئة يا غلام](٧) لئن بقيت لتبرزنّ علينا. ثم قال له الحطيئة : يا غلام ، أنجدت (٨) أمّك؟ قال : لا بل أبي. يريد الحطيئة : إن كانت أمّك أنجدت ، فإني أصبتها ، فأشبهتني (٩) ، فألفاه لقن الجواب فنعاه عليه الطرماح حين هجاه فقال (١٠) :

فاسأل قفيرة (١١) بالمرّوت (١٢) هل شهدت

سوط (١٣) الحطيئة بين السّجف (١٤) والنّضد

__________________

(١) عند الجمحي : استعان.

(٢) كذا بالأصل ، وفي طبقات الشعراء : إياهم.

(٣) يعني سعيد بن العاصي.

(٤) الأبيات في ديوان الفرزدق ٢ / ٧٠ ـ ٧١ من قصيدة يمدح سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية. والأول والثالث في الأغاني ٢١ / ٣٢١.

(٥) طبقات الشعراء والأغاني : الغرّ.

(٦) الأغاني : الخطب.

(٧) ما بين معكوفتين استدركت لاقتضاء السياق عن طبقات الشعراء.

(٨) يعني أنجد إلى بلاد نجد.

(٩) يريد في قول الشعر ، والعبارة في الأغاني ٢١ / ٣٢٣ إذ شابهتني في الشعر.

(١٠) الأبيات في ديوانه ص ١٦٨ ـ ١٧٠ وطبقات الشعراء للجمحي ص ١١٢ والشعر والشعراء ص ٣٧٣.

(١١) قفيرة هي أم صعصعة ، جد الفرزدق ، وهي قفيرة بنت سكين بن عبد الله بن دارم ، وكانت أمها أمة ، وهبها كسرى لزرارة فرهنها زرارة لهند بنت يثربى بن عدس. فوثب أخو زوجها واسمه سكين بن حارثة بن زيد بن عبد الله بن دارم على الأمة فأحبلها فولدت له قفيرة. وكان جرير يعيب بها الفرزدق. (الشعر والشعراء ص ٢٩٠).

(١٢) المروت : نهر ، وقيل : أجبل بالعالية ، انظر معجم البلدان.

(١٣) في الشعر والشعراء : عسب.

(١٤) الشعر والشعراء : «الكسر» والذي بالأصل : «السخف» والمثبت عن طبقات الشعراء.

٥٨

أم كان في غالب شعر فيشبهه

شعر ابنه (١) فينال الشعر من صدد؟

جاءت به نظفة من شرّ ما اتسقت

منه (٢) إلى شر واد شقّ في بلد (٣)

كان (٤) الفرزدق جالسا في حلقة الحسن ، فقال رجل : يا أبا سعيد ، ما تقول في رجل قال فلان : طلقت امرأتي ، وعتقت مملوكي ، وفعلت وفعلت ، فقال الفرزدق : يا أبا سعيد ، أجيبه؟ قال : نعم ، قال الفرزدق : أوليس قد قلت في ذلك شعرا؟ فقال : وما قلت؟ وليس كل ما قلت يؤخذ (٥) به ، فقال الفرزدق (٦) :

فلست بمأخوذ بشيء (٧) تقوله

إذا لم تعمّد عاقدات العزائم

فقال الحسن : أصاب أبو فراس ، والقول ما قال أبو فراس.

سأل رجل الحسن ـ والفرزدق عنده ـ عن قول الله عزوجل (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [سورة النساء ، الآية : ٢٤] ، فقال الفرزدق : تسأل أبا سعيد ، وقد قلت بذلك شعرا؟ فقال له الحسن : ما هو؟ قال (٨) :

وذات حليل أنكحتها (٩) رماحنا

حلالا ومن يبن (١٠) بها لم تطلّق

فتبسم الحسن ولم يردّ عليه ما قال ، قال : تحل لكم السبايا أن تطئوهن بملك اليمين من غير أن يطلقهن أزواجهن.

أتى (١١) الفرزدق الحسن فقال : إني قد هجوت إبليس ، فاسمع ، قال : لا حاجة لنا

__________________

(١) بالأصل : «ابنها فيقال».

(٢) في الشعر والشعراء : جاءت به نطفة من شر ماء صرى سيقت.

(٣) الشعر والشعراء : جدد.

(٤) الخبر والشعر في الأغاني ٢١ / ٣٠٤ وأنساب الأشراف ١٢ / ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٥) الأغاني : سمعوا.

(٦) البيت في ديوانه : ٢ / ٣٠٧ وأنساب الأشراف ١٢ / ١٠٣.

(٧) في الأغاني : «بلغو» ومثلها في أنساب الأشراف.

(٨) البيت في ديوانه ٢ / ٣٨ والأغاني ١٢ / ٣٠٤ وأنساب الأشراف ١٢ / ١٠٣.

(٩) الأغاني : أنكحتنا.

(١٠) الأغاني : لمن يبني.

(١١) الخبر في أنساب الأشراف ١٢ / ٧٦ من طريق المدائني عن أبي بكر الهذلي. والأغاني ٢١ / ٣٠٤ و ٣٥٧.

٥٩

بالقول ، قال : لتسمعنّ أو لأخرجنّ ، فأقول للناس : إن الحسن ينهى عن هجاء إبليس ، فقال الحسن : اسكت ، فإنك عن لسانه تنطق.

قال سلام بن مسكين :

كنت في حبس بلال (١) والفرزدق معي في السجن ، فقلت : يا أبا فراس ، تمزّق أعراض الناس ، وتتناولهم بلسانك! فقال لي : اسمع ما أقول : والله إنه تبارك وتعالى أحبّ إلي من نفسي التي بين جنبيّ ، ومن عيني هاتين ، ومن عشيرتي ، أفترى الله يعذبني بعد هذا ، إنه لأكرم من ذلك (٢).

قيل لابن هبيرة (٣) : من سيد أهل العراق؟ قال : الفرزدق ، هجاني ملكا ومدحني سوقة. وقال لخالد حين قدم العراق :

ألا قطع الرحمن ظهر مطية

أتتنا تخطى (٤) عن دمشق بخالد

وكيف يؤم الناس من كانت امّه (٥)

تدين بأن الله ليس بواحد (٦)

وقال (٧) :

نزلت بجيلة (٨) واسطا فتمكنت

ونفت فزارة عن قرار المنزل

وقال (٩) :

لعمري لئن كانت بجيلة زانها

جرير لقد أخزى بجيلة خالد

__________________

(١) يعني بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ، وكان عاملا لخالد القسري على البصرة ، وقد اتخذ بالكوفة دارا ، ثم جعلت سجنا راجع تاريخ الطبري ٧ / ١٥٣.

(٢) الخبر في البداية والنهاية ٥ / ٤١١.

(٣) الخبر والشعر في الأغاني ٢١ / ٣١٣ والديوان ١ / ١٨٩ وطبقات الشعراء للجمحي ص ١١٦ والكامل للمبرد ٢ / ٩٨٩.

(٤) الأغاني : تمطّى.

(٥) صدره في الأغاني : وكيف يؤم المسلمين وأمه.

(٦) كانت أم خالد نصرانية رومية ، وكان أبوه استلبها في يوم عيد للروم ، فأولدها خالدا وأسدا (الكامل للمبرد ٢ / ٩٨٩).

(٧) ليس البيتان التاليان في ديوان الفرزدق ، وهما في الأغاني ٢١ / ٣١٣.

(٨) بجيلة قبيلة خالد بن عبد الله القسري البجلي.

(٩) البيت في طبقات الشعراء ص ١١٦.

٦٠