تاريخ مدينة دمشق - ج ٧٣

أبي القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشافعي [ ابن عساكر ]

تاريخ مدينة دمشق - ج ٧٣

المؤلف:

أبي القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشافعي [ ابن عساكر ]


المحقق: علي شيري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩١
الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٢ الجزء ٣٣ الجزء ٣٤ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١ الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠

موسى بعصاه ، وقوس قزح فأمان لأهل الأرض من الغرق ـ وزاد في حديث آخر : بعد قوم نوح ـ والمجرة فهي باب السماء (١).

وفي حديث آخر بمعناه : فقلت : أما أحب كلمة إلى الله : فلا إله إلا الله لا يقبل عمل إلا بها ، والثانية : المنجية (٢) سبحان الله وصلاة الخلق ، والثالثة : الحمد لله كلمة الشكر ، والرابعة : الله أكبر فواتح الصلاة والركوع والسجود ، والخامسة : لا حول ولا قوة إلا بالله.

فاكتب إليه بذلك ، فإنهم سيعرفون. فأما لا إله إلا الله فإذا قالها العبد قال : يقول الله : أخلص عبدي ، فإذا قال : سبحان الله قال : عبدني عبدي ، فإذا قال : الحمد لله قال : شكرني عبدي ، وإذا قال : الله أكبر قال : صدق عبدي أنا أكبر ، فإذا قال : لا حول ولا قوة إلا بالله قال : ألقى إلي عبدي السلام .. الحديث.

وعن أبي الجويرية الجرمي قال : كتب قيصر إلى معاوية : أخبرني عمّن لا قبلة له ، وعمّن لا أب له ، وعمّن لا عشيرة له ، وعمّن سار به قبره ، وعن ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم ، وعن شيء ونصف شيء ولا شيء ، وابعث إلي في هذه القارورة ببزر كل شيء. فبعث معاوية بالكتاب والقارورة إلى ابن عباس ، وقيل إن الحسن بن علي بعث إليه بالكتاب والقارورة .... (٣) أما من لا قبلة له فالكعبة ، وأما من لا أب له فعيسى ، وأما من لا عشيرة له فآدم ، وأما من سار به قبره فيونس. وأما ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم فكبش إبراهيم ، وناقة ثمود ، وعصا موسى. وأما شيء فالرجل له عقل ، يعمل بعقله ، وأما نصف شيء فالذي ليس له عقل ويعمل برأي ذوي العقول. وأما لا شيء فالذي ليس له عقل ، يعمل بعقله ، وملأ القارورة ماء ، وقال : هذا بزر كل شيء. فبعث معاوية بالبزر والقارورة إلى قيصر. فلما وصل إليه الكتاب والقارورة قال : ما خرج هذا إلا من أهل بيت نبوة.

وعن حماد بن حميد قال : كتب رجل من أهل العلم إلى ابن عباس يسأله عن هذه المسائل وكان الرجل عالما. قال : أخبرني عن رجل دخل الجنة ونهى الله محمدا أن يعمل بعمله ، وأخبرني عن شيء تكلم ليس له لحم ولا دم ، وأخبرني عن شيء بنفس ليس له لحم ولا دم ، وأخبرني عن شيء له لحم ولم تلده أنثى ولا ذكر ، وأخبرني عن شيء قليله حلال

__________________

(١) في المعرفة والتاريخ : فباب من أبواب السماء. وفي حلية الأولياء : فباب السماء الذي تنشق منه.

(٢) في المعرفة والتاريخ : التحية.

(٣) بياض في مختصر ابن منظور بمقدار لفظة.

٢٠١

وكثيره حرام ، وأخبرني عن رسول بعثه الله ليس من الجن ولا من الإنس ولا من الملائكة ، وأخبرني عن نفس أوحى الله إليها ليست من الأشياء ، وأخبرني عن منذر ليس من الجن ولا من الإنس ، وأخبرني عن شيء حرم بعضه وحل بعضه ، وأخبرني عن نفس ماتت وأحييت بنفس غيرها ، وأخبرني عن نفس خرجت من جوف نفس ليس بينهما نسب ولا رحم ، وأخبرني عن اثنين تكلما ليس لهما لحم ولا دم ، وأخبرني عن الرجل الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها ، وأخبرني عن شيء إن فعلته كان حراما وإن تركته كان حراما ، وأخبرني عن موسى كم أرضعته أمه قبل أن تلقيه في البحر ، وفي أي بحر قذفته ، وأخبرني عن الاثنين اللذين كانا في بيت فرعون حين لطم موسى فرعون ، وأخبرني عن موسى حين كلّمه الله تعالى من حمل التوراة إليه ، وكم كانت الملائكة الذين حملوا التوراة إلى موسى ، وأخبرني عن آدم كم كان طوله ، وكم عاش ، ومن كان وصيّه ، وأخبرني من كان بعد آدم من الرّسل ، ومن كان بعد نوح ، ومن كان بعد هود ، ومن كان بعد إبراهيم ، ومن كان بعد لوط ، ومن كان بعد إسحاق ، ومن كان قبل نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخبرني عن الأنبياء كم كانوا ، وكم كان منهم الرّسل ، وكم كان منهم من الأنبياء ، وأخبرني كم في القرآن منهم ، وأخبرني عن رجل ولد من غير ذكر ولا أنثى ولم يمت ، وأخبرني عن أرض لم تصبها الشمس إلا يوما واحدا ، وأخبرني عن الطير الذي لا يبيض ولا يحضن عليه طير. قال : فلما قدمت المسائل على ابن عباس عجب من ذلك عجبا شديدا ، ثم كتب إليه :

أما سؤالك عن الرجل الذي دخل الجنة ونهي عنه محمد أن يعمل بعمله فهو يونس النبي صلى الله على نبينا وعليه وسلم الذي يقول : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ)(١). وأما الشيء الذي تكلّم ليس له لحم ولا دم فهي النار التي تقول (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)(٢).

وأما الرسول الذي بعثه الله ليس من الجن ولا من الإنس ولا من الملائكة فهو الغراب الذي بعثه الله إلى ابن آدم ليريه كيف يواري سوأة أخيه (٣).

__________________

(١) سورة القلم ، الآية : ٤٨. وفي قوله تعالى : أنه نهاه أن يغاضب كما غاضب يونس ، وقيل إنه نهاه ألا يعجل كما عجل يونس. وقال وهب أنه كان في خلق يونس ضيق ، فلما حملت إليه أثقال النبوة تفسخ منها تفسخ الربع ، فقذفها من يديه وهرب وهو مليم وقيل : مغموم انظر الدر المنثور للسيوطي ٨ / ٢٦١ ـ ٢٦٢.

(٢) سورة ق ، الآية : ٣٠. انظر الدر المنثور للسيوطي ٧ / ٦٠٢ ـ ٦٠٣.

(٣) يشير إلى قوله تعالى : (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ ...) الآية ، سورة المائدة ، الآية : ٣١.

٢٠٢

وأما الذي له لحم ودم لم تلده أنثى ولا ذكر فهو كبش إبراهيم (١) الذي فدى به إسحاق (٢). وأما الشيء الذي بنفس ليس له لحم ولا دم فهو الصبح ، إذ يقول الله عزوجل (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) [سورة التكوير ، الآية : ١٨] وأما النفس التي ماتت ، وأحييت بنفس غيرها فهي البقرة التي ذكرها الله عزوجل في القرآن الذي يقول : (اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) [سورة البقرة ، الآية : ٧٣] الآية. وأما الطير الذي لم يبض ولم يحضن عليه طائر فهو الطير الذي نفخ فيه عيسى بن مريم ، فكان طيرا بإذن الله.

وأما الشيء الذي قليله حلال وكثيره حرام فهو نهر طالوت (٣) الذي ابتلاهم الله به ، وأما النفس التي خرجت من جوف نفس ليس بينهما نسب ولا رحم فهو يونس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي خرج من بطن الحوت.

وأما الاثنتان اللتان تكلمتا ليس لهما لحم ولا دم فهما السماء والأرض إذ يقول الله تعالى : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [سورة السجدة ، الآية : ١١] ، وأما الشيء الذي مشى ليس له لحم ولا دم فهو عصا موسى التي (تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١١٧ ، وسورة الشعراء ، الآية : ٤٥] ، وأما الرجل الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها (٤) فهو أرميا (٥).

وأما الشيء الذي إن فعلته كان حراما ، وإن تركته كان حراما فهي الصلاة : إن صلّيت وأنت سكران لا يحل لك ، وإن تركتها لا يحل لك.

__________________

(١) يشير إلى قوله تعالى : (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ، وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) سورة الصافات ، الآية : ١١٣.

(٢) قال القرطبي في تفسيره : اختلف العلماء في المأمور بذبحه ، فقال أكثرهم الذبيح إسحاق وممن قال بذلك :

العباس بن عبد المطلب ، وابنه عبد الله وابن مسعود ، وحماد بن زيد ، جابر بن عبد الله ، عبد الله بن عمر ، عمر بن الخطاب (هؤلاء من الصحابة) ومن التابعين وغيرهم : علقمة ، الشعبي ، مجاهد ، سعيد بن جبير ، كعب الأحبار ، قتادة ، مسروق ، عكرمة ، عطاء ، مقاتل ، السدي ، الزهري ، مالك بن أنس. وقال الزجاج : الله أعلم أيهما الذبيح ، وهذا مذهب ثالث. أما المذهب الثاني : فهم من قال : إنه إسماعيل. تفسير القرطبي ١٥ / ٩٩.

(٣) يشير إلى قوله تعالى : (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ...) الآية ، سورة البقرة ، الآية : ٢٤٩.

(٤) وهو قوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ : أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها ...) الآية ، سورة البقرة ، الآية : ٢٥٩.

(٥) كذا ورد هنا ، والذي في الدر المنثور للسيوطي ٢ / ٢٦ أنه عزير بن سروخا. وانظر البداية والنهاية ٢ / ٥١ ـ ٥٢.

٢٠٣

وسألت عن أم موسى كم أرضعته فإنها أرضعته ثلاثة أشهر قبل أن تقذفه في البحر ، ثم ألقته في البحر بحر القلزم. وسألت عن الاثنين اللذين كانا في بيت فرعون حين لطمه موسى فهي آسية امرأة فرعون ، والرجل الذي كان يكمن إيمانه.

وسألت عن موسى يوم كلّمه الله تعالى وحملت التوراة إليه فإن الله كلّم موسى يوم الجمعة ، وأعطي التوراة ، ونزلت بها الملائكة إلى موسى يوم الجمعة ، وأمر الله تعالى بكل حرف من التوراة فحمله ملك من السماء ، فلا يعلم عدد ذلك إلا الله وحده لا شريك له.

وأما الأرض التي لم تنظر إليها الشمس إلا يوما فهي أرض البحر الذي فلقه الله عزوجل لموسى. وأما المنذر الذي ليس من الإنس ولا من الجن فهي النملة (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) [سورة النمل ، الآية : ١٨] ، وسألت عن آدم فهو أول الأنبياء خلقه الله من طين ، وسواه ونفخ فيه من روحه. وكان طوله فيما بلغنا والله أعلم ستين ذراعا ، وكان نبيا وخليفة ، وعاش ألف سنة إلا ستين عاما (١). وكان وصيّه شيث. وسألت من كان بعد شيث من الأنبياء ، كان بعده إدريس وهو أول الرسل. وكان بعد إدريس نوح ، وكان بعد نوح هود ، ثم كان بعد هود صالح ، ثم كان بعد صالح إبراهيم ، ثم كان بعد إبراهيم لوط ابن أخي إبراهيم ، وكان بعد لوط إسماعيل ، ثم كان بعد إسماعيل إسحاق ، وكان بعد إسحاق يعقوب ، ثم كان بعد يعقوب يوسف ، ثم كان بعد يوسف موسى ، ثم كان بعد موسى عيسى فأنزل الله عليه الإنجيل ، ثم كان بعده نبيّنا نبيّ الرحمة صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

وسألت عن عدد الأنبياء : كانوا فيما بلغنا والله أعلم ألف نبي ومائتي نبي وخمسة وسبعين نبيا. وكان منهم ثلاث مائة وخمسة عشر رسولا (٣) ، وسائرهم أنبياء صالحون نجد في القرآن منهم ثلاثة وثلاثين نبيا يقول الله عزوجل : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [سورة النساء ، الآية : ١٦٤].

وكان ابن عباس أمير البصرة ، وكان يغشى (٤) الناس في شهر رمضان ، فلا ينقضي

__________________

(١) في مروج الذهب ١ / ٣٣ كان عمره عليه‌السلام تسعمائة سنة وثلاثون سنة. وانظر البداية والنهاية ١ / ١١٠ ـ ١١١.

(٢) انظر طبقات ابن سعد ١ / ٤٠ وانظر فيها ١ / ٥٤ ذكر تسمية الأنبياء وأنسابهم (ص) نقلا عن محمد بن السائب الكلبي. والدر المنثور ٢ / ٧٤٨.

(٣) انظر طبقات ابن سعد ١ / ٥٤ والدر المنثور ٢ / ٧٤٦.

(٤) في أنساب الأشراف : «وكان يعشي الناس».

٢٠٤

الشهر حتى يفقههم (١) ، وكان إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان يعظهم ، ويتكلم بكلام يردعهم ، ويقول : ملاك أمركم الدين ، ووصلتكم الوفاء ، وزينتكم العلم ، وسلامتكم الحلم وطولكم المعروف. إن الله كلفكم الوسع ، اتّقوا الله ما استطعتم (٢). قال : فقام أعرابي فقال : من أشعر الناس أيها الأمير؟ قال : أفي إثر العظة؟ قل يا أبا الأسود قال : فقال أبو الأسود الدؤلي : أشعر الناس الذي يقول :

فإنّك كالليل الذي هو مدركي

وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع (٣)

قال : هذا لنابغة بني ذبيان.

فكان الرجل يأتي مجلس عبد الله بن عباس وقد انتعل القوم ، فيخلع نعليه ، فيقول له الرجل لا يحبسك مكاني يا أبا العباس ، فيقول : ما أنا بقائم حتى أحدثك وتحدثني فأسمع منك.

قال محمد بن سلام : سعى ساع إلى ابن عباس برجل فقال : إن شئت نظرنا فيما قلت ، فإن كنت كاذبا عاقبناك ، وإن كنت صادقا مقتناك ، وإن أحببت أقلناك. قال : هذه.

قال أبو محمد بن قتيبة في حديث علي :

إنه كتب إلى ابن عباس حين أخذ من مال البصرة ما أخذ (٤) : إني أشركتك في أمانتي (٥) [وجعلتك شعاري وبطانتي](٦) ولم يكن رجل من أهلي أوثق منك في نفسي (٧). فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب (٨) ، والعدوّ قد حرب [وأمانة الناس قد خزيت وهذه الأمة قد فنكت وشغرت](٩) قلبت لابن عمك ظهر المجنّ بفراقه مع المفارقين وخذلانه مع

__________________

(١) في أنساب الأشراف : ويحدثهم ويفقههم.

(٢) إلى هنا الخبر رواه البلاذري في أنساب الأشراف ٤ / ٦٩.

(٣) البيت للنابغة الذبياني وهو في ديوانه ص ٥٢ من قصيدة يعتذر إلى النعمان بن المنذر مطلعها :

عفا حسم من فرتنا فالفوارع

فجنبا أريك فالتلاع الدوافع

(٤) الكتاب رقم ٤١ إلى بعض عماله ، انظر نهج البلاغة ص ٥٨١.

(٥) أي جعلتك شريكا فيما قمت فيه من الأمر.

(٦) الزيادة بين معكوفتين عن نهج البلاغة.

(٧) زيد في نهج البلاغة بعدها : لمواساتي ومؤازرتي وأداء الأمانة لي.

(٨) كلب كفرح : اشتد وخشن.

(٩) الزيادة بين معكوفتين عن نهج البلاغة.

٢٠٥

الخاذلين (١) ، واختطفت ما قدرت عليه من أموال الأمة اختطاف الذئب الأزل (٢) دامية المعزى.

وفي الكتاب : ضحّ (٣) رويدا ، فكأن قد بلغت المدى (٤) [ودفنت تحت الثرى](٥) وعرضت عليك أعمالك بالمحلّ الذي به ينادي المغترّ (٦) بالحسرة ، ويتمنى المضيّع التوبة والظالم الرجعة.

قوله : قد حرب : أي غضب ، وقوله : قلبت لابن عمك ظهر المجن : هو مثل يضرب لمن كان لصاحبه على مودة أو رعاية ثم حال عن ذلك ، والمجنّ : الترس. وقوله : اختطاف الذئب الأزل دامية المعزى : خصّ الدامية دون غيرها لأن في طبع الذئب محبة الدم ، فهو يؤثر الدامية على غيرها. ويبلغ به طبعه في ذلك أنه يرى الذئب مثله وقد دمي فيثب عليه ليأكله.

نظر (٧) الحطيئة إلى ابن عباس في مجلس عمر وقد فرع (٨) بكلامه ، فقال : من هذا الذي قد نزل عن القوم في سنّة وعلاهم في قوله؟ قالوا : هذا ابن عباس ، هذا ابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنشأ يقول :

إني وجدت بيان المرء نافلة

تهدى له ووجدت العيّ كالصّمم

المرء يبلى ويبقى الكلم سائره

وقد يلام الفتى يوما ولم يلم

[قال القاضي : قوله :](٩)

__________________

(١) زيد في نهج البلاغة : وخنته مع الخائنين ، فلا ابن عمك آسيت ، ولا الأمانة أديت ، وكأنك لم تكن الله تريد بجهادك ، وكأنك لم تكن على بينة من ربك ، وكأنك إنما كنت تكيد هذه الأمة على دنياهم وتنوي غرتهم عن فيئهم ، فلما أمكنتك الشدة في خيانة الأمة أسرعت الكرة ، وعاجلت الوثبة.

(٢) الأزل بتشديد اللام ، السريع الجري.

(٣) ضح ، من ضحيت الغنم إذا رعيتها في الضحى ، أي فارع نفسك على مهل فإنما أنت على شرف الموت.

(٤) المدى : الغاية.

(٥) زيادة عن نهج البلاغة.

(٦) في نهج البلاغة : الظالم.

(٧) رواه المعافى بن زكريا في الجليس الصالح ٤ / ٩٠ والاستيعاب ٢ / ٣٥٤ (هامش الإصابة) والخبر والشعر في الإصابة ٢ / ٣٣٤ من طريق المعافى بن زكريا عن ابن عائشة عن أبيه. وليس الشعر في ديوان الحطيئة.

(٨) كذا في مختصر ابن منظور : «فرع» وفرع القوم وتفرعهم : فاقهم. وفي الجليس الصالح : «فرغ» وفي الإصابة : «قرع».

(٩) زيادة منا للإيضاح ، وهو المعافى بن زكريا الجريري ، صاحب كتاب الجليس الصالح الكافي.

٢٠٦

الكلم هاهنا جمع كلمة ، وأصل الكلم بكسر اللام ، فسكنه تخفيفا لإقامة الوزن كما قالوا في ملك ملك ، [وفخذ وكبد في فخذ وكبد. قال الله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) وقد روي عن تميم بن حذلم أنه قرأ تحرفون الكلام وقد قرأ علماء الأمصار (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) و (كَلَّمَ اللهُ).

ومما قيل في هذا وهو مما يستحسن لبعض المحدثين :

قالت : عييت عن الشكوى فقلت لها :

جهد الشكاية أن أعيا عن الكلم](١)

فأما الكلم الذي عين فعله ساكنة في أصل بنائه فإنه مصدر كلمه يكلمه كلما بمعنى جرحه [يجرحه جرحا ، كما قال الشاعر :

لعمرك إن الدار غفر لذي الهوى

كما يغفر المحموم أو صاحب الكلم

وبجمع الكلم كلاما مثل جرح وجراح ، وجمع فعل على فعال كثير جدا في القلة مثل كلب وكلاب وسهم وسهام](٢).

وقوله : سائره ، يعني أنه يبقى سائر الكلام ، يريد الحكم السائرة من الكلم ، [يقال : قول سائر ومثل سائر. وقوله : سائره ، بدل من الكلم تابع له في إعرابه كقولك : يعجبني القول بليغه](٣).

اختصم إلى عمر بن الخطاب حسان بن ثابت وخصم له ، فسمع منهما ، وقضى على حسان ، فخرج وهو مهموم ، فمر بابن عباس فأخبره بقصته ، فقال له ابن عباس : لو كنت أنا الحكم بينكما لحكمت لك ، فرجع حسان إلى عمر فأخبره فبعث عمر إلى ابن عباس فأتاه فسأله عما قال حسان ، فصدقه ، فسأله عن الحجة في ذلك فأخبره ، فرجع عمر إلى قول ابن عباس ، وحكم لحسان ، فخرج وهو آخذ بيد ابن عباس وهو يقول (٤) :

إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه

رأيت له في كلّ منزلة (٥) فضلا

__________________

(١) ما بين معكوفتين زيادة استدركت عن الجليس الصالح ٤ / ٩٠ ـ ٩١.

(٢) الزيادة بين معكوفتين عن الجليس الصالح ٤ / ٩١.

(٣) زيادة بين معكوفتين عن الجليس الصالح ٤ / ٩١.

(٤) البيتان في الاستيعاب ٢ / ٣٥٤ (هامش الإصابة) وسير الأعلام ٣ / ٣٥٣ والثاني في أنساب الأشراف ٤ / ٥٧ والإصابة ٢ / ٣٣٠ وديوان حسان ص ٢١٢ باختلاف الرواية.

(٥) الاستيعاب : «أحواله» وفي سير الأعلام : «أقواله».

٢٠٧

قضى (١) وشفى ما في النفوس فلم يدع

لذي إربة (٢) في القول جدا ولا هزلا

ورويت هذه الأبيات في ابن عباس في قصة أخرى (٣).

قال المدائني : تكلم رجل عند ابن عباس ، فأكثر السّقط في كلامه ، فالتفت ابن عباس إلى عبد له فأعتقه ، فقيل له لم أعتقت عبدك؟ قال : شكرا لله إذ لم يجعلني مثل هذا. ثم أنشد المدائني :

عيّ الشريف يشين منصبه

وترى الوضيع يزينه أدبه

ولما (٤) جاء معاوية نعي الحسن بن علي استأذن ابن عباس على معاوية ، وكان ابن عباس قد ذهب بصره ، فكان يقول لقائده : إذا دخلت بي على معاوية فلا تقدني ، فإن معاوية يشمت بي. فلما جلس ابن عباس قال معاوية : لأخبرنه بما هو أشدّ عليه من أن أشمت به. فلما دخل قال : يا أبا العباس. هلك الحسن بن علي ، فقال ابن عباس : إنا لله وإنا إليه راجعون. وعرف ابن عباس أنه شامت به ، فقال : أما والله يا معاوية لا تسدّ حفرتك (٥) ، ولا تخلد بعده ، ولقد أصبنا بأعظم منه ، فخرنا الله بعده (٦) ، ثم قام. فقال معاوية : لا والله ، ما كلمت أحدا قط أعدّ جوابا ولا أعقل من ابن عباس.

وعن ربعي بن حراش قال (٧) : استأذن عبد الله بن العباس على معاوية بن أبي سفيان ، وقد تحلّقت (٨) عنده بطون قريش ، وسعيد بن العاص جالس عن يمينه. فلما نظر إليه

__________________

(١) الاستيعاب والإصابة وأنساب الأشراف وسير الأعلام : كفى.

(٢) في سير الأعلام : أرب.

(٣) انظر الإصابة ٢ / ٣٣٠ وأنساب الأشراف ٤ / ٥٧.

(٤) رواه الطبراني في المعجم الكبير ١٠ / ٢٦٦ رقم ١٠٦٢٢ والهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ١٧٨ ـ ١٧٩ باختلاف الرواية.

(٥) زيد في المصدرين : ولا تأكل رزقه.

(٦) في المعجم الكبير : ولقد رزئنا بأعظم فقدا منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما خذلنا الله بعده.

(٧) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ١٠ / ٢٣٨ وما بعدها رقم ١٠٥٨٩ والهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ١٥٨ وقال : فيه من لم أعرفهم. وفي المعجم الكبير من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة ثنا هاشم بن محمد بن سعيد بن خثيم الهلالي ، ثنا أبو عامر الأسدي ، ثنا موسى بن عبد الملك بن عمير عن أبيه عن ربعي بن حراش قال ، وذكره.

(٨) في المعجم الكبير : «تحلفت» وفي المجمع : علقت.

٢٠٨

معاوية مقبلا (١) قال لسعيد : والله لألقينّ على ابن عباس مسائل يعيا بجوابها ، فقال سعيد : ليس مثل ابن عباس يعيا بمسائلك. فلما جلس قال له معاوية : ما تقول في أبي بكر الصديق؟ قال : رحم الله أبا بكر ، كان والله للقرآن تاليا ، وللشر قاليا ، وعن المثل (٢) نائيا ، وعن الفحشاء ساهيا ، وعن المنكر ناهيا ، وبدينه عارفا ، ومن الله خائفا ، ومن المهلكات جانفا ، يخاف فلتة الدهر ، وإحياء (٣) بالليل قائما ، وبالنهار صائما ، ومن دنياه سالما ، وعلى عدل البرية عازما ، وبالمعروف آمرا ، وإليه صائرا (٤) ، وفي الأحوال شاكرا ، ولله بالغدو والآصال (٥) ذاكرا ، ولنفسه في المصالح قاهرا ، فاق أصحابه ورعا وكفافا ، وزهدا وعفافا ، وسرّا (٦) وحياطة ، فأعقب الله من ثلبه اللعائن إلى يوم التغابن.

قال معاوية : فما تقول في عمر بن الخطاب؟ فقال : رحم الله أبا حفص ، كان والله حليف الإسلام ، ومأوى الأيتام ، ومحل الإيمان ، وملاذ الضعفاء ، ومعقل الحنفاء ، للخلق حصنا ، وللناس (٧) عونا ، قام بحق الله صابرا محتسبا ، حتى أظهر الدين (٨) ، وفتح الديار ، وذكر الله في الإفطار (٩) والمنار (١٠) ، وعلى التلال وفي الضواحي والبقاع. عبد الجبّار في الرخاء والشدة شكورا (١١) له ، وفي كل وقت وآن ذكورا ، فأعقب الله من يبغضه اللعنة إلى يوم الحسرة.

قال معاوية : فما تقول في عثمان؟ قال : رحم الله أبا عمرو ، كان والله أكرم الحفدة ،

__________________

(١) ليست في المعجم الكبير.

(٢) في المصدرين : الميل.

(٣) كذا وليست اللفظة في المعجم ولا في المجمع.

(٤) في المعجم الكبير : صابرا.

(٥) في المجمع : والرواح.

(٦) في المعجم الكبير والمجمع : وبرا.

(٧) في المعجم الكبير : حتى أظهر الله به الدين.

(٨) في مجمع الزوائد : ولليأس عونا.

(٩) في المعجم الكبير والمجمع : والأقطار.

(١٠) في المعجم الكبير والمجمع : والمناهل.

(١١) كذا وردت العبارة في مختصر ابن منظور : عبد الجبار في الرخاء والشدّة شكورا ، والذي في المعجم الكبير والمجمع : وعند الخفا وقورا ، وفي الرخاء والشدة شكورا.

٢٠٩

وأفضل البررة ، وأصبر القراء (١) ، هجّادا (٢) بالأسحار ، كثير الدموع عند ذكر الدار (٣) ، دائب الفكر فيما يعنيه بالليل والنهار ، نهاضا إلى كل مكرمة ، سعّاء إلى كل منقبة ، فرّارا من كل موبقة ، صاحب جيش العسرة (٤) ، وصاحب البئر (٥) ، وختن المصطفى عليه‌السلام على ابنتيه ، فأعقب الله من ثلبه الندامة إلى يوم القيامة.

قال معاوية : فما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال : رحم الله أبا الحسن ، كان والله علم الهدى ، وكهف التقى ، ومحلّ الحجا ، وطود النّدى (٦) ، ونور السفر (٧) في ظلم الدجى ، وداعيا إلى المحجّة العظمى ، وعالما بما في الصحف الأولى ، وقائما بالتأويل والذكرى متعلقا بأسباب الهدى ، وتاركا للجور والأذى ، وحائدا عن طرقات الردى ، وخير من آمن واتقى ، وسيّد من تقمّص وارتدى ، وأفضل من حجّ وسعى ، وأسمح من عدل وسوّى ، وأخطب أهل الدنيا سوى الأنبياء والمصطفى ، وصاحب القبلتين ، وزوج خير النساء ، وأبو السّبطين ، لم تر عين مثله ، ولا ترى أبدا حتى القيامة واللقاء. فعلى من لعنه لعنة الله والعباد إلى اليوم القيامة.

قال معاوية : فما تقول في طلحة والزبير؟ قال : رحمة الله عليهما ، كانا والله عفيفين ، مسلمين ، برّين ، طاهرين ، مطهّرين ، شهيدين ، عالمين بالله ، لهما النصرة القديمة والصحبة الكريمة ، والأفعال الجميلة ـ وفي حديث آخر : زلّا زلّة الله غافرها لهما.

قال : ما تقول في العباس بن عبد المطلب؟ قال : رحم الله أبا الفضل ، كان والله صنو أبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرّة عين صفي الله ، لهميم (٨) الأقوام ، وسيّد الأعمام ، قد علا بصرا بالأمور ، ونظرا في العواقب (٩). علم تلاشت الأحساب عند ذكر فضيلته ، وتباعدت الأنساب

__________________

(١) في المجمع : وأصبر الغزاة.

(٢) في مختصر ابن منظور : «هجاد» «والمثبت عن المجمع والمعجم الكبير.

(٣) كذا ، وفي المعجم الكبير والمجمع : الله.

(٤) كان عثمان بن عفان (رضي) قد جهز نصف جيش العسرة من ماله وهو جيش غزوة تبوك ، حيث حض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل الغنى على النفقة والحملان (انظر سيرة ابن هشام ٤ / ١٦١).

(٥) يعني بئر رومة ، وكان ماؤها يباع لابن السبيل ، فابتاعها عثمان بن عفان ووقفها على المسلمين وأباحها ابن السبيل.

(٦) في المعجم الكبير : طود النهى.

(٧) في المعجم الكبير والمجمع : نور السرى.

(٨) اللهميم واللهموم : الجواد من الناس والخيل (اللسان).

(٩) في المعجم الكبير : «نظر في العواقب» وفي المجمع : «نظرا بالعواقب».

٢١٠

عند فخر عشيرته ، ولم لا يكون كذلك؟ وقد ساسه أكرم من ذهب (١) وهب : عبد المطلب أفخر من مشى من قريش وركب.

قال معاوية : فلم سمّيت قريش (٢) قريشا؟ قال : لدابة تكون في البحر هي أعظم دواب البحر خطرا ، لا تظفر بشيء من دواب البحر إلّا أكلته ، فسميت قريشا لأنها أعظم العرب فعالا. فقال : هل تروي في ذلك شعرا؟ فأنشده قول الجمحي (٣) :

وقريش هي التي تسكن البحر به

ا سمّيت قريش قريشا

تأكل الغثّ والسمين ولا تترك

لذي الجناحين ريشا

هكذا في البلاد (٤) حيّ قريش

يأكلون البلاد أكلا كشيشا (٥)

ولهم آخر الزمان نبيّ

يكثر القتل فيهم والخموشا

يملأ (٦) الأرض خيله ورجال

يحشرون المطيّ حشرا كميشا (٧)

فقال معاوية : صدقت يا ابن عباس ، أشهد أنك لسان أهل بيتك.

فلما خرج ابن عباس من عنده قال معاوية لمن عنده : ما كلّمته قط إلا وجدته مستعدا.

وفي حديث آخر قال : فأمر له معاوية بأربعة آلاف درهم فقبضها ثم صرفها في بني عبد المطلب. فقالوا له : لا نقبل صدقة. قال : إنها ليست بصدقة ، وإنّما هي هدية لم يبق منها

__________________

(١) في المجمع والمعجم الكبير : دبّ.

(٢) اختلف النسابون في قريش ، فمنهم من قال : اسم شخص ، ومنهم من قال : اسم حي أو اسم قبيلة. قيل : هو قريش ابن بدر بن يخلد بن النضر وبه سميت قريشا. وقيل : إن النضر بن كنانة كان اسمه قريشا ، وقيل القرشي.

وقيل إن فهر بن مالك هو جماع قريش ، وقيل قريش ولده لا قريش غيرهم ، ولا يكون قريشي إلّا منهم ، ولا من ولد فهر أحد إلّا قريشي. وقيل : إن قريشا اسم لفهر وأن فهرا لقب عليه. وقال المبرد : إن التسمية لقريش وقعت لقصي بن كلاب. وقال القلقشندي : إن قريش قبيلة من كنانة غلب عليهم اسم أبيهم فقيل لهم : قريش على ما ذهب إليه جمهور النسابين وهو الأصح من الوجهين عند الشافعية (انظر الأنساب ـ وتاريخ الطبري ، والكامل لابن الأثير ، والبداية والنهاية ، وجمهرة الأنساب ، ونهاية الأرب ، وطبقات ابن سعد).

(٣) الأبيات في البداية والنهاية ٢ / ٢٥٥ ودلائل النبوة للبيهقي ١ / ١٨٠ ـ ١٨١.

(٤) في المعجم الكبير والمجمع : الكتاب.

(٥) كشيش الجمل أول هديره ، وفي البداية والنهاية : «كميشا» وفي المجمع : «حشيشا.

(٦) في المعجم الكبير : «علا».

(٧) الكميش : السريع في أموره.

٢١١

شيء ، فبلغ ذلك معاوية فكتب إليه يلومه وأن يقصر عن ذلك فكتب إليه يقول (١) :

بخيل يرى بالجود عارا وإنما

على المرء عار أن يضنّ ويبخلا

إذا المرء أثرى ثم لم يرج نفعه

صديق فلاقته المنيّة أوّلا

أنشد المبرد لعبد الله بن عباس ، كتب به إلى معاوية بن أبي سفيان :

إني (٢) وإن أغضيت عن غير بغضة

لراع لأسباب المودّة حافظ

وما زال يدعوني إلى الصّرم ما أرى

فآبى وتثنيني عليك الحفائظ

وأنتظر العتبى وأغضي على القذى

وألبس طورا مرّه وأغالظ

وأنتظر الإقبال بالودّ منكم

وأصبر حتى أوجعتني المغايظ

وجرّبت ما يسلي المحبّ عن الهوى

وأقصرت والتجريب للمرء واعظ

لما (٣) خرج الحسين بن علي إلى الكوفة اجتمع ابن عباس وعبد الله بن الزبير بمكة فضرب ابن عباس جنب ابن الزبير وتمثّل (٤) :

يا لك من قبّرة (٥) بمعمر

خلا لك الجوّ (٦) فبيضي واصفري

ونقري ما شئت أن تنقّري

خلا لك والله يا ابن الزبير الحجاز. وسار الحسين إلى العراق ، فقال ابن الزبير لابن عباس : والله ما ترون إلا أنكم أحقّ بهذا الأمر من سائر الناس ، فقال له ابن عباس : إنما يرى من كان في شكّ ، فأما نحن من ذلك فعلى يقين ، ولكن أخبرني عن نفسك : لم زعمت أنك أحق بهذا الأمر من سائر العرب؟ قال ابن الزبير : [لشرفي](٧) عليهم قديما لا تنكرونه قال :

__________________

(١) نسب البيتان بحواشي مختصر ابن منظور إلى الحجاج بن علاط السلمي.

(٢) في البيت خرم.

(٣) رواه الذهبي في سير الأعلام ٣ / ٣٥٤ من طريق العتبي عن أبيه.

(٤) الرجز ينسب لطرفة بن العبد ديوانه ط. صادر ص ٤٦ وفيه يقال إن طرفة خرج مع عمه في سفر وهو ابن سبع سنين ، فنزلوا على ماء فذهب طرفة بفخ له إلى مكان اسمه معمر فنصبه للقنابر ، وبقي عامة يومه لم يصد شيئا ، ثم حمل فخه وعاد إلى عمه ، فحملوا ورحلوا من ذلك المكان ، فرأى القنابر يلقطن نثر لهن من الحب.

ويقال إن هذه الأبيات رويت لكليب أخي مهلهل ، ولعل طرفة استشهد بها. والأبيات في تاريخ الطبري ٥ / ٣٨٤ والبداية والنهاية ٨ / ١٦٠ وسير الأعلام ٣ / ٢٩٧ و ٣٥٤ وتاريخ الإسلام (٦١ ـ ٨٠) ص ٩.

(٥) ويروى : قنبرة. ضرب من الطير يشبه الحمّر.

(٦) في سير الأعلام ٣ / ٢٩٧ البر.

(٧) بياض بأصل مختصر ابن منظور ، استدركت اللفظة عن سير الأعلام.

٢١٢

فأيّما أشرف ، أنت أم من شرفت به؟ قال : إن الذي شرفت به زادني شرفا. قال : وعلت أصواتهما ، فقال ابن أخ لعبد الله بن الزبير : يا ابن عباس ، دعنا من قولك ، فو الله لا تحبونا يا بني هاشم أبدا. قال : فخفقه عبد الله بن الزبير بالنعل وقال : أتتكلم وأنا حاضر؟! فقال له ابن عباس : لم ضربت الغلام وما استحق الضرب؟! وإنما يستحق الضرب من مرق ومذق (١). قال : يا ابن عباس ، أما تريد أن تعفو عن كلمة واحدة قال : إنما نعفو عمن أقر ، فأما من هرّ فلا. قال : فقال ابن الزبير : فأين الفضل؟ قال ابن عباس : عندنا ـ أهل البيت ـ لا نضعه في غير موضعه فنذمّ ، ولا نزويه عن أهله فنظلم. قال : أولست منهم؟ قال : بلى إن نبذت الحد ، ولزمت الجدد (٢). قال : واعترض بينهما رجال من قريش فأسكتوهما.

وعن ابن عباس قال : لو أن العلماء أخذوا العلم بحقه لأحبهم الله عزوجل والملائكة والصالحون من عباده ، ولهابهم الناس ، لفضل العلم وشرفه.

قال جندب لابن عباس (٣) : أوصني بوصية ، قال : أوصيك بتوحيد الله ، والعمل له ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة. فإن كل خير أنت آتيه بعد هذه الخصال منك مقبول وإلى الله مرفوع. يا جندب ، إنك لمن تزداد (٤) من يومك إلا قربا ، فصلّ صلاة مودّع ، وأصبح في الدنيا كأنك غريب مسافر ، فإنك من أهل القبور ، وابك على ذنبك ، وتب من خطيئتك ، ولتكن الدنيا أهون عليك من شسع نعليك ، وكأن قد فارقتها ، وصرت إلى عدل الله ، ولن تنتفع بما خلّفت ، ولن ينفعك إلا عملك.

قال ابن بريدة (٥) : رأيت ابن عباس آخذا بلسانه وهو يقول : ويحك ، قل خيرا تغنم ، أو اسكت (٦) عن شرّ تسلم ، وإلا فاعلم أنك ستندم. قال : فقيل له : يا ابن عباس ، لم تقول هذا؟!

__________________

(١) مذق الود : لم يخلصه.

(٢) الجدد محركة وجه الأرض. وما استرق من الرمل وانحدر ، وفي المثل : من سلك الجدد أمن العثار ، يريد من سلك طريق الإجماع ، لكني عنه بالجدد ، ولعله المراد هنا.

(٣) الخبر رواه ابن كثير في البداية والنهاية ٦ / ٦٤.

(٤) في البداية والنهاية : لن تزدد.

(٥) رواه أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء ١ / ٣٢٧ ـ ٣٢٨ من طريق أحمد بن جعفر بن حمدان ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي ثنا عبد الوهاب عن سعيد الجريري عن رجل ، وذكره ، باختلاف الرواية. وابن كثير في البداية والنهاية ٦ / ٦٣.

(٦) في الحلية : «واسكت» بدلا من «أو اسكت».

٢١٣

قال : إنه بلغني أن الإنسان (١) ـ أراه قال ـ : ليس على شيء من جسده أشد حنقا أو غيظا يوم القيامة ـ لعله قال : منه ـ على لسانه إلا قال به خيرا أو أملى به خيرا.

قال وبرة المسلي (٢)(٣) : أوصى ابن عباس بكلمات ، لهن أحسن من الدّهم (٤) الموقوفة فقال لي : لا تكلّمن فيما لا يعنيك ، فإنه فضل ، ولا آمن عليك فيه الوزر ، ولا تكلّمن فيما يعنيك حتى ترى له موضعا ، فربّ متكلم بالحق قد تكلم بالحق في غير موضعه فعنت ، ولا تمارينّ سفيها ولا حليما ، فإن الحليم يقليك (٥) ، والسفيه يرديك (٦) ، ولا تذكرنّ أخاك إذا توارى عنك إلا بمثل الذي تحب أن يذكرك به إذا أنت تواريت عنه ، واعمل عمل رجل يعلم أنه مجزيّ بالإحسان ، مأخوذ بالإجرام. قال : فقال رجل عنده : يا أبا عباس ، هذه خير من عشرة آلاف. قال : فقال ابن عباس : كلمة واحدة منها خير من عشرة آلاف.

قال ابن عباس (٧) : لا يتم المعروف إلا بثلاثة : تعجيله ، وتصغيره عنده ، وستره ، فإنه إذا عجّله هيّأه (٨) ، وإذا صغّره عظّمه ، وإذا ستره فخّمه (٩)(١٠).

قال ابن عباس (١١) : أكرم الناس علي جليسي ، إن الذباب ليقع عليه فيؤذيني (١٢).

قيل لأن عباس (١٣) : من أكرم الناس عليك؟ قال : جليسي الذي يتخطى الناس حتى

__________________

(١) في الحلية : العبد.

(٢) هو وبرة بن عبد الرحمن المسلي ، أبو خزيمة الكوفي ، من بني مسلية بن عامر بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك ابن أدد ترجمته في تهذيب الكمال ١٩ / ٣٦٩.

(٣) الخبر رواه البلاذري في أنساب الأشراف ٤ / ٥٩ ـ ٦٠ من طريق الوليد بن صالح عن الفياض بن محمد بن عمرو ابن عيسى أنه بلغه عن وبرة بن عبد الرحمن المسلي أنه قال ، وذكره وابن كثير في البداية والنهاية ٦ / ٦٤.

(٤) في البداية والنهاية : خير من الخيل الدهم.

(٥) في البداية والنهاية : يغلبك.

(٦) في أنساب الأشراف : «يؤذيك» وفي البداية والنهاية : «يزدريك».

(٧) الخبر رواه البلاذري في أنساب الأشراف ٤ / ٥٧ من طريق محمد بن حاتم الثغري عن حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس ، وذكره ، وابن كثير في البداية والنهاية ٦ / ٦٤.

(٨) في أنساب الأشراف : هنّأته.

(٩) في أنساب الأشراف : إذا سترته أتممته.

(١٠) زيد في أنساب الأشراف : وإذا مطلته نكدته ونغصته.

(١١) رواه البلاذري في أنساب الأشراف من طريق عمرو بن محمد ، حدثنا أبو معاوية الضرير ، حدثني عمرو بن عثمان عن عبد الرحمن بن السائب عن ابن عباس.

(١٢) في أنساب الأشراف : «فيشق ذلك علي» بدلا من «فيؤذيني».

(١٣) رواه يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ ١ / ٥٣٤ من طريق عبد الرحمن بن هانئ النخعي قال : حدثنا عبد الله ابن المؤمل عن عبد الله بن أبي مليكة قال ، وذكره. وأنساب الأشراف ٤ / ٦٦ ورواه أبو بكر الخطيب في الفقيه والمتفقه ٢ / ١١١ والبداية والنهاية ٦ / ٦٤.

٢١٤

يجلس إلي ، لو استطعت ألا يقع الذباب على وجهه لفعلت.

وعن ابن عباس كان يقول (١) : ثلاثة لا أكافئهم (٢) : رجل ضاق مجلسي فأوسع لي ، ورجل كنت ظمآن فسقاني ، ورجل اغبرّت قدماه في الاختلاف على بابي ، ورابع (٣) لا أقدر على مكافأته ، ولا يكافئه عني إلا الله عزوجل : رجل حزبه أمر فبات ليلته ساهرا. فلما أصبح لم يجد لحاجته معتمدا غيري.

قال (٤) : وكان يقول : إني لأستحيي من الرجل يطأ بساطي ثلاث مرات ثم لا يرى عليه أثر من أثري.

قال ابن عباس (٥) : ما بلغني عن أخ لي مكروه قط إلا أنزلته أحد ثلاثة منازل : إن كان فوقي عرفت له قدره ، وإن كان نظيري تفضّلت عليه ، وإن كان دوني لم أحفل به. وهذه سيرتي في نفسي ، فمن رغب عنها فأرض الله واسعة.

ولما أصيبت عين ابن عباس نحل جسمه. فلما ذهبت الأخرى عاد لحمه ، فقيل له في ذلك ، فقال : أصابني ما رأيتم في الأولى شفقة على الأخرى ، فلما ذهبتا اطمأن قلبي (٦).

قال عكرمة (٧) : لما وقع الماء في عين ابن عباس قيل له : تنزع الماء من عينيك ، على أنك لا تصلي سبعة أيام ، فقال : لا إنه من ترك الصلاة سبعة أيام وهو يقدر عليها لقي الله وهو عليه غضبان (٨).

__________________

(١) رواه البلاذري في أنساب الأشراف ٤ / ٦٦ من طريق سعيد بن الربيع الضبي ، حدثنا عبد الجبار بن الورد عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس وذكره. وابن كثير في البداية والنهاية ٦ / ٦٤.

(٢) في أنساب الأشراف : لا أقدر على مكافأتهم.

(٣) في أنساب الأشراف : ورابع هو أعظمهم حقا علي.

(٤) القائل عبد الله بن أبي مليكة ، راوي الخبر السابق عن ابن عباس.

(٥) رواه ابن كثير في البداية والنهاية ٦ / ٦٤.

(٦) رواه ابن كثير في البداية والنهاية ٦ / ٦٤ من طريق أبي القاسم البغوي : حدثنا علي بن الجعد ، حدثنا شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس ، وذكره.

(٧) رواه ابن الجوزي في صفة الصفوة ١ / ٧٥٤ من طريق ميمون بن مهران قال : سمعت ابن عباس ، فذكره.

(٨) ورواه ابن الجوزي في صفة الصفوة ١ / ٧٥٦.

٢١٥

وعن ابن عباس أنه قال حين أصيب بصرة : ما آسى على شيء من الدنيا إلا لو أني كنت مشيت إلى بيت الله عزوجل ، فإني سمعت الله عزوجل يقول : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [سورة الحج ، الآية : ٢٧].

وعن عكرمة قال (١) : كان ابن عباس في العلم بحرا ينشقّ له من الأمر الأمور. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اللهم ، ألهمه الحكمة ، وعلمه التأويل» [١٤٢٧٧]. فلما عمي أتاه ناس من أهل الطائف ، ومعهم علم من علمه ـ أو كتب من كتبه ـ فجعلوا يستقرءونه ، وجعل يقدّم ويؤخر. فلما رأى ذلك قال : إني تلهت من مصيبتي هذه ، فمن كان عنده علم من علمي ، أو كتب من كتبي فليقرأ علي ، فإن إقراري له به كقراءتي عليه. قال : فقرءوا عليه ، زاد في حديث آخر : ولا يكن في أنفسكم من ذلك شيء.

تله الرجل إذا تحير. والأصل وله. والعرب قد تقلب الواو تاء ، يقولون : تجاه ، والأصل : وجاه (٢).

ولما (٣) وقعت الفتنة بين عبد الله بن الزبير وعبد الملك بن مروان ارتحل عبد الله بن عباس ومحمد بن الحنفيّة بأولادهما ونسائهما حتى نزلوا مكة ، فبعث عبد الله بن الزبير إليهما يبايعان فأبيا ، وقالا : أنت وشأنك ، لا نعرض لك ولا لغيرك (٤) ، فأبى ، وألحّ عليهما إلحاحا شديدا. وقال فيما يقول : والله لتبايعنّ أو لأحرقنّكم بالنار ، فبعثا أبا الطفيل عامر بن واثلة إلى شيعتهم بالكوفة وقالا : إنا لا نأمن هذا الرجل ، فمشوا في الناس ، فانتدب أربعة آلاف ، فحملوا السلاح حتى دخلوا مكة ، فكبروا تكبيرة سمعها أهل مكة ، وابن الزبير في المسجد ، فانطلق هاربا حتى دخل دار الندوة ، ويقال : تعلق بأستار الكعبة ، وقال : أنا عائذ الله.

قال : ثم ملنا إلى ابن عباس وابن الحنفيّة وأصحابهما ، وهم في دور قريب من المسجد

__________________

(١) رواه الذهبي في سير أعلام النبلاء ٣ / ٣٥٤.

(٢) التله : الحيرة ، تله الرجل يتله تلها : حار ، ورأيته يتتله أي يتردد متحيرا. وقيل أصل التله بمعنى الحيرة : الوله ، قلبت الواو تاء ، وقد وله يوله. وتله يتله ، وقيل : كان في الأصل ائتله يأتله ، فأدغمت الواو في التاء ، فقيل : اتّله يتّله ، ثم حذفت التاء ، فقيل : تله يتله.

(٣) رواه الذهبي في سير الأعلام ٣ / ٣٥٦ عن عطية العوفي ، وتاريخ الإسلام (٦١ ـ ٨٠) ص ١٦٠ والبداية والنهاية ٦ / ٦٥.

(٤) في البداية والنهاية : وقال كل منهما : لا نبايعك ولا نخالفك.

٢١٦

قد جمع الحطب ، فأحاط بهم حتى بلغ رءوس الجدر ، لو أن نارا تقع فيه ما رئي منهم أحد حتى تقوم الساعة ، فأخّرناه عن الأبواب ، وقلنا لابن عباس : ذرنا نرح الناس منه ، فقال : لا ، هذا بلد حرام حرّمه الله ، ما أحلّه لأحد إلا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساعة ، فامنعونا وأجيرونا. قال : فتحملوا ، وإن مناديا ينادي في الجبل : ما غنمت سرية بعد نبيّها ما غنمت هذه السرية ، إنّ السرايا تغنم الذهب والفضة ، وإنما غنمتم دماءنا فخرجوا بهم حتى أنزلوهم منى ، فأقاموا ما شاء الله ، ثم خرجوا بهم إلى الطائف ، فمرض عبد الله بن عباس. قال : فبينما نحن عنده إذ قال في مرضه : إنّي أموت في خير عصابة على وجه الأرض أحبّهم إلى الله وأكرمهم عليه ، وأقربهم إلى الله زلفى ، فإن متّ فيكم فأنتم هم ، فما لبث إلا ثمان ليال بعد هذا القول حتى توفي ، رحمه‌الله. فصلى عليه محمد بن الحنفية ، وولينا حمله ودفنه.

قال منذر الثوري (١) : سمعت محمد بن علي بن أبي طالب يقول يوم مات ابن عباس : اليوم مات ربّاني هذه الأمة.

وفي رواية عن كلثوم (٢) : اليوم مات ربّاني العلم.

وعن بجير بن أبي عبيد قال (٣) : مات ابن عباس بالطائف. فلما خرجوا بنعشه جاء طير عظيم أبيض من قبل وجّ (٤) ـ زاد في رواية : يقال له الغرنوق (٥) ـ حتى خالط أكفانه ، ثم لم يروه ، زاد في رواية : قال : فكانوا يرون أنه علمه (٦).

قال ميمون بن مهران (٧) : شهدت جنازة عبد الله بن عباس بالطائف. فلما وضع

__________________

(١) رواه ابن الجوزي في صفة الصفوة ١ / ٧٥٨ وسير الأعلام ٣ / ٣٥٧ والمعرفة والتاريخ ١ / ٥٤٠.

(٢) كذا في مختصر ابن منظور «عن كلثوم» وفي أنساب الأشراف ٤ / ٧٢ من هذا الطريق عن كلثوم ، ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى ٢ / ٣٦٨ من طريق محمد بن عبد الله الأسدي عن سفيان الثوري عن سالم بن أبي حفصة عن أبي كلثوم ، وفي سير الأعلام ٣ / ٣٥٧ عن أبي كلثوم ، وتاريخ الإسلام (١٦٠).

(٣) رواه الذهبي في سير الأعلام ٣ / ٣٥٨ من طريق حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن بجير بن أبي عبيد ، وتاريخ الإسلام (١٦٠).

(٤) وادي وجّ : يعني الطائف ، انظر معجم البلدان ٥ / ٣٦١.

(٥) بهذه الرواية في المعرفة والتاريخ ١ / ٥٣٩ بسنده عن عبد الله بن يامين عن أبيه ، وسير الأعلام ٣ / ٣٥٨.

(٦) رواه ابن كثير في البداية والنهاية ٦ / ٦٥ نقلا عن عفان.

(٧) رواه أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء ١ / ٣٢٩ من طريق أبي الحسن علي بن محمد بن إبراهيم الإمام ثنا محمد ابن عيسى بن سليمان البصري ثنا حفص بن عمر أبو عمر البرمكي ثنا الفرات بن السائب عن ميمون بن مهران ورواه ابن الجوزي في صفة الصفوة ١ / ٧٥٧ ـ ٧٥٨.

٢١٧

ليصلّى عليه جاء طائر أبيض حتى دخل في أكفانه ، فالتمس فلم يوجد. فلما سوّي عليه سمعنا صوتا ، نسمع صوته ولا نرى شخصه (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) [سورة الفجر ، الآية : ٢٧ ـ ٣٠].

قال هشام بن محمد بن السائب : صلى محمد بن علي على عبد الله بن عباس ، وكبّر عليه أربعا ، وضرب على قبره فسطاطا (١).

قال ابن بكير : توفي عبد الله بن عباس سنة خمس وستين. ويقال : ثمان وستين. وصلى عليه محمد ابن الحنفيّة (٢) ، وأدخله من قبل القبلة ، وقيل : توفي سنة سبع وثمانين. وتوفي ابن الحنفية بعده.

وكان ابن عباس يصفّر لحيته (٣) ، وتوفي وسنّه ثنتان وسبعون سنة ، وقيل : إحدى وسبعون سنة ، وقيل : أربع وسبعون سنة. والصحيح قول من قال : إنه توفي سنة ثمان وستين. والله أعلم.

ولما دفن قال محمد بن الحنفية : مات والله اليوم حبر هذه الأمة.

قال الزبير : ويقال : قالت أم الفضل وهي ترقّص عبد الله بن عباس :

ثكلت نفسي وثكلت بكري

إن لم يسد فهرا وغير فهر

بحسب زاك وبذل الوفر

[٩٩٧٣] عبد الله بن العباس بن الوليد

ابن مزيد العذري البيروتي

[روى عن أبيه.

روى عنه سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني](٤).

__________________

(١) أنساب الأشراف ٤ / ٧١ من طريق آخر بسنده إلى عمران بن أبي عطاء.

(٢) تهذيب الكمال ١٠ / ٢٥٥.

(٣) تاريخ الإسلام (٦١ ـ ٨٠) ص ١٦٠.

[٩٩٧٣] ترجمته في الأنساب (البيروتي).

(٤) ما بين معكوفتين استدرك عن الأنساب.

٢١٨

حدث عن أبيه بسنده إلى حميد بن عبد الرحمن قال :

استوى معاوية على المنبر فقال : يا أهل المدينة ، أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «هذا يوم عاشوراء ، ولم يكتب الله علينا صيامه ، وأنا صائمه ، فمن شاء صامه ، ومن شاء أفطره» (١) [١٤٢٧٨].

[٩٩٧٤] عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل

ابن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف

أبو يحيى الهاشمي النوفلي

[روى عن أبيه عبد الله بن الحارث بن نوفل ، وعبد الله بن خباب بن الأرت ، وعبد الله ابن شداد بن الهاد ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وأم هانئ بنت أبي طالب ، روى عنه : عاصم بن عبيد الله ، وعبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ، وأخوه عون بن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري](٢).

حدث عبد الله بن عبد الله بن الحارث عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب (٣).

أنه اجتمع ربيعة بن الحارث وعباس بن عبد المطلب فقالا : والله ، لو بعثنا هذين

__________________

(١) رواه البخاري في (٣٠) كتاب الصوم ، ٦٩ باب صوم يوم عاشوراء رقم ٢٠٠٣ (١ / ٣٠٦) من طريق عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن. ورواه أحمد في المسند من طريق آخر عن حميد ٦ / ٢١ رقم ١٦٨٦٧ ، وليس فيهما عبد الله بن العباس بن الوليد بن مزيد.

[٩٩٧٤] ترجمته في تهذيب الكمال ١٠ / ٢٦١ وتهذيب التهذيب ٣ / ١٨٥ ونسب قريش ص ٨٦ وطبقات ابن سعد ٥ / ٢٣٣ والتاريخ الكبير ٥ / ١٢٦ والجرح والتعديل ٢ / ٢ / ٩١. وقال أبو حاتم : ويقال : عبيد الله ، وعبد الله أصح.

(٢) ما بين معكوفتين استدرك للإيضاح عن تهذيب الكمال ١٠ / ٢٦١.

(٣) رواه ابن الأثير في أسد الغابة ٣ / ٤٠٥ في ترجمة عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث ، من طريق الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث. والإصابة ١ / ٥٠٦ في ترجمة ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، ورواه أيضا ابن الأثير في أسد الغابة ٣ / ٦١ في ترجمة العباس بن عبد المطلب. وأنساب الأشراف ٤ / ٣٥ ورواه مسلم في كتاب الزكاة (٥١) باب رقم ١٠٧٢. من طريق عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي حدثنا جويرية عن مالك عن الزهري أن عبد الله بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب. وأبو داود في كتاب الخراج والإمارة والفيء رقم ٢٩٨٥.

٢١٩

الغلامين ـ قال : لي وللفضل بن عباس ـ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمرهما على هذه الصدقات فأدّيا ما يؤدّي الناس ، وأصابا ما يصيب الناس من المنفعة. قال : فبينا هما في ذلك جاء علي بن أبي طالب ، فقال : ما ذا تريدان؟ فأخبراه بالذي أرادا (١) فقال : لا تفعلا ، فو الله ما هو بفاعل ، فقالا : لم تصنع هذا؟ فما هذا منك إلا نفاسة علينا (٢) ، فو الله لقد صحبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونلت صهره فما نفسنا ذلك عليك ، فقال : أنا أبو حسن ، أرسلوهما ، ثم اضطجع. فلما صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الظهر سبقناه إلى الحجرة ، فقمنا عندها حتى مرّ بنا ، فأخذ بآذاننا ، ثم قال : «أخرجا ما تصرّران» (٣) ، ودخل ، فدخلنا معه ، وهو حينئذ في بيت زينب بنت جحش. قال : فكلمناه ، فقلت : يا رسول الله ، جئناك لتؤمّرنا على هذه الصدقات فنصيب ما يصيب الناس من المنفعة ، ونؤدّي إليك ما يؤدّي الناس. قال : فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورفع رأسه إلى سقف البيت حتى أردنا أن نكلمه. قال : فأشارت إلينا زينب من وراء حجابها كأنها تنهانا عن كلامه ، فأقبل فقال : «ألا إنّ الصدقة لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد ، إنما هي أوساخ الناس (٤) ، ادع لي محمية (٥) بن الجزء ـ وكان على العشور ـ وأبا سفيان بن الحارث. قال : فأتياه ، فقال لمحمية بن جزء : «أنكح هذا الغلام ابنتك» ـ للفضل ـ فأنكحه ، وقال لأبي سفيان : «أنكح هذا الغلام ابنتك» فأنكحني ، ثم قال لمحمية : «أصدق (٦) عنهما من الخمس» [١٤٢٧٩].

وحدث عبد الله بن الحارث بن نوفل قال : سألت لأجد أحدا يخبرني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبح في سفر. فلم أجد أحدا يخبرني بذلك ، حتى أخبرتني أم هانئ بنت أبي طالب أنه قدم عام الفتح فأمر بستر فستر عليه ، فاغتسل ثم سبّح ثمان ركعات.

وحدث عبد الله بن عبد الله : أن أباه عبد الله بن الحارث بن نوفل كان يسبّح سبحة

__________________

(١) يعني عبد المطلب بن ربيعة والفضل بن العباس.

(٢) معناه حسدا منك لنا.

(٣) معناه ما تجمعانه في صدوركما من الكلام ، وكل شيء قد جمعته فقد صررته.

(٤) إنما هي أوساخ الناس : معنى أوساخ الناس أنها تطهير لأموالهم وأنفسهم ، كما قال تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها).

(٥) انظر ترجمته في أسد الغابة ٣ / ٣٤٣.

(٦) أصدق عنهما من الخمس : أي أدّ عن كل منهما صداق زوجته ، يقال : أصدقتها إذا سميت لها صداقا ، وإذا أعطيتها صداقها. قال النووي : يحتمل أن يريد من سهم ذوي القربى من الخمس لأنهما من ذوي القربى ، ويحتمل أن يريد من سهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخمس.

٢٢٠