دروس في الرسائل - ج ٦

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٥

وضابط الحكومة : أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرّضا لحال الدليل الآخر ، ورافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه ، فيكون مبيّنا لمقدار مدلوله ، مسوقا لبيان حاله عليه ، نظير الدليل الدالّ على أنّه لا حكم للشكّ في النافلة أو مع كثرة الشكّ أو مع حفظ الإمام أو المأموم أو بعد الفراغ من العمل ، فإنّه حاكم على الأدلّة المتكفّلة لأحكام هذه الشكوك ، فلو فرض أنّه لم يرد من الشارع حكم الشكوك لا عموما ولا خصوصا ، لم يكن مورد للأدلّة النافية لحكم الشكّ في هذه الصور.

____________________________________

وتوضيح ما ذكره يتوقّف على بيان معنى الحكومة والورود والتخصيص والفرق بينها ، فنقول : إنّ ضابط الحكومة أن يكون أحد الدليلين ناظرا إلى مفاد الآخر وشارحا لمدلوله ، من دون فرق من كون الدليل الحاكم شارحا ومبيّنا لكميّة مدلول الدليل المحكوم بمدلوله اللفظي أو بغيره ، ولعلّ هذا هو مراد المصنف قدس‌سره.

فقوله : وضابط الحكومة ... إلى آخره ـ الظاهر في كون الحكومة هي أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي شارحا ومبيّنا لمفاد الآخر ـ يكون من باب المثال لا من باب الانحصار ، فقوام الحكومة إنّما هو أن يكون أحد الدليلين ناظرا إلى مفاد غيره ومبيّنا لكميّة مدلوله ولو واقعا ، ولا يعتبر فيها كون الحاكم بمدلوله اللفظي شارحا لمفاد الغير.

وكيف كان ، فصور الحكومة نظرا إلى تصرّف الدليل الحاكم في عقد وضع الدليل المحكوم وعقد حمله إدخالا أو إخراجا أربعة :

مثال التصرّف في عقد وضعه إدخالا وسعة ، كقوله : زيد عالم ، عقيب قوله : أكرم العلماء.

وإخراجا وضيقا ، كقوله : النحويّون ليسوا من العلماء ، بعد : أكرم العلماء.

ومثال التصرّف في عقد حمله إدخالا ، كقوله : تأديب اليتيم إكرام ، عقيب قوله : اليتيم واجب الإكرام.

وإخراجا كقوله : إطعامه منّة عليه ليس بإكرام ، عقيب قوله : اليتيم واجب الإكرام.

ثمّ الحكومة بالمعنى المتقدّم باعتبار كون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي شارحا للمراد من الدليل الآخر ، أو كون أحدهما رافعا لموضوع الحكم في الدليل الآخر على قسمين على ما في تقرير سيّدنا الاستاذ دام ظلّه :

٨١

____________________________________

القسم الأوّل : ما يكون لسان الدليل الحاكم لسان الشرح والتفسير ، بحيث لو لم يكن الدليل المحكوم موجودا لكان الدليل الحاكم لغوا ، كقوله عليه‌السلام : لا ربا بين الوالد والولد (١) فإنّه شارح للدليل الدالّ على حرمة الربا ، إذ لو لم يرد دليل على حرمة الربا لكان الحكم بعدم الربا بين الوالد والولد لغوا ، وكذا قوله : لا شكّ لكثير الشكّ بالنسبة إلى ما دلّ على وجوب البناء على الأكثر ثمّ الإتيان بصلاة الاحتياط ، إذ لو لم يرد دليل على وجوب البناء على الأكثر في باب الشكّ لكان قوله : لا شكّ لكثير الشكّ لغوا ، ثمّ الدليل الحاكم في المثالين يكون ناظرا إلى عقد الوضع ، غاية الأمر ينفي الحكم بلسان نفي الموضوع فيكون الدليل ممّا يتصرّف في عقد وضع الدليل المحكوم إخراجا وضيقا ، كما عرفت.

نعم ، قد يكون ناظرا إلى عقد الحمل كما في قوله عليه‌السلام : لا ضرر ولا ضرار ... إلى آخره (٢) وقوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٣) وغيرهما من أدلّة نفي الأحكام الضروريّة والحرجيّة فإنّها حاكمة على الأدلّة المثبتة للتكاليف بعمومها حتى في موارد الضرر والحرج.

القسم الثاني من الحكومة : أن يكون أحد الدليلين رافعا لموضوع الحكم في الدليل الآخر وإن لم يكن بمدلوله اللفظي شارحا له كما في القسم الأوّل. وهذا كحكومة الأمارات على الاصول الشرعيّة من البراءة والاستصحاب وقاعدة الفراغ وغيرها من الاصول الجارية في الشبهات الحكميّة أو الموضوعيّة ، فإنّ أدلّة الأمارات لا تكون ناظرة إلى أدلّة الاصول وشارحة لها ، بحيث لو لم تكن الاصول مجعولة لكان جعل الأمارات لغوا ، فإنّ الخبر مثلا حجّة سواء كان الاستصحاب حجّة أم لا ، ولا يلزم كون حجيّة الخبر لغوا على تقدير عدم حجيّة الاستصحاب ، إلّا أنّ الأمارات موجبة لارتفاع الاصول بالتعبّد الشرعي ولا تنافي بينهما ليدخل في التعارض.

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٤٧ / ١. الفقيه ٣ : ١٧٦ / ٧٩١. التهذيب ٧ : ١٨ / ٧٦. الوسائل ١٨ : ١٣٥ ، أبواب الربا ، ب ٧ ، ح ١.

(٢) الفقيه ٤ : ٢٤٣ / ٧٧٧. الوسائل ٢٦ : ١٤ ، أبواب موانع الإرث ، ب ١ ، ح ١٠.

(٣) الحج : ٧٨.

٨٢

____________________________________

والوجه في ذلك أنّ كلّ دليل متكفّل لبيان حكم لا يكون متكفّلا لتحقّق موضوعه ، بل مفاده ثبوت الحكم على تقدير وجود الموضوع ، وأمّا كون الموضوع محقّقا أو غير محقّق فهو خارج عن مدلول هذا الدليل.

ومن المعلوم أنّ الموضوع المأخوذ في أدلّة الاصول هو الشكّ ، وأمّا كون المكلّف شاكّا أو غير شاكّ ، فهو خارج عن مفادها. والأمارات ترفع الشكّ بالتعبّد الشرعي وتجعل المكلّف عالما تعبّديا ، وإن كان شاكّا وجدانيّا فلا يبقى موضوع للاصول كي تنافي الأمارات ، إذ مفاد البراءة الشرعيّة هو البناء العملي على عدم التكليف على تقدير الشك فيه ، فإذا دلّ خبر معتبر على ثبوت التكليف لم يبق شكّ فيه بالتعبّد الشرعي باعتبار حجيّة الخبر ، فهو عالم بالتكليف بحكم الشارع.

وكذا الكلام في الاصول الجارية في الشبهات الموضوعيّة ، كقاعدة الفراغ مثلا فإنّ موضوعها الشكّ في صحّة العمل وفساده بعد الفراغ عنه ، ومع قيام البيّنة على الفساد يكون المكلّف عالما بالفساد بحكم الشارع ، فلا يمكن الرجوع إلى قاعدة الفراغ ، لارتفاع الموضوع بالتعبّد الشرعي ، ولا منافاة بينهما وبين البيّنة أصلا ، إذ مفاد القاعدة هو البناء العملي على الصحّة على تقدير الشكّ في الصحّة والفساد ، ومفاد البيّنة ثبوت الفساد. انتهى ما في تقرير سيّدنا الاستاذ مع تلخيص منّا. هذا تمام الكلام في الحكومة.

وأمّا الورود : فهو عبارة عن رافعيّة أحد الدليلين لموضوع الآخر رفعا حقيقيّا واقعيّا ولكن بواسطة التعبّد والجعل الشرعي ، كالأمارات الشرعيّة بالنسبة إلى الاصول العقليّة ، حيث يكون موضوع حكم العقل بقبح العقاب هو عدم البيان وهو يرتفع حقيقة بخبر معتبر دالّ على ثبوت التكليف ، لأنّ المراد من البيان الذي اخذ عدمه موضوعا لحكم العقل أعمّ من البيان الذاتي ، أي : العلم ، ومن البيان الجعلي كالأدلّة الشرعيّة.

وكذا موضوع الاحتياط العقلي ـ وهو احتمال العقاب ـ يرتفع بخبر الثقة على نفي التكليف ، إذ خبر الثقة بعد حجيّته شرعا مؤمّن عن العقاب فلا يحتمل العقاب معه ، وكذا موضوع التخيير العقلي وهو عدم المرجّح يرتفع بخبر الثقة لأنّه مرجّح.

وأمّا التخصيص : فهو عبارة عن الخروج حكما مع وحدة الموضوع حقيقة من دون

٨٣

والفرق بينه وبين التخصيص : إنّ كون التخصيص بيانا للعامّ بحكم العقل الحاكم بعدم جواز إرادة العموم مع القرينة الصارفة ، وهذا بيان بلفظه للمراد ومفسّر للمراد من العامّ ، فهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير.

____________________________________

التصرّف في الموضوع في جانب العامّ أصلا.

وممّا ذكرنا ظهر الفرق بين الحكومة والورود والتخصيص.

أمّا الفرق بين الحكومة والورود ، فهو أنّ الحكومة في بعض الموارد وإن كانت بارتفاع موضوع الحكم في الدليل المحكوم بالدليل الحاكم ، إلّا أنّ ارتفاع موضوع الحكم في دليل المحكوم بالدليل الحاكم يكون تعبّديا وفي عالم التشريع كما عرفت ، وأمّا الانتفاء وارتفاع موضوع الحكم في الدليل المورود بعد التعبّد بالدليل الوارد تكويني وواقعي على ما عرفت.

ثمّ الفرق بين كلّ واحد منهما وبين التخصيص أظهر من الشمس ، إذ الخروج في مورد التخصيص حكمي فقط.

وبعبارة اخرى : إنّ الحاكم بيان ومفسّر لما هو المراد من المحكوم ، فيكون تخصيصا في الحقيقة فيما إذا كان الدليل المحكوم عامّا ، كما أنّ الخاصّ ـ أيضا ـ بيان لما هو المراد من العامّ ، إلّا أنّ كون الخاصّ بيانا لما هو المراد من العامّ يكون بحكم العقل الحاكم بعدم إرادة العموم مع ورود الخاصّ ، وكون الدليل الحاكم بيانا لما هو المراد من الدليل المحكوم يكون بلفظ الدليل الحاكم لا بحكم العقل ، كما أشار إليه بقوله :

والفرق بينه وبين التخصيص : إنّ كون التخصيص بيانا للعامّ بحكم العقل الحاكم بعدم جواز إرادة العموم مع [العمل بالخاصّ] لأنّ الخاصّ قرينة صارفة عقلا عن إرادة ظاهر العامّ ، لأنّ إرادة إكرام كلّ عالم بمقتضى قوله : أكرم العلماء ، لا تجتمع مع إرادة عدم إكرام النحاة بمقتضى قوله : لا تكرم النحاة.

وهذا بيان بلفظه للمراد ومفسّر للمراد من العامّ.

لأنّ المقصود من قوله : لا شكّ لكثير الشكّ هو أنّ الحكم الثابت للشكّ ـ كالبناء على الأكثر ـ ليس ثابتا لشكّ كثير الشكّ ، بل ثابت لغير هذا الشكّ ، فيخرج شكّ كثير الشكّ عن ذلك الحكم ، فيكون الدليل الحاكم مخصّصا للدليل المحكوم ، كما أشار إليه بقوله :

٨٤

ثمّ الخاصّ إن كان قطعيّا تعيّن طرح عموم العامّ ، وإن كان ظنّيا دار الأمر بين طرحه وطرح العموم.

____________________________________

فهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير.

وتوضيح المطلب على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي : إنّ للحكومة والتخصيص جهة اشتراك وجهة افتراق ، فيشتركان في أنّ كلّا منهما يفيد خروج بعض الأفراد عن حكم العامّ ، فكما أن قوله : لا تكرم النحاة ، يفيد خروجهم عن عموم العلماء في قوله : أكرم العلماء ، كذلك قوله : لا شكّ لكثير الشكّ يفيد خروج هذا الشكّ عن عموم قوله عليه‌السلام : إذا شككت بين الثلاث والأربع فابن على الأكثر (١) أعني : الأربع. وإلى هذه الجهة المشتركة أشار بقوله المتقدّم ، أي : فهو تخصيص ... إلى آخره.

ويفترقان في أنّ التخصيص يحصل بحكم العقل فيما إذا كان الدليلان متنافيين من دون أن يكون أحدهما ناظرا لفظا إلى حال الآخر ، كحكم العقل بأنّ عدم وجوب إكرام النحاة قرينة على عدم إرادة ظاهر أكرم العلماء ، لعدم إمكان الجمع بينهما ، والحكومة تحصل من دلالة نفس اللفظ بأن يكون لسان أحد الدليلين ناظرا إلى حال الآخر ومفسّرا له. فإنّ قوله : لا شكّ مع الكثرة ناظر إلى قوله عليه‌السلام : إذا شككت ... إلى آخره ، ويفسّره بأنّ المراد منه غير هذا الشكّ ، وإلى هذه الجهة الفارقة أشار بقوله : بعبارة التفسير.

ثمّ أشار إلى الفرق بين الحكومة والتخصيص من جهة اخرى بقوله :

ثمّ الخاصّ إن كان قطعيّا تعيّن طرح عموم العامّ.

أي : التخصيص إنّما يحصل بالنصوصيّة دون الظهور ، بخلاف الحكومة حيث تحصل بالظهور أيضا ، كما يأتي في كلام المصنف قدس‌سره.

وحاصل الكلام في هذا الفرق : إنّ الخاصّ إن كان قطعي الدلالة يحكم العقل بكونه قرينة صارفة لظاهر العامّ ، كما في قوله : ولا يجب إكرام النحاة بعد قوله : أكرم العلماء.

وإن كان الخاصّ ظنّي الدلالة كقوله فرضا : ينبغي إكرام النحاة ، بعد قوله : اكرم العلماء ، فلا يحكم العقل بكونه قرينة صارفة عن ظهور العامّ في العموم ، بل يصلح كلّ منهما لرفع

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢١٦ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ١٠.

٨٥

ويصلح كلّ منهما لرفع اليد بمضمونه على تقدير مطابقته للواقع عن الآخر ، فلا بدّ من الترجيح.

____________________________________

اليد عن الآخر ، كما أشار إليه بقوله :

ويصلح كلّ منهما لرفع اليد بمضمونه على تقدير مطابقته للواقع عن الآخر ... إلى آخره.

توضيح ذلك : إنّ قوله : ينبغي إكرام النحاة ، ظاهر في الندب ، فيكون صالحا للقرينيّة على عدم إرادة العموم عن العامّ ومحتمل للوجوب ، فيكون موافقا للعامّ ، وكذلك قوله : أكرم العلماء ، ظاهر في العموم ومحتمل للتخصيص.

وبعبارة اخرى : كما تحتمل مطابقة ظاهر «ينبغي» للواقع ، وكونه قرينة على رفع اليد عن ظاهر العامّ في العموم ، كذلك تحتمل مطابقة ظاهر العامّ للواقع ، وكونه قرينة على تأويل «ينبغي» بحمله على الوجوب فلا يحكم العقل ـ حينئذ ـ بكون الخاصّ قرينة صارفة عن ظهور العامّ في العموم ، بل تقديم كلّ منهما على الآخر يحتاج إلى الترجيح ، كما أشار إليه بقوله :

فلا بدّ من الترجيح أي : يحتاج تقديم أحد الظاهرين على الآخر إلى الترجيح بقرينة داخليّة كالأظهريّة ، أو خارجيّة كالمقام وغيره ؛ فيمكن الأخذ بظهور العامّ لأظهريّته ، كما في : أكرم العلماء كلّهم أجمعين ، وينبغي إكرام النحاة ، أو لقرينة المقام مثلا ، كما إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : إجلالا لمقام النحويّين ينبغي إكرام النحاة ، ويمكن الأخذ بظهور الخاصّ لأظهريّته ، كما قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : ولا بأس بإكرام النحاة ، أو لقرينة المقام بأن يقول بعد : أكرم العلماء : لا بأس بإكرام النحاة ، في مقام عدم الاعتناء بشأنهم. هذا مع ترجيح أحدهما على الآخر.

وأمّا مع التساوي ، فيدخل في تعارض الظاهرين اللذين لا يمكن جمعهما عرفا ، فلا بدّ في مادة الاجتماع من الرجوع إلى الأخبار العلاجيّة على ما يأتي تفصيل ذلك عند التكلّم في قاعدة الجمع ، وظاهر النائيني رحمه‌الله هو تقدّم الخاصّ على العامّ مطلقا لقرينيّته عرفا ، ولذا يقدّم الخاصّ المتّصل بالعامّ مع أضعفيّة ظهوره ، كما يقدّم ظهور «يرمي» على ظهور الأسد مع أنّ ظهور الأوّل إطلاقي وظهور الثاني وضعي.

٨٦

بخلاف الحاكم ، فإنّه يكتفى به في صرف المحكوم عن ظاهره ، فلا يكتفى بالمحكوم وصرف الحاكم عن ظاهره ، بل يحتاج إلى قرينة اخرى ، كما يتّضح ذلك بملاحظة الأمثلة المذكورة.

____________________________________

وفيه : إنّ تقديم ظهور مثل «يرمي» على ظهور الأسد أو ظهور الخاصّ المتّصل على العامّ ليس من أجل أنّ ما هو قرينة عرفا يقدّم ظاهره وإن كان أضعف ، بل لعدم انعقاد ظهور للكلام قبل الإتمام.

وقيل بأن الخاصّ لا أقلّ من أظهريّته أبدا فيقدّم على العامّ غير الآبي عن التخصيص. هذا تمام الكلام في العامّ والخاصّ على ما في شرح الاعتمادي.

وأمّا الحاكم والمحكوم ، فقد أشار إليه بقوله : بخلاف الحاكم حيث تقديمه على الدليل المحكوم لا يتوقّف على كونه نصّا أو أظهرا ، بل يكتفى به في صرف المحكوم عن ظاهره ، فلا يكتفى بالمحكوم وصرف الحاكم عن ظاهره ، بل يحتاج إلى قرينة اخرى ، كما يتّضح ذلك بملاحظة الأمثلة المذكورة.

وحاصل الكلام في المقام على ما في شرح الاعتمادي : إنّ الحكومة تحصل بالنصوصيّة وبالظهور ، بمعنى أنّه لا فرق بين أن يكون الدليل الحاكم نصّا كقوله : لا حكم لشكّ الإمام مع حفظ المأموم وبين أن يكون ظاهرا كقوله : إذا شكّ الإمام فليمض. لاحتمال إرادة المضي مع البناء على الأكثر.

وبالجملة ، إنّه لا فرق بينهما في كون كلّ منهما حاكما على عموم قوله : إذا شككت فابن على الأكثر ... إلى آخره ، مع أنّ الأوّل نصّ في عدم العبرة بشكّ الإمام ، والثاني ظاهر فيه لاحتمال إرادة المضي بانيا على الأكثر وإتيان الاحتياط. ولا يكون عموم إذا شككت ... إلى آخره ، قرينة على إرادة المضي بانيا على الأكثر وإتيان الاحتياط ، إلّا أن يقوم الإجماع مثلا على عدم الفرق بين شكّ الإمام وغيره ، والوجه في ذلك أنّ التخصيص يحصل بحكم العقل بكون الخاصّ قرينة صارفة عن ظهور العامّ في العموم ، فلا بدّ من قوّة الدلالة ، وإلّا فيمكن العكس كما مرّ ، وأمّا الحكومة فهي مقتضى نفس لسان الدليل فيكفي ظهوره لذلك.

ثمّ الفرق بين الحكومة والتخصيص لا ينحصر على ما ذكر بل بينهما فرق من جهات أخر :

٨٧

فالثمرة بين التخصيص والحكومة تظهر في الظاهرين حيث لا يقدّم المحكوم ولو كان الحاكم أضعف منه ، لأنّ صرفه عن ظاهره لا يحسن بلا قرينة اخرى هي مدفوعة بالأصل.

وأمّا الحكم بالتخصيص فيتوقّف على ترجيح ظهور الخاصّ ، وإلّا أمكن رفع اليد عن ظهوره وإخراجه عن الخصوص بقرينة صاحبه.

فلنرجع إلى ما نحن بصدده من ترجيح حكومة الأدلّة الظنيّة من الاصول ، فنقول : قد جعل الشارع للشيء المحتمل للحلّ والحرمة حكما شرعيّا ، أعني : الحلّ ، ثمّ حكم بأنّ الأمارة الفلانيّة ـ كخبر العادل الدالّ على حرمة العصير ـ حجّة ، بمعنى أنّه لا يعبأ باحتمال مخالفة مؤدّاه للواقع ، فاحتمال حلّية العصير المخالف للأمارة بمنزلة العدم لا يترتّب عليه حكم

____________________________________

منها : لزوم لغويّة الحاكم لو لا المحكوم بخلاف الخاصّ ، وذلك لصحّة النهي عن إكرام النحاة بقوله : لا تكرم النحاة ، من دون ورود أمر بإكرام العلماء.

ومنها : إنّ الحاكم تارة يوجب توسعة دائرة المحكوم ، واخرى يوجب تضييقها ، بخلاف الخاصّ فإنّه لتضييق دائرة العموم دائما.

ومنها : إنّ الحاكم والمحكوم يجب أن يكونا لفظيين ، بخلاف المخصّص حيث يصحّ أن يكون لبيّا.

فالثمرة بين التخصيص والحكومة تظهر في الظاهرين.

فيقدّم الحاكم على المحكوم وإن كان أضعف من المحكوم من حيث الظنّ الظهوري ، لأنّ صرفه أي : الحاكم عن ظاهره لا يحسن بلا قرينة اخرى كفرض قيام الإجماع على عدم الفرق بين شكّ الإمام وغيره في المثال المتقدّم. وإذا شكّ فى وجود القرينة فهي مدفوعة بالأصل. وأمّا الحكم بالتخصيص فيتوقّف على ترجيح ظهور الخاصّ بمرجّح داخلي أو خارجي ، كما عرفت.

وإلّا أمكن رفع اليد عن ظهوره وإخراجه عن الخصوص بقرينة صاحبه أي : ظهور العامّ ، وكيف كان فلنرجع إلى ما نحن بصدده من ترجيح حكومة الأدلة الظنيّة من الاصول ، فنقول : قد جعل الشارع للشيء المحتمل للحلّ والحرمة حكما شرعيّا ، أعني : الحلّ كحكم الشارع بحلّية شرب التتن المحتمل للحلّ والحرمة وحليّة العصير المحتمل لهما ثمّ حكم بأنّ الأمارة الفلانيّة ـ كخبر العادل الدالّ على حرمة العصير ـ إذا غلى حجّة ، بمعنى

٨٨

شرعي كان يترتّب عليه لو لا هذه الأمارة. وهو ما ذكرنا من الحكم بالحلّية الظاهريّة ، فمؤدّى الأمارات بحكم الشارع كالمعلوم لا تترتّب عليه الأحكام الشرعيّة المجعولة للمجهولات.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من الورود والحكومة جار في الاصول اللفظيّة أيضا.

____________________________________

أنّه لا يعبأ باحتمال مخالفة مؤدّاه للواقع ، فاحتمال حلّية العصير المخالف للأمارة بمنزلة العدم لا يترتّب عليه حكم شرعي كان يترتّب عليه لو لا هذه الأمارة.

وملخّص الكلام : إنّ معنى حجيّة الأمارة عبارة عن إلغاء احتمال الخلاف فيها وعدم الاعتناء به أصلا ، فلا يعتدّ باحتمال الحلّ في المثال المتقدّم بعد قيام الخبر على الحرمة ، ومعنى عدم الاعتناء باحتمال الحلّ هو عدم إجراء أصل الحلّ الذي كان جاريا لو لا الأمارة ، فحجيّة الأمارة مفسّرة لأصالة حلّ محتمل الحلّ ، بأنّ المراد من احتمال الحلّ الذي يجري فيه الأصل غير الاحتمال المخالف للخبر.

فمؤدّى الأمارات بحكم الشارع كالمعلوم لا تترتّب عليه الأحكام الشرعيّة المجعولة للمجهولات من البراءة وغيرها.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من الورود والحكومة لا اختصاص له بالاصول العمليّة ، بل جار في الاصول اللفظيّة أيضا ، وقد أورد عليه صاحب الكفاية ، حيث قال : إنّ الحكومة لا يعقل جريانها فيها ، إذ دليل حجيّتها السيرة وهي كسائر الأدلّة اللبيّة لا بدّ أن يكون موضوعها محرزا كميّته وكيفيّته بالجزم واليقين ، فكيف يمكن أن تنالها يد التصرّف بأي نحو كان فلا يجري فيها غير الورود». انتهى مورد الحاجة.

وقيل : إنّ الحكومة لا تجري في الأدلّة اللبيّة ، بل لا بدّ من أن يكون كلّ من الحاكم والمحكوم دليلا لفظيّا.

وكيف كان ، فتوضيح ما ذكره المصنف قدس‌سره من جريان الورود والحكومة في الاصول اللفظيّة يتوقف على بيان امور :

الأوّل : إنّ بناء العقلاء وأهل اللسان على العمل بالظواهر الناشئة من الاصول اللفظيّة ، كأصالة العموم وأصالة الحقيقة ونحوهما لا يخلو عن احتمالين :

أحدهما : أن يكون من باب التعبّد بأصالة عدم القرينة.

٨٩

فإنّ أصالة الحقيقة أو العموم معتبرة إذا لم يكن هناك قرينة على المجاز.

فإن كان المخصّص ـ مثلا ـ دليلا علميّا كان واردا على الأصل المذكور ، فالعمل بالنصّ القطعي في مقابل الظاهر كالعمل بالدليل العلمي في مقابل الأصل العملي ، وإن كان المخصّص ظنّيا معتبرا كان حاكما على الأصل ، لأنّ معنى حجيّة الظنّ جعل احتمال مخالفة

____________________________________

وثانيهما : أن يكون من باب الظنّ النوعي. وعلى التقديرين العمل بالظواهر مشروط بعدم القرينة على الخلاف ، غاية الأمر يمكن أن يكون مقيّدا بعدم العلم بالقرينة أو بعدم التعبّد بها.

الثاني : إنّ التخصيص وإن كان مباينا بحسب المفهوم مع كلّ واحد من الورود والحكومة كما عرفت ، فلا يمكن أن يكون المخصّص بعنوان كونه مخصّصا واردا أو حاكما على العامّ ، إلّا أنّ في العامّ جهتين : جهة كونه مجرى لأصالة العموم عند احتمال التخصيص ، وجهة كونه مفيدا للشمول والاستغراق وضعا ، إذ لفظ العلماء في قوله : أكرم العلماء ، يفيد الشمول وضعا ، فيصحّ ـ حينئذ ـ أن يكون الخاصّ كقوله : لا تكرم النحاة ، واردا أو حاكما على أصالة العموم ، ومخصّصا لأكرم العلماء.

الثالث : يمكن أن يكون الخاصّ قطعيّا من جميع الجهات ، أي : دلالة وصدورا وجهة ، بأن يكون نصّا من حيث الدلالة ومعلوما من حيث صدوره لبيان الواقع لا لتقيّة.

إذا عرفت هذه الامور ، فنقول : إنّا نفرض بناء العقلاء على العمل بالظواهر من باب التعبّد ، كما أشار إليه بقوله :

فإنّ أصالة الحقيقة أو العموم معتبرة إذا لم يكن هناك قرينة على المجاز في مورد أصالة الحقيقة والتخصيص في مورد العموم.

وحاصل الكلام كما أنّ اعتبار الاصول العمليّة والعمل بها مشروط على عدم قيام دليل على خلافها ، كذلك اعتبار الاصول اللفظيّة مشروط على عدم قيام القرينة على خلافها.

فإن كان المخصّص ـ مثلا ـ دليلا علميّا كان واردا على الأصل المذكور ، فالعمل بالنص القطعي دلالة وسندا وجهة في مقابل الظاهر كالعمل بالدليل العلمي في مقابل الأصل العملي.

فكما أنّ المتواتر الدالّ على حرمة العصير وارد على أصالة الحلّ لخروج العصير

٩٠

مؤدّاه للواقع بمنزلة العدم في عدم ترتّب ما كان يترتّب عليه من الأثر لو لا حجيّة هذه الأمارة ، وهو وجوب العمل بالعموم ، فإنّ الواجب ـ عرفا وشرعا ـ العمل بالعموم عند احتمال وجود المخصّص وعدمه.

فعدم العبرة باحتمال عدم التخصيص إلغاء للعمل بالعموم.

فثبت أنّ النصّ وارد على أصالة الحقيقة في الظاهر إذا كان قطعيّا من جميع الجهات وحاكم عليه إذا كان ظنّيّا في الجملة ، كالخاصّ الظنّي السند مثلا ، ويحتمل أن يكون

____________________________________

بسببه عن المجهول إلى المعلوم ، كذلك عدم وجوب إكرام النحاة إذا كان نصّا متواترا صادرا لبيان الواقع دون التقيّة وارد على أصالة العموم لارتفاع موضوعها ، أعني : عدم العلم بالقرينة بالعلم بها.

وإن كان المخصّص ظنّيا معتبرا من حيث السند أو الجهة أو منهما وكان من حيث الدلالة نصّا قطعيّا ، كالخبر الواحد النصّ في عدم وجوب إكرام النحاة في المثال المتقدّم كان حاكما على الأصل ، لأنّ معنى حجيّة الظنّ جعل احتمال مخالفة مؤدّاه للواقع بمنزلة العدم في عدم ترتّب ما كان يترتّب عليه من الأثر لو لا حجيّة هذه الأمارة ، وهو وجوب العمل بالعموم ، فإن الواجب ـ عرفا وشرعا ـ العمل بالعموم عند احتمال وجود المخصّص وعدمه بمقتضى أصالة العموم ، فإذا أمر بإكرام العلماء واحتمل وجود المخصّص يترتّب على هذا الاحتمال العمل بأصالة العموم ، فإذا ورد في خبر العادل عدم وجوب إكرام النحاة كان حاكما على أصالة العموم ، لأنّ معنى حجيّة الخاصّ هو عدم الاعتناء باحتمال عدم التخصيص ، ومعنى عدم الاعتناء به هو إلغاء أصالة العموم التي كانت تجري لو لا هذا الظنّ المعتبر ، كما أشار إليه بقوله :

فعدم العبرة باحتمال عدم التخصيص إلغاء للعمل بالعموم من جهة الالتزام بالتخصيص والعمل بالخاصّ ، فتكون حجيّة الظنّ تفسيرا للأصل الجاري عند احتمال عدم التخصيص بأنّ المراد من الاحتمال ما إذا لم يكن موردا للظنّ المعتبر.

فثبت أنّ النصّ وارد على أصالة الحقيقة في الظاهر إذا كان قطعيّا من جميع الجهات أي : دلالة وصدورا وجهة وحاكم عليه إذا كان ظنّيّا في الجملة ، كالخاصّ الظنّي السند مثلا.

أي : من باب المثال ، فيمكن أن يكون الخاصّ ظنّيا من حيث الجهة فقط أو من حيث

٩١

الظنّ ـ أيضا ـ واردا بناء على كون العمل بالظاهر ـ عرفا وشرعا ـ معلّقا على عدم التعبّد بالتخصيص ، فحالها حال الاصول العقليّة ، فتأمّل.

____________________________________

السند والجهة معا ، فالخاصّ القطعي من جميع الجهات يجتمع فيه عنوانان ، أي : الورود بالنسبة إلى أصالة العموم ، والتخصيص بالنسبة إلى عموم العلماء ، والخاصّ القطعي دلالة لا سندا أو جهة يجتمع فيه عنوانان ، أعني : حكومته بالنسبة إلى الاولى ، والتخصيص بالنسبة إلى الثانية.

والخاصّ الظنّي الدلالة معارض مع العامّ ، فتقديم كلّ واحد منهما على الآخر يحتاج إلى الترجيح بمرجّح داخلي أو خارجي كما عرفت سابقا. هذا تمام الكلام فيما إذا كان العمل بالظواهر مشروطا بعدم القرينة على الخلاف ، وأمّا إذا كان العمل بالظواهر مشروطا بعدم التعبّد بالقرينة فقد أشار إليه بقوله :

ويحتمل أن يكون الظنّ ـ أيضا ـ واردا بناء على كون العمل بالظاهر ـ عرفا وشرعا ـ معلّقا على عدم التعبّد بالتخصيص.

إذ ـ حينئذ ـ لا فرق في كون الخاصّ واردا على أصالة العموم بين العلم بالقرينة ، كما إذا كان الخاصّ قطعيّا من جميع الجهات وبين الظنّ بالقرينة ، إذ على كلا التقديرين فقد ثبت التعبّد بالقرينة ، لأنّ التخصيص تعبّد بالقرينة فيرتفع به موضوع الأصل وهو التعبّد بعدم القرينة.

فحالها حال الاصول العقليّة.

أي : فحال الاصول اللفظيّة حال الاصول العقليّة ، فكما أنّ موضوع الاصول العقليّة ، أعني : عدم البيان واحتمال العقاب وعدم الترجيح بالمرجّح يرتفع بالظنّ المعتبر ، كذلك موضوع الاصول ، أعني : عدم التعبّد بالقرينة يرتفع بالتعبّد بها وإن كانت ظنيّة.

وبعبارة اخرى : فكما أنّ موضوعات الاصول العقليّة ترتفع بوجود الدليل الاجتهادي ولو كان ظنيّا ، فكذلك موضوعات الاصول اللفظيّة ترتفع بالتعبّد بالتخصيص وإن كان المخصّص ظنيّا ، لكونها مقيّدة بعدم ورود التخصيص ، فإذا ورد ترتفع موضوعاتها فيكون الخاصّ واردا عليها.

فتأمّل لعلّه إشارة إلى أنّ حجيّة أصالة الظهور باعتبار العرف وبناء العقلاء معلّقة على

٩٢

هذا كلّه على تقدير كون أصالة الظهور من حيث أصالة عدم القرينة ، وأمّا إذا كان من جهة الظنّ النوعي الحاصل بإرادة الحقيقة الحاصل من الغلبة أو من غيرها ، فالظاهر أنّ النصّ وارد عليها مطلقا وإن كان النصّ ظنيّا ، لأنّ الظاهر أنّ دليل حجيّة الظنّ الحاصل بإرادة الحقيقة الذي هو مستند أصالة الظهور مقيّد بصورة عدم وجود ظنّ معتبر على خلافه ، فإذا وجد ارتفع موضوع ذلك الدليل ، نظير ارتفاع موضوع الأصل بالدليل.

ويكشف عمّا ذكرنا أنّا لم نجد ولا نجد من أنفسنا موردا يقدّم فيه العامّ ـ من حيث هو ـ على الخاصّ وإن فرض كونه أضعف الظنون المعتبرة.

____________________________________

عدم العلم بالقرينة لا على عدم التعبّد بالقرينة ، لأنّ بناء العرف والعقلاء غير مرتبط بنظر الشارع وتعبّده بشيء.

أو إشارة إلى ردّ أصل المطلب وهو اعتبار الظواهر من باب التعبّد بأصالة عدم القرينة ، بل حجيّة الظواهر تعبّدا دون إثباتها خرط القتاد.

وكيف كان ، فهذا تمام الكلام فيما إذا كان اعتبار الظواهر من باب التعبّد ، ثمّ أشار إلى اعتبارها من باب الظنّ النوعي بقوله :

وأمّا إذا كان من جهة الظنّ النوعي الحاصل بإرادة الحقيقة الحاصل أي : الظنّ بإرادة الحقيقة الحاصل من الغلبة لأنّ الغالب هو إرادة الظاهر أو من غيرها كالوضع فإنّه مقتضي لظهور اللفظ في المعنى الموضوع له.

فالظاهر أنّ النصّ وارد عليها مطلقا أي : وإن كان النصّ ظنّيا لأنّ اعتبار الظنّ الحاصل من الاصول اللفظيّة مقيّد بعدم وجود ظنّ معتبر على الخلاف ، فإذا حصل الظنّ المعتبر على الخلاف يرتفع به موضوع ذلك ، وهو معنى الورود ، كما مرّ غير مرّة.

ويكشف عمّا ذكرنا من كون حجيّة الظنّ النوعي مقيّدا بعدم ظنّ معتبر على خلافه أنّا لم نجد في كلام أحد ولا نجد من أنفسنا موردا يقدّم فيه العامّ من حيث هو أي : مع قطع النظر من جهة قوّته بمرجّح داخلي أو خارجي على ما عرفت على الخاصّ وإن فرض كونه أضعف الظنون المعتبرة.

وحاصل الكلام على ما في شرح الاعتمادي : إنّا نرى أنّ الخاصّ ـ النصّ ـ مقدّم على العامّ سواء كان سنده قطعيّا كالمتواتر أو ظنّيا أقوى من الظنّ في جانب العامّ أو أضعف

٩٣

فلو كان حجيّة ظهور العامّ غير معلّق على عدم الظنّ المعتبر على خلافه لوجد مورد نفرض فيه أضعفيّة مرتبة الظنّ الخاصّ من الظنّ العامّ حتى يقدّم عليه ، أو مكافأته له حتى يتوقّف ، مع أنّا لم نسمع موردا يتوقّف في مقابلة العامّ ـ من حيث هو ـ والخاصّ ، فضلا عن أن يرجّح عليه.

نعم ، لو فرض الخاصّ ظاهرا ـ أيضا ـ خرج عن النصّ وصارا من باب تعارض الظاهرين وربّما يقدّم العامّ. وهذا نظير ظنّ الاستصحاب على القول به ، فإنّه لم يسمع مورد يقدّم الاستصحاب على الأمارة المعتبرة المخالفة له ، فيكشف عن أنّ إفادته للظنّ أو اعتبار ظنّه النوعي مقيّد بعدم قيام ظنّ آخر على خلافه ، فافهم.

____________________________________

منه.

فلو كان حجيّة ظهور العامّ غير معلّق على عدم الظنّ المعتبر على خلافه لوجد مورد نفرض فيه أضعفيّة مرتبة الظنّ الخاصّ من الظنّ العامّ حتى يقدّم عليه ، أو مكافأته له حتى يتوقّف ، مع أنّا لم نسمع موردا يتوقّف في مقابلة العامّ ـ من حيث هو ـ والخاصّ ، فضلا عن أن يرجّح العامّ عليه أي : على الخاصّ ، فمن هنا تعلم بأنّ اعتبار ظهور العامّ معلّق على عدم ظنّ معتبر على خلافه.

نعم ، لو فرض الخاصّ ظاهرا أيضا كالعامّ خرج عن النصّ وصارا من باب تعارض الظاهرين وربّما يقدّم العامّ كما عرفت تفصيل ذلك سابقا ، من أنّ العامّ يقدّم على الخاصّ بمرجّح داخلي أو خارجي.

وهذا أي : تقييد اعتبار الظنّ النوعي بعدم ظنّ معتبر على خلافه نظير ظنّ الاستصحاب على القول به أي : باعتباره من باب الظنّ فإنّه لم يسمع مورد يقدّم الاستصحاب على الأمارة المعتبرة المخالفة له وإن كان أضعف الظنون كما لو دلّ خبر ضعيف منجبر بالشهرة على طهارة الماء الزائل تغيّره ، فإنّه يقدّم على استصحاب بقاء النجاسة ، فيكشف عن إفادته للظنّ الفعلي فلا يحصل مع الظنّ على الخلاف أو اعتبار ظنّه النوعي مقيّد بعدم قيام ظنّ آخر على خلافه فيكون كلّ ظنّ معتبر على الخلاف واردا على الاستصحاب على القول باعتباره من باب الظنّ.

فافهم لعلّه إشارة إلى أنّ تقديم النصّ الخاصّ على العامّ في جميع الصور مسلّم ، إلّا

٩٤

ثمّ إنّ التعارض ، على ما عرفت من تعريفه ، لا يكون في الأدلّة القطعيّة ، لأنّ حجيّتها إنّما هي من حيث صفة القطع ، والقطع بالمتنافيين أو بأحدهما مع الظنّ بالآخر غير ممكن ، ومنه يعلم عدم وقوع التعارض بين الدليلين تكون حجّيّتهما باعتبار صفة الظنّ الفعلي.

____________________________________

أنّه لا يكون دليلا على كون التقديم من باب الورود ، كي يكون كاشفا عن تقييد حجيّة الظواهر بعدم ظنّ معتبر على الخلاف ، بل يمكن أن يكون التقديم من باب الحكومة أو من باب الترجيح. هذا تمام الكلام في فرض التعارض بين الاصول والأدلّة ، وقد عرفت عدم التعارض بينهما ، لعدم اتّحاد موضوعهما وكون الأدلّة واردة أو حاكمة عليها.

ثمّ يبيّن المصنف قدس‌سره حكم فرض التعارض بين الأدلّة القطعيّة ، حيث يقول :

ثمّ إنّ التعارض ، على ما عرفت من تعريفه من تنافي مدلولي الدليلين كما لا يكون بين الاصول والأدلّة كما مرّ تفصيل ذلك ، كذلك لا يكون بين الأدلّة القطعيّة ، لاستحالة حصول القطع بالمتنافيين ، كما أشار إليه بقوله :

لأنّ حجيّتها إنّما هي من حيث صفة القطع ، والقطع بالمتنافيين أو بأحدهما مع الظنّ بالآخر غير ممكن.

وتوضيح الكلام في المقام يحتاج إلى مقدّمة ، وهي بيان صور تعارض الأدلّة ، فنقول : إنّ الدليل إمّا قطعي أو ظنّي ، والأوّل ما يكون قطعيّا من جميع الجهات ، أي : سندا ودلالة وجهة.

والثاني ما لم يكن كذلك من دون فرق بين ما يكون ظنّيا من جميع الجهات أو من البعض.

ثمّ المناط في حجيّة الدليل الظني إمّا هو الظنّ الشخصي أو النوعي ، ثمّ الثاني إمّا مطلق أو مقيّد بعدم الظنّ المعتبر على خلافه.

ثمّ صور التعارض مع إسقاط المكرّرات كما في التعليقة وشرح الاعتمادي عشرة ، ستة منها غير معقولة والباقي ممكن ومورد للبحث :

الصورة الاولى : هي تعارض القطعيّين.

والثانية : هي تعارض القطعي مع الظنّي الشخصي.

والثالثة : تعارض القطعي مع الظنّي النوعي المقيّد.

٩٥

لأنّ اجتماع الظنّين بالمتنافيين محال ، فإذا تعارض سببان للظنّ الفعلي ، فإن بقي الظنّ في أحدهما فهو المعتبر ، وإلّا تساقطا.

____________________________________

والرابعة : تعارض القطعي مع الظنّي النوعي المطلق.

والخامسة : تعارض الظنّي الشخصي بمثله.

السادسة : تعارض الظنّي الشخصي مع الظنّي النوعي المقيّد.

السابعة : تعارض الظنّي الشخصي مع الظنّي النوعي المطلق.

الثامنة : تعارض الظنّي النوعي المطلق مع مثله.

التاسعة : تعارض الظنّي النوعي المقيّد مع مثله.

العاشرة : تعارض الظنّي النوعي المطلق مع الظنّي النوعي المقيّد.

إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول : إنّ الوجه في عدم التعارض في الصورة الاولى والثانية والثالثة والرابعة ما أشار إليه بقوله : والقطع بالمتنافيين في تعارض القطعيّين أو بأحدهما مع الظنّ بالآخر ظنّا شخصيّا أو نوعيّا مقيّدا ، أو نوعيّا مطلقا غير ممكن ، أمّا الأوّل ـ أعني : عدم إمكان القطع بالمتنافيين ـ فواضح ، إذ لا يمكن الجمع بين القطع بقيام زيد مع القطع بعدم قيامه. وأمّا الثاني ـ أعني : عدم إمكان الجمع بين القطع والظنّ بالمتنافيين ـ فلأحد وجهين :

الأوّل : عدم حصول الظنّ على خلاف القطع.

والثاني : عدم اعتباره مع القطع على الخلاف ولو كان نوعيّا مطلقا.

ثمّ أشار إلى وجه عدم التعارض في الصورة الخامسة بقوله : لأنّ اجتماع الظنّين بالمتنافيين محال ، فإذا تعارض سببان للظنّ الفعلي كتعارض الاستصحابين في الماء النجس المتمّم كرّا بناء على اعتباره من باب الظنّ الشخصي ، فإن بقي الظنّ في أحدهما فهو المعتبر ، وإلّا تساقطا ويرجع في المثال المذكور إلى قاعدة الطهارة.

ومثال الصورة السادسة هو ما في شرح الاعتمادي من تعارض الإجماع المنقول مع الشهرة فيما إذا اقتضى الأوّل وجوب فعل ، والثاني عدم الوجوب ، وفرضنا حجيّة الأوّل من باب الظنّ الشخصي والثاني من باب الظنّ النوعي المقيّد ، ثمّ الوجه لعدم إمكان التعارض بينهما هو انتفاء مناط حجيّة الظنّ النوعي المقيّد بعد وجود الظنّ الشخصي على خلافه ،

٩٦

وقولهم : «إنّ التعارض لا يكون إلّا في الظنّين» يريدون به الدليلين المعتبرين من حيث إفادة نوعهما الظنّ. وإنّما أطلقوا القول في ذلك ، لأنّ أغلب الأمارات بل جميعها ـ عند جلّ العلماء ، بل ما عدا جمع ممّن قارب عصرنا ـ معتبرة من هذه الحيثيّة ، لا لإفادة الظنّ الفعلي بحيث يناط الاعتبار به.

ومثل هذا في القطعيّات غير موجود ، إذ ليس هنا ما يكون اعتباره من باب إفادة نوعه

____________________________________

فلا يعقل التعارض بين الحجّة وغير الحجّة.

ومثال الصورة السابعة هو نفس المثال المذكور مع فرض حجيّة الشهرة من باب الظنّ النوعي المطلق.

ومثال الصورة الثامنة كتعارض ظاهري أكرم العلماء ، وينبغي إكرام العلماء ، على مبنى بعض كما في شرح الاعتمادي.

ومثال تعارض الظنّي المطلق مع الظنّي النوعي المقيّد ما إذا تعارض الخبر مع الشهرة على فرض حجيّتها كذلك ، وإلى هذه الأربعة أشار بقوله :

وقولهم : «إنّ التعارض لا يكون إلّا في الظنّين» يريدون به الدليلين المعتبرين من حيث إفادة نوعهما الظنّ كما في الأمثلة الأربعة المتقدّمة ، حيث فرض فيها اعتبار الدليل من باب الظنّ النوعي.

وإنّما أطلقوا القول في ذلك ، حيث قالوا بأنّ التعارض يقع بين الظنّيّين ولم يقولوا بين الظنّيّين النوعيّين لأنّ أغلب الأمارات بل جميعها ـ عند جلّ العلماء ، بل ما عدا جمع ممّن قارب عصرنا ـ معتبرة من هذه الحيثيّة ، لا لإفادة الظنّ الفعلي بحيث يناط الاعتبار به.

نعم ، يظهر من صاحبي الإشارات والمناهل اعتبار الظنّ الشخصي في الظواهر ، ويظهر من الشيخ البهائي رحمه‌الله اعتباره في الاستصحاب وكذا من المحقّق الخوانساري على القول بكونه من الأمارات ، ويظهر من العضدي تقيّد حجيّة الاستصحاب بعدم الظنّ على خلافه ، ويظهر من الوحيد البهبهاني والمحقّق القمّي قدس‌سرهما اعتبار الظنّ الشخصي في جميع الأمارات ، لاعتبارها عندهما من باب الانسداد ، وعليه لا مجال لبحث التعارض أصلا ، كما في شرح الاعتمادي.

ومثل هذا في القطعيّات غير موجود ، إذ ليس هنا ما يكون اعتباره من باب إفادة نوعه

٩٧

للقطع ، لأنّ هذا يحتاج إلى جعل الشارع ، فيدخل ـ حينئذ ـ في الأدلّة الغير القطعيّة ، لأنّ الاعتبار في الأدلّة القطعيّة من حيث صفة القطع ، وهي في المقام منتفية ، فيدخل في الأدلّة الغير القطعيّة ، لا أنّ المراد من الدليل هو ما يكون اعتباره بجعل الشارع واعتباره.

إذا عرفت ما ذكرنا ، فاعلم أنّ الكلام في أحكام التعارض يقع في مقامين ، لأنّ المتعارضين إمّا أن يكون لأحدهما مرجّح على الآخر ، وإمّا أن لا يكون ، بل يكونا متعادلين متكافئين ، وقبل الشروع في بيان حكمهما لا بدّ من الكلام في القضيّة المشهورة ، وهي : أنّ

____________________________________

للقطع.

وإن لم يفده فعلا حتى يكون وقوع التعارض بينهما ـ أيضا ـ ممكنا ، بل ما من قطعي إلّا أنّه يفيد القطع فعلا.

إن قلت : النصّ المتواتر المخالف للعامّة دليل قطعي ربّما لا يفيد القطع ؛ إمّا للتعارض وإمّا لكون الشخص مسبوقا بالشبهة ، فهو دليل يفيد بنوعه القطع فيعقل تعارض دليلين مفيدين بنوعهما القطع.

قلت : الدليل المذكور لا يسمّى قطعيّا لأنّ هذا يحتاج إلى جعل الشارع ، فيدخل ـ حينئذ ـ في الأدلّة الغير القطعيّة فالمتواتر المذكور يدخل في خبر الواحد. كما في شرح الاعتمادي.

لأنّ الاعتبار في الأدلّة القطعيّة من حيث صفة القطع أي : الدليل القطعي هو ما كان حجّة ذاتا بوصف القطع وهي في المقام منتفية ، فيدخل في الأدلّة الغير القطعيّة.

إذا عرفت ما ذكرنا من تعريف التعارض وعدم تحقّقه بين الاصول والأدلّة ، وذلك لما عرفت من عدم اتّحاد موضوعهما ، ولا بين الأدلّة القطعيّة وذلك لما عرفت من استحالة القطع بالمتنافيين.

فاعلم أنّ الكلام في أحكام التعارض يقع في مقامين ، لأنّ المتعارضين إمّا أن يكون لأحدهما مرجّح على الآخر ، وإمّا أن لا يكون ، بل يكونا متعادلين متكافئين.

وحيث إنّ حكم المتعارضين بملاحظة الأصل الأوّلي والثانوي ، والتعادل والترجيح مختصّ بما إذا لم يمكن الجمع بينهما ، قال :

وقبل الشروع في بيان حكمهما لا بدّ من الكلام في القضيّة المشهورة المعروفة المتّفق

٩٨

الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح ـ والمراد بالطرح على الظاهر المصرّح به في كلام بعضهم وفي معقد إجماع بعض آخر أعمّ من طرح أحدهما لمرجّح في الآخر ـ فيكون الجمع مع التعادل أولى من التخيير ومع وجود المرجّح أولى من الترجيح.

____________________________________

عليها في الجملة وهي أنّ الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح.

وقبل البحث تفصيلا عن قاعدة الجمع ينبغي ذكر امور :

الأوّل : ما هو المقصود من الجمع.

الثاني : ما هو المراد من الإمكان.

الثالث : ما هو المراد من الأولويّة.

الرابع : بيان مورد القاعدة.

الخامس : بيان ما هو المدرك لها.

أمّا المقصود من الجمع فيتّضح بعد بيان ما يطلق عليه الجمع ، فنقول : إنّ الجمع له إطلاقات على ما في التعليقة :

منها : الجمع التبرّعي وهو في مورد يتعيّن فيه الطرح ، كما في الأخبار الموجودة في الشرع مع كون ظاهرها مخالفا لما هو ضروري في المذهب ، فإنّه يتعيّن فيها الطرح لكنه يبدأ فيها تأويلات مخالفة لظواهرها ، لكي لا يحصل التجرّي في طرح الأخبار. ومن هذا القبيل التأويلات التي تبدأ في الأخبار الواردة في الفروع حال التعارض بعد الأخذ بالراجح منها ، فإنّ المرجوح منها متعيّن الطرح ، وهذا الجمع لا يفيد علما ولا عملا وإنّما فائدته هو الأخذ بأخبار المذهب بعد إبداء التأويل في الأخبار المتعارضة وعدم الجرأة على طرحها.

ومنها : الجمع العملي وهو فيما لا يمكن الأخذ بمفاد الدليلين والحكم بتحقّقه في عالم الخارج ، وإنّما يجمع بينهما في مقام العمل. وهذا القسم من الجمع إنّما يأتي في طرق الموضوعات دون الأحكام.

ومنها : الجمع بحسب الدلالة بعد الأخذ بسندهما ، مثلا إذا قال زرارة : إنّ الإمام عليه‌السلام أمر بكذا فيكون واجبا ، وقال محمد بن مسلم : إن الإمام عليه‌السلام قال : لا يجب هذا ، فيمكن أن يقال ـ حينئذ ـ بصدور كليهما عنه عليه‌السلام ، وأمّا كون مدلول الخبرين كذا وأنّه وجوب أو استحباب فليس لازما للحكم بالصدور ، بل لا بدّ فيه في مقام تعيين المراد من تصرّف في المدلول

٩٩

قال الشيخ ابن أبي جمهور الأحسائي في غوالي اللآلئ ، على ما حكي عنه : «إنّ كلّ حديثين ظاهرهما التعارض يجب عليك أوّلا البحث عن معناهما وكيفيّة دلالة ألفاظهما ، فإن أمكنك التوفيق بينهما بالحمل على جهات التأويل والدلالات ، فاحرص عليه واجتهد في تحصيله ، فإنّ العمل بالدليلين مهما أمكن خير من ترك أحدهما وتعطيله بإجماع العلماء ، فإذا لم تتمكّن من ذلك أو لم يظهر لك وجهه ، فارجع إلى العمل بهذا الحديث ـ وأشار بهذا إلى

____________________________________

بمقتضى القواعد الأخر ، وهذا القسم من الجمع إنّما هو في طرق الأحكام ، ومحلّ الكلام إنّما هو الجمع بالمعنى الثاني والثالث دون الأوّل.

وأمّا المراد بالإمكان ، فهو الإمكان العرفي في مقابل الامتناع عندهم ، مثلا إرادة خلاف الظاهر من أحد الدليلين مع القرينة ممكنة عندهم ، وبدون القرينة والشاهد ممتنعة ، وقيل : إنّ المراد من الإمكان هو الإمكان العقلي ، فحينئذ يمكن الجمع بين الدليلين بالتصرّف في أحدهما أو في كليهما في أكثر الموارد لو لم نقل في جميعها.

ثمّ المراد من الأولويّة هو الوجوب ، فمفاد قاعدة الجمع هو أنّ الجمع مهما أمكن واجب فلا يجوز الطرح.

وبالجملة ، إنّ المراد بالأولى هو الواجب كما في آية : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ)(١) فلا يكون الأولى بمعنى التفضيل ، ولم يفهم صريحا من كلامهم أنّ المراد أولويّة الجمع من الطرح في جميع الموارد ـ أعني : في النصّ والظاهر ، والظاهر والأظهر ، والظاهرين ـ مطلقا ، أي : سواء كان الجمع محتاجا إلى تأويل كلا الدليلين معا أو إلى تأويل واحد منهما لا بعينه ، وسواء كان بين الدليلين تباين كلّي أو جزئي أو عموم وخصوص مطلق ، وإن تداخل بعض الأقسام في بعضها الآخر وإطلاق كلامهم يشمل ما ذكر كلّه ، كما أنّه يشمل ما ذكره المصنف قدس‌سره من أنّ الجمع مع وجود المرجّح أولى من الترجيح ومع عدمه أولى من التخيير ، بل يشمل كلامهم ما إذا كانا نصّين في الدلالة أيضا مع عدم إمكان تصديق كليهما معا في تمام مدلولهما ، كما يظهر من تمثيلهم بالبيّنتين والحكم بتنصيف دار تداعى الاثنان فيها ، على ما سيأتي مع إشكال فيه كما في التنكابني.

وأمّا مورد القاعدة فالمتيقّن منه هو ما إذا كان بين الدليلين عموم مطلق وما في حكمه.

__________________

(١) الأنفال : ٧٥.

١٠٠