تأويل مشكل القرآن

أبي محمّد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري

تأويل مشكل القرآن

المؤلف:

أبي محمّد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3553-8
الصفحات: ٣٦٦

الرجل وأكذبته ـ بقول الله تعالى : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) [الأنعام : ٣٣] ولا يكذبونك ، وذكر أنّ أكذبت وكذّبت جميعا ، بمعنى : نسبت إلى الكذب.

وليس ذاك كما تأوّل ، وإنما معنى أكذبت الرجل : ألفيته كاذبا. وقول الله تبارك وتعالى : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) بالتخفيف أي : لا يجدونك كاذبا فيما جئت به ، كما تقول : أبخلت الرجل وأجبنته وأحمقته ، أي وجدته جبانا بخيلا أحمق.

وقال عمرو بن معد يكرب لبني سليم : قاتلناكم فما أجبنّاكم ، وسألناكم فما أبخلناكم ، وهجوناكم فما أفحمناكم أي : لم نجدكم جبناء ، ولا بخلاء ، ولا مفحمين.

وقال الكسائي (١) : العرب تقول : أكذبت الرجل : إذا أخبرت أنه رواية للكذب : وكذّبته : إذا أخبرت أنه كاذب. ففرق بين المعنيين.

واحتج أيضا لأفعلت في معنى نسبت ، بقول ذي الرّمة يصف ربعا (٢) :

وأسقيه حتّى كاد ممّا أبثّه

تكلّمني أحجاره وملاعبه

وتأوّل في أسقيه معنى أسقّيه من طريق النّسبة.

ولا أعلم (له) في هذا حجّة ، لأنا نقول : قد أرعى الله هذه الماشية ، أي : أنبت لها ما ترعاه ، فكذلك تقول : أسقى الله الربع ، أي أنزل عليه مطرا يسقيه ، وأنا أرعى الماشية ، وأسقي الربع ، أي أدعو لها بالمرعى ، وله بالسّقيا.

واحتج آخر ببيت ذكر أنه لطرفة (٣) :

__________________

(١) الكسائي : هو علي بن حمزة بن عبد الله بن عثمان ، مولى بني أسد ، أبو الحسن المعروف بالكسائي ، ثم البغدادي الكوفي ، أحد أئمة النحو ، توفي بالري سنة ١٨٩ ه‍ ، تقدمت ترجمته الوافية مع ذكر مؤلفاته.

(٢) قبله :

وقفت على ربع لميّة ناقتي

فما زلت أبكي حوله وأخاطبه

والبيتان من الطويل ، وهما في ديوان ذي الرمة ص ٨٢١ ، وأدب الكاتب ص ٤٦٢ ، والدرر ٢ / ١٥٥ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٦٤ ، وشرح التصريح ١ / ٢٠٤ ، وشرح شافية ابن الحاجب ١ / ٩١ ، ٩٢ ، وشرح شواهد الشافية ص ٤١ ، والكتاب ٤ / ٥٩ ، ولسان العرب (سقى) ، (شكا) ، والمقاصد النحوية ٢ / ١٧٦ ، والممتع في التصريف ص ١٨٧ ، والبيتان بلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ٣٠٧ ، وشرح الأشموني ١ / ١٣٠ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٢٦ ، وهمع الهوامع ١ / ١٣١.

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان طرفة بن العبد ص ١٥٧ (طبعة مكس سلغسون) ، ومقاييس اللغة ٣ / ١٨١ ، ولسان العرب (شرر) ، وفيه «ذلكا» بدل «ذلك» ، وتاج العروس (شرر) ، والبيت بلا نسبة في ديوان الأدب ٣ / ١٥٧.

٨١

وما زال شربي الرّاح حتّى أشرّني

صديقي وحتّى ساءني بعض ذلك

وتوهّم أن قوله : أشرّني ، نسبني إلى الشرّ.

وليس ذاك كما تأوّل ، وإنما أراد شهرني وأذاع خبري ، من قولك : أشررت الأقط وشرّرته ، إذا بسطته على شيء ليجف. وقال الشاعر وذكر يوم صفّين (١) :

وحتى أشرّت بالأكف المصاحف

يريد : شهرت وأظهرت.

وروى عبد الله بن محمد بن أسماء ، عن جويرية ، قال : كنت عند قتادة فسئل عن القدر ، فقال : ما زالت العرب تثبت القدر في الجاهلية والإسلام.

وحدثني أبو حاتم (٢) : سهل بن محمد ، عن الأصمعي (٣) قال : قلت لدرواس الأعرابيّ : ما جعل بني فلان أشرف من بني فلان؟ قال : الكتاب. يعني (القدر) ، ولم يقل : المكارم والفعال.

وكان الأصمعي ينشد من الشعر أبياتا في القدر ذكرتها وغيرها :

قال : أنشدني عيسى بن عمر لبدويّ (٤) :

كلّ شيء حتى أخيك متاع

وبقدر تفرّق واجتماع

وقال المرّار بن سعيد الأسديّ (٥) :

ومن سابق الأقدار إذ دأبت به

ومن نائل شيئا إذا لم يقدّر؟

__________________

(١) صدر البيت :

فما برحوا حتى رأى الله صبرهم

والبيت من الطويل ، وهو لكعب بن جعيل في لسان العرب (شرر) ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ١٣٩ ، وديوان الأدب ٣ / ١٥٧ ، وجمهرة اللغة ص ٧٣٦ ، ولكعب بن جعيل أو للحصين بن حمام المري في تاج العروس (شرر) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٣ / ١٨١ ، والمخصص ١٣ / ٥٦ ، وتهذيب اللغة ١١ / ٢٧٤.

(٢) أبو حاتم : هو أبو حاتم السجستاني ، سهل بن محمد بن عثمان بن يزيد الجشمي الإمام ، توفي سنة ٢٥٠ ه‍ ، وقيل : سنة ٢٤٨ ه‍ ، تقدمت ترجمته الوافية مع ذكر مؤلفاته.

(٣) الأصمعي : هو عبد الملك بن قريب ، تقدمت ترجمته.

(٤) البيت من الخفيف ، وهو بلا نسبة في لسان العرب (قدر) ، وتاج العروس (قدر).

(٥) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المرار بن سعيد الفقعسي ص ٤٥٢.

٨٢

وقال جميل (١) :

أقدّر أمرا لست أدري : أناله؟

وما يقدر الإنسان؟ فالله قادر

وقال ابن الدّمينة (٢) :

زوروا بنا اليوم سلمى أيّها النّفر

ونحن لمّا يفرّق بيننا القدر

وقال الفرزدق (٣) :

ندمت ندامة الكسعيّ لمّا

غدت مني مطلّقة نوار

ولو ضنّت بها كفّي ونفسي

لكان عليّ للقدر الخيار

وقال القسّ (٤) :

قد كنت أعذل في السّفاهة أهلها

فاعجب لما تأتي به الأيّام

فاليوم أعذرهم ، وأعلم أنّما

سبل الغواية والهدى أقسام

وقال ابن أحمر حين سقي بطنه (٥) :

شربنا وداوينا ، وما كان ضرّنا

إذا الله حمّ القدر ـ ألّا نداويا

وقال الشّمّاخ (٦) :

وإنّي عداني عنكما غير ماقت

نواران مكتوب عليّ بغاهما

أي حاجتان عسيرتان. والنّوار : النّفور. مكتوب عليّ أي مقدور عليّ طلبهما.

وقال الأعشى (٧) :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان جميل بن معمر (جميل بثينة) ص ٨٢.

(٢) البيت من البسيط ، وهو في ديوان ابن الدمينة ص ٤٨.

(٣) البيتان من الوافر ، وهما في ديوان الفرزدق ١ / ٢٩٤. والبيت الأول في لسان العرب (كسع) ، وتاج العروس (كسع) ، وتهذيب اللغة ١ / ٢٩٩.

ويروى صدر البيت الثاني : ولو رضيت يداي بها وضنّت

والبيت بهذا اللفظ في الخصائص ١ / ٢٥٨ ، والمحتسب ٢ / ١٨١ ، والمقرب ١ / ٢٥٢.

(٤) البيتان من الكامل ، ولم أجدهما في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٥) البيت من الطويل ، وهو لعبد الله بن أحمر في ديوانه ص ١٧٢ ، والشعر والشعراء ١ / ٣١٦ ، وعيون الأخبار ٣ / ٢٧٤.

(٦) البيت من الطويل ، وهو في ديوان الشماخ ص ٨٨ ، والمعاني الكبير ٢ / ٨٧١.

(٧) يروى البيت بلفظ :

في فتية كسيوف الهند قد علموا

أن هالك كلّ من يحفى وينتعل

٨٣

في فتية كسيوف الهند قد علموا

أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل

يعني : هم موقنون بأن ما قدّر وحتم لا يدفع بالحيلة ، فهم موطّنون أنفسهم عليه.

وقال أبو زبيد (١) :

فلا تك كالموقوص عن ظهر رحله

تردّت به أسبابه وهو ينظر

أسبابه : المقادير ، تردّت به وهو ينظر لا يقدر أن يدفع ذلك. والموقوص : الذي قد اندقّت عنقه.

وقال الراعي (٢) :

وهنّ يحاذرن الرّدى أن يصيبني

ومن قبل خلقي خطّ ما كنت لاقيا

وكائن ترى من مسعف بمنيّة

يجنّبها أو معصم ليس ناجيا

وقال أفنون التّغلبي (٣) :

لعمرك ما يدري الفتى كيف يتّقي

إذا هو لم يجعل له الله واقيا

وقال لبيد بن ربيعة العامري (٤) :

إنّ تقوى ربّنا خير نفل

وبإذن الله ريثي وعجل

من هداه سبل الخير اهتدى

ناعم البال ، ومن شاء أضل

__________________

والبيت من البسيط ، وهو للأعشى في ديوانه ص ١٠٩ ، والأزهية ص ٦٤ ، والإنصاف ص ١٩٩ ، وتخليص الشواهد ص ٣٨٢ ، وخزانة الأدب ٥ / ٤٢٦ ، ٨ / ٣٩٠ ، ١٠ / ٣٩٣ ، ١١ / ٣٥٣ ، ٣٥٤ ، والدرر ٢ / ١٩٤ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٧٦ ، والكتاب ٢ / ١٣٧ ، ٣ / ٧٤ ، ١٦٤ ، * ٤٥٤ ، والمحتسب ١ / ٣٠٨ ، ومغني اللبيب ١ / ٣١٤ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٢٨٧ ، والمنصف ٣ / ١٢٩ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ١٠ / ٣٩١ ، ورصف المباني ص ١١٥ ، وشرح المفصل ٨ / ٧١ ، والمقتضب ٣ / ٩ ، وهمع الهوامع ١ / ١٤٢.

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي زبيد الطائي ص ٦٤.

(٢) البيتان من الطويل ، وهما في ديوان الراعي النميري ص ٢٨٥ ، والبيت الثاني في لسان العرب (سعف) ، وتاج العروس (سعف) ، وتهذيب اللغة ٢ / ١١١.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لأفنون التغلبي في تاج العروس (وقتي) ، ومعجم البلدان (الآلاهة) ، ولسان العرب (أله) ، (وقي) ، والمفضليات ص ٢٦١ ، والشعر والشعراء ١ / ٣٨٢ ، والمؤتلف والمختلف ص ١٥١ ، وكتاب الصناعتين ص ١٦٤.

(٤) البيتان من الرمل ، وهما في ديوان لبيد بن ربيعة العامري ص ١٧٤ ، والبيت الأول في لسان العرب (نفل) ، ومقاييس اللغة ٢ / ٤٦٤ ، وتاج العروس (نفل) ، والبيت الثاني في لسان العرب (ضلل) ، وتهذيب اللغة ١١ / ٤٦٥ ، وتاج العروس (ضلل).

٨٤

أفترى لبيدا أراد بقوله : من شاء أضل ، أي سمّي ضالا؟ لا لعمر الله ما عرف هذا لبيد ولا وجده في شيء من اللغات. والمعنى في ضلّلت ، وأضللت ، ويشرح صدره للإسلام ، ويجعل صدره ضيّقا حرجا ـ يمتنع على التأويل المطلوب بالحيلة عند من عرف اللغة.

وربما جعلت العرب (الإضلال) في معنى الإبطال والإهلاك ، لأنه يؤدّي إلى الهلكة ، ومنه قوله تعالى : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [السجدة : ١٠] ، أي بطلنا ولحقنا بالتراب وصرنا منه. والعرب تقول : ضلّ الماء في اللبن : إذا غلب اللبن عليه فلم يتبيّن.

وقال النابغة الذبياني يرثي بعض الملوك (١) :

وآب مضلّوه بعين جليّة

وغودر بالجولان حزم ونائل

أي قابروه ، سمّاهم مضلّين لأنهم غيّبوه وأفقدوه فأبطلوه.

هذا مذهب العرب في (القدر) ، وهو مذهب كل أمة من العجم ، وأنّ الله في السماء ، ما تركت على الجبلّة والفطرة ، ولم تنقل عن ذلك بالمقاييس والتّلبيس.

وقد أعلمتك في كتاب (غريب الحديث) أن فريقا منهم يقولون : لا يلزمنا اسم (القدر) من طريق اللغة ، لأنه يتأوّل علينا أنا نقول : لا قدر ، فكيف ننسب إلى ما نجحد؟.

وأن هذا تمويه ، وإنما نسبوا إلى (القدر) لأنهم يضيفونه إلى أنفسهم ، وغيرهم يجعله لله دون نفسه ، ومدّعي الشيء لنفسه أولى بأن ينسب إليه ممن جعله لغيره.

وأما الطاعنون على القرآن (بالمجاز) فإنهم زعموا أنه كذب. لأن الجدار لا يريد ، والقرية لا تسأل.

وهذا من أشنع جهالاتهم ، وأدلّها على سوء نظرهم ، وقلة أفهامهم.

ولو كان المجاز كذبا ، وكلّ فعل ينسب إلى غير الحيوان باطلا ـ كان أكثر كلامنا فاسدا ، لأنا نقول : نبت البقل ، وطالت الشّجرة ، وأينعت الثمرة ، وأقام الجبل ، ورخص السّعر.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان النابغة الذبياني ص ١٢١ ، ولسان العرب (ضلل) ، (جلا) ، وتاج العروس (ضلل) ، (جلا) ، وتهذيب اللغة ١١ / ١٨٧ ، ٤٦٥ ، وجمهرة اللغة ص ١٠٤٤ ، والبيت بلا نسبة في جمهرة اللغة ص ١٠٧٧ ، ومقاييس اللغة ١ / ٤٩٦ ، ٣ / ٣٥٦ ، ومجمل اللغة ٣ / ٢٧٧.

٨٥

وتقول : كان هذا الفعل منك في وقت كذا وكذا والفعل لم يكن وإنما كوّن.

وتقول : كان الله. وكان بمعنى حدث ، والله ، جل وعز : قبل كل شيء بلا غاية ، لم يحدث : فيكون بعد أن لم يكن.

والله تعالى يقول : (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) [محمد : ٢١] وإنما يعزم عليه.

ويقول تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦] وإنما يربح فيها.

ويقول : (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) [يوسف : ١٨] وإنما كذّب به.

ولو قلنا للمنكر لقوله : (جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) [الكهف : ٧٧] كيف كنت أنت قائلا في جدار رأيته على شفا انهيار : رأيت جدارا ماذا؟ لم يجد بدّا من أن يقول : جدارا يهمّ أن ينقضّ ، أو يكاد أن ينقضّ ، أو يقارب أن ينقضّ. وأيّا ما قال فقد جعله فاعلا ، ولا أحسبه يصل إلى هذا المعنى في شيء من لغات العجم ، إلا بمثل هذه الألفاظ.

وأنشدني السّجستاني (١) عن أبي عبيدة (٢) في مثل قول الله : (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) (٣) :

يريد الرّمح صدر أبي براء

ويرغب عن دماء بني عقيل

وأنشد الفرّاء (٤) :

إنّ دهرا يلفّ شملي بجمل

لزمان يهمّ بالإحسان

والعرب تقول : بأرض فلان شجر قد صاح. أي طال ، لمّا تبيّن الشّجر للنّاظر بطوله ، ودلّ على نفسه ـ جعله كأنه صائح : لأن الصائح يدلّ على نفسه بصوته.

__________________

(١) السجستاني : هو أبو حاتم السجستاني ، تقدمت ترجمته.

(٢) أبو عبيدة : هو الحافظ أبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي البصري المنشأ ، بغدادي الدار والوفاة ، الفقيه اللغوي الأخباري ، ولد سنة ١١٠ ه‍ ، وتوفي سنة ٢٠٣ ه‍ ، تقدمت ترجمته الوافية ، مع ذكر مؤلفاته.

(٣) البيت من الوافر ، وهو بلا نسبة في لسان العرب (رود) ، وكتاب الصناعتين ص ٢١٢ ، وتفسير الطبري ١٦ / ١٨٦ ، ومجاز القرآن ١ / ٤١٠.

(٤) يروى صدر البيت بلفظ :

إن دهرا يلفّ حبلي بجمل

والبيت من الخفيف ، وهو لحسان بن ثابت في أساس البلاغة (لفف) ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في لسان العرب (دهر) ، وتهذيب اللغة ٦ / ١٩٢ ، وديوان الأدب ١ / ١٠٧ ، وتاج العروس (دهر).

٨٦

ومثل قول العجاج (١) :

كالكرم إذ نادى من الكافور

ويقال : هذا شجر واعد ، إذا نوّر ، كأنّه نوّر لمّا وعد أن يثمر. ونبات واعد ، إذا أقبل بماء ونضرة.

قال سويد بن كراع (٢) :

رعى غير مذعور بهنّ وراقه

لماع تهاداه الدّكادك واعد

في أشباه لهذا كثيرة ، سنذكر ما نحفظ منها في كتابنا هذا مما أتى في كتاب الله ، عزوجل ، وأمثاله من الشعر ، ولغات العرب ، وما استعمله الناس في كلامهم.

ونبدأ بباب الاستعارة ، لأن أكثر المجاز يقع فيه.

__________________

(١) قبله :

غراء تسبي نظر النظور

بفاحم يعكف أو منشور

كالكرم إذا نادى من الكافور

والرجز للعجاج في ديوانه ١ / ٣٣٨ ـ ٣٣٩ ، ولسان العرب (كفر) ، وتاج العروس (كفر) ، وتهذيب اللغة ١٠ / ٢٠١ ، والمخصص ١٠ / ٢١٦ ، وجمهرة اللغة ص ٧٨٦ ، ولرؤبة في لسان العرب (صيح) ، (عرق) ، وتاج العروس (صيح) ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في لسان العرب (ندى) ، ومقاييس اللغة ٥ / ١٩٢ ، وجمهرة اللغة ص ١٠٦١ ، ١٢٠٥ ، وكتاب العين ٥ / ٣٥٨ ، وتاج العروس (ندا) ، وتهذيب اللغة ١٤ / ١٩٠.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لسويد بن كراع في لسان العرب (وعد) ، (لعع) ، وأساس البلاغة (وعد) ، وتهذيب اللغة ٣ / ١٣٥ ، وتاج العروس (وعد) ، (لعع) ، وبلا نسبة في المخصص ١٠ / ١٨٣.

٨٧

باب الاستعارة

فالعرب تستعير الكلمة فتضعها مكان الكلمة ، إذا كان المسمى بها بسبب من الأخرى ، أو مجاورا لها ، أو مشاكلا. فيقولون للنبات : نوء لأنه يكون عن النوء عندهم.

قال رؤية بن العجاج (١) :

وجفّ أنواء السّحاب المرتزق

أي جفّ البقل.

ويقولون للمطر : سماء ، لأنه من السماء ينزل ، فيقال : ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم.

قال الشاعر (٢) :

إذا سقط السّماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

ويقولون : ضحكت الأرض : إذا أنبتت ، لأنها تبدي عن حسن النبات ، وتنفتق عن الزهر ، كما يفترّ الضاحك عن الثغر ، ولذلك قيل لطلع النخل إذا انفتق عنه كافوره : الضّحك ، لأنه يبدو منه للناظر كبياض الثغر. ويقال : ضحكت الطّلعة ، ويقال : النّور يضاحك الشمس ، لأنه يدور معها.

__________________

(١) يروى الرجز بتمامه :

وخفّ أنواء الربيع المرتزق

وخبّ أعراق السفا على القيق

والرجز لرؤبة في ديوانه ص ١٠٥ ، ولسان العرب (قيق) وتهذيب اللغة ٩ / ٣٧٢ ، وتاج العروس (رزق) ، ومقاييس اللغة (٢ / ١٥٨ ، ٣ / ٨١ ، ومجمل اللغة ٢ / ١٦١ ، ٤ / ١٣٥ ، وبلا نسبة في لسان العرب (قط) ، وكتاب العين ٥ / ٢٣٨ ، والمخصص ١٠ / ١٢٩.

(٢) البيت من الوافر ، وهو لمعوّد الحكماء (معاوية بن مالك) في لسان العرب (سما) ، وللفرزدق في تاج العروس (سما) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٣ / ٩٨ ، والمخصص ٧ / ١٩٥ ، ١٦ / ٣٠ ، وديوان الأدب ٤ / ٤٧.

٨٨

وقال الأعشى يذكر روضة (١) :

يضاحك الشمس منها كوكب شرق

مؤزّر بعميم النّبت مكتهل

وقال آخر (٢) :

وضحك المزن بها ثمّ بكى

يريد بضحكه انعقاقه (٣) بالبرق ، وببكائه : المطر.

ويقولون : لقيت من فلان عرق القربة ، أي شدّة ومشقّة. وأصل هذا أن حامل القربة يتعب في نقلها حتى يعرق جبينه ، فاستعير عرقها في موضع الشّدّة.

ويقول الناس : لقيت من فلان عرق الجبين ، أي شدّة.

ومثل هذا في كلام العرب كثير يطول به الكتاب ، وسنذكر ما في كتاب الله تعالى منه.

فمن الاستعارة في كتاب الله قوله عزوجل : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) [القلم : ٤٢] أي عن شدّة من الأمر ، كذلك قال قتادة (٤). وقال ابراهيم (٥) : عن أمر عظيم.

وأصل هذا أنّ الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى معاناته والجدّ فيه ـ شمّر عن ساقه ، فاستعيرت الساق في موضع الشدة.

وقال دريد بن الصّمّة (٦) :

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو في ديوان الأعشى ص ١٠٧ ، ولسان العرب (كوكب) ، (أزر) ، (شرق) ، (كهل) ، (عمم) ، وتهذيب اللغة ١ / ١١٩ ، ٦ / ١٩ ، ٨ / ٣١٦ ، ١٠ / ٤٠٢ ، ومقاييس اللغة ٥ / ١٢٥ ، ١٤٤ ، وأساس البلاغة (ضحك) ، والمخصص ١٠ / ١٩٤ ، وتاج العروس (ككب) ، (أزر) ، (شرق) ، (كهل) ، والبيت بلا نسبة في كتاب العين ٣ / ٣٧٨ ، ٥ / ٤٣٣.

(٢) الرجز لدكين الراجز في أمالي المرتضى ٢ / ٩٤ ، وبلا نسبة في كتاب الصناعتين ص ٢٣٩ ، والحيوان ٣ / ٧٥.

(٣) الانعقاق : الانشقاق.

(٤) قتادة : هو قتادة بن دعامة بن عرنين بن عمرو بن ربيعة السدوسي ، أبو الخطاب البصري التابعي ، ولد سنة ٦٠ ه‍ ، وتوفي سنة ١١٧ ه‍ ، صنّف «تفسير القرآن». (كشف الظنون ٥ / ٨٣٤).

(٥) إبراهيم : هو إبراهيم بن يزيد ، أبو عمران النخعي الكوفي ، توفي سنة ٩٦ ه‍.

(٦) البيت من الطويل ، وهو في ديوان دريد بن الصمة ص ٦٦ ، ولسان العرب (سوق) ، والمخصص ١٣ / ٦٧ ، ١٦ / ٣٧ ، وتهذيب اللغة ٩ / ٢٣٤ ، ١٠ / ٤٨٨ ، وشرح ديوان الحماية للمرزوقي ص ٨١٨ ، والكامل ص ٤٩٧ ، والأصمعيات ص ١١٣ ، وجمهرة أشعار العرب ص ١١٨ ، وديوان المعاني ١ / ٥٦ ، وكتاب الصناعتين ص ٣٠٥ ، والبيت بلا نسبة في لسان العرب (جلل).

٨٩

كميش الإزار خارج نصف ساقه

صبور على الجلّاء طلّاع أنجد

وقال الهذليّ (١) :

وكنت إذا جاري دعا لمضوفة

أشمّر حتّى ينصف السّاق مئزري

ومنه قول الله عزوجل : (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء : ٤٩] (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) [النساء : ١٢٤] والفتيل : ما يكون في شقّ النّواة. والنّقير : النّقرة في ظهرها. ولم يرد أنهم لا يظلمون ذلك بعينه ، وإنما أراد أنهم إذا حوسبوا لم يظلموا في الحساب شيئا ولا مقدار هذين التّافهين الحقيرين.

والعرب تقول : ما رزأته زبالا. (والزبال) ما تحمله النّملة بفمها ، يريدون ما رزأته شيئا.

وقال النابغة الذّبياني (٢) :

يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو

ثم لا يرزأ العدوّ فتيلا

وكذلك قوله عزوجل : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) [فاطر : ١٣] وهو (الفوقة) التي فيها النّواة. يريد ما يملكون شيئا.

ومنه قوله عزوجل : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣)) [الفرقان : ٢٣] أي قصدنا لأعمالهم وعمدنا لها. والأصل أنّ من أراد القدوم إلى موضع عمد له وقصده.

والهباء المنثور : ما رأيته في شعاع الشمس الداخل من كوّة البيت.

والهباء المنبثّ : ما سطع من سنابك الخيل. وإنما أراد أنّا أبطلناه كما أنّ هذا مبطل لا يلمس ولا ينتفع به.

ومنه قوله : (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) [إبراهيم : ٤٣] يريد أنها لا تعي خيرا ، لأن المكان إذا

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لأبي جندب الهذلي في شرح أشعار الهذليين ١ / ٣٥٨ ، وشرح شواهد الشافية ص ٣٨٣ ، ولسان العرب (جور) ، (ضيق) ، (نصف) ، (كون) ، والمعاني الكبير ص ٧٠٠ ، ١١١٩ ، وبلا نسبة في شرح المفصل ١٠ / ٨١ ، والمحتسب ١ / ٢١٤ ، والممتع في التصريف ٢ / ٤٧٠ ، والمنصف ١ / ٣٠١.

(٢) البيت من الخفيف ، وهو لعبد قيس بن خفاف في الحيوان ٤ / ٣٧٩ ، والأغاني ١١ / ١٦ ، وللنابغة الذبياني في ديوانه ص ١٣٥ (طبعة دار الكتاب العربي) ، والشعر والشعراء ص ١٧١ ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٤ / ٤٧٢ ، والمخصص ١٣ / ٢٥٤.

٩٠

كان خاليا فهو هواء حتى يشغله الشيء.

ومثله قوله عزوجل : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) [الكهف : ٢١] يريد أطلعنا عليهم. وأصل هذا أنّ من عثر بشيء وهو غافل نظر إليه حتى يعرفه. فاستعير العثار مكان التّبيّن والظهور. ومنه يقول الناس : ما عثرت على فلان بسوء قطّ. أي ما ظهرت على ذلك منه.

ومنه قوله عزوجل : (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢] أراد الخيل ، فسمّاها الخير لما فيها من المنافع.

قال الرّاجز بعد أن عدّد فضائلها وأسباب الانتفاع بها ـ (١) :

فالخيل والخيرات في قرنين

وقال طفيل (٢) :

وللخيل أيّام فمن يصطبر لها

ويعرف لها أيّامها الخير تعقب

ومنه قوله عزوجل (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) [الانعام : ١٢٢]. اى كان كافرا فهديناه وجعلنا له ايمانا يهتدى به سبل الخير والنّجاة (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) [الأنعام : ١٢٢] أي في الكفر. فاستعار الموت مكان الكفر ، والحياة مكان الهداية ، والنّور مكان الإيمان.

ومنه قوله عزوجل : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢)) [الشرح : ٢] أي إثمك. وأصل الوزر : ما حمله الإنسان على ظهره. قال الله عزوجل : (وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) [طه : ٨٧] أي أحمالا من حليّهم. فشبه الإثم بالحمل ، فجعل مكانه ، وقال في موضع آخر : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣] يريد آثامهم.

ومن ذلك قوله : (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) [البقرة : ٢٣٥] أي نكاحا ، لأن النكاح يكون سرا ولا يظهر ، فاستعير له السرّ.

قال رؤبة (٣) :

فعفّ عن أسرارها بعد العسق

__________________

(١) الرجز بلا نسبة في كتاب المعاني ١ / ٨٥ ، ١٧٦ ، وفي المعاني : «في قرينين» بدل : «في قرنين» ، وفي الخزانة ٣ / ٦٤٣ : «كالقرينين» بدل : «في قرنين».

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان طفيل الغنوي ص ٣٥ ، والإنصاف ص ٦٢١ ، وخزانة الأدب ٩ / ٤٤ ، وكتاب الصناعتين ص ٢٧٧ ، والمعاني الكبير ١ / ٨٥.

(٣) الرجز في ديوان رؤبة ص ٢٠٤ ، وتهذيب اللغة ١٢ / ٢٨٤ ، ولسان العرب (فرك) وفيه : «الغسق»

٩١

والعسق : الملازمة :

ومنه قوله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢٢٣] أي مزدرع لكم كما تزدرع الأرض.

ومنه قوله : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) [البقرة : ٢٦٧] أي تترخّصوا. وأصل هذا أن يصرف المرء بصره عن الشيء ويغمضه ، فسمّي الترّخّص إغماضا. ومنه يقول الناس للبائع : أغمض وغمّض. يريدون لا تستقص وكمن كأنّك لم تبصر.

ومنه قوله : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) [البقرة : ١٨٧] لأنّ المرأة والرجل يتجردان ويجتمعان في ثوب واحد ، ويتضامّان فيكون كلّ واحد منهما للآخر بمنزلة اللباس.

قال النابغة الجعديّ (١) :

إذا ما الضّجيع ثنى جيدها

تداعت عليه فكانت لباسا

ومنه قوله : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤)) [المدثر : ٤] أي طهّر نفسك من الذنوب ، فكنى عن الجسم بالثياب ، لأنّها تشتمل عليه.

قالت ليلى الأخيلية وذكرت إبلا (٢) :

رموها بأثواب خفاف فلا ترى

لها شبها إلّا النّعام المنفّرا

أي ركبوها فرموها بأنفسهم.

وقال آخر (٣) :

__________________

بدل : «العسق».

(١) يروى عجز البيت بلفظ :

تداعت فكانت عليه لباسا

والبيت من المتقارب ، وهو في ديوان النابغة الجعدي ص ٨١ ، ومقاييس اللغة ٥ / ٢٣٠ ، وتهذيب اللغة ١٢ / ٤٤٤ ، ومجمل اللغة ٤ / ٢٦٢ ، وتاج العروس (لبس) ، ولسان العرب (لبس) ، والشعر والشعراء ص ٣٠٢.

(٢) البيت من الطويل ، وهو للشماخ في تهذيب اللغة ١٥ / ١٥٤ ، وليس في ديوانه ، ولليلى الأخيلية في ديوانها ص ٧٠ ، وأساس البلاغة (ثوب) ، والمعاني الكبير ص ٤٨٦ ، وكتاب الصناعتين ص ٣٥٣ ، والبيت بلا نسبة في مجمل اللغة ١ / ٣٧٢ ، وتاج العروس (ثوب) ، ولسان العرب (ثوب).

(٣) الرجز بلا نسبة في تاج العروس (دسم) ، (وذم) ، ولسان العرب (دسم) ، (وذم) ، وتهذيب اللغة ١٢ / ٣٧٧ ، ١٥ / ٢٩ ، ومقاييس اللغة ٢ / ٢٧٦ ، وديوان الأدب ٣ / ٢٧٠ ، وأساس البلاغة (دسم) ، والمعاني الكبير ١ / ٤٨١ ، ويروى : «جحّا» بتقديم الجيم على الحاء ، بدل : «حجّا».

٩٢

لا همّ إنّ عامر بن جهم

أو ذم حجّا في ثياب دسم

أي هو متدنّس بالذنوب.

والعرب تقول : قوم لطاف الأزر. أي خماص البطون ، لأنّ الأزر تلاث عليها.

ويقولون : فدى لك إزاري. يريدون : بدني ، فتضع الإزار موضع النّفس.

قال الشاعر (١) :

ألا أبلغ أبا حفص رسولا

فدى لك من أخي ثقة إزاري

وقد يكون الإزار في هذا البيت : الأهل. قال الهذليّ (٢) :

تبرّأ من دمّ القتيل وبزّه

وقد علقت دمّ القتيل إزارها

أي نفسها.

ويقولون للعفاف : إزار ، لأنّ العفيف كأنّه استتر لمّا عفّ.

وقال عديّ بن زيد (٣) :

أجل أنّ الله قد فضّلكم

فوق ما أحكي بصلب وإزار

فالصّلب : الحسب ، سمّاه صلبا لأنّ الحسب : العشيرة. والخلق. من ماء الصّلب. والإزار : العفاف.

ويجوز أن يكون سمّى العشيرة صلبا لأنّهم ظهر الرجل ، والصّلب في الظّهر.

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لبقيلة الأكبر الأشجعي ، وكنيته أبو المنهال ، في لسان العرب (أزر) ، والمؤتلف والمختلف ص ٦٣ ، وعجزه في لسان العرب (أزر) ، منسوبا إلى جعدة بن عبد الله السلمي ، وبلا نسبة في شرح اختيارات المفضل ص ٢٥٠ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ١٦٢ ، ولسان العرب (قلص).

(٢) البيت من الطويل ، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص ٧٧ ، ولسان العرب (أزر) ، وتاج العروس (أزر) ، والمعاني الكبير ص ٤٨٣ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٤٣٢ ، ومقاييس اللغة ٤ / ١٢٧ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٧١٢ ، والمخصص ٤ / ٧٧ ، ١٧ / ٢٢.

(٣) البيت من الرمل ، وهو في ديوان عدي بن زيد ص ٩٤ ، وتهذيب اللغة ١١ / ١٩٤ ، وديوان الأدب ١ / ١٤٩ ، وتاج العروس (حكى). ويروى البيت بلفظ :

أجل أن الله قد فضّلكم

فوق من أحكأ صلبا بإزار

والبيت بهذا اللفظ ، لعدي بن زيد في ديوانه ص ٩٤ ، وجمهرة اللغة ص ١٠٥١ ، ولسان العرب (حكأ) ، (صلب) ، (أزر) ، (أجل) ، (حكى) ، وبلا نسبة في مجالس ثعلب ١ / ٢٤٠.

٩٣

وقال : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) [الفرقان : ٤٧] : أي سترا وحجابا لأبصاركم.

قال ذو الرّمة (١) :

ودوّيّة مثل السّماء اعتسفتها

وقد صبغ اللّيل الحصى بسواد

أي لمّا ألبسه الليل سواده وظلمته ، كان كأنّه صبغه.

وقد يكنون باللباس والثوب عما ستر ووقى ، لأنّ اللباس والثوب واقيان ساتران.

وقال الشاعر (٢) :

كثوب ابن بيض وقاهم به

فسدّ على السّالكين السّبيلا

قال الأصمعي : (ابن بيض) رجل نحر بعيرا له على ثنيّة فسدّها فلم يقدر أحد أن يجوز ، فضرب به المثل فقيل : سدّ ابن بيض الطريق (٣).

وقال غير الأصمعي : (ابن بيض) رجل كانت عليه إتاوة فهرب بها فاتّبعه مطالبه ، فلما خشي لحاقه وضع ما يطالبه به على الطريق ومضى ، فلما أخذ الإتاوة رجع وقال : «سدّ ابن بيض الطريق» أي منعنا من اتباعه حين وفى بما عليه ، فكأنه سدّ الطريق (٤).

فكنى الشاعر عن البعير ـ إن كان التفسير على ما ذكر الأصمعي.

أو عن الإتاوة ـ إن كان التفسير ما ذكر غيره ـ بالثوب ، لأنهما وقيا كما يقي الثوب.

وكان بعض المفسرين يقول في قوله عزوجل : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) [الفرقان : ٤٧] أي سكنا ، وفي قوله تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ) [البقرة : ١٨٧] أي سكن لكم.

وإنما اعتبر ذلك من قوله : (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) [يونس : ٦٧] ومن قوله :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان ذي الرمة ص ٦٨٥ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٣٨٢ ، وهو بلا نسبة في شرح شذور الذهب ص ٤١٥.

(٢) البيت من المتقارب ، وهو لبشامة بن عمرو في تاج العروس (بيض) ، وشرح اختيارات المفضل ص ٢٩٣ ، والمفضليات ص ٦٠ ، وطبقات الشعراء ص ٥٦٥ ، والأغاني ١٢ / ٤٣ ، ولبسامة بن حزن (وهذا تحريف) في لسان العرب (بيض) ، وبلا نسبة في تاج العروس (ثوب).

(٣) انظر المثل في لسان العرب (بيض) ، وجمهرة الأمثال ص ١١٨ ، ومجمع الأمثال ١ / ٣٤١ ، وأمثال العرب للمفضل الضبي ص ٧١ ـ ٧٢.

(٤) انظر لسان العرب (بيض) ، ومجمع الأمثال ١ / ٣٢٨.

٩٤

(وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) [الأعراف : ١٨٩].

ومن الاستعارة : (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧)) [آل عمران : ١٠٧] يعني جنّته ، سمّاها رحمة ، لأن دخولهم إيّاها كان برحمته.

ومثله قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) [النساء : ١٧٥]. وقد توضع (الرحمة) موضع (المطر) لأنه ينزل برحمته.

قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) [الأعراف : ٥٧] يعني المطر.

وقال تعالى : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) [الإسراء : ١٠٠] يعني مفاتيح رزقه.

وقال تعالى : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) [فاطر : ٢] أي من رزق.

ومن الاستعارة : اللسان يوضع موضع القول ، لأنّ القول يكون بها. قال الله ، عزوجل ، حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤)) [الشعراء : ٨٤]. أي ذكرا حسنا. وقال الشاعر (١) :

إنّي أتتني لسان لا أسرّ بها

من علو لا عجب منها ولا سخر

أي أتاني خبر لا أسرّ به.

ومنه الذّكر يوضع موضع الشرف ، لأنّ الشّريف يذكر قال الله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤] يريد أن القرآن شرف لكم.

وقال تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [الأنبياء : ١٠] أي شرفكم.

وقال : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) [المؤمنون : ٧١] أي أتيناهم بشرفهم.

ومنه قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) [الإسراء : ٢٣] أي لا تستثقل شيئا

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو لأعشى باهلة في إصلاح المنطق ص ٢٦ ، والأصمعيات ص ٨٨ ، وأمالي المرتضى ٢ / ٢٠ ، وجمهرة اللغة ص ٩٥٠ ، ١٣٠٩ ، وخزانة الأدب ٦ / ٥١١ ، وسمط اللآلي ص ٧٥ ، وشرح المفصل ٤ / ٩٠ ، ولسان العرب (سخر) ، (لسن) ، والمؤتلف والمختلف ص ١٤ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ١ / ١٩١ ، ٤ / ١٥٦ ، ولسان العرب (علا).

٩٥

من أمرهما ، وتضق به صدرا ، ولا تغلظ لهما.

والناس يقولون لما يكرهون ويستثقلون : أفّ له. وأصل هذا نفخك للشيء يسقط عليك من تراب أو رماد وغير ذلك ، وللمكان تريد إماطة الشيء عنه لتقعد فيه. فقيل لكل مستثقل : أفّ لك ، ولذلك تحرّك بالكسر للحكاية ، كما يقولون : غاق غاق ، إذا حكوا صوت الغراب.

والوجه أن يسكّن هذا ، إلا أنه يحرّك لاجتماع الساكنين ، فربما نوّن ، وربما لم ينوّن ، وربما حرّك إلى غير الكسر أيضا.

ومنه قوله تعالى : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) [المائدة : ٦٤] يريد كلما هاجوا شرّا وأجمعوا أمرا ليحاربوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سكّنه الله ووهّن أمرهم.

ومنه قوله سبحانه : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف : ١٥٧]. الإصر : الثّقل الذي ألزمه الله بني إسرائيل في فرائضهم وأحكامهم ، ووضعه عن المسلمين. ولذلك قيل للعهد : إصر.

قال تعالى : (وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) [آل عمران : ٨١] أي عهدي ، لأن العهد ثقل ومنع من الأمر الذي أخذ له.

(وَالْأَغْلالَ) : تحريم الله عليهم كثيرا مما أطلقه لأمّة محمد ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعله أغلالا لأن التحريم يمنع كما يقبض الغلّ اليد ، فاستعير.

قال أبو ذؤيب (١) :

فليس كعهد الدّار يا أمّ مالك

ولكن أحاطت بالرّقاب السّلاسل

وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل

سوى العدل شيئا فاستراح العواذل

يقول : ليس الأمر كعهدك إذ كنا في الدّار ونحن نتبسّط في كل شيء ولا نتوقّى ، ولكن أسلمنا فصرنا من موانع الإسلام في مثل الأغلال المحيطة بالرّقاب القابضة للأيدي.

ومن هذا قوله : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) [يس : ٨] ، أي قبضنا أيديهم عن الإنفاق في سبيل الله بموانع كالأغلال.

__________________

(١) البيتان من الطويل ، وهما لأبي خراش الهذلي في ديوان الهذليين القسم الثاني ص ١٥٠ ، وشرح أشعار الهذليين ص ١٢٢٣ ، ولسان العرب (عهد) ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ٤٣ ، والأغاني ٢١ / ٥٨.

٩٦

ومن ذلك قوله : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) [البقرة : ١٣٨] ، يريد الختان ، فسماه صبغة ، لأن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في ماء ويقولون : هذا طهرة لهم كالختان للحنفاء ، فقال الله تعالى ، (صِبْغَةَ اللهِ) أي الزموا صبغة الله لا صبغة النصارى أولادهم ، وأراد بها ملة إبراهيم عليه‌السلام.

ومنه قوله : (ما لَها مِنْ فَواقٍ) [ص : ١٥] أي ما لها من تنظّر وتمكّث إذا بدأت ، ولذلك سمّاها ساعة لأنها تأتي بغتة في ساعة.

وأصل الفواق أن تحلب الناقة ثم تترك ساعة حتى يجتمع اللبن ثم تحلب فما بين الحلبتين فواق ، فاستعير الفواق في موضع الانتظار.

ومنه قوله : (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) [الذاريات : ٥٩] ، أي حظّا ونصيبا.

وأصل الذّنوب : الدّلو ، وكانوا يستقون الماء ، فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب ، فاستعير في موضع النّصيب ، وقال الشاعر (١) :

إنّا إذا نازعنا شريب

لنا ذنوب وله ذنوب

والعرب تقول : (أخي وأخوك أيّنا أبطش؟) يريدون : أنا وأنت نضطرع فنطر أيّنا أشدّ؟ فيكنى عن نفسه بأخيه ، لأن أخاه كنفسه.

وقال العبديّ (٢) :

أخي وأخوك ببطن النّسير

ليس به من معدّ عريب

ويكنى عن أخيه بنفسه.

__________________

(١) يروى الرجز بلفظ :

لها ذنوب ولكم ذنوب

فإن أبيتم فلنا القليب

والرجز بلا نسبة في لسان العرب (ذنب) ، وتهذيب اللغة ١٤ / ٤٣٩ ، والمخصص ١٧ / ١٨ ، وكتاب العين ٨ / ١٩٠ ، وجمهرة اللغة ص ٣٠٦ ، وتاج العروس (ذنب).

(٢) يروى البيت بلفظ :

فعردة فقفا حبرّ

ليس به من أهله عريب

والبيت بهذا اللفظ من مخلع البسيط ، (وفي عجزه خلل بالوزن) ، وهو لعبيد بن الأبرص في ديوانه ص ١١ ، وجمهرة اللغة ص ٢٧٥ ، ١١٦٤ ، وجمهرة أشعار العرب ص ٤٦١ ، وأمالي القالي ١ / ٢٥٠ ، وسمط اللآلي ص ٥٦٥ ، ومعجم البلدان (حبر) ، وتاج العروس (عرد). والبيت برواية المؤلف لثعلبة بن عمرو العبدي في المفضليات ص ٢٥٤.

٩٧

قال الله تعالى : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [الحجرات : ١١] ، أي لا تعيبوا إخوانكم من المسلمين ، لأنهم كأنفسكم.

وقال : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) [النور : ١٢] أي بأمثالهم من المسلمين.

وبعض المفسّرين يقول في قوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) [النور : ٦١] ، أي على أهليكم ، جعلهم أنفسهم على التّشبيه.

وقال : ابن عباس في تفسير ذلك : البيوت : المساجد ، إذا دخلتها سلّمت على نفسك وعلى عباد الله الصالحين.

وقال تعالى : (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) [الأنفال : ٢٤] ، أي إلى الجهاد الذي يحيي دينكم ويعليكم.

وقال : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] ، أي لا تقتلوا إخوانكم ، (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [البقرة : ١٨٨] ، أي أموال إخوانكم.

وإن جعلته بمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض ، ولا يقتل بعضكم بعضا ـ فهو أيضا قريب المعنى من الأوّل.

وقال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) [الأعراف : ١١] أراد : خلقنا آدم وصوّرناه ، فجعل الخلق لهم ، إذ كانوا منه.

ومنه قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) ، [ق : ٣٧] أي عقل ؛ لأن القلب موضع العقل ، فكنى عنه به.

وقوله : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) [الطور : ٣٢] ، أي تدلهم عقولهم عليه ؛ لأن الحلم يكون من العقل ، فكنى عنه به.

ومنه قوله : (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣)) [الفجر : ١٣] لأن التعذيب قد يكون بالسوط.

ومنه قوله : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) [النساء : ١٥٧] يعني العلم ، لم يتحقّقوه ويستيقنوه. وأصل ذلك أن القتل للشيء يكون عن قهر واستعلاء وغلبة. يقول : فلم يكن علمهم بقتل المسيح علما أحيط به ، إنما كان ظنّا.

٩٨

ومنه قوله سبحانه : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) [الأنعام : ١٤٦] أي كلّ ذي مخلب من الطير ، وكلّ ذي حافر من الدّواب كذلك قال المفسّرون :

وسمّى الحافر ظفرا على الاستعارة ، كما قال الآخر وذكر ضيفا طرقه (١) :

فما رقد الولدان حتّى رأيته

على البكر يمريه بساق وحافر

فجعل الحافر موضع القدم.

وقال آخر (٢) :

سأمنعها أو سوف أجعل أمرها

إلى ملك أظلافه لم تشقّق

يريد بالأظلاف : قدميه ، وإنما الأظلاف للشاء والبقر.

والعرب تقول للرجل : (هو غليظ المشافر) تريد الشفتين ، والمشافر للإبل.

وقال الحطيئة (٣) :

قروا جارك العيمان لمّا جفوته

وقلّص عن برد الشّراب مشافره

ومنه قوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦)) [الحاقة : ٤٤ ، ٤٦].

قال ابن عباس : اليمين هاهنا : القوّة. وإنما أقام اليمين مقام القوّة ، لأن قوة كل شيء في ميامنه.

ولأهل اللغة في هذا مذهب آخر قد جرى الناس على اعتياده : أن كان الله عزوجل أراده في هذا الموضع ، وهو قولهم إذا أرادوا عقوبة رجل : خذ بيده وافعل به كذا

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لجبيهاء الأسدي في لسان العرب (حفر) ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ١١٠ ، وتاج العروس (حفر) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ١٣١٣ ، والمخصص ٦ / ١٣٤ ، وكتاب الصناعتين ص ٢٣٣ ، والموازنة ص ٣٦ ، والموشح ص ٩١.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لعقفان بن قيس بن عاصم في لسان العرب (ظلف) ، وسمط اللآلي ص ٧٤٦ ، وتاج العروس (ظلف) ، وبلا نسبة في كتاب الصناعتين ص ٢٣٤ ، والموازنة ص ٣٦ ، وجمهرة اللغة ص ١٣١٢ ، وأمالي القالي ٢ / ١٢٠.

(٣) يروى صدر البيت بلفظ :

سقوا جارك العيمان لما تركته

والبيت من الطويل ، وهو في ديوان الحطيئة ص ٢٥ ، وجمهرة اللغة ص ١٣١٢ ، والموشح ص ٩١ ، والموازنة ص ٣٦ ، وكتاب الصناعتين ص ٢٣٣ ، والبيت بلا نسبة في المخصص ٤ / ١٣٦ ، ١٢ / ١٨١.

٩٩

وكذا. وأكثر ما يقول السلطان والحاكم بعد وجوب الحكم : خذ بيده واسفع بيده.

ونحوه قول الله : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) [العلق : ١٥ ، ١٦] أي لنأخذنّ بها ، ثم لنقيمنّه ولنذّلنّه إما في الدنيا وإما في الآخرة ، كما قال تعالى : (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) [الرحمن : ٤١] أي يجرّون إلى النار بنواصيهم وأرجلهم. ثم قال : (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦)) [العلق : ١٦] وإنما يعني صاحبها. والناس يقولون : هو مشؤوم الناصية. لا يريدونها دون غيرها من البدن. ويقولون : قد مرّ على رأسي كذا. أي مر عليّ.

فكأنه تعالى قال : لو كذب علينا في شيء مما يلقيه إليكم عنّا ، لأمرنا بالأخذ بيده ، ثمّ عاقبناه بقطع الوتين.

وإلى هذا المعنى ذهب الحسن فقال في قوله تعالى : (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥)) [الحاقة : ٤٥] أي بالميامن ، ثم عاقبناه بقطع الوتين ، وهو : عرق يتعلق به القلب ، إذا انقطع مات صاحبه.

ولم يرد أنا نقطعه بعينه ، فيما يرى أهل النظر ، ولكنّه أراد : ولو كذّب علينا لأمتناه أو قتلناه ، فكان كمن قطع وتينه.

ومثله قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما زالت أكلة خيبر تعادّني ، فهذا أوان قطعت أبهري» (١).

والأبهر : عرق يتصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه. فكأنّه قال : فهذا أوان قتلني السّمّ ، فكنت كمن انقطع أبهره.

ومنه قوله سبحانه : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦)) [القلم : ١٦] ذهب بعض المفسّرين فيه : إلى أنّ الله عزوجل يسم وجهه يوم القيامة بالسّواد.

وللعرب في مثل هذا اللفظ مذهب نخبر به ، والله أعلم بما أراد.

تقول العرب للرجل يسبّ الرجل سبّة قبيحة ، أو ينثو عليه فاحشة : وقد وسمه بميسم سوء. يريدون : ألصق به عارا لا يفارقه ، كما أنّ السّمة لا تنمحي ولا يعفو أثرها.

وقال جرير (٢) :

__________________

(١) أخرجه بنحوه البخاري في المغازي باب ٨٣ ، والدارمي في المقدمة باب ١١ ، وأحمد في المسند ٦ / ١٨ ، والقاضي عياض في الشفا ١ / ٦٠٩ ، والخطابي في إصلاح خطأ المحدثين ٣٣ ، والقرطبي في تفسيره ٥ / ١٦٣ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٢١٨٩ ، والذهبي في ميزان الاعتدال ٦٢٦٣ ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء ٣ / ١٢٣٩.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان جرير ص ٤٤٣.

١٠٠