منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٢

المقتضي للسببية فيها إلا فيه (١) كما هو (٢) المتيقن من دليل اعتبار غير السند منها وهو بناء العقلاء على أصالتي الظهور والصدور لا للتقية ونحوها. وكذا (٣) السند لو كان دليل اعتباره هو بناءهم أيضا ، وظهوره (٤) فيه (٥) (*) لو كان هو الآيات والأخبار ،

______________________________________________________

وإن كان حجية كل خبر حتى معلوم الكذب ، لكن أصل الإطلاق ممنوع ، لظهورها في كون المصلحة في العلم بالخبر الّذي لم يعلم مخالفته للواقع ، فإن هذه الخطابات ملقاة إلى العرف ، ومن المعلوم عدم بنائهم على العمل بالأمارة عند العلم بالخلاف. بل لا يبعد ظهورها في حجية الخبر المفيد الظن أو الاطمئنان ، وعدم كفاية احتمال الصدق والكذب.

وبالجملة : مفاد أدلة الاعتبار بناء على الموضوعية والطريقية واحد في جريان أصالة الصدور والدلالة والجهة ، وأن المصلحة تكون في العمل بالأمارة عند عدم العلم بالخلاف ، فلا مقتضي لحجية كليهما حال التعارض حتى يندرجا في باب التزاحم كما هو حال بعض الصور الآتية ، بل الحجة أحدهما لا بعينه كما هو الحال على الطريقية.

(١) أي : في خصوص ما لم يعلم كذبه ، وضمير «فيها» راجع إلى الأمارات.

(٢) الضمير راجع إلى «خصوص ما لم يعلم كذبه» وضمير «منها» إلى «الأمارات» وضمير «وهو» إلى «دليل» يعني : كما أنّ خصوص ما لم يعلم كذبه هو المتيقن من دليل اعتبار غير السند من الجهة والدلالة من الأمارات ، إن كان ذلك الدليل بناء العقلاء على أصالتي الظهور والصدور لبيان الواقع ، لا للتقية ونحوها من المصالح الأخر كعدم استعداد المخاطب لإلقاء الحكم الواقعي إليه.

(٣) معطوف على «غير» يعني : وكما هو المتيقن من دليل اعتبار السند لو كان دليل اعتباره بناء العقلاء ، فإنّ المتيقن من بنائهم أيضا هو كون الحجة خصوص ما لم يعلم كذبه ، وقوله : «أيضا» يعني : كبناء العقلاء في غير السند.

(٤) معطوف على «المتيقن» يعني : وكما هو ـ أي خصوص ما لم يعلم كذبه ـ ظهور دليل اعتبار السند فيه لو كان دليل اعتباره هو الآيات والأخبار.

(٥) أي : في خصوص ما لم يعلم كذبه.

__________________

(*) لا يخفى أن عطف «ظهوره» على «المتيقن» يقتضي أن تكون العبارة هكذا «وظاهره» أي :

٨١

ضرورة (١) (*) ظهورها فيه (٢) لو لم نقل بظهورها (٣) في خصوص ما إذا حصل الظن منه أو الاطمئنان.

وأما (٤) لو كان المقتضي للحجية في كل واحد من المتعارضين لكان

______________________________________________________

(١) تعليل لظهور دليل اعتبار السند ـ الّذي هو غير بناء العقلاء من الآيات والأخبار ـ في كون مقتضى السببية خصوص ما لم يعلم كذبه لو لم نقل بظهورها في خصوص ما إذا حصل الظن منه بالصدق أو الاطمئنان به.

(٢) أي : في خصوص ما لم يعلم كذبه. وضمير «هو» راجع إلى «دليل».

(٣) هذا الضمير وضمير «ظهورها» راجعان إلى الآيات والأخبار.

(٤) معطوف على قوله : «لو كان الحجة» وحاصله : أن في حجية الأمارات على السببية تفصيلا ، وهو : أنه إذا كانت الأمارة الموجبة لحدوث مصلحة أو مفسدة في المؤدى منحصرة في خصوص ما لم يعلم كذبه ، فحكمها التساقط كحجيتها بناء على الطريقية ، إذ المفروض أن ما يقتضي الحجية ـ وهو ما لم يعلم كذبه ـ ليس في كلا المتعارضين مع العلم بكذب أحدهما حتى يندرجا في المتزاحمين المنوطين بوجود المقتضي في كليهما ، فلا بدّ من إجراء حكم التعارض عليهما دون التزاحم.

وإذا كانت الأمارة الموجبة لحدوث مصلحة أو مفسدة غير منحصرة في خصوص ما لم يعلم كذبه ـ بأن كانت كل أمارة مقتضية لحدوث مصلحة أو مفسدة في المؤدى ـ فقد ذكر

__________________

وظاهر دليل اعتبار السند ، ليناسب المعطوف عليه حتى يصير المعنى «هو المتيقن من دليل اعتبار السند إن كان دليل اعتباره بناءهم ، وظاهره إن كان دليل اعتبار السند الآيات والأخبار».

وعليه فكلمة «فيه» مستغنى عنها. كما أنه لا بدّ من إبدال «ظهوره» بـ «وظاهره» فتدبر في صناعة العبارة وإن كان المراد واضحا.

(*) لا يخلو هذا التعليل من المصادرة ، لوحدة المدعى والدليل ، حيث إنّ كليهما ظهور الآيات والروايات في كون مقتضى السببية خصوص ما لم يعلم كذبه أو خصوص ما يوجب الظن أو الاطمئنان بالصدق ، فلعل الأولى أن يقال : «ضرورة انصراف إطلاقها ولو لأجل طريقية الأمارات وتشريعها تأسيسا أو إمضاء لإنجاز الواقعيات إلى ما يوجب الكشف المعتد به من الظن بل الاطمئنان» حتى يتميّز البرهان عن المدعي.

٨٢

التعارض

______________________________________________________

المصنف «قده» صورا ثلاثا :

الأولى : أن يكون مدلولا الأمارتين متضادين ، كما إذا قامت إحداهما على وجوب الإزالة عن المسجد والأخرى على وجوب الصلاة مثلا. وحكم هذه الصورة حكم باب التزاحم من التخيير إن لم يكن أحدهما أهم ولو احتمالا. والوجه في إجراء حكم التزاحم هنا هو : أن المقتضي للوجوب في كل واحد منهما ـ وهو قيام الأمارة على طبقة ـ موجود ، والمانع مفقود ، إذ المانع هو عجز المكلف عن امتثال كلا الخطابين ، وهو نظير وجوب إنقاذ الغريقين المؤمنين ، فإنّ العجز عن إنقاذهما معا لا يوجب سقوط أصل الخطاب ، بل تقيّد وجوب إنقاذ كل منهما بترك الآخر ، ونتيجته التخيير (*).

الثانية : أن تكون الأمارتان في موضوع واحد ، وكان مؤداهما حكمين إلزاميين ، كدلالة إحداهما على وجوب البقاء على تقليد الميت والأخرى على حرمته ، أو دلالة إحداهما على وجوب التسبيحات الأربع والأخرى على وجوب واحدة منها ، فإنّ جعل الضدين في موضوع واحد يؤول إلى جعل المتناقضين باعتبار الدلالة الالتزامية. والحكم في هذه الصورة كسابقتها هو التخيير إن لم يكن أحدهما أهم من الآخر ولو احتمالا ، فإنّه يقدّم على ما ليس فيه هذا الاحتمال كما هو حكم المتزاحمين في جميع الموارد.

__________________

(*) اعترض السيد الفقيه صاحب الوسيلة على حكم المصنف «قدهما» بالتخيير في هذه الصورة بأجنبية المقام عن التخيير في المتزاحمين ، فإن حكومة العقل بالتخيير بينهما إنما هي من جهة العجز عن امتثالهما بعد تمامية الملاك في كليهما ، وهذا بخلاف المقام ، فإن التخيير بينهما يكون شرعيا ، لحجية الأمارة شرعا على السببية المقتضية لحدوث مصلحة ملزمة في المؤدى ، وصيرورة كل منهما أحد فردي الواجب التخييري ، فيتخير في العمل به شرعا لا عقلا.

أقول : لم يظهر مرامه رفع مقامه ، فإن الصلاة والإزالة من أوضح صغريات باب التزاحم ، والتخيير بينهما على فرض تساويهما ملاكا عقلي لا شرعي ، لكون المجعول نفس المؤدى وهو وجوب الإزالة والصلاة تعيينا ، إذ مقتضى سببيّة كل أمارة لحدوث مصلحة في مؤداها هو جعل حكم تعييني لمؤداها ، ولم يظهر منشأ لجعل حكم تخييري بين الأمارتين ، وإنّما التخيير نشأ من حكم العقل به ، لعجز المكلف عن موافقة كلتا الأمارتين ، فالتخيير هنا هو التخيير العقلي الثابت في سائر موارد التزاحم.

٨٣

بينهما من تزاحم الواجبين (١) (*) فيما إذا كانا مؤديين إلى وجوب الضدين أو لزوم المتناقضين (٢) ، لا فيما (٣) إذا كان مؤدّى أحدهما حكما غير

______________________________________________________

الثالثة : أن تكون الأمارتان في موضوع واحد ـ كالصورة الثانية ـ وكان مؤدى إحداهما حكما إلزاميا ، ومؤدى الأخرى حكما غير إلزامي ، كدلالة إحداهما على حرمة ذبيحة الكتابي والأخرى على حليتها ، أو دلالة إحداهما على حرمة العصير الزبيبي المغلي والأخرى على إباحته. وحكم هذه الصورة لزوم الأخذ بالحكم الإلزاميّ ، وطرح غيره ، لعدم المعارضة بين المقتضي واللامقتضي ، فإنّ الإلزاميّ ناش من المقتضي ، بخلاف غير الإلزاميّ ، فإنه ليس فيه المقتضي ، إذ يكفي فيه عدم تحقق مقتضي الإلزام (**).

(١) لكون كل منهما لأجل سببيّته لحدوث مصلحة أو مفسدة في مؤدّاه واجدا للمقتضي الّذي هو مقوِّم باب التزاحم.

(٢) قد عرفت بعض أمثلتهما آنفا ، وضمير «بينهما» راجع إلى «المتعارضين».

(٣) معطوف على «فيما إذا» يعني : فلا تجري قاعدة التزاحم فيما إذا دلّ أحدهما على حكم إلزامي والآخر على حكم غير إلزامي. وضمير «أحدهما» راجع إلى «المتعارضين» فقوله : «لا فيما إذا» إشارة إلى الصورة الثالثة المذكورة بقولنا : «أن تكون الأمارتان في موضوع واحد وكان مؤدى إحداهما حكما إلزاميا ... إلخ» وغرضه عدم جريان قاعدة

__________________

(*) الأولى تبديله بـ «الحكمين» ليشمل لزوم المتناقضين ، ضرورة أنه ليس من موارد تزاحم الواجبين ، بل من تزاحم الحكمين وإن كان أحدهما عدميا ، لكونه حكما أيضا.

(**) وهنا صورة أخرى لم يتعرض لها الماتن ، وهي : قيام أمارتين على حكمين إلزاميين لفعلين لا تضادّ بينهما ذاتا كدلالة إحداهما على وجوب الظهر والأخرى على وجوب الجمعة ، مع العلم الإجمالي بعدم وجوبهما معا. وحكم هذه الصورة معاملة وجوب كلا الفرضين ، لوجود المصلحة في كل منهما من أجل قيام الأمارة عليه. والعلم الإجمالي بعدم وجوب أحدهما واقعا لا ينافي وجوبهما معا بعنوان ثانوي وهو قيام الأمارة عليه.

وهذا نظير العلم الإجمالي بحرمة أحد الكأسين لإصابة القذر به ، مع تعلق الحلف بترك شربهما معا ، فإن حلِّية أحدهما واقعا من جهة العلم الإجمالي بطهارته لا تنافي وجوب الاجتناب عنهما بسبب طروء عنوان الحلف على تركهما ، كما لا تنافي وجوب الاجتناب عنهما عقلا لتحصيل اليقين بالاجتناب عن النجس الواقعي المعلوم إجمالا.

٨٤

إلزامي ، فانه (١) حينئذ لا يزاحم الآخر ، ضرورة (٢) عدم صلاحية ما لا اقتضاء فيه أن يزاحم به ما فيه (٣) الاقتضاء.

إلّا أن يقال (٤) : بأنّ قضية اعتبار دليل غير الإلزاميّ

______________________________________________________

التزاحم في هذه الصورة.

(١) يعني : فإنّ مؤدى أحدهما ـ حين كونه غير إلزامي ـ لا يزاحم مؤدى الآخر وهو الإلزاميّ.

(٢) تعليل لعدم مزاحمة غير الإلزاميّ للإلزامي ، وحاصل التعليل ما عرفته بقولنا : «لعدم المعارضة بين المقتضي واللامقتضي ... إلخ».

ثم إن التفصيل الّذي ذكره المصنف «قده» في حجية الأمارات على السببية ـ بين كون مطلق الأمارة سببا لحدوث مصلحة في مؤداها ، وبين كون خصوص أمارة لم يعلم كذبها سببا له ، باندراج الصورة الأولى في المتعارضين اللذين حكمهما التساقط ، والصورة الثانية في المتزاحمين اللذين حكمهما التخيير مع التساوي ، والأخذ بالأهم ولو احتمالا ، ولزوم الأخذ بخصوص الحكم الإلزاميّ فيما إذا كان مؤدى الآخر حكما غير إلزامي ـ تعريض بما أفاده شيخنا الأعظم «قده» من اندراج المتعارضين بناء على حجية الأمارات من باب السببية مطلقا في باب التزاحم من دون التفصيل المذكور في المتن (*).

(٣) الضمير راجع إلى «ما» الموصول المراد به المعارض الّذي فيه الاقتضاء ، وضميرا «فيه ، به» راجعان إلى الموصول في «ما لا اقتضاء فيه» المقصود به المعارض الّذي ليس فيه الاقتضاء.

(٤) استثناء مما ذكره في حكم المتعارضين ـ اللذين يكون مؤدى أحدهما حكما إلزاميا

__________________

(*) الظاهر من عبارة الشيخ : «فيصير المتعارضان من قبيل السببين المتزاحمين ، فيلغى أحدهما مع وجود وصف السببية فيه لإعمال الآخر كما في كل واجبين متزاحمين» هو إجراء حكم المتزاحمين في خصوص ما كان وصف السببية فيه كما في كل واجبين متزاحمين ، فإذا كان وصف السببية في أحدهما دون الآخر فهو عند الشيخ أيضا خارج عن التزاحم ، فيمكن استظهار تفصيل المصنف من كلام الشيخ أيضا ، والتأمل في صحة نسبة إجراء حكم المتزاحمين إلى الشيخ في الأمارات المتعارضة بناء على حجيتها من باب السببية مطلقا.

٨٥

أن يكون (١) عن اقتضاء ، فيزاحم به (٢) حينئذ ما يقتضي غير الإلزاميّ ، ويحكم فعلا بغير الإلزاميّ ، ولا يزاحم (٣) بمقتضاه (٤) (*) ما (٥) يقتضي غير الإلزاميّ ، لكفاية عدم تمامية علّة الإلزاميّ في الحكم (٦) بغيره.

______________________________________________________

ومؤدى الآخر حكما غير إلزامي ـ من تقديم الإلزاميّ على غيره. ومحصل وجه الاستثناء هو : أن الحكم غير الإلزاميّ إن كان لأجل المقتضي ـ كالإلزامي ـ اندرج المتعارضان حينئذ في تعارض المقتضيين ، وخرجا عن باب تعارض المقتضي واللامقتضي ، لأنّ الحكم غير الإلزاميّ نشأ أيضا عن ملاك حدث في مؤدى الأمارة بسبب قيامها عليه ، واقتضى تشريع إباحة الفعل والترك ، فيندرجان في باب التزاحم ، إلّا أنّه لا بدّ من الأخذ بما يدل على الحكم غير الإلزاميّ ، لعدم تأثير مقتضي الحكم الإلزاميّ مع وجود المانع ، وهو ما يقتضي الحكم غير الإلزاميّ. وعدم تمامية المقتضي للحكم الإلزاميّ كاف في عدم تحققه وفي ثبوت غير الإلزاميّ وفعليته.

(١) يعني : أن يكون الحكم غير الإلزاميّ عن اقتضاء.

(٢) يعني : فيزاحم بغير الإلزاميّ ـ حين كونه عن اقتضاء ـ ما يقتضي الحكم الإلزاميّ ، فيقدّم غير الإلزاميّ على الإلزاميّ من دون عكس.

(٣) بالفتح معطوف على «فيزاحم» يعني : ولا ينعكس الأمر بأن يزاحم ملاك الحكم غير الإلزاميّ بملاك الإلزاميّ حتى يرتفع به فعلية غير الإلزاميّ ، وذلك لكفاية عدم تمامية ملاك الإلزاميّ في فعلية غير الإلزاميّ ، وعدم الحاجة إلى تمامية مقتضية ، بخلاف فعليّة الإلزاميّ ، فإنّها منوطة بتمامية علته من وجود المقتضي وعدم المانع.

(٤) أي : بمقتضى الإلزاميّ.

(٥) نائب عن فاعل «يزاحم» والمراد بـ «ما» الموصول هو ملاك الحكم غير الإلزاميّ.

(٦) متعلق بـ «الكفاية» وضمير «بغيره» راجع إلى «الإلزاميّ».

__________________

(*) الظاهر كون العبارة «بمقتضيه» حتى يناسب ما بعده من قوله : «ما يقتضي غير الإلزامي» إذ المقصود فرض التزاحم بين المقتضيين ، لكن المذكور فيما ظفرنا به من نسخ الكفاية هو «بمقتضاه».

٨٦

نعم (١) يكون باب التعارض من باب التزاحم مطلقا (٢) لو كان قضية

______________________________________________________

(١) استدراك على قوله : «لا فيما إذا كان مؤدى أحدهما حكما غير إلزامي ... إلخ» وحاصله : أنّه يمكن أن يندرج في باب التزاحم ـ الّذي حكمه التخيير ـ ما إذا كان مؤدّى أحدهما حكما غير إلزامي ، بأن يقال : إنّ دليل اعتبار كل من المتعارضين لا يختص بإثبات المؤدّى من الوجوب والحرمة والإباحة ، بل يقتضي وجوب الموافقة الالتزامية بمؤدّاه أيضا وإن لم يكن مؤدّاه حكما إلزاميا ، وحينئذ فمع تعذر الالتزام بكليهما يلزم الالتزام بأحدهما تخييرا ، كما هو الحال في جميع الأمارات المتعارضة بناء على وجوب الموافقة الالتزامية كالموافقة العملية.

(٢) يعني : ولو كان الحكم غير الإلزاميّ ـ كالاستحباب ـ مما لا اقتضاء فيه ، لكن الالتزام به واجب وإن كان العمل غير واجب ، فيتجه حينئذ ما أفاده من اندراج المتعارضين في المتزاحمين كالواجبين المتزاحمين ، لعدم إمكان الموافقة الالتزامية بالنسبة إلى كليهما كما لا يخفى.

وأما إرادة الطريقية والموضوعية من قوله : «مطلقا» كما قيل ، ففيها : أنها لا تلائم الطريقية ، للعلم بكذب أحدهما المانع عن وجوب الالتزام بمؤدى الخبرين المتعارضين ، فلا يتجه وجوب الالتزام بهما إلّا على مبنى السببية الموجبة للحكم الظّاهري في كل

__________________

ثم إن ما أفاده «قده» ـ من عدم تأثير ملاك الحكم الإلزاميّ في فعليته ، لوجود المانع وهو ما يقتضي الحكم غير الإلزاميّ ، وكون الحكم الفعلي غير الإلزاميّ ـ مبنيّ على كون عدم ما يقتضي الحكم غير الإلزاميّ دخيلا في موضوع الحكم الإلزاميّ حتى يستند عدم تشريعه إلى عدم تمامية موضوعه. نظير ما قيل : من دخل عدم استلزام الحج لترك واجب أو فعل حرام في الاستطاعة التي هي موضوع وجوب الحج. وهذا أجنبي عن باب التزاحم المنوط بتمامية الموضوع والحكم في كل واحد من المتزاحمين ، وكون المانع عدم قدرة المكلف على امتثالهما معا.

وعليه ففي تزاحم الحكم الإلزاميّ وغيره يقدّم الإلزاميّ على غيره ، لأقوائية ملاكه من ملاك غيره. كما أن الحق في وجوب الحج عدم دخل عدم استلزامه لترك واجب أو فعل حرام في موضوعه المفسّر في الروايات بأمور ليس الاستلزام المزبور منها ، بل وجوب الحج وترك ذلك الواجب أو فعل الحرام متزاحمان ، ويقدّم ما هو الأعم منهما.

٨٧

الاعتبار هو لزوم البناء والالتزام (١) بما يؤدِّي إليه من الأحكام ، لا مجرد (٢) العمل على وفقه (٣) بلا لزوم الالتزام به. وكونهما (٤) من تزاحم الواجبين حينئذ (٥) وإن كان واضحا ، ضرورة (٦) عدم إمكان الالتزام بحكمين في موضوع واحد من الأحكام ، إلّا أنّه (٧) لا دليل نقلا ولا عقلا على الموافقة

______________________________________________________

منهما ، والالتزام به ، فإنه بناء على الطريقية لا حكم أصلا حتى يجب الالتزام به كما لا يخفى.

(١) وهو وجوب الموافقة الالتزامية.

(٢) معطوف على «لزوم» يعنى : لا مجرّد وجوب الموافقة العملية ، بل هو مع وجوب الموافقة الالتزامية.

(٣) يعني : على وفق ما يؤدِّي إليه من الأحكام من دون الالتزام به. وضمير «به» كضمير «وفقه» راجع إلى الموصول في «بما يؤدِّي إليه من الأحكام».

(٤) أي : كون المتعارضين من باب تزاحم الواجبين.

(٥) أي : حين كون مقتضى دليل الاعتبار وجوب الموافقة الالتزامية وإن كان تزاحم المتعارضين واضحا ، حيث إن وجوب الالتزام بمضمون كل منها ثابت كوجوب الواجبين المتزاحمين في سائر المقامات مع تعذر الالتزام بهما ، فلا محيص عن الالتزام بأحدهما تخييرا ، كسائر موارد التزاحم.

والحاصل : أنه بناء على السببية وعلى وجوب الموافقة الالتزامية يندرج المتعارضان في باب التزاحم مطلقا سواء أكانا مؤديين إلى وجوب الضدين أم لزوم المتناقضين ، أم كان مؤدى أحدهما حكما إلزاميّا ومؤدى الآخر حكما غير إلزامي عن اقتضاء أو لا عن اقتضاء.

(٦) تعليل لكون المتعارضين ـ بناء على وجوب الموافقة الالتزامية ـ من المتزاحمين ، وتقدّم توضيحه بقولنا : «حيث إنّ وجوب الالتزام بمضمون كل منهما ثابت ... إلخ».

(٧) الضمير للشأن ، وغرضه الإشكال على ما أفاده بقوله : «نعم يكون باب التعارض من باب التزاحم مطلقا ... إلخ» وهذا الإشكال يرجع إلى وجهين :

الأوّل : عدم دليل نقلي ولا عقلي على لزوم الموافقة الالتزامية في الأحكام الواقعية

٨٨

الالتزامية للأحكام الواقعية فضلا عن الظاهرية (*) كما مرّ تحقيقه (١).

وحكم (٢) التعارض بناء على السببية فيما كان من باب التزاحم (٣) هو التخيير لو لم يكن أحدهما معلوم الأهمية أو محتملها في الجملة (٤) حسبما فصّلناه في مسألة الضد (٥).

______________________________________________________

فضلا عن الأحكام الظاهرية التي هي مؤديات الأمارات بناء على السببية. وقوله : «إلّا أنه لا دليل نقلا ... إلخ» إشارة إلى هذا الوجه الأوّل.

(١) في الأمر الخامس من مباحث القطع.

(٢) هذا إشارة إلى الوجه الثاني ، وحاصله : أنه ـ بعد تسليم وجوب الموافقة الالتزامية حتى في الأحكام الظاهرية ـ لا يكون التخيير حكم المتزاحمين مطلقا كما ينسب إلى الشيخ «قده» بل في خصوص ما لم يكن أحدهما معلوم الأهمية أو محتملها ، إذ لو كان أحدهما كذلك لزم الأخذ به تعيينا.

والحاصل : أن مجرد وجوب الموافقة الالتزامية لا يوجب التخيير بقول مطلق.

(٣) كما في الصورتين الأوليين ، وهما : لزوم وجوب الضدين كالإزالة والصلاة ، ولزوم المتناقضين كطهارة الغسالة وعدمها.

(٤) هذا قيد للترجيح بالأهمية في باب التزاحم ، يعني : أن الترجيح بالأهمية في الجملة ثابت ، وأمّا الترجيح بها مطلقا حتى مع وجود غيرها من المرجحات ـ كالتقدم الزماني وعدم البدل لأحد المتزاحمين وغيرهما من المرجحات ـ ففيه كلام مذكور في محله.

(٥) لم يتقدم منه في مسألة الضد تفصيل ولا إجمال بالنسبة إلى تقديم محتمل

__________________

(*) لا يخفى أن المناسب جعل مؤديات الأمارات بناء على الموضوعية من الأحكام الواقعية الثانوية ، لأنّها كالأحكام الاضطرارية في طول الأحكام الأوّلية ، ضرورة أن ثبوت حكم ـ بسبب قيام خبر الثقة عليه ـ في طول الحكم الثابت للشيء بعنوانه الأوّلي ، وتسميتها بالأحكام الظاهرية إنما هي لأجل كون موضوعها الأمارات غير العلمية ، نظير الأصول العملية التي هي أحكام ووظائف للجاهل. والفرق بينهما إن نفس خبر الثقة من دون لحاظ الجهل موضوع للحكم ، بخلاف الحكم في الأصل العملي ، حيث إن الشك لوحظ فيه موضوعا ، دون الأمارة ، فإنه لوحظ فيها موردا ، لعدم تعقل التعبد مع العلم بالوفاق أو الخلاف.

٨٩

وإلّا (١) فالتعيين. وفيما (٢) لم يكن من باب التزاحم هو (٣) لزوم الأخذ بما دلّ على الحكم الإلزاميّ لو لم يكن (٤) في الآخر مقتضيا (*) لغير الإلزاميّ ،

______________________________________________________

الأهمية ، وإنما تعرض له في موضعين آخرين ، أحدهما : في مسألة الدوران بين المحذورين بقوله : «ولا يذهب عليك أن استقلال العقل بالتخيير إنما هو فيما لا يحتمل الترجيح ...» وإن كان مبنى البحث في تلك المسألة طريقية الاحتمال لا موضوعيته.

ثانيهما : في حاشية الرسائل ، حيث فصّل في كلام الشيخ : «وكذا لو احتمل الأهمية في أحدهما ... إلخ» في منشأ الأهمية ، ومنع إطلاق حكم الشيخ بتقديم محتمل الأهمية ، وقال : «اعلم أن منشأ الأهمية تارة أشدّية المناط وآكديته كما في الصلاة بالإضافة إلى ساير الواجبات. وأخرى اتحاده مع عنوان واجب آخر ... ولو كان احتمالها ناشئا من الجهة الأولى فالظاهر استقلال العقل بالاشتغال وعدم الفراغ عن العهدة على سبيل الجزم إلّا بإتيان ما فيه الاحتمال ، حيث إنّ التكليف به في الجملة ثابت قطعا ، وإنّما الشك في تعيينه هل هو على سبيل التخيير أو التعيين ... إلخ» (١).

(١) يعني : ولو كان أحدهما معلوم الأهمية أو محتملها وجب الأخذ به تعيينا.

(٢) معطوف على «فيما كان» يعني : وحكم التعارض فيما لم يكن من باب التزاحم ... إلخ. وهذا إشارة إلى الصورة الثالثة ، وهي ما إذا كان مؤدّى أحد المتعارضين حكما إلزاميا كالوجوب ، والآخر حكما غير إلزامي كالاستحباب أو الإباحة ، كما إذا دلّ أحدهما على وجوب التسبيحات ثلاث مرات في الأخيرتين من الرباعيات ، والآخر على استحباب ما زاد على مرة واحدة منها فيهما.

ووجه عدم كون هذه الصورة من التزاحم هو عدم صلاحية ما لا اقتضاء فيه لمعارضة ما فيه الاقتضاء ، فيقدّم ما يدلّ على الحكم الإلزاميّ على غير الإلزاميّ ، إلّا إذا كان ذلك أيضا ناشئا عن المقتضي ، فيقدّم هو على الإلزاميّ ، كما أشار إليه بقوله : «وإلّا فلا بأس بأخذه».

(٣) هذا الضمير راجع إلى «حكم» في قوله : «وحكم التعارض».

(٤) هذا إشارة إلى قوله : «إلّا أن يقال بأن قضية اعتبار دليل غير الإلزاميّ ... إلخ» وقد تقدّم توضيحه هناك ، وأشرنا إليه هنا بقولنا : «إلّا إذا كان ذلك أيضا ناشئا عن ... إلخ».

__________________

(*) الصواب «مقتضٍ» بدون الألف والياء ، ليكون اسم «يكن».

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢٧٠

٩٠

وإلّا (١) فلا بأس بأخذه والعمل عليه ، لما أشرنا إليه من وجهه (٢) آنفا ، فافهم (٣).

هذا (٤) هو قضية القاعدة في تعارض الأمارات ،

______________________________________________________

(١) يعني : ولو كان في الآخر مقتض لغير الإلزاميّ.

(٢) وهو كفاية عدم تمامية علّة الحكم الإلزاميّ في فعلية الحكم غير الإلزاميّ.

(٣) لعله إشارة إلى ضعف وجه تقديم الحكم غير الإلزاميّ الاقتضائي على الإلزاميّ بما بيّناه في التعليقة من تقديم الإلزاميّ على غيره ، لأهمية ملاكه من ملاكه.

أو إلى : أن غير الإلزاميّ بعد مزاحمته للإلزامي يصير لا اقتضائيا. أو إلى غير ذلك.

(٤) أي : ما تقدم من أول الفصل إلى هنا في تعارض الدليلين ـ من التساقط في المدلول المطابقي وبقاء أحدهما لا بعينه على حجيته في نفي الثالث بناء على الطريقية. وكذا الحال بناء على حجية الأمارات على السببية بالنحو الأوّل ، وهو كون السببية في خصوص أمارة لم يعلم كذبها ، فمع العلم بكذب أحدهما إجمالا يسقط كلاهما عن الحجية. وأمّا على السببية بالنحو الآخر وهو كون الأمارة مطلقا ولو مع العلم بكذبها إجمالا سببا لحدوث المصلحة والحكم الفعلي فقد عرفت أن حكمها التخيير ـ هو مقتضى القاعدة الأوّلية في تعارض الأمارات.

وهذا تمهيد للإشكال على قاعدة : «أولوية الجمع مهما أمكن من الطرح» بناء على إرادة ظاهرها من لزوم التكلف والتمحّل في الجمع بين الدليلين حتى يخرجا عن

__________________

ثم إن ما أفاده «قده» من تقدّم غير الإلزاميّ الّذي فيه الاقتضاء على الإلزاميّ معلّلا ذلك بكفاية عدم تمامية علة الإلزاميّ في الحكم غير الإلزاميّ غير ظاهر ، إذ بعد فرض وجود المقتضي في كليهما وكون أحدهما مقتضيا لتشريع الحكم الإلزاميّ فهل يتصور أن لا يكون أهم من الملاك الّذي لا يقتضي إلا حكما ترخيصيا؟ ولو سلّمنا عدم أهمية الملاك الإلزاميّ من الملاك الترخيصي ، فلا أقل من التساوي المسقط لكلا الملاكين عن التأثير ، فيصير الحكم غير الإلزاميّ لا عن اقتضاء. وهذا خلاف ما فرضه «ره» من كون غير الإلزاميّ عن اقتضاء.

هذا كله مضافا إلى افتقار كل حكم إلى تمامية علّته من المقتضي وعدم المانع ، فلو كان مقتضي الحكم غير الإلزاميّ مانعا عن فعلية الحكم الإلزاميّ كان مقتضي ذلك أيضا مانعا عن فعلية الحكم غير الإلزاميّ.

٩١

لا الجمع (١) بينهما بالتصرف في أحد المتعارضين ، أو في كليهما كما هو (٢) قضية ما يتراءى مما قيل من (٣) : «الجمع مهما أمكن أولى من الطرح»

______________________________________________________

التعارض ولو كان هذا الجمع بعيدا عن مذاق العرف وطريقتهم.

(١) معطوف على «هذا» يعني : لا أن مقتضى القاعدة هو الجمع بين المتعارضين بالتصرف في أحدهما أو كليهما.

(٢) الضمير راجع إلى «الجمع» يعني : كما أن الجمع مقتضى ما يتراءى ... إلخ.

(٣) قد استدلّ على أولوية الجمع من الطرح بوجوه :

منها : ما في غوالي اللئالي وغيره من الإجماع على أولوية الجمع المزبور من الطرح (١).

ومنها : أن الأصل في الدليلين الإعمال ، فيجب الجمع بينهما مهما أمكن ، لاستحالة الترجيح من غير مرجح. ذكره ثاني الشهيدين «قدهما» وغيره.

ومنها : ما نقله في الرسائل بقوله : «وأخرى بأن دلالة اللفظ على تمام معناه أصلية وعلى جزئية تبعية ، وعلى تقدير الجمع يلزم إهمال دلالة تبعية ، وهو أولى مما يلزم على تقدير عدمه ، وهو إهمال دلالة أصلية» (٢) ذكره العلامة «قده» في محكي النهاية.

والكل مخدوش ، إذ في الأوّل : عدم حجيته ، لعدم حجية الإجماع المنقول سيّما مع العلم بعدم تحققه ، لما مرّ من كون حكم المتعارضين على الطريقية وعلى بعض أنحاء السببية هو التساقط.

وفي الثاني : أن مقتضى دليل الاعتبار في كل من المتعارضين وإن كان هو لزوم إعمالهما ، لكنه يلزم إعمالهما بنحو يساعد عليه العرف ، لأنهم المخاطبون بالخطابات الشرعية. فالنتيجة : أن الجمع لا بدّ أن يكون بمساعدة العرف لا مطلقا.

وفي الثالث : أن الجمع إن كان لمساعدة العرف كما في مثل العام والخاصّ فهو حق ، لكن ليس للأولوية المزبورة. وإن كان لغير مساعدة العرف فالأولوية ممنوعة ، لعدم دليل عليها ، وما ذكر مستندا لها مجرد استحسان لا يعبأ به ما لم يوجب أظهرية أحد المتعارضين من الآخر.

__________________

(١) عوالي اللئالي ٤ ـ ١٣٦

(٢) كتاب القوانين أواسط القانون الأول من الخاتمة

٩٢

إذ (١) لا دليل عليه فيما لا يساعد عليه العرف مما (*) كان المجموع أو أحدهما قرينة على التصرف في أحدهما بعينه أو فيهما ، كما عرفته في الصور السابقة (٢).

مع (٣) أنّ في الجمع كذلك (٤) أيضا (٥) طرحا للأمارة أو الأمارتين (٦).

______________________________________________________

(١) تعليل لقوله : «لا الجمع بينهما» وقد أجاب عنه بوجهين ، أحدهما : عدم الدليل على الجمع المزبور ، لما عرفت من ضعف أدلة أولوية الجمع بين الدليلين.

(٢) من موارد الجمع العرفي كالعام والخاصّ ، والمطلق والمقيد ، والنص أو الأظهر والظاهر ، وغير ذلك.

(٣) هذا إشارة إلى الوجه الثاني ، وحاصله : أنّ غرض القائل بأولوية الجمع من الطرح إعمال مقتضى الأصل ، وهو الجمع بين الدليلين والفرار عن محذور طرح أحدهما ، ومن المعلوم عدم حصول هذا الغرض ، ضرورة أن الجمع بينهما بالتصرف في أحدهما أو كليهما مستلزم لسقوط أصالة الظهور في أحدهما أو كليهما عن الاعتبار ، وهذا ينافى أولوية الجمع من الطرح ، لأنه ليس جمعا بل هو طرح.

(٤) أي : بالتصرف في أحدهما أو كليهما.

(٥) أي : كطرح أحد الدليلين في استلزام الجمع طرحا لأمارة أو أمارتين.

(٦) طرح الأمارة ـ أي أصالة الظهور ـ يكون في صورة التصرف في أحد الدليلين ، وطرح الأمارتين ، أي أصالتي الظهور ـ يكون في صورة التصرف في كلا الدليلين ، فلا وجه

__________________

(*) هذا بيان لـ «ما» الموصول في «فيما لا يساعد» ومقتضاه حينئذ كون قوله : «المجموع أو أحدهما قرينة عرفية ... إلخ» بيانا لما لا يساعد عليه العرف. مع أنه ليس كذلك ، بداهة أن ذلك ـ أي كون المجموع أو أحدهما قرينة عرفية ... إلخ ـ من الجمع العرفي الّذي يساعد عليه العرف.

فالأولى أن تكون العبارة هكذا : «إذ لا دليل عليه ـ أي على الجمع في غير ما يساعد عليه العرف مما كان المجموع أو أحدهما .. إلخ» حيث إن «ممّا» حينئذ بيان لـ «ما يساعد عليه العرف» لا لما لا يساعد عليه العرف كما واضح. أو يقال : «إذ لا دليل عليه في غير موارد الجمع العرفي ، كما إذا كان المجموع أو أحدهما ... إلخ» فتأمل في العبارة.

٩٣

ضرورة (١) سقوط أصالة الظهور في أحدهما أو كليهما معه (٢).

وقد عرفت (٣) أن التعارض بين الظهورين فيما كان سنداهما قطعيّين (٤) ، وفي السندين إذ كانا ظنّيّين (٥). وقد عرفت (٦) أن قضية التعارض إنّما هو

______________________________________________________

لأولوية الجمع من الطرح.

(١) تعليل لكون هذا الجمع طرحا ، وقد عرفت أن المراد بالطرح طرح أصالة الظهور.

(٢) أي : مع هذا الجمع ، لاستلزامه سقوط أصالة الظهور في أحد المتعارضين لو كان التصرف في أحدهما ، وسقوطها في كليهما لو كان التصرف فيهما معا.

(٣) هذا تمهيد لتوجيه أولوية الجمع من الطرح بعد الإشارة إلى التعارض موضوعا وحكما ، وأنّ ما ذكروه من قاعدة أولوية الجمع لا يلائم ما تقدّم من حكم التعارض.

توضيح ما أفاده : أن موضوع التعارض إمّا يكون في الدلالة كما إذا كان سندا المتعارضين قطعيين ، أو في السندين وغيرهما كما إذا كانا ظنّيين من جميع الجهات ليكون التعارض بين الأصول الستة ، أو من حيث السند فقط ليكون التعارض بين الأصلين ، وهما أصالتا الصدور. وحكم التعارض في جميع هذه الصور هو التساقط ، لا الجمع بينهما كما هو مقتضى أولوية الجمع.

(٤) لم يذكر المصنف «قده» في الفصل السابق حكم تعارض الدليلين فيما كان سنداهما قطعيين ، بل اقتصر على تعارض السندين الظنيين مع قطعية الدلالة أو الجهة ، فلعلّه أراد أنه يعلم حكم قطعية السندين من مجموع ما أفاده في صور التعارض.

(٥) هذا وما قبله ممّا يبين موضوع التعارض ، وأنه قد يتحقق في الدلالة كما في قطعية سنديهما ، حيث إن القطع بالصدور قرينة صارفة عن ظهورهما بحملهما على معنيين مجازيين يمكن اجتماعهما والتعبد بهما ، لارتفاع التنافي بينهما الموجب لامتناع التعبد بمدلوليهما إلّا بالحمل المزبور. وقد يتحقق التعارض في السند كما إذا كانا ظنّيين ، كما مرّ آنفا.

(٦) يعني : في أوّل هذا الفصل ، حيث قال : «... لم يكن واحد منهما بحجة في خصوص مؤداه» وهذا إشارة إلى حكم التعارض ، وهو سقوط المتعارضين في خصوص المدلول المطابقي على التفصيل الّذي تقدّم سابقا ، لا بقاؤهما على الحجية.

٩٤

سقوط المتعارضين في خصوص (١) كل ما يؤدِّيان إليه من الحكمين ، لا بقاؤهما (٢) على الحجية بما يتصرف فيهما أو في أحدهما (٣) ، أو بقاء (٤) سنديهما عليها (٥) كذلك (٦) بلا (٧) دليل يساعد عليه من عقل أو نقل ، فلا يبعد (٨)

______________________________________________________

(١) المراد به المدلول المطابقي ، و «من الحكمين» بيان لـ «ما» الموصول.

(٢) أي : لا بقاء المتعارضين ، وهو معطوف على «سقوط» وهذا إشارة إلى قاعدة أولوية الجمع من الطرح ، وحاصله : أن حكم المتعارضين هو التساقط عن الاعتبار ، لا بقاؤهما على الحجية كما هو مقتضى قاعدة «أولوية الجمع» الموجبة لارتكاب التأويل في أحدهما أو كليهما ، مع وضوح عدم الدليل على حجية الكلام في المؤوّل.

(٣) هذا الضمير وضمير «فيهما» راجعان إلى المتعارضين ، أي : يتصرف في ظهور كلا المتعارضين أو أحدهما ، هذا في صورة القطع بصدورهما وعدم إمكان التصرف في سنديهما لأجل هذا القطع ، فلا بدّ من التصرف في ظهور أحدهما أو كليهما كما تقتضيه قاعدة الجمع المزبورة.

(٤) معطوف على «بقاؤهما» هذا في صورة ظنية السندين ، يعني : أنه يبنى على بقاء سنديهما على الحجية ـ التي يقتضيها دليل حجية الخبر ـ مع التصرف في ظهورهما أو أحدهما إعمالا لقاعدة أولوية الجمع من الطرح.

(٥) أي : بقاء سندي المتعارضين على الحجية.

(٦) يعني : بالتصرف فيهما أو في أحدهما.

(٧) متعلق بـ «بقاء سنديهما» يعني : أنه لا دليل على حجية سنديهما مع ظنّيتهما ، لا من العقل ، لما مرّ من أن مقتضاه سقوط المتعارضين عن الحجية ، ولا من النقل ، لأنّ مقتضى الأخبار العلاجية حجية أحدهما تعيينا أو تخييرا.

(٨) هذه نتيجة ما تقدّم من كون مقتضى التعارض سقوط المتعارضين عن الحجية ، لا بقاؤهما على الحجية والتصرف فيهما أو في أحدهما ، وهو التوجيه الّذي أشرنا إليه في شرح قوله «قده» : «وقد عرفت أن التعارض بين الظهورين» وحاصله : أنه يمكن توجيه قاعدة «الجمع مهما أمكن أولى من الطرح» بأنّ المراد بالإمكان الّذي هو معقد إجماع

٩٥

أن يكون المراد من إمكان الجمع هو إمكانه عرفا. ولا ينافيه (١) الحكم بأنّه أولى مع لزومه (٢) حينئذ (٣) وتعيّنه ، فإنّ (٤) أولويته من قبيل الأولوية في

______________________________________________________

غوالي اللئالي ليس ذلك الإمكان العقلي ، بل المراد به الإمكان العرفي ، إذ العقلي منه يوجب انسداد باب التعارض رأسا ، ضرورة إمكان الجمع عقلا بين المتعارضين في جميع الموارد ولو بحسب الزمان والمكان ، كحمل أحدهما على اللّيل والآخر على النهار ، أو حمل أحدهما في هذا المكان والآخر في المحل الكذائي. أو بحسب حالات المكلف كالصحة والمرض والفقر والغنى وغيرها.

وعليه فلا يبقى موضوع للأخبار العلاجية. ومن البديهي عدم بناء الأصحاب على اعتبار الجمع العقلي بين الأخبار المتعارضة ، بل بناؤهم على إعمال قواعد التعارض فيها من الترجيح والتخيير وغيرهما. ولو كان مرادهم الإمكان العقلي لكان عملهم مخالفا لقولهم ، ولكان مقدّما على أحكام التعارض.

فلا وجه لإرادة الإمكان العقلي من القاعدة في معقد الإجماع ، بل المراد هو الإمكان العرفي كحمل العام على الخاصّ ، والمطلق على المقيّد ، وغيرهما من موارد الجمع العرفي المتقدمة سابقا.

(١) يعني : ولا ينافي الإمكان العرفيّ الحكم ، وهذا إشكال على التوجيه المزبور ، وحاصله : أنه بناء على إرادة الإمكان العرفي يتعين الجمع بين المتعارضين ، لا أنه أولى ، مع أن القائلين بأولوية الجمع لم يقولوا بتعيُّنه ولزومه.

(٢) هذا الضمير وضميرا «بأنه ، بعينه» راجعة إلى الجمع الممكن عرفا.

(٣) أي : حين إمكان الجمع عرفا ، وقوله : «وتعينه» معطوف على «لزومه».

(٤) أي : فإنّ أولوية الجمع عرفا ، وهذا دفع الإشكال ، ومحصله : أن الأولوية يراد بها التفضيل تارة والتعيين أخرى كما في آية «أولي الأرحام» حيث إن الإرث يختص بمن في الطبقة السابقة ، فأولويتها تعيينيّة. وكذا في المقام ، فإنّ أولوية الجمع العرفي بين الدليلين تعيينية.

وعليه فالتوجيه المزبور ـ وهو حمل الإمكان على العرفي لا العقلي ـ خال عن الإشكال.

٩٦

«أولي الأرحام» وعليه (١) لا إشكال فيه ولا كلام.

______________________________________________________

(١) أي : وعلى هذا التوجيه لا إشكال في أولوية الجمع من الطرح ولا كلام ، وقد سبقه شيخنا الأعظم «قده» في هذا التوجيه بقوله : «وأما ما تقدّم من غوالي اللئالي فليس نصا بل ولا ظاهرا في دعوى تقديم الجمع بهذا النحو على الترجيح والتخيير ، فإنّ الظاهر من الإمكان في قوله : ـ وإن أمكنك التوفيق بينهما ـ هو الإمكان العرفي في مقابل الامتناع العرفي بحكم أهل اللسان ، فإنّ حمل اللفظ على خلاف ظاهره بلا قرينة غير ممكن عند أهل اللسان ، بخلاف حمل العام والمطلق على الخاصّ والمقيد».

٩٧

فصل (١)

لا يخفى أن ما ذكر من قضية التعارض بين الأمارات إنما هو بملاحظة القاعدة (٢) في تعارضها (٣) ، وإلّا (٤) فربما يدّعى الإجماع على عدم سقوط كلا المتعارضين في الأخبار كما اتفقت عليه (٥) كلمة غير واحد من الأخبار (٦).

______________________________________________________

الأصل الثانوي الشرعي في الخبرين المتعارضين

(١) الغرض من عقده بيان ما تقتضيه القاعدة النقليّة في تعارض الروايات ، كما كان عقد الفصل السابق لبيان ما تقتضيه القاعدة العقلية في تعارضها.

(٢) أي : القاعدة العقلية المقتضية لتساقط المتعارضين في الجملة.

(٣) أي : في تعارض الأمارات.

(٤) أي : وإن لم تلاحظ القاعدة الأوّلية العقلية فربما يدّعى قيام الدليل النقلي من الإجماع والروايات العلاجية على عدم سقوطهما معا عن الحجية ، وأنّ أحدهما حجة تعيينا أو تخييرا في خصوص الروايتين المتعارضتين ، لا جميع الأمارات المتعارضة ، وأنّه لا بدّ من رفع اليد عما تقتضيه القاعدة العقلية من سقوطهما معا ، والالتزام بحجية إحداهما تعيينا أو تخييرا.

(٥) أي : على عدم سقوط كلا المتعارضين.

(٦) أي : الأخبار العلاجية التي هي أدلة ثانوية على حجية أحد الخبرين المتعارضين.

٩٨

ولا يخفى (١) أن اللازم فيما إذا لم تنهض حجة على التعيين أو التخيير بينهما هو (٢) الاقتصار على الراجح منهما ، للقطع (٣) بحجيته تخييرا أو

______________________________________________________

تأسيس الأصل في دوران الحجية بين التعيين والتخيير

(١) غرضه : أنه ـ بعد البناء على حجية أحد المتعارضين بالإجماع والأخبار العلاجية ، دون الأدلة الأوّلية العامة الدالة على حجية خبر الواحد ، لما مرّ سابقا من عدم شمولها للمتعارضين ـ يقع الكلام في أنّهما إن لم يدلّا على التخيير مطلقا أو مع التكافؤ وفقد المزايا المنصوصة أو مطلقا ـ بناء على التعدي عن المرجحات المنصوصة إلى كل مزية توجب أقربية أحدهما إلى الواقع ، بل دلّ الإجماع والأخبار العلاجية على التخيير في الجملة ـ فهل الأصل يقتضي التعيين أم التخيير؟

ذهب المصنف «قده» إلى الأوّل ، بدعوى كون المقام من صغريات التعيين والتخيير في الحجية ، حيث إن خروج ذي المزية عن مقتضى الأصل العقلي وهو عدم الحجية قطعي إمّا تعيينا ، لاحتمال وجوب الترجيح ، وإمّا تخييرا ، لاحتمال عدم وجوبه. وخروج غير ذي المزية عن أصالة عدم الحجية مشكوك فيه ، ومن المقرر في محله كفاية الشك في الحجية في الحكم بعدم الحجية.

والشيخ أيضا اختار ما ذهب إليه المصنف ، حيث قال بعد كون الظاهر هو التوقف والرجوع إلى الأصل في المتعارضين بناء على حجية الأمارات على الطريقية : «إلّا أنّ الدليل الشرعي دلّ على وجوب العمل بأحد المتعارضين في الجملة ، وحيث كان ذلك بحكم الشرع فالمتيقن من التخيير هو صورة تكافؤ الخبرين. أمّا مع مزية أحدهما على الآخر من بعض الجهات فالمتيقن هو جواز العمل بالراجح ، وأمّا العمل بالمرجوح فلم يثبت ، فلا يجوز الالتزام به ، فصار الأصل وجوب العمل بالمرجِّح ، وهو أصل ثانوي ، بل الأصل فيما يحتمل كونه مرجحا الترجيح به».

(٢) خبر «أنّ» يعني : أن اللازم هو الأخذ بالراجح.

(٣) تعليل للزوم الأخذ بالراجح ، وقد مرّ توضيحه بقولنا : «حيث إنّ خروج ذي المزية ... إلخ». وضميرا «بينهما ، منهما» راجعان إلى المتعارضين.

٩٩

تعيينا ، بخلاف الآخر (١) ، لعدم القطع بحجيته ، والأصل عدم حجيته (٢) (*)

______________________________________________________

(١) وهو المعارض المرجوح ، لكونه مشكوك الحجية ، والأصل عدمها.

(٢) هذا الضمير وضمير «بحجيته» في المقامين راجعة إلى «الآخر».

__________________

(*) لا يقال : بمنع جريان أصالة التعيين في المقام ، لاندراجه في الشك السببي والمسببي ، ومع جريان الأصل في السبب لا مجال لجريان الأصل في المسبب ، وبيانه : أن كل واحد من الخبرين المتفاضلين في المزايا حجة شأنا ، لاشتمال كليهما على شرائط الحجية ، وإنما يشك في حجية المرجوح فعلا من جهة احتمال مانعية المزية في الخبر الراجح عن الحجية الفعلية في الخبر الفاقد لتلك المزية ، ولا مانع من جريان أصالة عدم مانعية المزية الموجودة في الراجح عن حجية المرجوح.

ومعه يثبت التخيير بين الخبرين ، لشمول أدلة حجية الخبر لكل منهما من جهة إجماع شرائط الحجية فيهما ، فكل منهما خبر عدل أو ثقة وحجة لو لا التعارض. ولا تجري أصالة التعيين هنا ، وإنما تجري إذا شك في أصل حجية شيء تخييرا بينه وبين شيء مقطوع الحجية ، فان القاعدة تقتضي التعيين.

فإنه يقال : لا تجري أصالة عدم مانعية المزية الموجودة في الخبر الواجد لها حتى يثبت التخيير بين الخبرين المتفاضلين ، وذلك لما تقرر في الاستصحاب من جريانه في موردين ، أحدهما كون المستصحب مجعولا شرعيا ، والآخر كونه موضوعا لحكم شرعي ، وليست مانعية المزية حكما ولا موضوعا له. أما عدم كونها حكما شرعيا فلوضوح أن الشارع جعل الخبر الواجد للمزية ـ كخبر الأعدل والأفقه ـ حجة تعيينية ، وليس معنى حجيته تعيينا جعل مزيته مانعة عن حجية الخبر الفاقد لها ، بل معناها كون المزية مقتضية للحجية التعيينية. وأما حجية كلا المتعارضين تخييرا فهي معلول وجود ملاك الحجية التخييرية في كل منهما من احتمال إصابة الواقع ، وليست معلولا لعدم اعتبار المزية.

وأما عدم كون المزية موضوعا لحكم الشارع بالمانعية فلأن حجية الخبر المرجوح لم تترتب في شيء من الأدلة على عدم وجود المزية في الخبر الآخر حتى تستفاد المانعية من ذلك الترتب كي يجري الأصل فيها.

ولو فرض ترتب عدم حجية المرجوح على اقتضاء المزية للحجية التعيينية كان الترتب عقليا لا شرعيا ، مع أن المعتبر في حكومة الأصل السببي على المسببي كون التسبب شرعيّا كما في الموضوع والحكم. ولو فرض تسبب الحجية التخييرية عن عدم اعتبار المزية شرعا فهو ترتب عقلي لا شرعي ، لأن معنى اعتبار المزية شرعا كونها مقتضية للحجية التعيينية ، ومن المعلوم أن أصالة عدم

١٠٠