من هدى القرآن - ج ١٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-19-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٧٤

والسبيل المتمثل في الشرائع والحدود الإلهية ، كما قال تعالى بعد أن عدّد مجموعة من الأحكام والحدود في الآيات (١) : (ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) (١) ، ولكنّ الله سمّاها كلّها أمرا بصفة الإفراد ربما ليؤكّد لنا بأنّها لا تقبل التجزأة أبدا ، فمن يعص الله أو الرسول ولو في أمر واحد فإنّه يعتبر عاصيا لهما ، كما لا يسمّى مطيعا وملتزما إلّا من يسلّم لكلّ ما يصدر عنهما ويعمل به.

وقد أضاف إلى أمره «رسله» لأنّ الطاعة للقيادة الرسالية من أعظم وأجلى أوامر الله ، لأنّ أمر الله هو القيم التشريعية كالأحكام والنظم والقوانين الصادرة عن الله مباشرة والمذكورة في رسالته التي أنزلها للناس ، بينما أمر الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ هو الجانب العملي والسياسي من أمر الله المتجسد في النظام السياسي والديني الذي يقوده (ص) ومن يمثله بحق ، فلا يصح إذن أن يقول أحد : حسبي كتاب الله ، بل لا بدّ له من البحث عن القيادة الإلهية لكي ينتمي إلى خطها ويجنّد نفسه تحت لوائها فلا يعتو عن أمر من أوامرها أبدا ، فإنّ في ذلك الخسران وبئس العاقبة.

إنّ الهدف من الخلق والوجود هو عبادة الله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٢) ، فإذا لم يحرز المجتمع هذا الهدف لم يبق مبرّر لوجوده ، وإنّ قيمة الإنسان يستمدها من مدى تجسيده للحق وطاعته لربه ، فإذا تمحض في الشر والعصيان لم تبق له قيمة عند الله ، ولا عجب حينئذ أن ترى في التاريخ تلك القرى التي دمّرها الله لعتوّها عن أمره.

(فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً)

إذن فالعذاب الذي حل بتلك القرى ليس بالصدفة ، وإنّما هو نتيجة طبيعية

__________________

(١) الطلاق ٥.

(٢) الذاريات ٥٦.

٨١

لأعمالها السيئة التي تتكشف بالدراسة والمتابعة والتحليل لمسيرتها التي سبقت الهلاك ، فلكلّ فعل ردّ فعل ، ولكلّ معصية مردود سلبي على صاحبها ، فشرب الخمر يسبّب مجموعة من الأمراض ، والربا يؤدي إلى الفساد الاقتصادي ، والزنا يعدم الأسرة ، ولكنّك إذا جمعت بالحساب الدقيق انحرافات أمّة من الأمم تعتو عن أمر ربها فستجد رد فعلها الخسران والدمار لا غير ، وهذا ما حلّ بتلك القرى من العذاب المنكر الذي لا يتصوّره البشر.

وما دامت حركة التاريخ في الأمم والأفراد قائمة على الحسابات الدقيقة فحريّ بالإنسان أن يدرس كلّ خطوة يقوم بها في الحياة ، وكلّ قرار يتخذه صغيرا وكبيرا ، في ضوء معادلة الربح والخسارة والعاقبة المصيرية.

والحساب الشديد هو الحساب الدقيق ، ذلك لأنّ الله يحاسب الناس بلطفه فيتغاضى عن كثير من سيئاتهم ، ولكنّه إذا سخط على أحد بسبب انحراف مجمل سلوكه (أمّة أو فردا) حاسبه بعدله فيصير من الحساب اليسير إلى الآخر الشديد والعسير ، وحينئذ لا ينجو من العذاب ، وقد أشار الله إلى ذلك بقوله : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) (١) ، وكما أنّ الله يحاسب الإنسان الذي يكون مجمل مسيرته الصلاح والحسنات الكبيرة حسابا يسيرا فيكفّر عنه سيئاته ، فإنّه سبحانه يحاسب الذي يكون مجمل مسيرته الفساد والفواحش الكبيرة حسابا عسيرا لا تغفر فيه سيئة بل تتضاعف ، وهكذا فعل الله بالقرى التي دمّرها ، من هنا قال العلّامة الطبرسي رحمه الله : «الحساب الشديد الذي ليس فيه عفو» (٢).

وتعذيب الله لتلك القرى ينسف ظنون البعض بأنّه وهو الرحيم أجلّ من أن

__________________

(١) فاطر ٤٥.

(٢) مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٠٩.

٨٢

يؤاخذ العباد بما يعصون ، وبالتالي مما يبعثهم نحو الاسترسال في الفسق والانحراف من خلال هذا التبرير الواهي ، وهذا أحد معاني قوله سبحانه (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١) وذكر ذلك يزرع روح التقوى في القلب ، ويوقف مسيرة الاسترسال نحو الهاوية!

[٩] إنّ الإنسان لا يمكنه أن يتحرك في الفراغ ، لذلك فإنّ القرى حينما عتت عن أمر الله (مناهجه ونظمه) اصطنعت لنفسها نظما وقوانين بشرية ، ولكن هل وصلت إلى أهدافها الحقيقية ، بل هل حقّقت مصالحها ورغباتها لا أقل؟ كلّا .. لأنّ رسالات الله وسيلة وحدها التي تسعد الإنسان وتلبّي حاجاته ، لذلك بقيت وحدها الخط الثابت عبر الزمن ، رسالة بعد أخرى ، وجيلا بعد جيل ، أمّا المذاهب البشرية فهي تبطل الواحد بعد الآخر ، فكلّما ابتدع المترفون مذهبا وضعيّا ليكون بديلا عن رسالات الله ورسله وغطاء لتسلّطهم غير المشروع على رقاب الناس لم يلبث أن ظهر فساده ، وانتشرت آثاره السيئة فاستبدلوه بمذهب آخر أو أفسد منه ، وها نحن اليوم نسمع ونقرأ عن إفلاس الشيوعية ، وظهر ما جرّت على الناس من دمار وقمع وفساد عريض. أو ليس هذا وبالا وعذابا؟! بلى ؛ ولكن هل يعود الناس إلى مناهج الوحي؟ كلّا .. إنما يبتدع لهم كبراؤهم مذهبا باطلا آخر ويأفكونهم به.

(فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها)

أي ثقل عاقبة أمرها المتمثلة في الخسران.

(وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً)

__________________

(١) فصلت / ٢٣.

٨٣

فهي من جهة خسرت المكاسب والمعطيات العظيمة التي تنال بتطبيق أمر الله ورسله ، ومن جهة أخرى خسرت سعيها وجهودها والأهداف التي تمنّت بلوغها ، وهذه هي نتيجة المسيرة الخاطئة التي اختارها الناس لأنفسهم ، وهكذا كلّ حضارة لا تقوم على أساس رصين من الحق فإنّها تكون كبناء على شرف هار ، كلّما ارتفع البناء كلّما اقترب من الانهيار ، وفي لحظة يتلاشى كلّ شيء ، وتذهب جهود الملايين من البشر!!

[١٠ ـ ١١] والخطير في الأمر أنّ الخسارة والعذاب ليسا في الدنيا فحسب فإنّ ما في الآخرة أشدّ وأخزى!

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً)

ولعل إعداد العذاب بسبب أنّه يأتي نتيجة الأفعال التي يجترحها المذنبون في الدنيا فيهيّئ الله لكلّ ذنب ما يناسبه من العذاب كمّا وكيفا ، ممّا يجعلنا أشد حذرا من السيئات لأنّها تتحوّل إلى عذاب شديد فور وقوعها ولكنّنا محجوبون عنه اليوم.

وكما تهبط الأمم إلى حدّ الهلاك بالعتوّ عن أمر الله ورسله ، واتباع المناهج البشرية ، فإنّها ترتقي في مدارج الكمال والتقدم بالتسليم لأمر الله ورسله وبالتقوى وتطبيق شرائعه ومناهجه في الحياة ، فتفلح في الدنيا بالخروج من الظلمات إلى النور ، وفي الآخرة بالخلود في جنّات النعيم.

(فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا)

إنّ التقوى درجة رفيعة من الإيمان بالله تبعث الإنسان إلى المزيد من الوعي لأمر الله والتسليم له ، فهي إذن تكمّل لبّه وعقله ، كما تكمّل إيمانه وجوانبه الروحية.

٨٤

من هنا فإنّها أكبر عامل وأوثق ضمانة لاستجابته للحق والتزامه به.

وقد قالوا أنّ (أُولِي الْأَلْبابِ) بدل عن (الَّذِينَ آمَنُوا) ، واللب هو مخ الشيء وعمقه ، وذي اللب هو صاحب البصيرة التي تنفذ إلى أغوار الأمور ، وقد خاطب الله المؤمنين من هذه الزاوية لأنّ دراسة التاريخ وما صارت إليه تلك القرى والإعتبار منه يحتاج إلى الإيمان وإلى الألباب والبصائر التي هي محور الثواب والعقاب ، ففي محاسن البرقي مرفوعا إلى الأئمة ـ عليهم السلام ـ قال : «ما يعبأ من أهل هذا الدّين بمن لا عقل له» ، قال (الراوي) قلت : جعلت فداك أنا آتي قوما لا بأس بهم عندنا ممن يصف هذا الأمر ليست له تلك العقول؟ فقال : «ليس هؤلاء ممن خاطب الله في قوله : «يا ألي الألباب». إنّ الله خلق العقل فقال له : أقبل فأقبل ، ثم قال له : أدبر فأدبر ، ثم قال : وعزتي وجلالي ما خلقت شيئا أحسن منك ولا أحب إليّ منك أبدا ، بك آخذ وبك أعطي» (١) إنّ تقوى الله تعني تجنّب الوقوع في سخطه وعذابه ، وهي لا تتحقق بالإيمان وحده ، بل لا بد من لبّ يعرف به الإنسان ما يسخط الرب وما يرضيه ، ذلك لأنّ الشروط الموضوعية للتقوى متوافرة ، فتلك هي عبر التاريخ أمامنا ، وهذا كتاب الله ورسوله يذكّرنا الله بهما.

(قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً)

يذكّر الإنسان بربه ، وبالحقائق الفطرية ، ويذكّره بطاقاته ، وقدراته الكامنة ، وأهدافه ، وتطلّعاته ، ويستنقذه من الغفلة ، فما هو ذلك الذكر؟

(رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ)

قال أكثر المفسرين أنّ الذكر هو الرسول ، والذي يبدو لي أن الذكر أعم. إنّه

__________________

(١) المحاسن ج ١ ص ١٩٤.

٨٥

الرسول والرسالة ، لأنّهما جنبا إلى جنب يكمّل أحدهما الآخر ذكر الله للناس ، والرسول ليس منزلا إنّما المنزل هي صفة الرسالة التي اشتق اسم الرسول منها ، وهكذا وصف الرسول بالذكر لأنّه يتلو آيات بينات ، ومن هنا : لا يكون الذكر الكتاب وحده ، ولا الرسول وحده ، وإنّما هما معا. وهما معا يشكّلان حالة واحدة لا ينفصلان ولا يفترقان حتى يوم القيامة.

والآية هي العلامة والدلالة ، وآيات الله كلّ ما يعرّف الإنسان به ويهديه ، فالسماء آية ، والشجر آية ، والمطر آية و.. و.. ، ولكنّ أجلى الآيات هي التي جاءت بها رسالة الله عزّ وجلّ ، والتي وصفها بأنّها «مبيّنات» لأنّها آية في ذاتها وتهدينا إلى سائر آيات الله ، وهذا ما يميّز آيات القرآن عن الآيات الطبيعية الأخرى.

ثم إنّها ترسم الطريق المستقيم ، فتبين الصواب والخطأ ، وما أحوجنا أن نتبعها. أو ليست تنصب لنا أنوار الهداية ، كما قال تعالى :

(لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ)

من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم ، ومن ظلمات التفرّق إلى نور الوحدة و.. و.. وبعبارة أخرى : من كلّ شرّ وظلمة إلى كلّ خير ونور ، ونتساءل : أوليس المؤمنون قد خرجوا فعلا من ظلمة الكفر إلى ضياء التوحيد ، فما ذا يعني بيان أنّ الله يخرجهم من الظلمات إلى النور؟ الجواب : للإنسان في البدء فرصتان متساويتان للإيمان وللكفر ، وقلبه كالشفق فيه ضغث من نور وآخر من ظلمة ، وآيات الله ليس تكشف له عن النور والظلمة فقط ، بل ترجّح فيه فرصة الإيمان وتزيد النور الذي في قلبه لتميل به إلى الحق ، ثم ترقى به درجة فدرجة في مدارج النور والكمال حتى يتمحض في الإيمان فيخرج خروجا

٨٦

كلّيّا من الظلمات إلى النور ، لأنّ كلّ عمل قبيح ونيّة فاسدة وصفة ذميمة ظلام في القلب ، وكلّ عمل صالح ونيّة رشيدة وصفة حميدة نور ، وكلّما تزكّى القلب وتطهّر السلوك من السيئات كلّما زاد القلب نورا حتى يصبح العبد من المخلّصين ، كالذهب المصفّى لا يشوب نور إيمانه أي ظلام ، وهذا مقام أولياء الله المقرّبين.

وهكذا ليس آيات الله بديلا عن سعي الإنسان نفسه ، إنّما دورها هو رسم النهج السليم للكمال والرقي ، وعلى الإنسان الاجتهاد للعروج عبرها إلى الكمال.

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً)

والرزق ما يعطى للإنسان شيئا فشيئا ممّا يوحي بأنّ نعيم المؤمنين في الآخرة لا ينحصر في ما يعطونهم أوّل مرّة ، إنّما هو في ازدياد وتكامل يوما بعد يوم.

[١٢] وحيث دعتنا أكثر آيات السورة إلى تقوى الله جاءت الخاتمة تعرّفنا بربنا سبحانه ، لأنّ التقوى بنت المعرفة ، فكيف إذن نزداد معرفة بربنا لكي نزداد تقوى؟

لننظر إلى الآفاق من حولنا ، إلى السماوات والأرض ، وإلى أسمائه المتجلّية في هذه الآفاق. إنها سبيلنا إلى معرفته تعالى ، فحيثما رميت ببصرك رأيت عجيب الصنع وعظمة الخلقة ، وأنّى جلت ببصرك وتعمّقت بفكرك فلن تجد إلّا إجابة واحدة تقودك إلى حقيقة التقوى وسنام المعرفة.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ)

قيل : السبع كالسبعين كلمة تدلّ على الكثرة ، وقيل : أنّ الظاهر هو المقصود ،

٨٧

فهناك سبع سماوات ، فما هي السموات السبع؟ هل هي ما تحيط بالأقاليم السبع من الفضاء القريب ، باعتبار أنّ السماء هي الجهة المقابلة للأرض ، فإذا كانت الأرضون سبعا ـ حسب تقسيم الناس يومئذ ـ فإنّ سمواتها أيضا سبع ، وعلى هذا فإنّ الأرضين السبع هي تلك الأقاليم المشهورة في أدب العرب وفي عرف الذين خوطبوا بالقرآن ، وقد جاء في حديث الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ : «لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها» (١) ، أم أنّ السماوات السبع اشارة إلى الكواكب أو إلى سبع منظومات شمسية أو إلى المجرات؟ لعلّ الإنسان يطلع على معاني أخرى إذا تقدّم به العلم. والمماثلة بين السماوات والأرضين هنا قد تكون عددية وجنسية حيث أنّ الأرض من رتق السماء.

(يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ)

«والأمر» : سنن الله وقضاؤه وتقديراته وما يبدو له ممّا يدبّر به شؤون الخلق ، ولعلّ ذلك سمّي أمرا لأنّ الله وكّل ملائكة على كلّ شيء ينفّذون إرادته في الكائنات ، فهو يأمرهم من فوقهم وهم يعملون بما يريد.

وإذا نبحث عن الفلسفة الأساسية التي خلقت من أجلها السماوات والأرض ، وبالذات السماوات التي لا يطالها الإنسان فإنّنا سنجدها ليست المتعة بالنظر إليها ، ولا ما تقوم به من دور في وجوده وحياته ، إنّما هي كما له المعنوي والروحي بمعرفة ربه من خلال أسمائه المتجلّية في الكون من حوله.

(لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

حيث تتجلّى آية قدرته في الخلق العظيم للسماوات والأرض لتهدينا إلى هذه

__________________

(١) نهج خ ٢٢٤.

٨٨

الحقيقة.

(وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً)

وآية ذلك أمره الذي يتنزّل لتدبير كلّ شيء. وعلم الإنسان بقدرة الله على كلّ شيء وعلمه المطلق وبالتالي إيمانه بذلك هو الذي يزرع في نفسه التقوى ، حيث يخشى سطوة الله القادر ، ويتحسس رقابته عليه فلا يعصيه في علن ولا خفاء.

وكلمة أخيرة : إنّ الإنسان الذي لا يتخذ الخليفة وسيلة لتكامل معرفته وإيمانه بربه ضال عن هدف الخلقة ، أو تدري كيف؟ لأنّ الله سبحانه قد خلق ما في الأرض للإنسان حتى أصبح الإنسان محور الخليقة ، فهل خلقها لجسده أم لروحه؟ إنّ الإنسان لا يتميّز بجسده عن أي حيوان آخر ، ولا فضيلة له في ذلك أبدا. إذا حكمة الخلق تكمن في روحه ، وماذا في روح الإنسان غير العقل الذي ينمو بالنظر في آفاق السموات والأرض؟! فمن لم يتكامل عقله فإنّه ليس يبطل حكمة خلقه فقط ، بل وحكمة الوجود من حوله أيضا. أليس كذلك؟

٨٩
٩٠

سورة التحريم

٩١
٩٢

الإطار العام

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد ارتفعت ولا تزال راية الجدل بين المذاهب الإسلامية في شأن زوجات الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ فاختلفوا إلى ثلاثة آراء رئيسة :

الأول : أضفى عليهن مسحة من العصمة متابعة لبعض النصوص ، كقول الله : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) (١) ، وكونهن مشمولات بآية التطهير وأخبار وردت ، ولأنهن زوجات أفضل خلق الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ الذي لا يعقل أنه يختار لنفسه من الزوجات إلّا خير النساء ، وقد دعمت هذا الرأي اعتبارات مذهبية أخرى.

الثاني : وتطرف فريق إلى حد الطعن فيهن لدوافع مصلحية أو مذهبية ، كالمنافقين الذين نالوا بالإفك والبهتان من بعض زوجات الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ.

__________________

(١) الأحزاب ٦.

٩٣

الثالث : وبين هذا وذلك أخذ فريق سبيلا وسطا ، فلا تبرير للأخطاء ، ولا تضخيم لها : ولكي يصل الباحث إلى الرأي الموضوعي لا بدّ أن يدرس أمرين أساسيين : أحدهما : تاريخ زوجات الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ دراسة موضوعية ، والآخر : موقف القرآن عبر دراسة شاملة لكل ما أوردته آياته في هذا الموضوع ، ولكن بما أن في التاريخ اختلافا وتزويرا فإنّ القرآن يبقى هو الميزان الثابت والفرقان الأعظم وبالخصوص في القضايا الحساسة كالموقف من زوجات سيد الرسل ـ صلّى الله عليه وآله ـ ، فما هو موقف القرآن؟

لقد سجلت الآيات القرآنية موقف الرسالة الإلهية في هذه القضية ، ويكفينا أن نعرض هنا ما جاءت به سورة التحريم التي يبدو أنّها تحدّثنا فيما تحدثنا عن هذا الموضوع كخط عام لآياتها.

١ ـ ففي البداية تبيّن أنّ الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ كان يتعرض للضغط من قبل بعض أزواجه ، حتى يضطر في بعض الأحيان أن يحرّم على نفسه ما أحلّه الله له ، فيضيّق عليها طمعا في مرضاتهنّ (الآيات ١) ، وهاتان الآيتان تعريض ببعض زوجات الرسول وليس به ـ صلّى الله عليه وآله ـ.

٢ ـ إنّ اثنتين منهنّ خانتا النبيّ بإفشاء بعض ما أفضى إليهما من الأسرار (الآية ٣).

٣ ـ إنّهن أو بعضهنّ كنّ يملن عن الحق في بعض الأحيان (تصغي قلوبهن) ويمكن أن يتبن عن ذلك إلى الله ، كما يمكن أن يتمادين في الميل إلى حد المظاهرة ضد ـ الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ ، وبالتالي الوقوف ضد جبهة الحق التي مثّلها الله ، وأمين وحيه (جبرئيل) ، وخيرة المؤمنين ، والملائكة الذين ينصرون النبي (الآية ٤).

٩٤

٤ ـ إنّ نساء النبيّ لسن أفضل النساء على الإطلاق ، فهو لو طلّقهن فقد يجد خيرا منهن بين الناس ممن جمعت فيهن بصورة أفضل صفات الخير والفضيلة كالإسلام والإيمان والقنوت والتوبة والعبادة والسياحة ، (الآية ٥).

٥ ـ ويفصل القرآن بين الزوج وزوجته في التقييم ، لأنّ قيمة كلّ إنسان ما يحسنه هو لا ما يحسنه الآخرون مهما كانت الرابطة بينه وبينهم قريبة وحميمة ، كما أنّ مقياس القبح هو ما يقوم به الفرد من السيئات لا ما يقوم به الآخرون مهما قربوا منه ، إذن فالتقييم الموضوعي الدقيق لأي أحد بتقييمه كفرد منقطع عن أيّ أحد ، وهذا ما يجعل زوجتي نوح ولوط مثلا للكفّار فتدخلان النار لا فرق بينهما وبين سائر الناس عند الله من جهة ، ومن جهة أخرى نفس هذه الحقيقة هي التي تجعل آسية بنت مزاحم زوجة فرعون الذي ادّعى الربوبية مثلا للمؤمنين عبر التاريخ ، وكذلك مريم التي أحصنت فرجها وصدّقت بكلمات الله وكتبه وقنتت له مع القانتين (الآيات ١٠ ، ١١ ، ١٢).

٦ ـ وهكذا كانت سورة التحريم تدور حول علاقة الزوج بزوجته حيث ينبغي أن تكون وفق المقاييس الإلهية ، فلا يجوز لأحد أن يقيّم الزوجة على أساس زوجها سلبا أو إيجابا ، فقد كانتا زوجتا لوط ونوح خائنتين وكانت آسية صالحة .. ولا يجوز للمرأة أنّى كانت أن تنشر أسرار البيت خارجه. وهكذا تتواصل آيات سورة التحريم لتكمّل بصائر آيات سورة الطلاق في مراعاة التقوى في سائر أبعاد الحياة الزوجية.

٩٥
٩٦

سورة التحريم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً

___________________

٢ [تحلّة أيمانكم] : أصل الحلّ حلّ العقدة ، وهذه الآية تقصد حل عقدة الإيمان من الكفّارة ، وروي في الحديث : «لا يموت للرّجل ثلاثة أولاد فتمسه النار إلا تحلّة القسم» أي قدر ما يقول : ان شاء الله تعالى ، وفي الآية دلالة على أن النبي كان قد حلف على الترك ، وأمر بتحلّة يمينه بالكفّارة ، فالتحلة تحلل اليمين.

٩٧

فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ

___________________

٣ [عرّف بعضه] : أجمع المفسرون على أن المعنى أبان وفضح لزوجاته ما أذعنه ، ولكن يبدو لي أن الكلمة «عرّف» بالتشديد تعني الإبراز كما الجبل يسمى عرفا ، وقد قال الله : «وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ» أي أبرزها وأظهرها كما العرف ، وقال تعالى : (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) أي على مشارف ، والإعراض عكس الإعراف أي الإهمال والتغافل.

٤ [صغت قلوبكما] : أي مالت ، وقيل : ضاقت وعدلت عن الحق ، ويبدوا أن ذلك لا ينسجم والآية : إذ تقول (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) والأصح أنها من الإصغاء لقوله تعالى : (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) فكأن التوبة الى الله تفتح أسماع القلوب.

[تظاهرا عليه] : تتعاونا وتعاضدا عليه ، وجواب هذا التظاهر والتعاون أن يتظاهر معه الله مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير. أي معين وناصر ، وفي المصطلح الحديث : تظاهر الناس تظاهرة ، أي اجتمعوا أو خرجوا متعاونين كما في المنجد ، واستظهر به استعان ، والظّهرة : العون.

٩٨

فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي

___________________

٥ [مؤمنات قانتات] وجوابهما قوله : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) وقوله عن مريم : (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) ولعل ذلك يؤيد الروايات التي تقول : ان الله سوف الجنة من امرأة فرعون ومريم (ع).

[سانحات] : قيل : صائمات ، وقيل : مجاهدات من الحديث : «سياحة أمتي الجهاد» وفي أخرى «جهاد المرأة حسن التبعّل»

٩٩

مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ

___________________

١٠ [فخانتاهما] : الخيانة والنفاق واحد ، الا أن الخيانة تقال اعتبارا بالعهد والأمانة ، والنفاق يقال اعتبارا بالذّين ، فالخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السرّ ، ومن الخطأ استعمال كلمة الخيانة في الفاحشة ، والقرآن لم يورد الخيانة في الفاحشة قطّ ، وعلى ذلك فمن الخطأ القول أنّ الخيانة الزوجية تدل على الفاحشة.

١٠٠