المحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٣

أبي محمّد عبدالحقّ بن غالب بن عطيّة الأندلسي

المحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد عبدالحقّ بن غالب بن عطيّة الأندلسي


المحقق: عبدالسلام عبدالشافي محمّد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٢

قال القاضي أبو محمد : وقوة قوله (فَلا يَقْرَبُوا) يقتضي أمر المسلمين بمنعهم ، وقال جابر بن عبد الله وقتادة : لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب جزية أو عبدا لمسلم ، وعبدة الأوثان مشركون بإجماع ، واختلف في أهل الكتاب ، فمذهب عبد الله بن عمر وغيره أنهم مشركون ، وقال جمهور أهل العلم ليسوا بمشركين ، وفائدة هذا الخلاف تتبين في فقه مناكحهم وذبائحهم وغير ذلك ، وقوله (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) يريد بعد عام تسع من الهجرة وهو عام حج أبو بكر بالناس وأذن علي بسورة براءة ، وأما قوله (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) قال عمرو بن فائد : المعنى وإذ خفتم.

قال القاضي أبو محمد : وهذه عجمة والمعنى بارع بإن ، وكان المسلمون لما منع المشركون من الموسم وهم كانوا يجلبون الأطعمة والتجارات قذف الشيطان في نفوسهم الخوف من الفقر وقالوا من أين نعيش؟ فوعدهم الله بأن يغنيهم من فضله ، قال الضحاك : ففتح عليهم باب أخذ الجزية من أهل الذمة ، بقوله (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [التوبة : ٢٩] إلى قوله (وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة : ٢٩] ، وقال عكرمة : أغناهم بإدرار المطر عليهم.

قال القاضي أبو محمد : وأسلمت العرب فتمادى حجهم وتجرهم وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم ، و «العيلة» الفقر ، يقال : عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر ، قال الشاعر : [أحيحة]

وما يدري الفقير متى غناه

وما يدري الغني متى يعيل

وقرأ علقمة وغيره من أصحاب ابن مسعود ، «عايلة» وهو مصدر كالقايلة من قال يقيل ، وكالعاقبة والعافية ، ويحتمل أن تكون نعتا لمحذوف تقديره حالا عائلة ، وحكى الطبري أنه يقال عال يعول إذا افتقر.

قوله عزوجل :

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (٢٩)

هذه الأشياء تضمنت قتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى حتى يقتلوا أو يؤدوا الجزية ، قال مجاهد : وعند نزول هذه الآية أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزو الروم ومشى نحو تبوك ، ومن جعل أهل الكتاب مشركين فهذه الآية عنده ناسخة بما فيها من أخذ الجزية لقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥] ونفى عنهم الإيمان بالله واليوم الآخر من حيث تركوا شرع الإسلام الذي يجب عليهم الدخول فيه ، فصار جميع ما لهم في البعث وفي الله عزوجل من تخيلات واعتقادات لا معنى لها ، إذ تلقوها من غير طريقها ، وأيضا فلم تكن اعتقاداتهم مستقيمة لأنهم تشعبوا وقالوا : عزير ابن الله والله ثالث ثلاثة وغير ذلك ، ولهم أيضا في البعث آراء كشراء منازل الجنة من الرهبان ، وقول اليهود في النار نكون فيها أياما بعد ونحو ذلك ، وأما قوله (لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) فبين ، ونص على مخالفتهم لمحمد

٢١

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما قوله (وَلا يَدِينُونَ) فمعناه ولا يطيعون ويمتثلون ، ومنه قول عائشة : ما عقلت أبوي إلا وهما يدينان الدين ، والدين في اللغة لفظة مشتركة وهي هاهنا الشريعة ، وهي مثل قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] ، وأما قوله (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) فنص في بني إسرائيل وفي الروم وأجمع الناس في ذلك ، وأما المجوس فقال ابن المنذر : لا أعلم خلافا في أن الجزية تؤخذ منهم.

قال القاضي أبو محمد : وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : سنوا بهم سنة أهل الكتاب ، فقال كثير من العلماء معنى ذلك في أخذ الجزية منهم ، وليسوا أهل الكتاب ، فعلى هذا لم يتعد التشبيه إلى ذبائحهم ومناكحهم ، وهذا هو الذي ذكره ابن حبيب في الواضحة ، وقال بعض العلماء : معناه سنوا بهم سنة أهل الكتاب إذ هم أهل كتاب ، فعلى هذا يتجه التشبيه في ذبائحهم وغيرها ، والأول هو قول مالك وجمهور أصحابه ، وروي أنه قد كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت ، وأما مجوس العرب فقال ابن وهب : لا تقبل منهم جزية ولا بد من القتال أو الإسلام ، وقال سحنون وابن القاسم وأشهب : تؤخذ الجزية من مجوس العرب والأمم كلها ، وأما عبدة الأوثان من العرب فلم يستثن الله فيهم جزية ولا بقي منهم على الأرض بشر ، قال ابن حبيب وإنما لهم القتال أو الإسلام وهو قول ابن حنيفة.

قال القاضي أبو محمد : ويوجد لابن القاسم أن الجزية تؤخذ منهم ، وذلك أيضا في التفريع لابن الجلاب وهو احتمال لا نص ، وأما أهل الكتاب من العرب فذهب مالك رحمه‌الله إلى أن الجزية تؤخذ منهم ، وأشار إلى المنع من ذلك أبو حنيفة ، وأما السامرة والصابئون فالجمهور على أنهم من اليهود والنصارى تؤخذ منهم الجزية وتؤكل ذبائحهم ، وقالت فرقة لا تؤكل ذبائحهم ، وعلى هذا لا تؤخذ الجزية منهم ، ومنع بعضهم الذبيحة مع إباحة أخذ الجزية منهم ، وأما عبدة الأوثان والنيران وغير ذلك فجمهور العلماء على قبول الجزية منهم ، وهو قول مالك في المدونة ، وقال الشافعي وأبو ثور : لا تؤخذ الجزية إلا من اليهود والنصارى والمجوس فقط ومذهب مالك رحمه‌الله أن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال البالغين الأحرار العقلاء ، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة ، ولا تضرب على الصبيان والنساء والمجانين ولا تضرب على رهبان الديارات والصوامع المنقطعين ، قال مالك في الواضحة : وأما إن كانت قد ضربت عليهم ثم انقطعوا بعد ذلك فلا تسقط عنهم ، وأما رهبان الكنائس فتضرب عليهم ، واختلف في الشيخ الفاني ، ومن راعى أن علتها الإذلال أمضاها في الجميع وقال النقاش : العقوبات الشرعية تكون في الأموال والأبدان فالجزية من عقوبات الأموال ، وأما قدرها فذهب رحمه‌الله وكثير من أهل العلم على ما فرضه عمر رضي الله عنه وذلك أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الفضة ، وفرض ... (١) رضي الله عنه ضيافة وأرزاقا وكسوة ، قال مالك في الواضحة ويحط ذلك عنهم اليوم لما (٢) عليهم من اللوازم ، فهذا أحد ما ذكر عن عمر وبه أخذ مالك ، قال سفيان الثوري رويت عن ... (٣) عمر ضرائب مختلفة.

قال القاضي أبو محمد : وأظن ذلك بحسب اجتهاده رضي الله عنه في يسرهم وعسرهم ، وقال

__________________

(١) بياض في الأصل.

٢٢

الشافعي وغيره : قدر الجزية دينار على الرأس ، ودليل ذلك أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معاذا بذلك وأخذه جزية اليمن كذلك أو قيمته معافر وهي ثياب ، وقال كثير من أهل العلم ليس لذلك في الشرع حد محدود وإنما ذلك إلى اجتهاد الإمام في كل وقت وبحسب قوم قوم ، وهذا كله في العنوة ، وأما الصلح فهو ما صولحوا عليه من قليل أو كثير ، واختلف في المذهب في العبد الذي يعتقه الذمي أو المسلم هل يلزمه جزية أم لا؟ وقال ابن القاسم لا ينقص أحد من أربعة دنانير كان فقيرا أو غنيا ، وقال أصبغ : يحط الفقير بقدر ما يرى من حاله ، وقال ابن الماجشون : لا يؤخذ من الفقير شيء والجزية وزنها فعلة من جزى يجزي إذا كافى عن ما أسدي إليه ، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن ، وهي كالقعدة والجلسة. ومن هذا المعنى قول الشاعر : [الكامل]

يجزيك أو يثني عليك وإن من

أثنى عليك بما فعلت كمن جزى

وقوله تعالى : (عَنْ يَدٍ) يحتمل تأويلات ، منها أن يريد سوق الذمي لها بيده لا مع رسول ليكون في ذلك إذلال له ، ومنها أن يريد عن نعمة منكم قبلهم في قبولها منهم وتمينهم ، واليد في اللغة النعمة والصنع الجميل ، ومنها أن يريد عن قوة منكم عليهم وقهر لا تبقى لهم معه راية ولا معقل ، و «اليد» في كلام العرب القوة ، يقال : فلان ذو يد ويقال ليس لي بكذا وكذا يد أي قوة ، ومنها أن يريد أن ينقدوها ولا يؤخروا بها كما تقول بعته يدا بيد ، ومنها أن يريد عن استسلام منهم وانقياد على نحو قولهم ألقى فلان بيده إذا عجز واستسلم ، وقوله (وَهُمْ صاغِرُونَ) لفظ يعم وجوها لا تنحصر لكثرتها ذكر منها عن عكرمة أن يكون قابضها جالسا والدافع من أهل الذمة قائم ، وهذا ونحوه داع إلى صغارهم.

قوله عزوجل :

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(٣٠)

الذي كثر في كتب أهل العلم أن فرقة من اليهود تقول هذه المقالة ، وروي أنه لم يقلها إلا فنحاص ، وقال ابن عباس : قالها أربعة من أحبارهم ، سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف وقال النقاش : لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا.

قال القاضي أبو محمد : فإذا قالها واحد فيتوجه أن يلزم الجماعة شنعة المقالة لأجل نباهة القائل فيهم ، وأقوال النبهاء أبدا مشهورة في الناس يحتج بها ، فمن هنا صح أن تقول الجماعة قول نبيها ، وقرأ عاصم والكسائي «عزير ابن الله» بتنوين عزير ، والمعنى أن ابنا على هذا خبر ابتداء عن عزير ، وهذا هو أصح المذاهب لأن هذا هو المعنى المنعيّ عليهم ، و (عُزَيْرٌ) ونحوه ينصرف عجميا كان أو عربيا ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «عزير ابن الله» دون تنوين عزير ، فقال بعضهم «ابن» خبر عن «عزير» وإنما حذف التنوين من عزير لاجتماع الساكنين ونحوه قراءة من قرأ (أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ) [الإخلاص : ١ ـ ٢] قال أبو علي وهو كثير في الشعر ، وأنشد الطبري في ذلك : [الرجز]

٢٣

لتجدنّي بالأمير برّا

وبالقناة مدعسا مكرا

إذا عطيف السلمي برا

قال القاضي أبو محمد : فالألف على هذه القراءة والتأويل ثابتة في «ابن» وقال بعضهم «ابن» صفة ل «عزير» كما تقول زيد بن عمرو وجعلت الصفة والموصوف بمنزلة اسم واحد وحذف التنوين إذا جاء الساكنان كأنهما التقيا من كلمة واحدة ، والمعنى عزير ابن الله معبودنا وإلهنا أو المعنى معبودنا أو إلهنا عزير ابن الله.

قال القاضي أبو محمد : وقياس هذه القراءة والتأويل أن يحذف الألف من «ابن» لكنها تثبت في خط المصحف ، فيترجح من هذا كله أن قراءة التنوين في «عزير» أقواها ، وحكى الطبري وغيره أن بني إسرائيل أصابتهم فتن وبلاء وقيل مرض وأذهب الله عنهم التوراة في ذلك ونسوها ، وكان علماؤهم قد دفنوها أول ما أحسوا بذلك البلاء ، فلما طالت المدة فقدت التوراة جملة فحفظها الله عزيرا كرامة منه له ، فقال لبني إسرائيل إن الله قد حفظني التوراة فجعلوا يدرسونها من عنده ، ثم إن التوراة المدفونة وجدت فإذا هي مساوية لما كان عزير يدرس ، فضلوا عند ذلك وقالوا إن هذا لن يتهيأ لعزير إلا وهو ابن الله ، وظاهر قول النصارى (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) أنها بنوة النسل كما قالت العرب في الملائكة ، وكذلك يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما ، وهذا أشنع في الكفر ، قال أبو المعالي : أطبقت النصارى على أن المسيح إله وأنه ابن الإله.

قال القاضي أبو محمد : ويقال إن بعضهم يعتقدها بنوة حنو ورحمة ، وهذا المعنى أيضا لا يحل أن تطلق البنوة عليه ، وهو كفر لمكان الإشكال الذي يدخل من جهة التناسل وكذلك كفرت اليهود في قولهم (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) وقولهم نحن أبناء الله ، وإنما توجد في كلام العرب استعارة البنوة عبارة عن نسب وملازمات تكون بين الأشياء إذا لم يشكل الأمر وكان أمر النسل لاستحالة من ذلك قول عبد الملك بن مروان : وقد زبنتنا الحرب وزبناها فنحن بنوها وهي أمنا يريد للملازمة ومن ذلك قول حريث بن مخفض : [الطويل]

بنو المجد لم تقعد بهم أمهاتهم

وآباؤهم أبناء صدق فأنجبوا

ومن ذلك ابن نعش وابن ماء وابن السبيل ونحو ذلك ومنه قول الشاعر : [الكامل]

والأرض تحملنا وكانت أمنا

ومنه أحد التأويلات في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يدخل الجنة ابن زنى» أي ملازمه والتأويل الآخر أن لا يدخلها مشكل الأمر والتأويلان في قول النصارى (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) كما تقدم من الصفة والخبر إلا أن شغب التنوين ارتفع هاهنا ، و (عُزَيْرٌ) نبي من أنبياء بني إسرائيل ، وقوله (بِأَفْواهِهِمْ) يتضمن معنيين : أحدهما إلزامهم المقالة والتأكيد في ذلك كما قال (يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) [البقرة : ٧٩] ، وكقوله (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] ، والمعنى الثاني في قوله (بِأَفْواهِهِمْ) أي هو ساذج لا حجة عليه ولا برهان غاية بيانه أن يقال بالأفواه قولا مجردا نفس دعوى ، و (يُضاهِؤُنَ) قراءة الجماعة ومعناه يحاكون

٢٤

ويبارون ويماثلون ، وقرأ عاصم وحده من السبعة وطلحة بن مصرف «يضاهئون» بالهمز على أنه من ضاهأ وهي لغة ثقيف بمعنى ضاهى.

قال القاضي أبو محمد : ومن قال إن هذا مأخوذ من قولهم امرأة ضهياء وهي التي لا تحيض وقيل التي لا ثدي لها سميت بذلك لشبهها بالرجال فقوله خطأ قاله أبو علي : لأن الهمزة في ضاهأ أصلية وفي ضهياء زائدة كحمراء ، وإن كان الضمير في (يُضاهِؤُنَ) لليهود والنصارى جميعا فالإشارة بقوله (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) هي إما لمشركي العرب إذ قالوا الملائكة بنات الله وهم أول كافر وهو قول الضحاك : وإما لاسم سالفة قبلهما ، وإما للصدر الأول من كفرة اليهود والنصارى ، ويكون (يُضاهِؤُنَ) لمعاصري محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن كان الضمير في (يُضاهِؤُنَ) للنصارى فقط كانت الإشارة ب (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) إلى اليهود ، وعلى هذا فسر الطبري وحكاه الزهراوي عن قتادة ، وقوله (قاتَلَهُمُ اللهُ) دعاء عليهم عام لأنواع الشر ، ومعلوم أن من قاتله الله فهو المغلوب المقتول ، وحكى الطبري عن ابن عباس أن المعنى لعنهم الله ، و (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) مقصده أنى توجهوا أو أنى ذهبوا وبدل مكان هذا الفعل المقصود فعل سوء يحق لهم ، وذلك فصيح في الكلام كما تقول لعن الله الكافر أنى هلك كأنك تحتم عليه بهلاك وكأنه حتم عليهم في هذه الآية بأنهم يؤفكون ، ومعناه يحرمون ويصرفون عن الخير ، والأرض المأفوكة التي لم يصبها مطر ، قال أبو عبيدة (يُؤْفَكُونَ) معناه يحدون.

قال القاضي أبو محمد : يريد من قولك رجل محدود أي محروم لا يصيب خيرا ، وكأنه من الإفك الذي هو الكذب ، فكأن المأفوك هو الذي تكذبه أراجيه فلا يلقى خيرا. ويحتمل أن يكون قوله تعالى : (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) ابتداء تقرير ، أي بأي سبب ومن أي جهة يصرفون عن الحق بعد ما تبين لهم ، و «قاتل» في هذه الآية بمعنى قتل وهي مفاعلة من واحد وهذا كله بين.

قوله عزوجل :

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٣٣)

واحد «الأحبار» حبر بكسر الحاء ، ويقال حبر بفتح الحاء والأول أفصح ، ومنه مداد الحبر ، والحبر بالفتح : العالم ، وقال يونس بن حبيب : لم أسمعه إلا بكسر الحاء ، وقال الفراء : سمعت فتح الحاء وكسرها في العالم ، وقال ابن السكيت الحبر : بالكسر المداد والحبر بالفتح العالم ، و «الرهبان» جمع راهب وهو الخائف من الرهبة ، وسماهم (أَرْباباً) وهم لا يعبدوهم لكن من حيث تلقوا الحلال والحرام من جهتهم ،

٢٥

وهو أمر لا يتلقى إلا من جهة الله عزوجل ونحو هذا قال ابن عباس وحذيفة بن اليمان وأبو العالية ، وحكى الطبري أن عدي بن حاتم قال : جئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي عنقي صليب ذهب ، فقال : يا عدي اطرح هذا الصليب من عنقك ، فسمعته يقرأ (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) ، فقلت يا رسول الله وكيف ولم نعبدهم؟ فقال أليس تستحلون ما أحلوا وتحرمون ما حرموا قلت نعم. قال فذاك ، (وَالْمَسِيحَ) عطف على الأحبار والرهبان ، و (سُبْحانَهُ) نصب على المصدر والعامل فيه فعل من المعنى لأنه ليس من لفظ سبحان فعل ، والتقدير أنزهه تنزيها ، فمعنى (سُبْحانَهُ) تنزيها له ، واحتج من يقول إن أهل الكتاب مشركون بقوله تعالى (عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، والغير يقول إن اتخاذ هؤلاء الأرباب ضرب ما من الإشراك وقد يقال في المرائي إنه أشرك وفي ذلك آثار ، وقوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) الآية ، (نُورَ اللهِ) في هذه الآية هداه الصادر عن القرآن والشرع المثبت في قلوب الناس فمن حيث سماه نورا سمي محاولة إفساده والصد في وجهه إطفاء ، وقالت فرقة : النور القرآن.

قال القاضي أبو محمد : ولا معنى لتخصيص شيء مما يدخل تحت المقصود بالنور ، وقوله (بِأَفْواهِهِمْ) عبارة عن قلة حيلتهم وضعفها ، أخبر عنهم أنهم يحاولون مقاومة أمر جسيم بسعي ضعيف فكان الإطفاء بنفخ الأفواه ، ويحتمل أن يراد بأقوال لا برهان عليها فهي لا تجاوز الأفواه إلى فهم سامع ، وقوله (وَيَأْبَى) إيجاب يقع بعده أحيانا إلا وذلك لوقوعه هو موقع الفعل المنفي ، لأن التقدير ولا يريد الله إلا أن يتم نوره وقال الفراء : هو إيجاب فيه طرف من النفي ، ورد الزجاج على هذه العبارة وبيانه ما قلناه ، وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) الآية ، (رَسُولَهُ) يراد به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله (بِالْهُدى) يعم القرآن وجميع الشرع ، وقوله (وَدِينِ الْحَقِ) إشارة إلى الإسلام والملة بجمعها وهي الحنيفية ، وقوله (لِيُظْهِرَهُ) قال أبو هريرة وأبو جعفر محمد بن علي وجابر بن عبد الله ما معناه : إن الضمير عائد على الدين وإظهاره عند نزول عيسى ابن مريم وكون الأديان كلها راجعة إلى دين الإسلام فذلك إظهاره.

قال القاضي أبو محمد : فكأن هذه الفرقة رأت الإظهار على أتم وجوهه أي حتى لا يبقى معه دين آخر ، وقالت فرقة (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ) أي ليجعله أعلاها وأظهرها وإن كان معه غيره كان دونه.

قال القاضي أبو محمد : فهذا لا يحتاج إلى نزول عيسى بل كان هذا في صدر الأمة وهو حتى الآن إن شاء الله وقالت فرقة : الضمير عائد على الرسول ، ومعنى (لِيُظْهِرَهُ) ليطلعه ويعلمه الشرائع كلها والحلال والحرام.

قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل وإن كان صحيحا جائزا فالآخر أبرع منه وأليق بنظام الآية وأحرى مع كراهية المشركين ، وخص (الْمُشْرِكُونَ) هنا بالذكر لما كانت كراهية مختصة بظهور دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره العظم والأول ممن كره ذلك وصد فيه ، وذكر الكافرون في الآية قبل لأنها كراهية إتمام نور الله في قديم الدهر وفي باقية فعم الكفر من لدن خلق الدنيا إلى انقراضها إذ قد وقعت الكراهية والإتمام مرارا كثيرة.

٢٦

قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (٣٥)

المراد بهذه الآية بيان نقائص المذكورين ، ونهي المؤمنين عن تلك النقائص مترتب ضمن ذلك ، واللام في (لَيَأْكُلُونَ) لام التأكيد ، وصورة هذا الأكل هي بأنهم يأخذون من أموال أتباعهم ضرائب وفروضا باسم الكنائس والبيع وغير ذلك مما يوهمونهم أي النفقة فيه من الشرع والتزلف إلى الله ، وهم خلال ذلك يحتجنون تلك الأموال كالذي ذكره سلمان في كتاب السير عن الراهب الذي استخرج كنزه ، وقيل كانوا يأخذون منهم من غلاتهم وأموالهم ضرائب باسم حماية الدين والقيام بالشرع ، وقيل كانوا يرتشون في الأحكام ، ونحو ذلك.

قال القاضي أبو محمد : وقوله تعالى : (بِالْباطِلِ) ، يعم هذا كله ، وقوله (يَصُدُّونَ) ، الأشبه هنا أن يكون معدى أي يصدون غيرهم وهذا الترجيح إنما هو لنباهة منازلهم في قومهم و «صد» يستعمل واقفا ومتجاوزا ، ومنه قول الشاعر [عمرو بن كلثوم] : [الوافر]

صددت الكأس عنا أم عمرو

وكان الكأس مجراها اليمينا

و (سَبِيلِ اللهِ) الإسلام وشريعة محمد عليه‌السلام ، ويحتمل أن يريد ويصدون عن سبيل الله في أكلهم الأموال بالباطل ، والأول أرجح ، وقوله (وَالَّذِينَ) ابتداء وخبره (فَبَشِّرْهُمْ) ، ويجوز أن يكون (وَالَّذِينَ) معطوفا على الضمير في قوله يأكلون على نظر في ذلك ، لأن الضمير لم يؤكد ، وأسند أبو حاتم إلى علباء بن أحمد أنه قال : لما أمر عثمان بكتب المصحف أراد أن ينقص الواو في قوله (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) فأبي ذلك أبي بن كعب وقال لتلحقنها أو لأضعن سيفي على عاتقي فألحقها.

قال القاضي أبو محمد : وعلى إرادة عثمان يجري قول معاوية ، إن الآية في أهل الكتاب وخالفه أبو ذر فقال : بل هي فينا ، فشكاه إلى عثمان فاستدعاه من الشام ثم خرج إلى الربذة ، والذي يظهر من الألفاظ أنه لما ذكر نقص الأحبار والرهبان الآكلين المال بالباطل ذكر بعد ذلك بقول عامر نقص الكافرين المانعين حق المال ، وقرأ طلحة بن مصرف «الذين يكنزون» بغير واو ، و (يَكْنِزُونَ) معناه يجمعون ويحفظون في الأوعية ، ومنه قول المنخل الهذلي : [البسيط]

لا در دري إن أطعمت نازلهم

قرف الحتيّ وعندي البر مكنوز

أي محفوظ في أوعيته ، وليس من شروط الكنز الدفن لكن كثر في حفظة المال أن يدفنوه حتى تورق

٢٧

في المدفون اسم الكنز ، ومن اللفظة قولهم رجل مكتنز الخلق أي مجتمع ، ومنه قول الراجز : [الرجز]

على شديد لحمه كناز

بات ينزيني على أوفاز

والتوعد في الكنز إنما وقع على منع الحقوق منه ، ولذلك قال كثير من العلماء : الكنز هو المال الذي لا تؤدى زكاته وإن كان على وجه الأرض ، وأما المدفون إذا خرجت زكاته فليس بكنز كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كل ما أديت زكاته فليس بكنز» ، وهذه الألفاظ مشهورة عن ابن عمر وروي هذا القول عن عكرمة والشعبي والسدي ومالك وجمهور أهل العلم ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة وما زاد عليها فهو كنز وإن أديت زكاته. وقال أبو ذر وجماعة معه : ما فضل من مال الرجل عن حاجة نفسه فهو كنز ، وهذان القولان يقتضيان أن الذم في حبس المال لا في منع زكاته فقط ، ولكن قال عمر بن عبد العزيز : هي منسوخة بقوله (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) [التوبة : ١٠٣] فأتى فرض الزكاة على هذا كله.

قال القاضي أبو محمد : كان مضمن الآية لا تجمعوا مالا فتعذبوا فنسخه التقرير الذي في قوله (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ) [التوبة : ١٠٣]. والضمير في قوله (يُنْفِقُونَها) يجوز أن يعود على الأموال والكنوز التي يتضمنها المعنى ، ويجوز أن يعود على الذهب والفضة هما أنواع ، وقيل عاد على الفضة واكتفي بضمير الواحد عن ضمير الآخر إذا فهمه المعنى وهذا نحو قول الشاعر [قيس بن الخطيم] : [المنسرح]

نحن بما عندنا وأنت بما عن

دك راض والرأي مختلف

ونحن قول حسان : [الخفيف]

إنّ شرخ الشباب والشّعر الأس

ود ما لم يعاص كان جنونا

وسيبويه يكره هذا في الكلام ، وقد شبه كثير من المفسرين هذه الآية بقوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١] وهي لا تشبهها ، لأن «أو» قد فصلت التجارة عن اللهو وحسنت عود الضمير على أحدهما دون الآخر ، والذهب تؤنث وتذكر والتأنيث أشهر ، وروي أن أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا قد ذم الله كسب الذهب والفضة ، فلو علمنا أي المال خير حتى نكسبه ، فقال عمر : أنا أسأل لكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فسأله ، فقال «لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة تعين المؤمن على دينه». وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لما نزلت الآية «تبا للذهب تبا للفضة» ، فحينئذ أشفق أصحابه وقالوا ما تقدم ، والفاء في قوله (فَبَشِّرْهُمْ) ، جواب كما في قوله (وَالَّذِينَ) من معنى الشرط ، وجاءت البشارة مع العذاب لما وقع التصريح بالعذاب وذلك أن البشارة تقيد بالخير والشر فإذا أطلقت لم تحمل إلا على الخير فقط ، وقيل بل هي أبدا للخير فمتى قيدت بشر فإنما المعنى أقم لهم مقام البشارة عذابا أليما ، وهذا نحو قول الشاعر [عمرو بن معديكرب] : [الوافر]

وخيل قد دلفت لها بخيل

تحية بينهم ضرب وجيع

وقوله تعالى (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها) الآية : (يَوْمَ) ظرف والعامل فيه (أَلِيمٍ) وقرأ جمهور الناس

٢٨

«يحمى» بالياء بمعنى يحمى الوقود ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «تحمى» بالتاء من فوق بمعنى تحمى النار والضمير في عليها عائد على الكنوز أو الأموال حسبما تقدم ، وقرأ قوم «جباهم» بالإدغام وأشموها الضم حكاه أبو حاتم ، ووردت أحاديث كثيرة في معنى هذه الآية من الوعيد لكنها مفسرة في منع الزكاة فقط لا في كسب المال الحلال وحفظه ، ويؤيد ذلك حال أصحابه وأموالهم رضي الله عنهم ، فمن تلك الأحاديث قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ترك بعده كنزا لم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع» الحديث. وأسند الطبري قال كان نعل سيف أبي هريرة من فضة فنهاه أبو ذر ، وقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها ، وأسند إلى أبي أمامة الباهلي قال : مات رجل من أهل الصفة فوجد في برده دينار فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كية ثم مات آخر فوجد له ديناران فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيتان.

قال القاضي أبو محمد : وهذا إما لأنهما كانا يعيشان من الصدقات وعندهما التبر وإما لأن هذا كان في صدر الإسلام ، ثم قرر الشرع ضبط المال وأداء حقه ، ولو كان ضبط المال ممنوعا لكان حقه أن يخرج كله لا زكاته فقط ، وليس في الأمة من يلزم هذا ، وقوله (هذا ما كَنَزْتُمْ) إشارة إلى المال الذي كوي به ، ويحتمل أن تكون إلى الفعل النازل بهم ، أي هذا جزاء ما كنزتم ، وقال ابن مسعود : والله لا يمس دينار دينارا بل يمد الجلد حتى يكوى بكل دينار وبكل درهم ، وقال الأحنف بن قيس : دخلت مسجد المدينة وإذا رجل خشن الهيئة رثها يطوف في الحلق وهو يقول : بشر أصحاب الكنوز بكي في جباهم وجنوبهم وظهورهم ، ثم انطلق يتذمر وهو يقول وما عسى تصنع في قريش.

قوله عزوجل :

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(٣٦)

هذه الآية والتي بعدها تتضمن ما كانت العرب شرعته في جاهليتها من تحريم شهور الحل وتحليل شهور الحرمة ، وإذا نص ما كانت العرب تفعله تبين معنى الآيات فالذي تظاهرت به الروايات وينفك عن مجموع ما ذكر الناس ، أن العرب كانت لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وإعمال سلاحها فكانوا إذا توالت عليهم حركة ذي القعدة وذي الحجة والمحرم صعب عليهم وأملقوا ، وكان بنو فقيم من كنانة أهل دين في العرب وتمسك بشرع إبراهيم عليه‌السلام ، فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم فنسأ الشهور للعرب ، ثم خلفه على ذلك ابنه عباد بن حذيفة ، ثم خلف ابنه قلع بن عباد ، ثم خلفه ابنه أمية بن قلع ، ثم خلفه ابنه عوف بن أمية ، ثم خلفه ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف وعليه قام الإسلام ، وذكر الطبري وغيره أن الأمر كان في عدوان قبل بني مالك بن كنانة ، وكانت صورة فعلهم أن العرب كانت إذا فرغت من حجها جاء إليه من شاء منهم مجتمعين ، فقالوا أنسئنا شهرا أي أخّر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر ، فيحل لهم

٢٩

المحرم فيغيرون فيه ويعيشون ثم يلتزمون حرمة صفر ليوافقوا عدة الأشهر الأربعة ، قال مجاهد : ويسمون ذلك الصفر المحرم ، ثم يسمون ، ربيعا ، ربيعا الأول صفرا وربيعا الآخر ربيعا الأول ، وهكذا في سائر الشهور يستقبلون سنتهم من المحرم الموضوع لهم فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حال لهم ، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهرا أولها المحرم المحلل ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر ، ثم استقبال السنة كما ذكرنا ، ففي هذا قال الله عزوجل (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) أي ليست ثلاثة عشر شهرا ، قال الطبري حدثني ابن وكيع عن عمران بن عيينة عن حصين عن أبي مالك قال : كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا ، قال مجاهد : ثم كانوا يحجون في كل شهر عامين ولاء ، وبعد ذلك يندلون فيحجون عامين ولاء ، ثم كذلك حتى كانت حجة أبي بكر في ذي القعدة حقيقة ، وهم يسمونه ذا الحجة ، ثم حج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة عشر في ذي الحجة حقيقة ، فذلك قوله إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وفي حديث ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خطب في حجة الوداع فساق الحديث فقال فيه : أولهن رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.

قال القاضي أبو محمد : ويجيء في أكثر الكتب أنهم كانوا يجعلون حرمة المحرم في صفر ويسكت عن تمام القصة ، والذي ذكرناه هو بيانها ، وأما كون المحرم أول السنة العربية وكان حقه إذ التاريخ من الهجرة أن يكون أول السنة في ربيع الأول فإن ذلك فيما يرون لأن عمر بن الخطاب دون ديوان المسلمين وجعل تاريخه المحرم إذ قبله انقضاء الموسم والحج فكان الحج خاتمة للسنة ، واعتد بعام الهجرة وإن كان قد نقص من أوله شيء ، ولما كانت سنة العرب هلالية بدىء العام من أول شهر ولم يكن في الثاني عشر من ربيع الذي هو يوم دخول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، ولا كان عند تمام الحج لأنه في كسر شهر ، وأما الأربعة الحرم فهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، ومعنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» قصد التفريق بينه وبين ما كانت تفعله قبائل ربيعة بأسرها ، فإنها كانت تجعل رجبها رمضان وتحرمه ابتداعا منها ، وكانت قريش ومن تابعها في ذلك من قبائل مضر على الحق ، فقر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ونسبه إلى مضر إذ كان حكمه وتحريمه إنما كان من قبل قريش ، وفي المفضليات لبعض شعراء الجاهلي [عوف بن الأحوص العامري] : [الوافر]

وشهر بني أمية والهدايا

البيت ؛ قال الأصمعي : يريد رجبا ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «اثنا عشر شهرا» بسكون العين وذلك تخفيف لتوالي الحركات ، وكذلك قرأ أحد عشر وتسعة عشر وقوله (فِي كِتابِ اللهِ) أي فيما كتبه وأثبته في اللوح المحفوظ أو غيره ، فهي صفة فعل مثل خلقه ورزقه وليست بمعنى قضائه وتقديره لأن تلك هي قبل خلق السموات والأرض ، و «الكتاب» الذي هو المصدر هو العامل في (يَوْمَ) ، وفي قوله (فِي كِتابِ اللهِ) متعلقة بمستقرة أو ثابتة ونحوه ، ويقلق أن يكون الكتاب القرآن في هذا الموضع ، وتأمل ، ولا يتعلق في بعده للتفرقة بين الصلة والموصول بخبر «أن» ، وقوله (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) نص على تفضيل هذه

٣٠

الأربعة وتشريفها ، قال قتادة : اصطفى الله من الملائكة والبشر رسلا ومن الشهور المحرم ورمضان ، ومن البقع المساجد ، ومن الأيام الجمعة ، ومن الليالي ليلة القدر ، ومن الكلام ذكره فينبغي أن يعظم ما عظم الله ، وقوله (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ، قالت فرقة : معناه الحساب المستقيم ، وقال ابن عباس فيما حكى المهدوي : معناه القضاء المستقيم.

قال القاضي أبو محمد : والأصوب عندي أن يكون الدين هاهنا على أشهر وجوهه ، أي ذلك الشرع والطاعة لله ، (الْقَيِّمُ) أي القائم المستقيم ، وهو من قام يقوم بمنزلة سيد من ساد يسود أصله قيوم ، وقوله (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) الضمير عائد على ال (اثْنا عَشَرَ شَهْراً) ، أي لا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في الزمن كله ، وقال قتادة الضمير عائد على الأربعة الأشهر ، ونهي عن الظلم فيها تشريفا لها بالتخصيص والذكر وإن كان منهيا عنه في كل الزمن ، وزعم النحاة أن العرب تكني عما دون العشرة من الشهور ، فيهن وعما فوق العشرة فيها ، وروي عن الكسائي أنه قال إني لأتعجب من فعل العرب هذا ، وكذلك يقولون فيما دون العشرة من الليالي خلون وفيما فوقها خلت وقال الحسن معنى فيهن أي بسببهن ومن جراهن في أن تحلوا حرامها وتبدلوه بما لا حرمة له ، وحكى المهدوي أنه قيل «لا تظلموا فيهن أنفسكم بالقتل». ثم نسخ بفرض القتال في كل زمن ، قال سعيد بن المسيب في كتاب الطبري : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يحرم القتال في الأشهر الحرم بما أنزل الله في ذلك حتى نزلت براءة.

قال القاضي أبو محمد : وقوله (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ) معناه فيهن فأحرى في غيرهن ، وقوله (كَافَّةً) معناه جميعا وهو مصدر في موضع الحال ، قال الطبري : كالعاقبة والعافية فهو على هذا كما تقول خاصة وعامة ، ويظهر أيضا أنه من كف يكف أي جماعة تكف من عارضها وكذلك نقل الكافة أي تكف من خالفها ، فاللفظة على هذا اسم فاعل ، وقال بعض الناس : معناه يكف بعضهم بعضا عن التخلف ، وما قدمناه أعم وأحسن ، وقال بعض الناس : كان الفرض بهذه الآية قد توجه على الأعيان ثم نسخ ذلك بعد وجعل فرض كفاية.

قال القاضي أبو محمد : وهذا الذي قالوه لم يعلم قط من شرع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه ألزم الأمة جميعا النفر ، وإنما معنى الآية الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة ، ثم قيدها بقوله (كَما يُقاتِلُونَكُمْ) فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم ، وأما الجهاد الذي ينتدب إليه فإنما هو فرض على الكفاية إذا قام به بعض الأمة سقط عن الغير ، وقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) خبر في ضمنه أمر بالتقوى ووعد عليها بالنصر والتأييد.

قوله عزوجل :

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(٣٧)

(النَّسِيءُ) على وزن فعيل مصدر بمعنى التأخير ، تقول العرب أنسأ الله في أجلك ونسأ في أجلك.

٣١

ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سره النساء في الأجل والسعة في الرزق فليصل رحمه». وقرأ جمهور الناس والسبعة «النسيء» كما تقدم ، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه وقوم معه في الشاذ «النسيّ» بشد الياء ، وقرأ فيما روى عنه جعفر بن محمد والزهري «النسيء» ، وقرأ أيضا فيما روي عنه «النسء» على وزن النسع وقرأت فرقة «النسي». فأما «النسيء» بالمد والهمز فقال أبو علي هو مصدر مثل النذير والنكير وعذير الحي ولا يجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول لأنه يكون المعنى إنما المؤخر زيادة والمؤخر الشهر ولا يكون الشهر زيادة في الكفر.

قال القاضي أبو محمد : وقال أبو حاتم هو فعيل بمعنى مفعول ، وينفصل عن إلزام أبي علي بأن يقدر مضاف كان المعنى إنما إنساء النسيء ، وقال الطبري هو من معنى الزيادة أي زيادتهم في الأشهر ، وقال أبو وائل كان النسيء رجلا من بني كنانة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وأما «النسي» فهو الأول بعينه خففت الهمزة وقيل قلبت الهمزة ياء وأدغمت الياء في الياء ، وأما «النسء» هو مصدر من نسأ إذا أخر ، وأما «النسي» فقيل تخفيف همزة النسيء وذلك على غير قياس ، وقال الطبري هو مصدر من نسي ينسى إذا ترك.

قال القاضي أبو محمد : والنسيء هو فعل العرب في تأخيرهم الحرمة ، وقوله (زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) أي جار في كفرهم بالله وخلاف منهم للحق فالكفر متكثر بهذا الفعل الذي هو باطل في نفسه.

قال القاضي أبو محمد : ومما وجد في أشعارها من هذا المعنى قول بعضهم : [الوافر]

ومنا منسىء الشهر القلمس

وقال الآخر : [الكامل]

نسؤوا الشهور بها وكانوا أهلها

من قبلكم والعز لم يتحول

ومنه قول جذل الطعان : [الوافر]

وقد علمت معدّ أنّ قومي

كرام الناس أن لهم كراما

فأي الناس فاتونا بوتر

وأي الناس لم تعلك لجاما

ألسنا الناسئين على معد

شهور الحل نجعلها حراما

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «يضل» بفتح الياء وكسر الضاد ، وقرأ ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة وعمرو بن ميمون «يضل» بضم الياء وكسر الضاد فإما على معنى يضل الله وإما على معنى يضل به الذين كفروا أتباعهم ، ف (الَّذِينَ) في التأويل الأول في موضع نصب ، وفي الثاني في موضع رفع ، وقرأ عاصم أيضا وحمزة والكسائي وابن مسعود فيما روي عنه «يضل» بضم الياء وفتح الضاد على المفعول الذي لم يسم فاعله ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : (زُيِّنَ) للتناسب في اللفظ ، وقرأ أبو رجاء «يضل» من ضل يضل على وزن فعل بكسر العين يفعل بفتحها وهي لغتان يقال ضل يضل وضل يضل والوزن الذي ذكرناه يفرق بينهما ، وكذلك يروى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «حتى يضل الرجل إن

٣٢

يدركم صلى» بفتح الضاد وكسرها ، وقوله (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً) معناه عاما من الأعوام وليس يريد أن تلك مداولة في الشهر بعينه عام حلال وعام حرام.

قال القاضي أبو محمد : وقد تأول بعض الناس القصة أنهم كانوا إذا شق عليهم توالي الأشهر الحرم أحل لهم المحرم وحرم عليهم صفر بدلا منه ثم مشت الشهور مستقيمة على أسمائها المعهودة فإذا كان من قابل حرم المحرم على حقه وأحل صفر ، ومشت الشهور مستقيمة ، ورأت هذه الطائفة أن هذه كانت حالة القوم.

قال القاضي أبو محمد : والذي قدمناه قبل أليق بألفاظ الآيات ، وقد بينه مجاهد وأبو مالك ، وهو مقتضى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «إن الزمان قد استدار» مع أن هذا الأمر كله قد تقضى والله أعلم. أي ذلك كان ، وقوله (لِيُواطِؤُا) معناه ليوافقوا والمواطأة الموافقة تواطأ الرجلان على كذا إذا اتفقا عليه ، ومعنى ليواطئوا عدة ما حرم الله ليحفظوا في كل عام أربعة أشهر في العدد.

قال القاضي أبو محمد : فأزالوا الفضيلة التي خص الله بها الأشهر الحرم وحدها بمثابة أن يفطر أحد رمضان ويصوم شهرا من السنة بغير مرض أو سفر ، وقوله (زُيِّنَ) يحتمل هذا التزيين أن يضاف إلى الله عزوجل والمراد به خلقه لكفرهم وإقرارهم عليه وتحبيبه لهم ، ويحتمل أن يضاف إلى مغويهم ومضلهم من الإنس والجن ، ثم أخبر تعالى أنه لا يهديهم ولا يرشدهم ، وهو عموم معناه الخصوص في الموافين أو عموم مطلق لكن لا هدية من حيث هم كفار.

قال القاضي أبو محمد : وذكر أبو علي البغدادي في أمر «النسيء» أنه كان إذا صدر الناس من منى قام رجل يقال له نعيم بن ثعلبة فيقول أنا الذي لا أعاب ولا يرد لي قضاء فيقولون أنسئنا شهرا أي أخّر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر.

قال القاضي أبو محمد : واسم نعيم لم يعرف في هذا وما أرى ذلك إلا كما حكى النقاش من بني فقيم كانوا يسمون القلامس واحدهم قلمس وكانوا يفتون العرب في الموسم ، يقوم كبيرهم في الحجر ويقوم آخر عند الباب ويقوم آخر عند الركن فيفتون.

قال القاضي أبو محمد : فهم على هذا عدة ، منهم نعيم وصفوان ومنهم ذرية القلمس حذيفة وغيرهم.

قال القاضي أبو محمد : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «لا عدوى ولا هامة ولا صفر» ، فقال بعض الناس : إنه يريد بقوله لا صفر هذا النسيء ، وقيل غير ذلك.

قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ

٣٣

تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٣٩)

هذه الآية هي بلا اختلاف نازلة عتابا على تخلف من تخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام غزا فيها الروم في عشرين ألفا بين راكب وراجل ، وتخلف عنه قبائل من الناس ورجال من المؤمنين كثير ومنافقون فالعتاب في هذه الآية هو للقبائل وللمؤمنين الذين كانوا بالمدينة ، وخص الثلاثة كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية بذلك التذنيب الشديد بحسب مكانهم من الصحبة إذ هم من أهل بدر وممن يقتدى بهم ، وكان تخلفهم لغير علة حسب ما يأتي ، وقوله (ما لَكُمْ) استفهام بمعنى التقرير والتوبيخ ، وقوله (قِيلَ) يريد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أن صرفه الفعل لا يسمى فاعله يقتضي إغلاظا ومخاشنة ما ، و «النفر» هو التنقل بسرعة من مكان إلى مكان لأمر يحدث ، يقال في ابن آدم نفر إلى الأمر ينفر نفيرا ونفرا ، ويقال في الدابة نفرت تنفر بضم الفاء نفورا ، وقوله (اثَّاقَلْتُمْ) أصله تثاقلتم أدغمت التاء في الثاء فاحتيج إلى ألف الوصل كما قال (فَادَّارَأْتُمْ) وكما تقول ازين ، وكما قال الشاعر [الكسائي] : [البسيط]

تولي الضجيع إذا ما استافها خصرا

عذب المذاق إذا ما اتّابع القبل

وقرأ الأعمش فيما حكى المهدوي وغيره «تثاقلتم» على الأصل ، وذكرها أبو حاتم «تتثاقلتم» بتاءين ثم ثاء مثلثة ، وقال هي خطأ أو غلط ، وصوب «تثاقلتم» بتاء واحدة وثاء مثلثة أن لو قرىء بها ، وقوله (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) عبارة عن تخلفهم ونكولهم وتركهم الغزو لسكنى ديارهم والتزام نخلهم وظلالهم ، وهو نحو من أخلد إلى الأرض ، وقوله : (أَرَضِيتُمْ) تقرير يقول أرضيتم نزر الدنيا على خطير الآخرة وحظها الأسعد ، ثم أخبر فقال إن الدنيا بالإضافة إلى الآخرة قليل نزر ، فتعطي قوة الكلام التعجب من ضلال من يرضى النزر بدل الكثير الباقي ، وقوله (إِلَّا تَنْفِرُوا) الآية ، (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ) شرط وجواب ، وقوله (يُعَذِّبْكُمْ) لفظ عام يدخل تحته أنواع عذاب الدنيا والآخرة ، والتهديد بعمومه أشد تخويفا ، وقالت فرقة يريد يعذبكم بإمساك المطر عنكم ، وروي عن ابن عباس أنه قال : استنفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبيلة من القبائل فقعدت فأمسك الله عنها المطر وعذبها به ، و «أليم» بمعنى مؤلم بمنزلة قول عمرو بن معديكرب : [الوافر]

أمن ريحانة الداعي السميع

وقوله (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) توعد بأن يبدل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوما لا يقعدون عند استنفاره إياهم ، والضمير في قوله (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) عائد على الله عزوجل أي لا ينقص ذلك من عزه وعز دينه ، ويحتمل أن يعود على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو أليق ، (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي على كل شيء مقدور وتبديلهم منه ليس بمحال ممتنع.

٣٤

قوله عزوجل :

(إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٤٠)

هذا أيضا شرط وجواب والجواب في الفاء من قوله (فَقَدْ) وفيما بعدها ، قال النقاش : هذه أول آية نزلت من سورة براءة ، ومعنى الآية أنكم إن تركتم نصره فالله متكفل به ، إذ فقد نصره في موضع القلة والانفراد وكثرة العدو ، فنصره إياه اليوم أحرى منه حينئذ ، وقوله (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يريد فعلوا من الأفاعيل ما أدى إلى خروجه ، وأسند الإخراج إليهم إذ المقصود تذنيبهم ، ولما كان مقصد أبي سفيان بن الحارث الفخر في قوله : من طردت كل مطرد. لم يقرره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والإشارة إلى خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة إلى المدينة وفي صحبته أبو بكر ، واختصار القصة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ينتظر أمر الله عزوجل في الهجرة من مكة ، وكان أبو بكر حين ترك ذمة ابن الدغنة قد أراد الخروج من مكة فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اصبر فلعل الله أن يسهل في الصحبة» ، فلما أذن الله لرسوله في الخروج تجهز من دار أبي بكر وخرجا فبقيا في الغار الذي في جبل ثور في غربي مكة ثلاث ليال ، وخرج المشركون في أثرهم حتى انتهوا إلى الغار فطمس عليهم الأثر ، وقال أبو بكر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو نظر أحدهم لقدمه لرآنا ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما ظنك باثنين الله ثالثهما.

ويروى أن العنكبوت نسجت على باب الغار ، ويروى أن الحمامة عششت عند باب الغار ، ويروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أبا بكر أن يجعل ثماما في باب الغار فتخيله المشركون نابتا وصرفهم الله عنه ، ووقع في الدلائل في حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نبتت على باب الغار راءة أمرها الله بذلك في الحين ، قال الأصمعي : جمعها راء وهي نبات من السهل.

وروي أن أبا بكر لما دخل الغار خرق رداءه فسدّ به كواء الغار لئلا يكون فيها حيوان يؤذي النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وروي أنه بقيت واحدة فسدها برجله فوقى الله تعالى ، وكان يروح عليهما باللبن عامر بن فهيرة مولى أبي بكر ، وقوله (ثانِيَ اثْنَيْنِ) معناه أحد اثنين ، وهذا كثالث ثلاثة ورابع أربعة فإذا اختلف اللفظ فقلت رابع ثلاثة فالمعنى صير الثلاثة بنفسه أربعة ، وقرأ جمهور الناس «ثاني اثنين» بنصب الياء من «ثاني». قال أبو حاتم : لا يعرف غير هذا وقرأت فرقة «ثاني اثنين» بسكون الياء من ثاني ، قال أبو الفتح : حكاها أبو عمرو بن العلاء ، ووجهه أنه سكن الياء تشبيها لها بالألف.

٣٥

قال القاضي أبو محمد : فهذه كقراءة ما بقي من الربا وكقول جرير : [البسيط]

هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم

ماضي العزيمة ما في حكمه جنف

و «صاحبه» أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وروي أن أبا بكر الصديق قال يوما وهو على المنبر : أيكم يحفظ سورة التوبة ، فقال رجل أنا ، فقال اقرأ فقرأ ، فلما انتهى إلى قوله (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) بكى وقال أنا والله صاحبه ، وقال الليث : ما صحب الأنبياء مثل أبي بكر الصديق ، وقال سفيان بن عيينة : خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ).

قال القاضي أبو محمد : أقول بل خرج منها كل من شاهد غزوة تبوك ولم يتخلف ، وإنما المعاتبة لمن تخلف فقط ، أما إن هذه الآية منوهة بأبي بكر حاكمة بقدمه وسابقته في الإسلام رضي الله عنه ، وقوله : (إِنَّ اللهَ مَعَنا) يريد به النصر والإنجاء واللطف ، وقوله تعالى : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) الآية ، قال حبيب بن أبي ثابت : الضمير في (عَلَيْهِ) عائد على أبي بكر لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يزل ساكن النفس ثقة بالله عزوجل.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول من لم ير السكينة إلا سكون النفس والجأش ، وقال جمهور الناس : الضمير عائد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا أقوى ، و «السكينة» عندي إنما هي ما ينزله الله على أنبيائه من الحياطة لهم والخصائص التي لا تصلح إلا لهم ، كقوله تعالى : (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة : ٢٤٨] ويحتمل أن يكون قوله (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) إلى آخر الآية يراد به ما صنعه الله لنبيه إلى وقت تبوك من الظهور والفتوح لا أن تكون هذه الآية تختص بقصة الغار والنجاة إلى المدينة ، فعلى هذا تكون «الجنود» الملائكة النازلين ببدر وحنين ، ومن رأى أن الآية مختصة بتلك القصة قال «الجنود» ملائكة بشروه بالنجاة وبأن الكفار لا ينجح لهم سعي ، وفي مصحف حفصة «فأنزل الله سكينته عليهما وأيدهما» ، وقرأ مجاهد «وأأيده» بألفين ، والجمهور «وأيّده» بشد الياء ، وقوله : (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) يريد بإدحارها ودحضها وإذلالها ، (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) قيل يريد لا إله إلا الله ، وقيل الشرع بأسره ، وقرأ جمهور الناس «وكلمة» بالرفع على الابتداء ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ويعقوب «وكلمة» بالنصب على تقدير وجعل كلمة ، قال الأعمش : ورأيت في مصحف أنس بن مالك المنسوب إلى أبيّ بن كعب «وجعل كلمته هي العليا».

قوله عزوجل :

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(٤٢)

هذا أمر من الله عزوجل أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنفر إلى الغزو فقال بعض الناس هذا أمر

٣٦

عام لجميع المؤمنين تعين به الفرض على الأعيان في تلك المدة ، ثم نسخه الله عزوجل ، بقوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) [التوبة : ١٢٢] ، روي ذلك عن الحسن وعكرمة ، وقال جل الناس : بل هذا حض والأمر في نفسه موقوف على فرض الكفاية ولم يقصد بالآية فرضه على الأعيان ، وأما قوله (خِفافاً وَثِقالاً) فنصب على الحال من الضمير في قوله (انْفِرُوا) ، ومعنى الخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة ومن يمكنه بصعوبة ، وأما من لا يمكنه كالعمي ونحوهم فخارج عن هذا.

وروي أن ابن أم مكتوم جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أعليّ أن أنفر؟ فقال له نعم ، حتى نزلت (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) [النور : ٦١] ، وذكر الناس من معاني الخفة والثقل أشياء لا وجه لتخصيص بعضها دون بعض ، بل هي وجوه متفقة ، فقيل «الخفيف» الغني «والثقيل» الفقير : قاله مجاهد ، وقيل الخفيف الشاب والثقيل الشيخ قاله الحسن وجماعة ، وقيل الخفيف النشيط والثقيل الكاسل ، قاله ابن عباس وقتادة ، وقيل المشغول ومن لا شغل له قاله الحكم بن عيينة وزيد بن علي ، وقيل الذي له ضيعة هو الثقيل ومن لا ضيعة له هو الخفيف قاله ابن زيد : وقيل الشجاع هو الخفيف والجبان هو الثقيل حكاه النقاش ، وقيل الرجل هو الثقيل والفارس هو الخفيف قاله الأوزاعي.

قال القاضي أبو محمد : وهذان الوجهان الآخران ينعكسان وقد قيل ذلك ولكنه بحسب وطأتهم على العدو فالشجاع هو الثقيل وكذلك الفارس والجبان هو الخفيف وكذلك الراجل وكذلك ينعكس الفقير والغني فيكون الغني هو الثقيل بمعنى صاحب الشغل ومعنى هذا أن الناس أمروا جملة.

وهذه الأقوال إنما هي على معنى المثال في الثقل والخفة ، وقال أبو طلحة : ما أسمع الله عذرا أحدا وخرج إلى الشام فجاهد حتى مات.

وقال أبو أيوب : ما أجدني أبدا إلا ثقيلا أو خفيفا ، وروي أن بعض الناس رأى في غزوات الشام رجلا سقط حاجباه على عينيه من الكبر ، فقال له يا عم إن الله قد عذرك ، فقال يا ابن أخي إنّا قد أمرنا بالنفر خفافا وثقالا ، وأسند الطبري عمن رأى المقداد بن الأسود بحمص وهو على تابوت صراف وقد فضل على التابوت من سمنه وهو يتجهز للغزو فقال له لقد عذرك الله ، فقال أتت علينا سورة البعوث (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) ، وروي سورة البحوث ، وقوله تعالى : (بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) وصف لأكمل ما يكون من الجهاد وأنفسه عند الله تعالى : فحض على كمال الأوصاف ، وقدمت الأموال في الذكر إذ هي أول مصرف وقت التجهيز فرتب الأمر كما هو في نفسه ، ثم أخبر أن ذلك لهم خير للفوز برضى الله وغلبة العدو ووراثة الأرض ، وفي قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) تنبيه وهز للنفوس ، وقوله : (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً) الآية ، ظاهر هذه الآية وما يحفظ من قصة تبوك أن الله لما أمر رسوله بغزو الروم نذب الناس وكان ذلك في شدة من الحر وطيب من الثمار والظلال ، فنفر المؤمنون ، واعتذر منهم لا محالة فريق لا سيما من القبائل المجاورة للمدينة ، ويدل على ذلك قوله في أول هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) [التوبة : ٣٨] ، لأن هذا الخطاب ليس للمنافقين خاصة بل هو عام ، واعتذر المنافقون بأعذار كاذبة ، وكانوا بسبيل كسل مفرط وقصد للتخلف وكانت أعذار المؤمنين خفيفة ولكنهم

٣٧

تركوا الأولى من التحامل ، فنزل ما سلف من الآيات في عتاب المؤمنين ، ثم ابتدأ من هذه الآية ذكر المنافقين وكشف ضمائرهم ، فيقول لو كان هذا الغزو لعرض أي لمال وغنيمة تنال قريبا بسفر قاصد يسير لبادروا إليه ، لا لوجه الله ولا لظهور كلمته ، ولكن بعدت عليهم الشقة في غزو الروم أي المسافة الطويلة ، وذكر أبو عبيدة أن أعرابيا قدم البصرة وكان قد حمل حمالة فعجز عنها ، وكان معه ابن له يسمى الأحوص فبادر الأحوص أباه بالقول ، فقال إنا من تعلمون وابنا سبيل وجئنا من شقة ونطلب في حق وتنطوننا ويجزيكم الله فتهيأ أبوه ليخطب فقال له يا إياك إني قد كفيتك.

قال القاضي أبو محمد : يا تنبيه وإياك نهي ، وقرأ عيسى ابن عمر «الشّقة» بكسر الشين ، وقرأ الأعرج «بعدت» بكسر العين ، وحكى أبو حاتم أنها لغة بني تميم في اللفظتين ، وقوله : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) يريد المنافقين ، وهذا إخبار بغيب ، وقوله (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) يريد عند تخلفهم مجاهرة وكفرهم ، فكأنهم يوجبون على أنفسهم الحتم بعذاب الله.

ثم أخبر أن الله الذي هو أعدل الشاهدين يعلم كذبهم وأنهم كانوا يستطيعون الخروج ولكنهم تركوه كفرا ونفاقا ، وهذا كله في الجملة لا بتعيين شخص ولو عين لقتل بالشرع ، وقرأ الأعمش على جهة التشبيه بواو ضمير الجماعة «لو استطعنا» بضم الواو ، ذكره ابن جني ، ومثله بقوله تعالى : (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ) [التوبة : ٤٨](فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) [البقرة : ٩٤] و (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ) [البقرة ١٦ ـ ١٧٥].

قوله عزوجل :

(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (٤٤)

هذه الآية في صنف مبالغ في النفاق واستأذنوا دون اعتذار ، منهم عبد الله بن أبيّ والجد بن قيس ورفاعة بن التابوت ومن اتبعهم فقال بعضهم إيذن لي ولا تفتني وقال بعضهم إيذن لنا في الإقامة فأذن لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استيفاء منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخذا بالأسهل من الأمور وتوكلا على الله ، وقال مجاهد إن بعضهم قال نستأذنه فإن أذن في القعود قعدنا وإلا قعدنا فنزلت الآية في ذلك.

وقالت فرقة : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أذن لهم دون أن يؤمر بذلك فعفي عنه ما يلحق من هذا ، وقدم له ذكر العفو قبل العتاب إكراما له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال عمرو بن ميمون الأودي : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، صدع برأيه في قصتين دون أن يؤمر فيهما بشيء.

هذه ، وأمر أسارى بدر ، فعاتبه الله فيهما ، وقالت فرقة بل قوله في هذه الآية (عَفَا اللهُ عَنْكَ) استفتاح كلام ، كما تقول أصلحك الله وأعزك الله ، ولم يكن منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذنب يعفى عنه لأن صورة الاستنفار قبول الإعذار مصروفة إلى اجتهاده ، وأما قوله (لِمَ أَذِنْتَ) فهي على معنى التقرير ، وقوله (الَّذِينَ

٣٨

صَدَقُوا) يريد استئذانك وأنك لو لم تأذن لهم خرجوا معك وقوله (وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) يريد في أنهم استأذنوك يظهرون لك أنهم يقفون عند حدك وهم كذبة قد عزموا على العصيان أذنت لهم أو لم تأذن ، وقال الطبري معناه حتى تعلم الصادقين في أن لهم عذرا والكاذبين في أن لا عذر لهم.

قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا التأويل يختلط المتعذرون وقد قدمنا أن فيهم مؤمنين كالمستأذنين وهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر والأول أصوب والله أعلم.

وأدخل الطبري أيضا في تفسير هذه الآية عن قتادة أن هذه الآية نزلت بعدها الآية الأخرى في سورة النور (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) [الآية : ٦٢].

قال القاضي أبو محمد : وهذا غلط لأن آية النور نزلت سنة أربع من الهجرة في غزوة الخندق في استئذان بعض المؤمنين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في بعض شأنهم في بيوتهم في بعض الأوقات ، فأباح الله له أن يأذن فتباينت الآيتان في الوقت والمعنى ، وقوله (لا يَسْتَأْذِنُكَ) الآية ، نفي عن المؤمنين أن يستأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في التخلف دون عذر كما فعل الصنف المذكور من المنافقين ، وقوله (أَنْ يُجاهِدُوا) يحتمل أن تكون (أَنْ) في موضع نصب على معنى لا يستأذنون في التخلف كراهية أن يجاهدوا ، قال سيبويه ويحتمل أن تكون في موضع خفض.

قال القاضي أبو محمد : على معنى لا يحتاجون إلى أن يستأذنوا في أن يجاهدوا بل يمضون قدما ، أي فهم أحرى ألا يستأذنوا في التخلف ، ثم أخبر بعلمه تعالى (بِالْمُتَّقِينَ) وفي ذلك تعيير للمنافقين وطعن عليهم بين.

قوله عزوجل :

(إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ(٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)(٤٧)

هذه الآية تنص على أن المسأذنين إنما هم مخلصون للنفاق ، (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) معناه شكّت ، والريب نحو الشك ، و (يَتَرَدَّدُونَ) أي يتحيرون لا يتجه لهم هدى ، ومن هذه الآية نزع أهل الكلام في حد الشك أنه تردد بين أمرين ، والصواب في حده أنه توقف بين أمرين ، والتردد في الآية إنما هو في ريب هؤلاء المنافقين إذ كانوا تخطر لهم صحة أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحيانا ، وأنه غير صحيح أحيانا ، ولم يكونوا شاكين طالبين للحق لأنه كان يتضح لهم لو طلبوه ، بل كانوا مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كالشاة الحائرة بين الغنمين ، وأيضا فبين الشك والريب فرق ما ، وحقيقة الريب إنما هو الأمر يستريب به

٣٩

الناظر فيخلط عليه عقيدته فربما أدى إلى شك وحيرة وربما أدى إلى علم ما في النازلة التي هو فيها ، ألا ترى أن قول الهذلي :

كأني أريته بريب

لا يتجه أن يفسر بشك قال الطبري : وكان جماعة من أهل العلم يرون أن هاتين الآيتين منسوختان بالآية التي ذكرنا في سورة النور ، وأسند عن الحسن وعكرمة أنهما قالا في قول (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) [التوبة : ٤٤] إلى قوله (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) نسختها الآية التي في النور ، ، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [الآية : ٦٢] إلى (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور : ٦٢].

قال القاضي أبو محمد : وهذا غلط وقد تقدم ذكره ، وقوله تعالى : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ) الآية ، حجة على المنافقين ، أي ولو أرادوا الخروج بنياتهم لنظروا في ذلك واستعدوا له قبل كونه ، و «العدة» ما يعد للأمر ويروى له من الأشياء ، وقرأ جمهور الناس «عدة» بضم العين وتاء تأنيث ، وقرأ محمد بن عبد الملك بن مروان وابنه معاوية بن محمد «عده» بضم العين وهاء إضمار يريد «عدته» فحذفت تاء التأنيث لما أضاف ، كما قال «وأقام الصلاة» يريد وإقامة الصلاة ، هذا قول الفراء ، وضعفه أبو الفتح وقال إنما حدف تاء التأنيث وجعل هاء الضمير عوضا منها ، وقال أبو حاتم : هو جمع عدة على عد ، كبرة وكبر ودرة ودر ، والوجه فيه عدد ولكن لا يوافق خط المصحف ، وقرأ عاصم فيما روى عنه أبان وزر بن حبيش «عده» بكسر العين وهاء إضمار وهو عندي اسم لما يعد كالريح والقتل لأن العدو سمي قتلا إذ حقه أن يقتل هذا في معتقد العرب حين سمته ، و (انْبِعاثَهُمْ) نفوذهم لهذه الغزوة ، و «التثبيط» التكسيل وكسر العزم ، وقوله (وَقِيلَ) ، يحتمل أن يكون حكاية عن الله تعالى أي قال الله في سابق قضائه (اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) ، ويحتمل أن يكون حكاية عنهم أي كانت هذه مقالة بعضهم لبعض إما لفظا وإما معنى ، فحكي في هذه الألفاظ التي تقتضي لهم مذمة إذ القاعدون النساء والأطفال ، ويحتمل أن يكون عبارة عن إذن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لهم في القعود ، أي لما كره الله خروجهم يسر أن قلت لهم (اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) ، والقعود هنا عبارة عن التخلف والتراخي كما هو في قول الشاعر :

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

وليس للهيئة في هذا كله مدخل ، وكراهية الله انبعاثهم رفق بالمؤمنين وقوله تعالى : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ) الآية ، خبر بأنهم لو خرجوا لكان خروجهم مضرة ، وقوله (إِلَّا خَبالاً) استثناء من غير الأول ، وهذا قول من قدر أنه لم يكن في عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبال ، فيزيد المنافقون فيه ، فكأن المعنى ما زادوكم قوة ولا شدة لكن خبالا ، ويحتمل أن يكون الاستثناء غير منقطع وذلك أن عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في غزوة تبوك كان فيه منافقون كثير ولهم لا محالة خبال ، فلو خرج هؤلاء لا لتأموا مع الخارجين فزاد الخبال ، والخبال الفساد في الأشياء المؤتلفة الملتحمة كالمودات وبعض الأجرام ، ومنه قول الشاعر : [الكامل]

يا بني لبينى لستما بيد

إلّا يدا مخبولة العضد

٤٠