لأكون مع الصّادقين

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

لأكون مع الصّادقين

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-15-3
الصفحات: ٤٥٥

وجاء في كتاب إحياء العلوم للإمام الغزالي قوله : « إن عصمة دم المسلم واجبة ، فمهما كان القصد سفك دم مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب » (١).

وأخرج جلال الدين السيوطي في كتاب الأشباه والنظائر ، قال : « ويجوز أكل الميتة في المخمصة ، وإساغة اللقمة في الخمر ، والتلفّظ بكلمة الكفر ، ولو عمّ الحرامُ قطراً بحيث لا يوجد فيه حلال إلاّ نادراً ، فإنّه يجوز استعمال مايحتاج إليه » (٢).

وأخرج أبو بكر الرازي في كتابه أحكام القرآن في تفسير قوله تعالى : ( إلاّ أنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) قال : يعني أن تخافوا تلف النفس أو بعض الأعضاء ، فتتّقوهم بإظهار المولاة من غير اعتقاده لها ، وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ ، وعليه الجمهور من أهل العلم ، كما جاء عن قتادة في قوله تعالى : ( لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ ) (٣) قال : لا يحلّ لمؤمن أن يتّخذ كافراً ولياً في دينه ، وقوله تعالى : ( إلاّ أنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) يقتضي جواز

__________________

١ ـ إحياء علوم الدين ٣ : ٢٠٢ كتاب آفات اللسان ، بيان ما رخص فيه من الكذب.

٢ ـ الأشباه والنظائر : ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

٣ ـ آل عمران : ٢٨.

٣٢١

إظهار الكفر عند التقيّة » (١).

وأخرج البخاري في صحيحه عن قتيبة بن سعيد ، عن سفيان ، عن ابن المكندر ، حدّثه عن عروة بن الزبير ، أنّ عائشة أخبرته أنّه استأذن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل ، فقال : إئذنوا له فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة ، فلمّا دخل ألاَنَ له الكلام ، فقلت : يارسول اللّه قلت ماقلت ثمّ أَلْنتَ له في القول؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« أي عائشة ، إن شرّ الناسُ منزلة عند اللّه من تركه أو ودعه الناس اتّقاء فُحِشِه » (٢).

وهذا يكفينا دلالة بعد استعراض ماسبق على أنّ أهل السنّة والجماعة يؤمنون بجواز التقيّة إلى أبعد حدودها من أنّها جائزة إلى يوم القيامة كما مرّ عليك ، ومن وجوب الكذب كما قال الغزّالي ، ومن إظهار الكفر وهو مذهب الجمهور من أهل العلم كما اعترف بذلك الرازي ، ومن جواز الابتسام في الظاهر واللعن في الباطن كما اعترف بذلك البخاري ، ومن جواز أن يقول الإنسان مايشاء وينال من رسول اللّه خوفاً على ماله كما صرّح بذلك صاحب السيرة

__________________

١ ـ أحكام القرآن للرازي الجصاص ٢ : ١٢.

٢ ـ صحيح البخاري ٧ : ٨٦ ، كتاب الأدب ، باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب.

٣٢٢

الحلبية ، وأن يتكلّم بما فيه معصية اللّه مخافة الناس كما اعترف به السيوطي.

فلا مبرّر لأهل السنّة والجماعة في التشنيع والإنكار على الشيعة من أجل عقيدة يقولون بها هم أنفسهم ، ويروونها في صحاحهم ومسانيدهم بأنّها جائزة بل واجبة ، ولم يزد الشيعة على ماقاله أهل السنّة شيئاً ، سوى أنّهم اشتهروا بالعمل بها أكثر من غيرهم ، لما لاقوه من الأمويين والعباسيين من ظلم واضطهاد ، فكان يكفي في تلك العصور أن يقال : هذا رجل يتشيّع لأهل البيت ليلاقي حتفه ، ويُقتلُ شرّ قتلة على يد أعداء أهل البيت النبوي.

فكان لابدّ له من العمل بالتقيّة اقتداء بما أشار عليهم أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، فقد روي عن الإمام جعفر الصادق إنّه قال « التقيّة ديني ودين آبائي » (١) وقال : « من لا تقيّة له لا دين له » (٢).

وقد كانت التقيّة شعاراً للأئمة أهل البيت أنفسهم دفعاً للضرر عنهم وعن أتباعهم ومحبّيهم ، وحقناً لدمائهم واستصلاحاً لحال المسلمين الذين فُتنُوا في دينهم ، كما فُتنَ عمّار بن ياسر ( رضي الله عنه ) وحتى أكثر.

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ٢١٩ ح ١٢ ، ولفظه : « التقية من ديني ودين آبائي ».

٢ ـ الكافي ٢ : ٢١٧ ح ٢ ، ولفظه : « لا دين لمن لا تقية له ».

٣٢٣

أمّا أهل السنّة والجماعة فقد كانوا بعيدين عن ذلك البلاء؛ لأنّهم كانوا في معظم عهودهم على وفاق تام مع الحكّام ، فلم يتعرّضوا لا لقتل ولا لنهب ولا لظلم ، فكان من الطبيعي جدّاً أن ينكروا التقيّة ويشنّعون على العاملين بها ، وقد لعب الحكّام من بني أميّة وبني العباس دوراً كبيراً في التشهير بالشيعة من أجل التقيّة.

وبما أنّ اللّه سبحانه أنزل فيها قرآناً يُتلى وأحكاماً تُقضى ، وبما أنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمل هو نفسه بها ، كما مرّ عليك في صحيح البخاري ، وأنّه أجاز لعمّار بن ياسر أن يسبّه ويكفر إذا عاوده الكفّار بالتعذيب ، وبما أنّ علماء المسلمين أجازوا ذلك اقتداء بكتاب اللّه وسنّة رسوله؛ فأيّ تشنيع وأيّ استنكار بعد هذا يصحّ أنْ يوجّه إلى الشيعة؟!

وقد عمل بالتقية الصحابة الكرام في عهد الحكّام الظالمين (١)

__________________

١ ـ روى ابن حزم في المحلّى ٨ : ٣٣٦ مسألة ١٤٠٩ عن ابن مسعود أنه قال : « ما من ذي سلطان يريد أن يكلّفني كلاماً يدرأ عنّي سوطاً أو سوطين إلاّ كنت متكلماً به » ، ثم قال ابن حزم : « ولا يعرف له من الصحابة مخالف ».

وقال السرخسي في المبسوط ٢٤ : ٤٦ و ٤٧ : « وقد كان حذيفة ممّن يستعمل التقية على ما روى أنه يداري رجلا ... وعن جابر بن عبداللّه قال : لا جناح عليّ في طاعة الظالم إذا أكرهني عليها ».

وكذلك استخدم التقيّة التابعين ومتشرعة الاُمّة الإسلاميّة :

٣٢٤

أمثال معاوية الذي كان يقتل كلّ من امتنع عن لعن عليّ بن أبي طالب ، وقُصة حجـر بن عدي الكندي وأصحابه مشهورة (١) وأمثال

__________________

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ٤ : ٢٢٧ : « لما استخلف الوليد قدم المدينة فدخل المسجد ، فرأى شيخاً قد اجتمع عليه الناس ، فقال : من هذا؟ قالوا : سعيد بن المسيّب. فلمّا جلس أرسل إليه ، فأتاه الرسول فقال : أجب أمير المؤمنين! فقال : لعلّك أخطأت باسمي أو لعلّه أرسلك إلى غيري ، فردّ الرسول ، فأخبره ، فغضب وهمّ به. قال : وفي الناس يومئذ تقية .. ».

وقال أيضاً في السير ١٠ : ٤٨١ ـ في ترجمة سعدويه بن سليمان ، وبعد أن وصفه بالحافظ الثبت الإمام ـ : « وأما أحمد بن حنبل فكان يغض منه ، ولا يرى الكتابة عنه ، لكون أجاب في المحنة تقية .. ».

وقال في ترجمة أبو نصر التمار ١٠ : ٥٧١ : « .. وقال أبو الحسن الميموني : صحّ عندي أنه ـ يعني أحمد ـ لم يحضر أبا نصر التمار حين مات ، فحسبت أنّ ذلك لما كان أجاب في المحنة.

قلت : أجاب تقية وخوفاً من النكال. وهو ثقة بحاله والحمد للّه ».

وقال في السير ١١ : ٨٧ : « قال سعيد بن عمرو البرذعي : سمعت الحافظ أبا زرعة الرازي يقول : كان أحمد بن حنبل لا يرى الكتابة عن أبي نصر التمار ، ولا عن يحيى بن معين ، ولا عن أحد ممن أجاب في المحنة. قلت : هذا أمر ضيق ولا حرج على من أجاب في المحنة ، بل ولا على من أجبر على صريح الكفر عملا بالآية. وكان يحيى ( رحمه الله ) من أئمة السنّة ، فخاف من سطوة الدولة ، وأجاب تقية ».

١ ـ ذكر في كشف الجاني : ١٦١ أن المؤلّف ادّعى على معاوية ثلاث دعاوى :

٣٢٥

__________________

أ ـ إنّ الصحابة كانوا يستخدمون التقية مع معاوية.

وقال : « هذا كذب ».

ب ـ إنّ معاوية كان ظالماً.

وقال : « هذا كذب ، بل هو إمام عادل ».

جـ ـ إنّ معاوية كان يقتل شيعة عليّ والممتنعين عن لعنه.

وقال : « هذا كذب ».

وهذه التكذيبات الثلاثة ليست صحيحة ، بل الحقّ مع المؤلّف من كون معاوية ظالماً ، وكان الصحابة يتوقون بطشه وكيده.

ومن يقرأ كلام عثمان الخميس في كشف الجاني يرى العجب العجاب ، ويخيل إليه أنه لم يطلع على الكتب التاريخية والروائية التي ذكرت جرائم معاوية وما ارتكبه بحقّ أهل البيت وشيعتهم ، وما اقترفه من ظلم وتعدّي بحقّ الشريعة الإسلامية والسنّة النبوية.

وأمّا ما ذكره التيجاني ، فهو الصواب الذي نطقت به الأخبار وطفحت به الآثار :

أما النقطة الأُولى :

فإنّ الصحابة كانوا يستخدمون التقية مع معاوية ، لاتقاء شرّه وأذاه والابتعاد عن الوقوع في فلك ظلمه وبطشه :

فقد أخرج ابن عساكر بسنده قال : « لمّا قدم بسر بن أرطأة المدينة أخذ الناس بالبيعة ، فجاءت بنو سلمة ، وتغيب جابر ، قال : لا أبايعكم حتى يجيء جابر ، قال : فانطلق جابر الى أُم سلمة فسألها ، فقالت : هذه بيعة لا أرضاها ، إذهب فبايع تحقن دمك » تاريخ دمشق : ١١ : ٢٣٥ ، الاستيعاب لابن عبد البر ١ :

٣٢٦

__________________

٢٤١ ـ ٢٤٦.

وكذلك استخدم التقيّة التابعين ومتشرعة الأُمّة الإسلاميّة : قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ٤ : ٢٢٧ : « ..لما استخلف الوليد قدم المدينة فدخل المسجد ، فرأى شيخاً قد اجتمع عليه الناس ، فقال : من هذا؟ قالوا : سعيد بن المسيّب : فلمّا جلس أرسل إليه ، فأتاه الرسول فقال : أجب أمير المؤمنين! فقال : لعلّك أخطأت باسمي أو لعلّه أرسلك إلى غيري ، فردّ الرسول ، فأخبره ، فغضب وهم به. قال : وفي الناس يومئذ تقيّة .. ».

وقال أيضاً في السير ١٠ : ٤٨١ ـ في ترجمة سعدويه بن سليمان ، وبعد أن وصفه بالحافظ الثبت الإمام ـ : « وأمّا أحمد بن حنبل فكان يغض منه ، ولا يرى الكتابة عنه ، لكونه أجاب في المحنة تقيّة .. ».

وقال في ترجمة أبو نصر التمار ١٠ : ٥٧١ : « .. وقال أبو الحسن الميموني : صحّ عندي أنّه ـ يعني أحمد ـ لم يحضر أبا نصر التمار حين مات ، فحسبت أنّ ذلك لما كان أجاب في المحنة.

قلت : أجاب تقيّة وخوفاً من النكال. وهو ثقة بحاله والحمدللّه ».

وقال في السير ١١ : ٨٧ : « قال سعيد بن عمرو البرذعي : سمعت الحافظ أبا زرعة الرازي يقول : كان أحمد بن حنبل لا يرى الكتابة عن أبي نصر التمار ، ولا عن يحيى بن معين ، ولا عن أحد ممن أجاب في المحنة. قلت : هذا أمر ضيق ولا حرج على من أجاب في المحنة ، بل ولا على من أجبر على صريح الكفر عملاً بالآية. وكان يحيى ( رحمهم الله ) من أئمة السنّة ، فخاف من سطوة الدولة ، وأجاب تقيّة ».

وفي كتاب الثقات لابن حبان ٢ : ٢٩٩ : « ... فدخل جابر على أُم سلمة وقال :

٣٢٧

__________________

يا أُماه إنّي خشيت على دمي ، وهذه بيعة ضلال! فقالت : أرى أن تبايع ، فخرج جابر فبايع بسر بن أرطأة لمعاوية كارهاً ».

فهذا جابر تأمره أم سلمة أن يحقن دمه ويبايع ، أي يتقي بسر بن أرطأة الذي أرسله معاوية للمدينة لأخذ البيعة له ، بل ويصرّح في رواية ابن حبان أنها بيعة ضلال مع أنه بايع!! وحينئذ لا معنى لبيعته إلاّ أنها تقية من بني أمية وبطش معاوية.

وقال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار : « قوله : إن زياد بن أبي سفيان ، وقع التحديث بهذا في زمن بني أمية ، وأمّا بعدهم فما كان يقال له إلاّ زياد بن أبيه ، وقبل استلحاق معاوية له كان يقال له زياد بن عبيد ... فلمّا كان في أيام معاوية شهد جماعة على إقرار أبي سفيان بأنّ زياداً ولده فاستلحقه معاوية بذلك وخالف الحديث الصحيح : إنّ الولد للفراش وللعاهر الحجر ، وذلك لغرض دنيوي ... وقد أجمع أهل العلم على تحريم نسبته إلى أبي سفيان ، وما وقع من أهل العلم في زمان بني أمية فإنّما هو تقية ». نيل الأوطار : ٥ : ١٩٤.

فهذه رواية وشهادة من علم من أعلام أهل السنّة على سطوة معاوية وظلمه التي حدث بالصحابة وغيرهم لاستخدام التقية معه.

وأمّا النقطة الثانية :

فإنّ معاوية كان ظالماً معتدياً على حقّ اللّه وحقّ عباده ، بل ارتكب معاوية ما هو أشدّ من الظلم والبغي والخروج على الإمام الذي تجب طاعته ، وهذه الروايات والأقوال تبين ظلم معاوية وبغيه :

١ ـ روي البيهقي وابن أبي شيبة وابن عساكر بسند متصل عن عمّار بن ياسر أنه : « لا تقولوا كفر أهل الشام ، ولكن قولوا فسقوا أو ظلموا » السنن الكبرى

٣٢٨

__________________

٨ : ١٧٤ ، مصنّف ابن أبي شيبة : ٨ : ٧٢٢ ، تاريخ ابن عساكر ١ : ٣٤٧.

٢ ـ وعن علي عليه‌السلام أنه قال : « لا تقولوا كفر أهل الشام : ولكن قولوا فسقوا أو ظلموا » ، كنز العمال : ٥ : ٥٦٧.

وأما أقوال علماء السنّة في ظلم معاوية وبغيه فهي :

١ ـ قال الإمام ابن خزيمة : « ... وكلّ من نازع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب في إمارته فهو باغ. على هذا عهدت مشايخنا وبه قال ابن ادريس ـ يعني الشافعي ـ ( رحمه الله ) » الاعتقاد للبيهقي : ٥٠٢ ، تحقيق عبد اللّه محمّد الدرويش.

٢ ـ وقال الإمام أبو منصور البغدادي : « أجمع أصحابنا على أنّ عليّاً ( رضي الله عنه ) كان مصيباً في قتال أصحاب الجمل وفي قتال أصحاب معاوية بصفّين. وقالوا في الذين قاتلوه في البصرة : إنهم كانوا على الخطأ ، وأمّا أصحاب معاوية فإنّهم بغوا وسمّاهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بغاة في قوله لعمّار : « تقتلك الفئة الباغية » ، ولم يكفروا بهذا البغي » أصول الدين : ٢٨٩ ـ ٢٩٠ ، ونحوه في كتاب الفرق بين الفرق : ٣٥٠.

٣ ـ وقال الإمام البيهقي : « وأمّا خروج من خرج على أمير المؤمنين عليّ ( رضي الله عنه ) مع أهل الشام في طلب دم عثمان ، ثمّ منازعته إيّاه في الإمارة فإنّه غير مصيب فيما فعل و ... إنّ الذي خرج عليه ونازعه كان باغياً ، وكان رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قد أخبر عمّار بن ياسر بأنّ الفئة الباغية تقتله ، فقتله هؤلاء الذين خرجوا على أمير المؤمنين عليّ ( رضي الله عنه ) في حرب صفّين » الاعتقاد للبيهقي : ٥٠١.

٤ ـ قال الإمام القرطبي : « ... فتقرّر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدين

٣٢٩

__________________

أنّ عليّاً كان إماماً ، وأنّ كلّ من خرج عليه باغ ، وأنّ قتاله واجب حتى يفيء إلى الحقّ وينقاد إلى الصلح » تفسير القرطبي ١ : ٣١٨.

وقال في المفهم : « قوله : ( وأهل بيتي ، أذكركم اللّه في أهل بيتي ـ ثلاثاً ) هذه الوصية وهذا التأكيد العظيم يقتضي وجوب احترام آل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته .. ومحبّتهم ووجوب الفروض المؤكدة ... هذا مع ما علم من خصوصيّتهم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبأنّهم جزء منه ، فإنّهم أُصوله التي نشأ منها وفروعه التي تنشأ عنه ، ومع ذلك فقابل بنو أميّة عظيم هذه الحقوق بالمخالفة والعقوق ، فسفكوا من أهل البيت دماءهم ، وسبوا نساءهم وخربوا ديارهم ، وجحدوا شرفهم وفضلهم ، واستباحوا سبّهم ولعنهم ، فخالفوا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وصيته ، وقابلوه بنقيض مقصوده وأُمنيته .. » المفهم لما أُشكل من صحيح مسلم ٦ : ٣٠٤.

وفي اللغة : البغي : بمعنى الظلم والفساد ، لسان العرب ١٤ : ٧٨.

٥ ـ وصف الإمام الذهبي ـ وهو المعروف بميله لمذهب أهل الشام ـ معاوية بأنه المربي لأهل الشام على النصب والعداء لأهل البيت عليهم‌السلام ، على خلاف ما نطق به القرآن ، وطفحت به الآثار من وجوب مودّة ومحبة أهل البيت عليهم‌السلام ، فيخالف معاوية القرآن ويسنّ قوانين وسنن على هواه ، يقول الإمام الذهبي : « وخلف معاوية خلف كثير يحبّونه ويغالون فيه ويفضلونه ... وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة ، وعدد كثير من التابعين والفضلاء ، وحاربوا معه أهل العراق ونشأوا على النصب » سير أعلام النبلاء ٣ : ١٢٨ ( ترجمة معاوية بن أبي سفيان ).

وقال في وصف طائفة معاوية : « هم طائفة من المؤمنين بغت على الإمام

٣٣٠

__________________

عليّ ، وذلك بنصّ قول المصطفى صلوات اللّه عليه لعمّار : « تقتلك الفئة الباغية » .. ولا نرتاب أنّ عليّاً أفضل ممّن حاربه ، وأنّه أولى بالحقّ رضي اللّه عنه » سير أعلام النبلاء ٨ : ٢٠٩.

ولا بأس بالإشارة إلى ما في كلام الذهبى من تهافت ، طبقاً لنشأته الشامية ومايحملونه تجاه أهل البيت عليهم‌السلام إذ أنّه وصف أتباع معاوية بأنّهم بغاة ، وأنّهم نشأوا على النصب الذي غذّاهم معاوية به ، ثمّ يأتي بعد ذلك ويصفهم بـ ( الإيمان )! مع أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام : « لا يُحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق » صحيح مسلم ١ : ٦١.

فمبغض عليّ عليه‌السلام يكون ناصبيّاً منافقاً بحكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا معنى لأن نصف من حكم رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفاقه بالإيمان! اللهمّ إلاّ على مبنى الشاميّين النواصب الذين يرون النصب ديانة وإيماناً وحبّ عليّ كفراً ونفاقاً!! وللّه في كلام المحدّثين شؤون.

٦ ـ وقال ابن تيمية الحراني : « بخلاف سبّ علي فإنّه كان شائعاً في أتباع معاوية ، ولهذا كان عليّ وأصحابه أولى بالحقّ وأقرب إلى الحقّ من معاوية وأصحابه .. وكان سبّ عليّ ولعنه من البغي الذي استحقت به الطائفة أن يقال لها : الطائفة الباغية ، كما رواه البخاري في صحيحه عن خالد الحذّاء ، عن عكرمة قال : قال ليّ ابن عباس ولابنه علي : انطلقا إلى أبي سعيد واسمعا من حديثه ، فانطلقنا ، فإذا هو في حائط يصلحه ، فأخذ رداءه فاحتبى به ، ثمّ أنشأ يحدّثنا ، حتّى إذا أتى على ذكر بناء المسجد فقال : كنّا نحمل لبنّة لبنّة ، وعمّار لبنتين لبنتين ، فرآه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فجعل ينفض التراب عنه ويقول : « ويح عمّار تقتله الفئة الباغية ، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار » ، قال : يقول عمّار :

٣٣١

__________________

أعوذ باللّه من الفتن.

ورواه مسلم عن أبي سعيد ـ أيضاً ـ قال : ...

وهذا أيضاً يدلّ على صحة إمامة عليّ ، ووجوب طاعته ، وأنّ الداعي إلى طاعته داع إلى الجنّة ، والداعي إلى مقاتلته داع إلى النار ، وإن كان متأوّلا.

وهو دليل على أنه لم يكن يجوز قتال عليّ ، وعلى هذا فمقاتله مخطئ وإن كان متأولا أو باغ بلا تأويل ، وهو أصح القولين لأصحابنا ، وهو الحكم بتخطئة من قاتل عليّاً ، وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على ذلك قتال البغاة المتأولين.

وكذلك أنكر يحيى بن معين على الشافعي استدلاله بسيرة عليّ في قتال البغاة المتأولين ، قال : أيجعل طلحة والزبير بغاة! ردّ عليه الإمام أحمد فقال : ويحك! وأيّ شيء يسمه أن يضع في هذا المقام. يعني إن لم يقتدِ بسيرة عليّ في ذلك لم يكن معه سنّة من الخلفاء الراشدين في قتال البغاة » الفتاوى لابن تيمية ٤ : ٢٦٧ ـ ٢٦٨.

٧ ـ وقال الإمام ابن كثير الدمشقي : « وهذا مقتل عمّار بن يسار ( رضي الله عنه ) مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، قتله أهل الشام ، وبان وظهر سرّ ما أخبر به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من أنّه تقتله الفئة الباغية ، وبان بذلك عليّاً محقّ ، وأنّ معاوية باغ » البداية والنهاية ٧ : ٢٩٦.

٨ ـ وقال ابن حجر العسقلاني : « ... ثبت أنّ أهل الجمل وصفين والنهروان بغاة » التلخيص الحبير ٤ : ٤٤.

وقال بعد ذكره لحديث الخوارج : « وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم منقبة عظيمة لعليّ ، وأنه كان الإمام الحقّ ، وأنه كان على الصواب في قتال

٣٣٢

__________________

من قاتله في حروبه في الجمل وصفين وغيرهما » فتح الباري ١٢ : ٢٩٩.

وقال ـ أيضاً ـ بعد أن ذكر حديث عمّار : « وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوّة ، وفضيلة ظاهرة لعليّ ولعمّار ، ورد على النواصب الزاعمين أنّ عليّاً لم يكن مصيباً في حروبه » فتح الباري ١٢ : ١١٣.

وفي هذا يشير ابن حجر إلى عثمان الخميس ومن على شاكلته الذين يدافعون عن معاوية بن أبي سفيان حيفاً على علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وعلى الذين يمدحون صلح الحسن عليه‌السلام نكاية بعلي بن أبي طالب ، وطعناً مبطناً في حربه على بغاة الجمل وصفين الذين فرّقوا كلمة المسلمين ، واستباحوا دماء المسلمين لأجل مصالحهم الخاصّة ومنافعهم الآنية.

٩ ـ وقال الإمام شمس الدين الشربيني : « فصل : في قتال البغاة :

جمع باغ ، والبغي الظلم ومجاوزة الحدّ ، سُمّوا بذلك لظلمهم وعدولهم عن الحقّ ، والأصل فيه آية ( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ) .. ( ويقاتل أهل البغي ) وجوباً كما استفيد من الآية المتقدمة ، وعليها عول عليّ ـ رضي اللّه تعالى عنه ـ في قتال صفين والنهروان » الاقناع ٢ : ٢٢.

١٠ ـ وقال الشيخ ملاّ علي القاري : ( .. « تقتلك الفئة الباغية » أي الجماعة الخارجة على إمام الوقت وخليفة الزمان ، قال الطيّبي : ترّحم عليه بسبب الشدة التي يقع فيها عمار من قبل الفئة الباغية ، يريد به معاوية وقومه فإنّه قتل يوم صفين.

وقال ابن مالك : اعلم أنّ عمّاراً قتله معاوية وفئته ، فكانوا طاغين باغين بهذا الحديث؛ لأنّ عمّاراً كان في عسكر عليّ ، وهو المستحقّ للإمامة فامتنعوا عن بيعته.

٣٣٣

__________________

ـ إلى أن يقول ـ : فإذا كان الواجب عليه أن يرجع عن بغيه باطاعته الخليفة ويترك المخالفة وطلب الخلافة المنيفة ، فتبين بهذا أنه كان في الباطن باغياً وفي الظاهر متستراً بدم عثمان مراعياً مرائياً ، فجاء هذا الحديث عليه ناعياً ، وعن عمله ناهياً ، لكن كان ذلك في الكتاب مسطوراً فصار عنده كل من القرآن والحديث مهجوراً ، فرحم اللّه من أنصف ولم يتعصّب ولم يتعسّف « مرقاة المفاتيح في شرح مشكاة المصابيح ، ملاّ علي القاري ١١ : ١٧ ـ ١٨.

١١ ـ وقال المناوي : « وقال الإمام عبد القادر الجرجاني في كتابه الإمامة :

أجمع فقهاء العراق والحجاز من فريقي الحديث والرأي ، منهم : مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي والجمهور الأعظم من المتكلّمين والمسلمين؛ أنّ عليّاً مصيب في قتاله لأهل صفين ... وإنّ الذين قاتلوه بغاة ظالمون ». فيض القدير في شرح الجامع الصغير ٦ : ٤٧٤.

١٢ ـ وقال الشيخ أحمد حافظ حكمي : « .. وأمّا علي ( رضي الله عنه ) فكان مجتهداً مصيباً ، وفالجاً محقّاً ، يريد جمع كلمة الأمّة .. فكان أهل الشام بغاة اجتهدوا فأخطأوا ، وعليّ ( رضي الله عنه ) يقاتلهم ليرجعوا إلى الحقّ ويفيئوا إلى أمر اللّه ، ولهذا كان أهل بدر الموجودون على وجه الأرض كلّهم في جيشه ، وعمّار قتل معه ( رضي الله عنه ) كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد في بناء المسجد ، فقال : كنّا نحمل لبنة لبنة ، وعمّار لبنتين ، فرآه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فجعل ينفض التراب عنه ويقول : « ويح عمّار تقتله الفئة الباغية ، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار » ، قال : يقول عمّار : أعوذ باللّه من الفتن ، فتله أهل الشام ، مصداق ما أخبر الصادق المصدّق ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهو يدعوهم إلى الطاعة والائتلاف التي هي من أسباب دخول الجنة ، ويدعونه إلى الفتنة والفرقة التي هي من أسباب

٣٣٤

__________________

دخول النار » معارج القبول ٢ : ٤٦٨.

١٣ ـ وقال الشيخ عبد العزيز بن باز : « ... لمّا وقعت الفتنة في عهد الصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ أشتبهت على بعض الناس ، وتأخّر عن المشاركة فيها بعض الصحابة من أجل أحاديث الفتن كسعد بن أبي وقاصّ ومحمّد بن مسلمة وجماعة ـ رضي اللّه عنهم ـ ، ولكن فقهاء الصحابة الذين كان لهم من العلم ما هو أكمل قاتلوا مع عليٍّ ، لأنّه أولى الطائفتين بالحقّ ، وناصروه ضد الخوارج وضد البغاة الذين هم من أهل الشام لمّا عرفوا الحقّ ، وأنّ علياً مظلوم ، وأنّ الواجب أن ينصر ، وأنّه هو الإمام الذي يجب أن يتبع ، وأنّ معاوية ومن معه بغوا عليه بشبهة قتل عثمان.

واللّه جلّ وعلا يقول في كتابه العظيم : ( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي ) ، ما قال : ( فاعتزلوا ) ، قال : ( فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) ، فإذا عرف الظالم وجب أن يساعد المظلوم لقوله سبحانه : ( فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ ). والباغون في عهد الصحابة معاوية وأصحابه ، والمعتدلة عليّ وأصحابه ، فبهذا نصرهم أعيان الصحابة ، نصروا عليّاً وصاروا معه كما هو معلوم » فتاوى ومقالات متنوعة ٦ : ٨٠.

هذا نزر يسير من ظلم معاوية وبغيه وكلمات علماء السنّة في حقّه ، ذكرناها حتى يتّضح للقارئ مدى بُعد هؤلاء الشرذمة عن الحقّ والدين القويم ، إذ مجّدوا مَن هدم الدين ونصب العداء لأهله ورفعوه عالياً ، بينما هم يطعنون في أنصار الدين وحملته من أهل البيت وأصحابه المنتجبين.

٣٣٥

__________________

أما النقطة الثالثة : فهي الواقع الذي لا مفرّ منه ، إذ إنّ معاوية بنى خلافته على سبِّ عليّ بن أبي طالب والنيل منه ، بل وسبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فضلا عن قتل شيعة علي عليه‌السلام :

أخرج ابن ماجة في سننه عن سعد بن أبي وقاص قال : « قدم معاوية في بعض حجاته ، فدخل عليه سعد ، فذكروا علياً ، فنال منه ، فغضب سعداً وقال : تقول هذا لرجل سمعت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول فيه : من كنت مولاه فعلي مولاه ، وسمعته يقول : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ، وسمعته يقول : لأعطين الراية اليوم رجلا يحب اللّه ورسوله ».

وعلّق الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني في كتابه صحيح ابن ماجه ١ : ٧٦ ح ١٢٠ بقوله : صحيح الصحيحة ٤ : ٣٣٥ ، « ( فنال منه ) أي : نال معاوية من علي وتكلّم فيه ».

وقال محمّد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على الحديث : « قوله : ( فنال منه ) أي نال معاوية من عليّ ووقع فيه وسبّه » سنن ابن ماجه ، تحقيق عبد الباقي ١ : ٨٢ ح ١٢١.

وقال الإمام الذهبي في ترجمة عمر بن عبدالعزيز : « .. كان الولاة من بني أمّية ـ قبل عمر بن عبدالعزيز ـ يشتمون رجلا ـ رضي اللّه عنه! ـ فلمّا ولي هو أمسك عن ذلك ، فقال كثيِّر عَزَّة الخزاعي :

وليت فلم تشتم عليّاً ولم تُخف

برّياً ولم تتبع مقالةَ مجرم! »

سير أعلام النبلاء ٥ : ١٤٧.

وقال ابن تيمية الحراني : « .. وأمّا عليّ فأبغضه وسبّه أو كفره الخوارج وكثير من بني أُمية وشيعتهم الذين قاتلوه وسبّوه ..

٣٣٦

__________________

وأما شيعة عليّ الذين شايعوه بعد التحكّم ، وشيعة معاوية التي شايعته بعد التحكيم ، فكان بينهما من التقابل وتلاعن بعضهم ما كان.

وكذلك تفضيل عليّ عليه [ يعني على عثمان ] لم يكن مشهوراً فيها ، بخلاف سبّ عليّ فإنّه كان شائعاً في أتباع معاوية ».

مجموعة الفتاوى ٤ : ٢٦٧.

وهذا الإمام الأوزاعي صاحب المذهب المنتشر في الشام إلى سنة ٣٤٠ هـ وأكثر والذي ولي القضاء ليزيد بن الوليد الأموي ، يصف الحال الذي كانت عليه الشام وولاتها : « يقول عيسى بن يونس : سمعت الأوزاعي يقول : ما أخذنا العطاء حتّى شهدنا على عليّ بالنفاق!! وتبرّأنا منه!! وأخذنا علينا بذلك الطلاق والعتاق وإيمان البيعة » سير أعلام النبلاء ٧ : ١٣٠ ، ترجمة الإمام الأوزاعي.

وقال ابن الأثير في أحداث سنة ٥١ : « في هذه السنة قتل حجر بن عدي وأصحابه. وسبب ذلك : إنّ معاوية استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى وأربعين ، فلمّا أمّره عليها دعاه وقال له : أمّا بعد ؛ فإنّ لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ، وقد يجزي عنك الحكيم بغير التعليم ، وقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها اعتماداً على بصرك ، ولست تاركاً إيصاءك بخصلة : لا تترك شتم عليّ وذمّه ، والترحم على عثمان والاستغفار له ، والعيب لأصحاب عليّ والإقصاء لهم .. ».

وقال ابن كثير الدمشقي في حوادث سنة ١٠٦ : « وحجّ بالناس في هذه السنة أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك ، وكتب إلى أبي الزناد قبل دخوله المدينة ليتلقاه ويكتب له مناسك الحجّ ، ففعل ، فلتقّاه الناس من المدينة إلى أثناء

٣٣٧

__________________

الطريق ، وفيهم أبو الزناد قد أمتثل ما أُمر به ، وتلقّاه فيمن تلقّاه سعيد بن عبد اللّه بن الوليد بن عثمان بن عفان ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، إنّ أهل بيتك في مثل هذا المواطن الصالحة لم يزالوا يلعنون أبا تراب ؛ فالعنه أنت ـ أيضاً ـ .. » البداية والنهاية ٩ : ١٧١ ، والكامل في التاريخ ٥ : ١٣٠.

ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ ، بل أخذ معاوية بقتل شيعة عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وأمرهم بالبراءة منه ولعنه وسبّه ، ويكفي لمن يتصفّح التاريخ أن يرى ذلك بأُمّ عينه واضحاً ، ويكفي ما فعله بحجر بن عدي وأصحابه :

فقد روى ابن عساكر في تاريخه ٨ : ٢٥ بعد أن أرسل حجر بن عدي وأصحابه إلى معاوية وحبسهم : « فقال لهم رسول معاوية : إنّا قد أمرنا أن نعرض عليكم البراءة من عليّ ، إن فعلتم تركناكم ، وإن أبيتم قتلناكم ، وإنّ أمير المؤمنين يزعم أنّ دماءكم قد حلّت له بشهادة أهل مصركم عليكم ، غير أنّه قد عفى على ذلك ، فابرأوا من هذا الرجل نخل سبيلكم ».

وفي الكامل لابن الأثير ٣ : ٤٨٥ ( حوادث سنة ٥١ ) : « قالوا لهم قبل القتل : إنّا قد أُمرنا أن نعرض عليكم البراءة من عليّ واللعن له ، فإن فعلتم تركناكم ، وإن أبيتم قتلناكم ».

وفي سير أعلام النبلاء للذهبي ٦ : ٤٦٦ رقم ٩٥ : « لما أتى معاوية بحجر قال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، قال : أو أمير المؤمنين أنا! اضربوا عنقه ... وقيل : إنّ رسول معاوية عرض عليهم البراءة من رجل والتوبة ».

وذكر الذهبي اسم ذلك الرجل في كتاب تاريخ الإسلام ٤ : ١٩٤ ، وهو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

وفي المستدرك : كتاب معرفة الصحابة ، في مناقب حجر بن عدي : أنّه قتل

٣٣٨

__________________

في موالاة علي.

وأمّا شدّة معاوية وجوره على شيعة عليّ فكثير ، ورد في مصادر كثيرة بأرقام كبيرة :

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ٣ : ١٣٧ : « ورجع معاوية بالألفة والاجتماع ، وبايعه أهل الشام بالخلافة ... فكان يبعث الغارات فيقتلون من كان في طاعة عليّ ».

وفي الإصابة ١ : ٤٢٢ ( في ترجمة بسر بن أرطأة ) قال ابن حجر : « وكان من شيعة معاوية ، وكان معاوية وجّهه إلى اليمن والحجاز ... وأمر أن ينظر من كان في طاعة عليّ فيوقع بهم ، ففعل ذلك ».

وفي أُسد الغابة ١ : ١٨٠ : « كان معاوية سيّرهُ إلى الحجاز واليمن ليقتل شيعة عليّ ».

وفي تاريخ دمشق ١٠ : ١٥٢ : « بعث معاوية بسر بن أرطأة إلى المدينة ومكة واليمن يستعرض الناس فيقتل من كان في طاعة عليّ أبي طالب ».

وكذلك في تهذيب الكمال للمزي ٤ : ٦١ و ٦٦٥ ، وتهذيب التهذيب ١ : ٤٣٥ ( ترجمة بسر ).

وفي أنساب الأشراف للبلاذري ٤٥٤ : « قال معاوية لبسر لما وجهه للغارة : ثم امض إلى صنعاء فإنّ لنا بها شيعة ، واستعن بهم على عمال عليّ وأصحابه ، فقد أتاني كتابهم ، واقتل كلّ من كان في طاعة عليّ إذا امتنع من بيعتنا ، وخذ ما وجدت لهم من مال ».

وفي الإمامة والسياسية لابن قتيبة ١ : ٢٠٣ : « كتب الإمام الحسن إلى معاوية كتاباً قال فيه : أولست قاتل الحضرمي الذي كتب إليك فيه زياد أنّه على

٣٣٩

__________________

دين عليّ ».

وقال الجاحظ في البيان والتبين ١ : ٢٦٦ : « وجلس معاوية رضي اللّه تعالى عنه بالكوفة يبايع على البراءة من عليّ بن أبي طالب كرّم اللّه تعالى وجهه ، فجاءه رجل من بني تميم فأراده على ذلك ، فقال : يا أمير المؤمنين نطيع أحياءكم ولا نبرأ من موتاكم ، فالتفت إلى المغيرة فقال : إنّ هذا رجلٌ فاستوص به خيراً ».

وذكر الزركلي في الأعلام ٣ : ٣٠٣ في ترجمة عبد الرحمن بن حسان العنزي : « فدعاه معاوية إلى البراءة من عليّ ، فأغلظ عبد الرحمن في الجواب ، فردّه إلى زياد فدفنه حيّاً ».

وأيضاً في تاريخ مدينة دمشق ٨ : ٢٧.

وبعد كلّ هذه الحقائق ، لا يمكن لمدّع أن يدافع عن معاوية وأمثاله الذين حكموا الأمة بالظلم والطغيان ، ومنعوا ربيع الإسلام أن يغطي المعمورة بعدله وحلمه ، وحرموا الأُمة من نبع الدين الصافي وضفافه الفضفاض وهم أهل البيت عليهم‌السلام ، فعاملوهم قتلا وساوروهم سجناً ، ومنعوا الأُمة من الأخذ عنهم وأبعدوهم عن وصية نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الثقلين.

فمن يكون هكذا حاله ، فكيف يكون إماماً ، فضلا عن كونه عادلا؟!

وعلاوة على ذلك نقول : إنّ هنالك أحاديثاً كثيرة وردت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذمّ معاوية بن أبي سفيان ، وإنّه لم يدخل الإسلام إلاّ بعدما أيقن الفتك وأن لا مخلص له ولبني أُميّة عموماً إلاّ الدخول في الدين وإظهار الطاعة ، وإبطان النفاق والغدر والخيانة ، فمعاوية ابن أبي سفيان لم يكن ممّن حسن إسلامه فضلا عن أن يكون خليفة للمسلمين!! والإسلام يبرأ منه ونذكر قسماً يسيراً

٣٤٠