رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٧

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٧

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

له الخروج منها قبل إتمامها ، وهذا على ظاهره في الحج ، فأما الصلاة والصيام فهو على سبيل الاستحباب (١).

قوله تعالى : (فَلا تَهِنُوا) أي : لا تضعفوا (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) وقرأ حمزة وأبو بكر : " السّلم" بكسر السين (٢) ، أي : لا تدعو الكفار ابتداء الصلح. وقد ذكرنا السّلم في الأنفال (٣) وغيرها.

قال قتادة : لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها في طلب الموادعة (٤).

(وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) يجوز أن تكون الواو حالية. ويجوز أن تكون إخبارا خارجا مخرج البشارة لهم بالاستعلاء والنصر على الأعداء.

(وَاللهُ مَعَكُمْ) بالنصر والمعونة فهو يكفيكم أمرهم ، (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ).

قال الزجاج (٥) : ينقصكم شيئا من ثوابكم.

وأنشد قطرب :

إن تترني من الإجارة شيئا

لا تفتني على الصراط بحقي (٦)

__________________

(١) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤١٣).

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٤٠٧) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٧٠) ، والكشف (٢ / ٢٧٩) ، والنشر (٢ / ٢٢٧) ، والإتحاف (ص : ٣٩٥) ، والسبعة (ص : ٦٠١).

(٣) عند الآية رقم : ٦١.

(٤) أخرجه الطبري (٢٦ / ٦٣). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٥٠٥) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير.

(٥) معاني الزجاج (٥ / ١٦).

(٦) انظر البيت في : الماوردي (٥ / ٣٠٦).

٢٨١

وقال الزمخشري (١) : هو من وترت الرجل ؛ إذا [قتلت](٢) له قتيلا من ولد أو أخ أو حميم ، أو حربته. وحقيقته : أفردته من قريبه أو ماله ، من الوتر ، وهو الفرد ؛ فشبّه إضاعة عمل العامل [وتعطيل](٣) ثوابه بوتر الواتر ، وهو من فصيح الكلام. ومنه قوله عليه الصلاة والسّلام : «من فاتته صلاة العصر ، فكأنما وتر أهله وماله» (٤) ، أي : أفرد عنهما [قتلا](٥) ونهبا.

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ)(٣٨)

قوله تعالى : (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) قيل : المعنى : لا يسألكم ربكم أموالكم.

وقيل : المعنى : ولا يسألكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أموالكم.

والأول أظهر.

__________________

(١) الكشاف (٤ / ٣٣٢).

(٢) في الأصل : قلت. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

(٣) في الأصل : تعطيل. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

(٤) أخرجه البخاري (١ / ٢٠٣ ح ٥٢٧) ، ومسلم (١ / ٤٣٥ ح ٦٢٦).

(٥) في الأصل : مثلا. والتصويب من الكشاف (٤ / ٣٣٢).

٢٨٢

قال الماوردي (١) : المعنى : لا يسألكم أموالكم إنما يسألكم أمواله. ويفسد هذا المعنى ما بعده.

والصحيح : أن المعنى : لا يسألكم أموالكم كلها ، إنما يطلب منكم ربع عشور أموالكم.

(إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ) أي : يجهدكم بالسؤال ، والإحفاء : المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء. يقال : أحفاه في المسألة ؛ [إذا لم يترك شيئا من الإلحاح](٢) ، وأحفى شاربه : استأصله (٣).

(تَبْخَلُوا) جواب الشرط ، (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) معطوف عليه (٤).

وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو : " ويخرج" بالياء والراء. وقرئ : بالتاء ، " أضغانكم" بالرفع ، لإسناد الفعل إليه (٥).

وقرأ سعد بن أبي وقاص وابن عباس بتاء مضمومة وفتح الراء ، على البناء للمفعول ، " أضغانكم" بالرفع (٦).

والضمير في" ويخرج" لله عزوجل.

ويؤيده قراءة يعقوب في رواية الوليد عنه : " ونخرج" بالنون وضمها (٧).

__________________

(١) تفسير الماوردي (٥ / ٣٠٧).

(٢) زيادة من الكشاف (٤ / ٣٣٢).

(٣) انظر : اللسان (مادة : حفا).

(٤) انظر : الدر المصون (٦ / ١٥٨).

(٥) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٩٥) ، وزاد المسير (٧ / ٤١٤).

(٦) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٧ / ٤١٤) ، والدر المصون (٦ / ١٥٨).

(٧) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٧ / ٤١٤ ـ ٤١٥) ، والدر المصون (٦ / ١٥٨).

٢٨٣

وقيل : يخرج البخل أضغانكم.

والمعنى : ويخرج ما في قلوبكم من العداوة والحقد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (ها أَنْتُمْ) مذكور في آل عمران (١).

(هؤُلاءِ) قال الزمخشري (٢) : هو موصول ، بمعنى : الذين ، صلته : (تُدْعَوْنَ) ، أي : أنتم [الذين](٣) تدعون ، أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون.

ثم استأنف وصفهم ، كأنهم قالوا : ما وصفنا؟ فقيل : تدعون (لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : في الجهاد. وقيل : الزكاة ، كأنه قيل : الدليل على أنه لو أحفاكم لبخلتم وكرهتم العطاء [واضطغنتم](٤) أنكم تدعون إلى أداء ربع العشر ، (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) بالنفقة في سبيل الله (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) لا يعود ضرر بخله إلا عليه. يقال : بخلت عليه وعنه.

(وَاللهُ الْغَنِيُ) عنكم وعن أموالكم (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) إليه.

(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) قال قتادة : عن طاعته (٥).

وقال مجاهد : عن كتابه (٦).

وقال الكلبي : عن الصدقة (٧).

__________________

(١) عند الآية رقم : ٦٦.

(٢) الكشاف (٤ / ٣٣٣).

(٣) زيادة من الكشاف ، الموضع السابق.

(٤) في الأصل : واصطعتم. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

(٥) أخرجه الطبري (٢٦ / ٦٦).

(٦) ذكره الماوردي (٥ / ٣٠٧) عن قتادة.

(٧) ذكره الماوردي (٥ / ٣٠٧).

٢٨٤

(يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) على خلاف ما أنتم عليه راغبين في الإيمان والعمل الصالح.

قال مجاهد : يستبدل من سائر الناس قوما غيركم (١).

قيل : هم الأنصار. وقيل : الفرس.

قال أبو هريرة : «لما نزلت : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) كان سلمان إلى جنب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله! من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخذ سلمان وقال : هذا وقومه ، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا (٢) بالثريا لتناوله رجال من فارس» (٣).

وقيل : هم الملائكة.

قال الزجاج (٤) : هو في اللغة ـ على ما أتوهّم ـ فيه بعد ؛ لأنه لا يقال للملائكة قوم ، إنما يقال قوم للآدميين.

وقيل : إن تولى أهل مكة استبدل الله بهم أهل المدينة.

والمعنى ـ والله أعلم ـ : وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم أطوع له منكم ، كما قال تعالى : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) [التحريم : ٥] إلى

__________________

(١) أخرج مجاهد في تفسيره (ص : ٦٠٠) قال : يستبدل من يشاء بمن يشاء ، والطبري (٢٦ / ٦٧) ولفظه : يستبدل قوما غيركم من شاء.

(٢) منوطا : أي : معلقا ، يقال : نطت هذا الأمر به أنوطه وقد نيط به فهو منوط (اللسان ، مادة : نوط).

(٣) أخرجه الترمذي (٥ / ٣٨٤ ح ٣٢٦١). وأصله عند مسلم (٤ / ١٩٧٢ ح ٢٥٤٦) ولفظه : لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس ، أو قال : من أبناء فارس حتى يتناوله.

(٤) معاني الزجاج (٥ / ١٧).

٢٨٥

آخر القصة ، فلم يتولّ جميع الناس.

(ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) قال ابن جرير (١) : في البخل والإنفاق في سبيل الله.

وقال غيره : في المعصية وترك الطاعة (٢).

المعنى : بل يكونوا خيرا منكم.

ويروى عن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال : لما نزلت هذه الآية فرح بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : هي أحبّ إليّ من الدنيا (٣). والله تعالى أعلم.

__________________

(١) تفسير الطبري (٢٦ / ٦٦).

(٢) ذكره الماوردي (٥ / ٣٠٨).

(٣) ذكره الماوردي (٥ / ٣٠٨) ، والقرطبي (١٦ / ٢٥٨).

٢٨٦

سورة الفتح

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي ثلاثون آية ، [إلا آية](١) في العدد المدني والكوفي (٢). وهي مدنية بإجماعهم.

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً)(٣)

أخبرنا الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن البغداديان قالا : أخبرنا عبد الأول ، أخبرنا عبد الرحمن ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا عبد الله بن مسلمة (٣) ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يسير في بعض أسفاره ، وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا ، فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم سأله فلم يجبه ، ثم سأله فلم يجبه ، فقال عمر بن الخطاب : ثكلت أم عمر عمر ، نزرت (٤) رسول الله

__________________

(١) في الأصل : الآية.

(٢) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢٢٩).

(٣) عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ، أبو عبد الرحمن المدني الحارثي ، نزيل البصرة ، ثقة عابد ، كان ابن معين وابن المديني لا يقدمان عليه في الموطأ أحدا ، مات سنة إحدى وعشرين ومائتين (تهذيب التهذيب ٦ / ٢٨ ـ ٢٩ ، والتقريب ص : ٣٢٣).

(٤) النّزر : الإلحاح في السؤال. ونزره نزرا : ألحّ عليه في المسألة (اللسان ، مادة : نزر).

٢٨٧

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك. قال عمر : فحرّكت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن يكون نزل فيّ قرآن ، فما نشبت أن سمعت صارخا يصيح بي ، فقلت : لقد نزل فيّ قرآن ، فجئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلّمت عليه فقال : لقد أنزلت عليّ الليلة سورة هي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس ، ثم قرأ : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)(١). هذا حديث صحيح انفرد بإخراجه البخاري.

وروى عطاء عن ابن عباس قال : لما نزلت : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) [الأحقاف : ٩] قال اليهود : كيف نتبع رجلا لا يدري ما يفعل به ، فاشتدّ ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)(٢).

وفي المراد بهذا الفتح أربعة أقوال : أنه فتح الحديبية. قاله أكثر العلماء (٣).

وقال البراء بن عازب : نحن نعد الفتح بيعة الرضوان (٤).

قال جابر بن عبد الله : ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية (٥).

وقال الشعبي : هو فتح الحديبية ، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وأطعموا نخل خيبر ، وبلغ الهدي محله ، وغلبت الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس (٦).

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٢٩ ح ٤٥٥٣).

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤١٨).

(٣) أخرجه الطبري (٢٦ / ٦٩). وذكره الماوردي (٥ / ٣٠٩) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٥٠٨).

(٤) أخرجه البخاري (٤ / ١٥٢٥ ح ٣٩١٩) ، والطبري (٢٦ / ٧١). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٥٠٨) وعزاه للبخاري وابن جرير وابن مردويه.

(٥) أخرجه الطبري (٢٦ / ٧٠). وذكره الماوردي (٥ / ٣١٠).

(٦) أخرجه الطبري (٢٦ / ٧١). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٧ / ٥٠٩) وعزاه لسعيد بن منصور ـ

٢٨٨

وقال الزهري : لم يكن فتح أعظم من فتح الحديبية ، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم ، فتمكن الإسلام في قلوبهم ، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير (١).

أخبرنا عبد الله ، أخبرنا محمد ، حدثنا محمد قال : حدثني أحمد بن إسحاق (٢) ، حدثنا عثمان بن عمر (٣) ، أخبرنا شعبة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) قال : الحديبية ، قال أصحابه : هنيئا مريئا فما لنا؟ فأنزل الله : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ)(٤).

وفي رواية مسلم عن أنس قال : «لما نزلت : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) إلى قوله : (فَوْزاً عَظِيماً) مرجعه من الحديبية ، وهم مخالطهم الحزن والكآبة ، وقد نحر الهدي بالحديبية ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد نزلت عليّ آية هي أحب إليّ من الدنيا جميعا» (٥).

__________________

ـ وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث.

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٤ / ١٣٣) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤١٩).

(٢) أحمد بن إسحاق بن الحصين بن جابر بن جندل السلمي ، أبو إسحاق البخاري السرماري ، كان يضرب بشجاعته المثل ، وكان من الغزائين ، ومن أهل الفضل والنسك مع لزوم الجهاد ، مات سنة اثنتين وأربعين ومائتين (تهذيب التهذيب ١ / ١١ ، والتقريب ص : ٧٧).

(٣) عثمان بن عمر بن فارس بن لقيط العبدي ، أبو محمد ، وقيل : أبو عدي ، وقيل : أبو عبد الله البصري ، ثقة ، مات سنة تسع ومائتين (تهذيب التهذيب ٧ / ١٢٩ ، والتقريب ص : ٣٨٥).

(٤) أخرجه البخاري (٤ / ١٥٣٠ ح ٣٩٣٩).

(٥) أخرجه مسلم (٣ / ١٤١٣ ح ١٧٨٦).

٢٨٩

القول الثاني : أنه فتح مكة. رواه مسروق عن عائشة (١) ، وبه قال السدي (٢).

الثالث : أنه فتح خيبر. قاله مجاهد (٣).

[الرابع : القضاء له بالإسلام](٤).

والذي يقتضيه النظر الصحيح والبحث المستقيم : عموم ذلك في هذه الأقوال وغيرها ، وأنه بشارة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين بما قضى الله تبارك لهم في الظهور والاستعلاء بما سيفتح عليهم من مكة وخيبر وغيرهما.

فإن قيل : كيف يكون ذلك وهو بصيغة الماضي؟

قلت : هكذا تجد أكثر أخبار الله تعالى في كتابه العزيز يخرج للمستقبل في صيغة الماضي ليحقق كونه متيقن وجوده ، واستواء الحالتين في علمه جل وعلا. أو نقول : الفتح : القضاء ، على ما سبق في غير موضع من كتابنا ، وقضاء الله تعالى له بذلك قد تقضى ومضى ، فلذلك أخبر به بصيغة الماضي.

قال ابن قتيبة (٥) : المعنى : إنا قضينا لك قضاء عظيما.

قوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) قال صاحب الكشاف (٦) : إن قلت : كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟

قلت : لم يجعل علة للمغفرة ، ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة : وهي

__________________

(١) ذكره الماوردي (٥ / ٣٠٩) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٥١٠) وعزاه لابن مردويه.

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤٢٣).

(٣) مثل السابق.

(٤) زيادة من زاد المسير (٧ / ٤٢٣).

(٥) تفسير غريب القرآن (ص : ٤١٢).

(٦) الكشاف (٤ / ٣٣٤).

٢٩٠

المغفرة ، وإتمام النعمة ، وهداية الصراط المستقيم ، والنصر العزيز ، كأنه قيل : [يسّرنا](١) لك فتح مكة ، ونصرناك على عدوك ، لنجمع لك بين عزّ الدارين ، وأغراض العاجل والآجل. ويجوز أن يكون علة للغفران من حيث إنه جهاد.

والمراد : ليغفر لك الله جميع ما فرط منك.

قال ابن عباس والشعبي ومقاتل (٢) وعامة المفسرين : ما تقدم من الجاهلية وما بعدها (٣).

قال بعض العلماء : هذا على سبيل التوكيد ، كما يقال : فلان يضرب من يلقاه ومن لا يلقاه.

وقيل : ما تقدم من ذنب أبويك آدم وحواء ، وما تأخر من ذنوب أمتك بدعوتك (٤). وفيه بعد.

أخبرنا الشيخان أحمد بن عبد الله وعلي بن أبي بكر قالا : أخبرنا أبو الوقت ، أخبرنا أبو الحسن الداودي ، أخبرنا عبد الله بن أحمد السرخسي ، أخبرنا محمد بن يوسف بن مطر [الفربري](٥) ، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا صدقة بن الفضل ، حدثنا ابن عيينة قال : حدثنا زياد أنه سمع المغيرة يقول : «قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) في الأصل : بشرنا. والتصويب من الكشاف (٤ / ٣٣٤).

(٢) تفسير مقاتل (٣ / ٢٤٤).

(٣) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤٢٣) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٥١٢) وعزاه لابن المنذر عن عامر وأبي جعفر.

(٤) ذكره القرطبي (١٦ / ٢٦٣) ، والبغوي (٤ / ١٨٩) كلاهما عن عطاء الخراساني.

(٥) في الأصل : القريري. وهو خطأ. انظر : ترجمته في : التقييد (ص : ١٢٥) ، وسير أعلام النبلاء (١٥ / ١٠ ـ ١٣).

٢٩١

حتى تورّمت قدماه ، فقيل له : غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال : أفلا أكون عبدا شكورا؟» (١).

وبهذا الإسناد قال البخاري : حدثنا الحسن بن عبد العزيز ، حدثنا عبد الله بن يحيى ، حدثنا حيوة ، عن أبي الأسود (٢) ، سمع عروة ، عن عائشة : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه ، فقالت عائشة : لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال : أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا. فلما كثر لحمه صلى جالسا ، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع» (٣). هذا حديث متفق على صحته. أخرجه الإمام أحمد ومسلم عن هارون بن معروف (٤) ، عن [أبي](٥) صخر (٦) ، عن (٧) ابن قسيط (٨) ، عن عروة.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٣٠ ح ٤٥٥٦) ، ومسلم (٤ / ٢١٧١ ح ٢٨١٩).

(٢) محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود بن نوفل بن خويلد بن أسد بن عبد العزي الأسدي ، أبو الأسود المدني ، يتيم عروة ؛ لأن أباه كان أوصى به إليه ، وكان جده الأسود من مهاجرة الحبشة ، كان ثقة كثير الحديث ، قدم مصر سنة ست وثلاثين ومائة ، ومات سنة بضع وثلاثين ومائتين (تهذيب التهذيب ٩ / ٢٧٣ ، والتقريب ص : ٤٩٣).

(٣) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٣٠ ح ٤٥٥٧) ، ومسلم (٤ / ٢١٧٢ ح ٢٨٢٠).

(٤) هارون بن معروف المروزي ، أبو علي الخزاز الضرير ، نزيل بغداد ، ثقة ثبت ، مات سنة إحدى وثلاثين ومائتين (تهذيب التهذيب ١١ / ١٢ ، والتقريب ص : ٥٦٩).

(٥) زيادة على الأصل. انظر : ترجمته في التعليق التالي.

(٦) حميد بن زياد ، وهو بن أبي المخارق المدني ، أبو صخر الخراط ، صاحب العباء ، صدوق يهم ، سكن مصر ، ومات سنة تسع وثمانين ومائة (تهذيب التهذيب ٣ / ٣٦ ، والتقريب ص : ١٨١).

(٧) في الأصل زيادة قوله : أبي. وهو خطأ. انظر : صحيح مسلم (٤ / ٢١٧٢).

(٨) يزيد بن عبد الله بن قسيط بن أسامة بن عمير الليثي ، أبو عبد الله المدني الأعرج ، كان فقيها ثقة ، ـ

٢٩٢

قوله تعالى : (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) يعني : بالنبوة والفتح والمغفرة ، (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) مثل قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦].

(وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) قال الزجاج (١) : نصرا ذا عز لا يقع معه ذل.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (٧)

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) أي : السكون والطمأنينة (فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) بسبب الصلح بعد النطق والانزعاج لما ورد عليهم من صد المشركين إياهم عن البيت ، حتى قال عمر : «علام نعطي الدّنيّة في ديننا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنا عبد الله ورسوله ، لن أخالف أمره ولن يضيعني» (٢).

وقال سهل بن حنيف : [اتهموا الرأي ، فلقد رأيتني يوم أبي جندل](٣) لو

__________________

ـ مات سنة اثنتين وعشرين ومائة (تهذيب التهذيب ١١ / ٢٩٩ ، والتقريب ص : ٦٠٢).

(١) معاني الزجاج (٥ / ٢٠).

(٢) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٣٢ ح ٤٥٦٣) ، ومسلم (٣ / ١٤١١ ح ١٧٨٥).

(٣) زيادة من صحيح البخاري.

٢٩٣

أستطيع أن أردّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره لرددت ، والله ورسوله أعلم (١).

ثم أوقع الله الرضى بما يجري في قلوب المسلمين ، فسلّموا وانقادوا راضين بقضاء الله وتقديره.

(لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يسلط بعضها على بعض على ما تقتضيه حكمته وعلمه.

قوله تعالى : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ) سبق آنفا.

سبب نزولها : قال أهل المعاني (٢) : كررت اللام في" ليدخل" بتأويل تكرير الكلام ، مجازه : " إنا فتحنا لك ليغفر لك الله ، إنا فتحنا لك ليدخل المؤمنين".

قال مقاتل (٣) : فلما سمع بذلك عبد الله بن أبيّ بذلك ، انطلق في نفر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله ، ما نحن إلا [كهم](٤) ، فما نحن عند الله؟ فنزلت : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) ... الآية.

قال المفسرون : ظنوا أن الله تعالى لن ينصر محمدا والمؤمنين.

قال الضحاك : ظنت أسد وغطفان في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين خرج إلى الحديبية أنه سيقتل أو يهزم ولا يعود إلى المدينة سليما ، فعاد ظافرا (٥).

وقيل : هو ظنهم أن لله شريكا ، ولن يبعث الله أحدا عليهم (٦).

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤ / ١٥٣٤ ح ٣٩٥٣).

(٢) انظر : الطبري (٢٦ / ٧٣).

(٣) تفسير مقاتل (٣ / ٢٤٦).

(٤) في الأصل : كهتم.

(٥) ذكره الماوردي (٥ / ٣١٢).

(٦) مثل السابق.

٢٩٤

[(دائِرَةُ السَّوْءِ)](١) : مذكورة في براءة (٢).

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)(١٠)

قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) قال قتادة : شاهدا على أمتك بالبلاغ (٣).

وقيل : شاهدا بأعمالهم الصالحة والطالحة (٤).

وقيل : شاهدا مبينا لهم ما أرسلناك به إليهم (٥) ، وهو مثل قوله : (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] ، وقوله : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣].

قوله تعالى : ليؤمنوا (بِاللهِ وَرَسُولِهِ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو : " ليؤمنوا ... ويعزروه ... ، ويوقروه" بالياء فيهن ، وهو الذي يقتضيه نظم الكلام. وقرأ الباقون بالتاء فيهن (٦) ، على معنى : قل لهم : إنا أرسلناك لتؤمنوا. وقد ذكرنا في

__________________

(١) في الأصل : النبوة. وهو خطأ.

(٢) عند الآية رقم : ٩٨.

(٣) أخرجه الطبري (٢٦ / ٧٤). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٥١٦) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.

(٤) ذكره الماوردي (٥ / ٣١٢).

(٥) مثل السابق.

(٦) الحجة للفارسي (٣ / ٤٠٨) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٧١) ، والكشف (٢ / ٢٨٠) ، والنشر (٢ / ٣٧٥) ، والإتحاف (ص : ٣٩٥) ، والسبعة (ص : ٦٠٣).

٢٩٥

الأعراف (١) معنى التعزير عند قوله : (وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ).

وقرأ على بن أبي طالب رضي الله عنه وابن السميفع : " ويعززوه" بزاءين (٢) ، على معنى : تجعلوه عزيزا.

(وَتُوَقِّرُوهُ) أي : تعظموه وتبجلوه ، والضمير يعود للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في قول الضحاك وكثير من المفسرين (٣).

وجمهور القراء يختارون الوقف هاهنا تنبيها على عود الضمير إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتمييزا له عن الضمير الراجع إلى الله تعالى في قوله : ويسبحوه ، فامتثل الصحابة رضوان الله عليهم ما ندبوا إليه من تعظيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعزيره ، حتى لقد قال عروة بن مسعود يوم قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن الحديبية من جهة قريش حين رجع إليهم : أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله ما إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمد محمدا ، والله إن تنخّم نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم فدلّك بها وجهه وجلده ، وإن أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدّون النظر إليه تعظيما له (٤).

وقيل : الضمائر كلها لله تعالى.

__________________

(١) عند الآية رقم : ١٥٧.

(٢) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٧ / ٤٢٧) ، والدر المصون (٦ / ١٦٠).

(٣) ذكره الماوردي (٥ / ٣١٣).

(٤) أخرجه البخاري (٢ / ٩٧٦ ح ٢٥٨١).

٢٩٦

قال الزمخشري (١) : من فرّق بين الضمائر فقد أبعد.

والمراد بتعزير الله : تعزير دينه وتعزير رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويسبحوه (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي : ينزهوا الله أو يصلّوا له. وقد سبق في مواضع.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) وقرأ تمام بن العباس بن عبد المطلب : " إنما يبايعون لله" (٢) ، وهذه بيعة الرضوان يوم الحديبية.

وكان سببها : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين نزل الحديبية أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى مكة يقول : إنا لم نأت لقتال أحد ، وإنما جئنا زوّارا لهذا البيت ، معنا الهدي نذبحه وننصرف ، فقالوا : لا كان هذا أبدا ولا يدخلها العام ، فبلغ ذلك المسلمين أن عثمان قد قتل ، فقالوا : لا نبرح حتى نناجزهم ، فذلك حين دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين إلى بيعة الرضوان ، فبايعهم تحت الشجرة ، وكانوا ألفا وأربعمائة.

وقال قتادة : ألفا وخمسمائة (٣).

قال عبادة بن الصامت : بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الموت (٤).

وقال جابر بن عبد الله : بايعناه على أن لا نفرّ (٥). ومعناهما متقارب.

__________________

(١) الكشاف (٤ / ٣٣٧).

(٢) انظر هذه القراءة في : البحر (٨ / ٩٢) ، والدر المصون (٦ / ١٦٠).

(٣) أخرجه البخاري (٤ / ١٥٢٦ ح ٣٩٢٢) ، والطبري (٢٦ / ٨٧). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٥٢٢) وعزاه للبخاري وابن مردويه.

(٤) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤٢٧).

(٥) أخرجه مسلم (٣ / ١٤٨٣ ح ١٨٥٦) ، والترمذي (٤ / ١٤٩ ح ١٥٩١) ، والطبري (٢٦ / ٨٧). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٥٢٣) وعزاه لمسلم وابن جرير وابن مردويه.

٢٩٧

وضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ بشماله على يمينه وقال : هذه لعثمان ، إنه ذهب في حاجة الله ورسوله ، وجعلت الرسل تختلف بينهم ، حتى انتظم الصلح ، فكتبوا بينهم كتابا اشتمل على ما اتفقوا عليه من الشروط ، فلما قضي شأن الكتاب قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : قوموا فانحروا ثم احلقوا ، وكان مقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية بضعة وعشرين يوما. ـ وقيل : عشرين ليلة ـ ، ثم انصرف راجعا (١).

قوله تعالى : (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) تنبيه لهم على الوفاء بما بايعوا عليه وإعلاما لهم أن مبايعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبايعة لله تعالى بواسطة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) قال ابن عباس : يد الله بما وعدهم من الخير فوق أيديهم بالوفاء (٢).

وقال السدي : يد الله فوق أيديهم عند المبايعة (٣).

وقال ابن السائب : نعمة الله عليهم فوق ما صنعوا من البيعة (٤).

وقال ابن كيسان : قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم (٥).

وقال الحسن : " يد الله" : يعني به : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أيديهم.

(فَمَنْ نَكَثَ) أي : نقض البيعة (فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) أي : ينقض على نفسه.

__________________

(١) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤٢٢ ـ ٤٢٣).

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤٢٧).

(٣) انظر : الطبري (٢٦ / ٧٦) بلا نسبة. وذكره البغوي في تفسيره (٤ / ١٩٠).

(٤) ذكره القرطبي في تفسيره (١٦ / ٢٦٧ ـ ٢٦٨) ، والبغوي (٤ / ١٩٠).

(٥) ذكره الطبري (٢٦ / ٧٦) بلا نسبة ، والواحدي في الوسيط (٤ / ١٣٦) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤٢٨).

٢٩٨

(وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) وقرأ حفص : " عليه الله" بضم الهاء في" عليه" (١).

(فَسَيُؤْتِيهِ) وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر : " فسنؤتيه" بالنون (٢) ، حملا على قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ).

(أَجْراً عَظِيماً) قال المفسرون : هو الجنة. وناهيك رضاه عنهم أجرا ، فإنه أعظم نعيم الجنة ، ألا تراه يقول لهم : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا ، وسخطه عزوجل على أهل النار أعظم عذابهم ، فقد جاء أنهم يستغيثون : " عذبنا بما شئت ولا تسخط علينا".

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(١٤)

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٤٠٩) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٧٢) ، والكشف (٢ / ٢٨٠) ، والإتحاف (ص : ٣٩٥) ، والسبعة (ص : ٦٠٣).

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٤٠٨) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٧٢) ، والكشف (٢ / ٢٨٠) ، والنشر (٢ / ٣٧٥) ، والإتحاف (ص : ٣٩٥) ، والسبعة (ص : ٦٠٣).

٢٩٩

قوله تعالى : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) وذلك حين استنفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حول المدينة من الأعراب ، حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية خوفا من قريش أن يعرضوا له بحرب أو صدّ عن البيت ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أحرم بعمرة وساق الهدي معه ليعلم الناس أنه لا يريد حربا ، فتثاقل عنه كثيرا من الأعراب شكّا ونفاقا ، فلما رجع أقبلوا إليه يعتذرون بالكذب ويقولون : (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا) بإصلاحها (وَأَهْلُونا) بالقيام عليها ، (فَاسْتَغْفِرْ لَنا).

قال ابن عباس : هم غفار ومزينة وجهينة وأشجع والديل وأسلم (١).

يريد : أن المنافقين المخلفين كانوا من هؤلاء القبائل ، لا أنهم كلهم بهذه المثابة ، فأكذبهم الله تعالى في اعتذارهم وطلبهم من رسوله الاستغفار لهم بقوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) وقرأ حمزة والكسائي : " ضرّا" بضم الضاد (٢).

قال أبو علي (٣) : الضرّ ـ بفتح الضاد ـ : خلاف النفع ، والضرّ ـ بضم الضاد ـ : سوء الحال. ويجوز أن يكونا لغتين في معنى ، كالفقر والفقر ، والضّعف والضّعف.

والمعنى : فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا من قتل أو هزيمة ، (أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) من نصر أو غنيمة.

ثم أكذبهم وهدّدهم بقوله تعالى : (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً).

__________________

(١) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤٢٩).

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٤٠٩) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٧٢) ، والكشف (٢ / ٢٨١) ، والنشر (٢ / ٣٧٥) ، والإتحاف (ص : ٣٩٦) ، والسبعة (ص : ٦٠٤).

(٣) الحجة للفارسي (٣ / ٤٠٩).

٣٠٠