الطريق الى خراسان

كمال السيد

الطريق الى خراسان

المؤلف:

كمال السيد


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 964-438-040-1
الصفحات: ٤١٢

كان غبش الفجر رمادياً عندما غادر الامام منزله .. لقد أزفت ساعة الرحيل .. حيث بلغت الاستعدادات ذروتها، وانتظمت قافلة طويلة تحمل دواوين الدولة وصناديق الخزانة العامّة ، وكانت بعض العيون تبرق كعيون الافاعي وتشيع الرهبة حتى لا يبقى من شك في أن لأصحابها مأموريات ومهمّات سرّية ..

جواسيس يرتدون بزّات مختلفة بعضهم يراقب الامام من بعيد وآخرون يراقبون الفضل حتى المأمون كانت هناك عيون خفيّة تراقب عن كثب وترصد حركاته واجتماعاته ..

هبّت نسائم الفجر النديّة ، وقد استوى الامام فوق راحلته متجهاً ببصره الى الأفق البعيد ... البعيد ... والكلمات المقدسة تتفتح على شفتيه كبراعيم ربيعية :

ـ يا من لا شبيه له .. ولا مثال.

أنت الله لا إله الا أنت ..

ولا خالق الا أنت ..

تفني المخلوقين .. وتبقى ..

أنت حلمت عمّن عصاك وفي المغفرة رضاك .. ١٦٠

وانسابت الراحلة على مهل :

ـ استسلمت يا مولاي لك .. وأسلمت نفسي إليك.

٢٨١

وتوكّلت في كل أموري عليك .. وأنا عبدك وابن عبديك ..

فأخبأني اللهم في سترك عن شرار خلقك .. واعصمني من كل أذى وسوء بمنّك ..

واكفني شرّ كل ذي شرّ بقدرتك ..

لا إله الا إنت يا أرحم الراحمين ويا إله العالمين ١٦١.

أصبحت مرو خاوية على عروشها ، وكان صغار التجار وأصحاب الدكاكين أكثر الناس فجيعة ، أما الفقراء والبائسين فقد كانوا يذرفون الدموع بصمت ..

القافلة تمضي قدماً في منخفضات أشبه بالمراعي .. تتقدمها فرق القوات المسلّحة المجهّزة تجهيزاً عالياً معزّزة بكتائب كانت تقاتل في أطراف كابل قبل أن تصدر اليها أوامر غامضة من ذي الرئاستين بإيقاف عملياتها الحربية والعودة الى مرو على جناح السرعة!

وكان المأمون يراقب بقلق الوضع الذي لم يعد يحتمل الكثير من الانتظار ..

لم تكن القافلة قد وصلت البحيرة الصغيرة عندما جنحت الشمس نحو المغيب وقد بدت لوحة سماوية أخاذة ..

كان منظر الغروب سخيّاً بالوانه الشفافة .. الوان تشبه

٢٨٢

البرتقال ، وجمر المواقد الشتائية تكللها زرقة صافية ..

وحطّت القافلة رحالها ليلتقط المسافرون أنفاسهم ، وكان رغاء الجمال وصهيل الخيل يكسر صمت الغروب وسكينة الفلاة المنبسطة حتى الأفق.

كان المأمون يسعى أن يكون ودوداً وهو يتحدث الى الامام :

ـ يا أبا الحسن ألا تنشدني أحسن ما رويته في الحلم؟

وابتسم الامام وهو يقول :

إن كـان دونـي مـن بليـت بجهلـه

أبيتُ لنفسـي أن أقابـل بالجهل

وإن كـان مثلي في محلّي من النهـى

هربت لحلمي كي أجلُّ عن المثلِ

وان كنت أدنى منه في الفضل والحجى

عرفت له حـق التقدّم والفضـل

ـ أحسنت يا أبا الحسن!! .. من قائله؟

ـ بعض فتياننا.

ـ انشدني أحسن ما رويته في السكوت عن الجاهل؟

إني ليهجرني الصديق تجنّباً

فأريـه أنّ لهـجرة أسـبابـا

وأراه إن عاتبتـه أغريتـه

فأرى له تـرك العتاب عـتابا

وإذا ابـتليت بـجاهل متحلّم

يجد المحال من الأمور صوابا

أوليته مني السكوت وربمـا

كان السكوت عن الجواب جوابا

٢٨٣

وانتشى المأمون طرباً للمعاني الأخاذة تنساب في شعر رقيق :

ـ أحسنت! أحسنت .. ما أحسن هذا؟!! من قاله؟!

وأجاب الامام بأدبه العظيم :

ـ بعض فتياننا.

ـ انشدني احسن ما رويته في استجلاب العدوّ حتى يكون صديقاً!

فأنشده الامام ووجهه يتألق نوراً سماوياً :

وذي غـلّة سـالمتـه فـقهرته

فأوقرتـه منـّي لعـفو التحمّل

ومـن لا يـدافع سيئات عـدوّه

بإحسانه لم يأخذ الطول من علِ

ولم أرَ في الأشياء أسرع ملهكاً

لغمر ١٦٢ قديم من وداد معجّل

ـ ما أحسن هذا؟! من قاله؟

ـ بعض فتياننا.

ـ أنشدني أحسن ما رويته في كتمان السرّ :

قال الامام وهو ينظر باتجاه الافق الغربي ، وقد تكاثفت ظلمة الغروب :

وإنـي لأنسـى السرّ كي لا أذيعه

فيامن رأى سرّاً يصان بأن ينسى

مخافة أن يجـري بـبالي ذكـره

فينبذه قلبـي الى ملتوى الحشـا

فيوشك من لم يفش سرّاً وجال في

خواطره أن لا يطيق له حبسـا ١٦٣

٢٨٤

ـ أحسنت يا أبا الحسن ما أحسن ما تروي من الشعر؟!

المشهد السماوي تغمره ظلمة الغروب المتكاثفة ، وقد انبثقت في الافق الشمالي كبراعم فضيّة .. وكان أذان العشاء ينساب كجدول سماوي يتدفق من جناب عدن ..

٢٨٥

٣٦

اجتازت قطعات الجيش البحيرة في منطقة تكثر فيها التفرعات النهرية قبل أن تصل مستنقعات ومسطحات مائية تستمد مياهها من نهر « تجن » ومن مواسم المطر .. وكان الهواء رطباً بسبب حدّة الشمس التي ألهبت مسطحات المياه طيلة النهار وبدت وجوه البغض أكثر ضيقاً ، والنفوس أكثر انسحاباً الى الأعماق .. ، وكانت اللقاءات العابرة في المعابر تثير بعض المخاوف فقد رأى الفضل هرثمة ، وتقابل الجلودي مع الامام وجهاً لوجه ، ولمح المأمون الفضل ساهماً وكان هرثمة يحرص على أن يكون قريباً من الامام ..

امّا محمد بن جعفر فقد كان مستغرقاً في هواجس تبدو

٢٨٦

بلا نهاية خاصة عندما وجد الفضل يحاول التودّد إليه ١٦٤ وفي ذلك الجوّ المشحون ، كان وجه الامام الوحيد الذي يعبّر عن حالة من السلام بين وجوه تموج بالقلق ..

لم تبق سوى أميال معدودة الى « سرخس » التي اختارها القدر بداية لحياة الفضل .. وها هو يعود اليها .. يسوقه قدر غامض!

وصل المأمون وأركان دولته مدينة سرخس ، ولم ينم تلك الليلة برغم من تعبه الشديد .. سيكون الغد يوماً فاصلاً ..

في منتصف الليل وفيما كان قمر ذي الحجة آخذاً بالأفول استدعى المأمون خاله ١٦٥ ونسجت العنكبوت بيتها ..

كان الامام في منزله المخصص لاستراحته عندما سلّمه أحد حرس المأمون رسالة جاء فيها :

ـ « أرى أن نذهب الى الحمام غداً .. أنا وأنت والفضل.

وسجّل الامام اعتذاره بعدم استطاعته الذهاب الى الحمّام غداً.

لم تمرّ سوى دقائق حتى عاد الحارس وأعاد اليه الرسالة وكتب الامام في ذيل الرسالة موقفه القاطع :

٢٨٧

ـ لست بداخلٍ غداً الحمام .. فإني رأيت رسول الله في المنام في هذه الليلة يقول لي : يا علي لا تدخل الحمام غداً .. فلا أرى لك يا أمير المؤمنين ، ولا للفضل أن تدخلا الحمام غداً ١٦٦.

وفي المساء كان غالب مع أربعة رجال ملثمين آخذين سمتهم الى منزل يقع بالقرب من حمام المدينة وقبل أن ينفلق عمود الفجر .. دخل خمسة رجال مسلحين الحمام ليأخذوا أماكنهم مترقبين دخول فريستهم ..

كان الحمام مقفراً تماماً بناءً على أوامر من الخليفة الذي قرّر ارتياد الحمام غداً ودخل الفضل ومعه خادمه الذي مكث في حجرة استبدال الثياب ..

قاد صاحب الحمام على توجس وخيفة الضحية الى مكان قريب من حوض يتصاعد منه بخار كثيف كضباب يوم شتائي .. سرت قشعريرة في جسد الفضل وعزا ذلك الى برودة الرخام ..

ألقى صاحب الحمّام نظرة فيها قدر من الاشفاق على رجل سيكون بعد لحظات جثّة هامدة ..

كانت هناك عشرة عيون تتلصص من خلل البخار المتصاعد.

٢٨٨

فجأة برقت أربعة سيوف وظهر خمسة رجال غلاظ .. وكان غالب ينظر بشماتة الى الفضل الذي جحظت عيناه فزعاً ..

ودوّت صيحات الاستغاثة في فضاء الحمام ، وكانت الجدران الصخرية تمتص صرخاته .. وتخطفته السيوف وتدفقت دماؤه لتصبغ بلاط الحمام النديّ بلون قان ..

وهوى في الحوض وقد بحلقت عيناه في البخار المتصاعد لكأنه ينظر الى طموحاته تستحيل بخاراً سرعان ما تتلاشى وتذوب ..

تمّ كل شيء بسرعة واختفى الرجال في ظلمة الفجر ..

وفرّ الخادم مرعوباً لا يلوي على شيء .. واقفر الحمام الا من جثة عائمة في حوض تتصاعد منه ابخرة المياه الساخنة.

ما إن اشرقت الشمس حتى كانت سرخس تموج بأهلها وظهر المأمون عصبياً أو تظاهر بذلك ، وكان يرسل تهديداته ويتوعد الجناة بالموت الأحمر.

وسادت حالة الطوارئ المدينة ، وكانت أصابع الاتهام في اغتيال الفضل تتجه الى المأمون ، وظهرت حركة تمرّد في القوات الموالية للوزير القتيل ..

٢٨٩

واندفع الجنود الغاضبون الى القصر ، وبادر الحرس الى غلق الأبواب وكانت الشرطة قد ألقت القبض على الرجال الأربعة الذي سيقوا الى القصر لمحاكمتهم ..

وصرخ المأمون بعصبية :

ـ من الذي دفعتكم الى ذلك؟

وأدرك المرتزقة أنهم قد وقعوا في فخ العنكبوت فصاح أحدهم وكان اسمه « بزرگمهر » ١٦٧.

ـ أنت أمرتنا بقتله!

وصاح المأمون بمكر :

ـ ها أنتم تعترفون بجنايتكم .. وامّا ادعائكم باني أمرتكم بذلك فدعوى ليس لها بيّنة ١٦٨ ..

والتفت الى الحرس وأمرهم بتنفيذ حكم الاعدام فوراً وتساقطت أربعة رؤوس ليسدل الستار على المزيد من الأسرار الى قد تتضمن أسماء بعض الاشخاص المقرر اغتيالهم في الحمام وفي ظلمة الفجر ...

كانت جموع الجنود المشاغبين تحاصر القصر ويهدّد بإحراق القصر ..

واندفع بعضهم الى باب القصر الرئيسي لاضرام النار ...

٢٩٠

واستنجد المأمون بالامام لتهدئة الموقف ، وإعادة السيوف المجنونة الى أغمادها ..

وما حدث لا يمكن تفسيره بنحو ما! فقد ظهر الامام من شرفة القصر وجهاً لوجه أمام عشرات الغاضبين المسلحين بالسهام والسيوف والحراب ..

ظهر الامام هادئاً مطمئناً .. وكان وجهه الذي تغمره السكينة والايمان مفاجئاً تماماً في ذلك الجوّ المتفجّر ..

وشيئاً فشيئاً حفتت صيحات الجنود .. كنار تخمد تحت وابل مطر غزير .. إن تيّاراً من الصفاء والنقاوة قد وجد طريقه الى هؤلاء الذين كانوا منذ لحظات يدعون بالويل والثبور ..

ومن الواضح ان الامام قد اقتحم على قلوب الثائرين قلوبهم بتيار غامض من العاطفة ..

ورفع علي الرضا كفّه السمراء مشيراً اليهم أن انصرفوا وكانت المفاجأة انهم قد استجابوا ١٦٩ لذلك دون تردد.

هل أثار الحادث مخاوف المأمون؟ هل عزا ذلك الى قدرة الامام وتأثيره الروحي الذي لا يقاوم؟ لا أحد يدري ماذا حصل ؛ ولكن المأمون كان شغولاً بتسطير برقية عزاء رقيقة!

٢٩١

الى الحسن بن سهل .. ذيّلها بخطبته لـ « بوران » حسناء فارس الصغيرة ١٧٠ ...

وفي نفس اليوم انطلق حصان يسابق الريح يحمل رسالة الخليفة ورؤوساً أربعة لم يعد يخشاها أحد لأنها لن تتكلّم الى الأبد .. ولن تفصح عن أسماء بعض من تقرر اغتيالهم!!

واقام المأمون مجلس عزاء على روح وزيره القتيل وتلبّس وجهه القاسي بحزن كذب.

كثير من الذين حضروا كان ينظرون بطرف خفي الى القاتل كيف يتباكى على ضحيته ..

الطريق الى بغداد مليئة بالضحايا وفي كل مرّة تنسج العنكبوت خيوط بيت واهن .. هو أوهن البيوت ..

ولم تمض سوى أيام حتى كانت قوافل المأمون تجتاز الأودية القاحلة في طريقها الى طوس.

٢٩٢

٣٧

أطل العام الهجري الجديد وقد مضى قرنان وثلاثة أعوام على هجرة آخر الانبياء ... وأشرقت شمس تموز .. تتدفق نوراً ودفئاً .. فتغمر أرض خراسان المليئة بالصحاري والفلوات والملح والرمال ..

وكان قصر « حميد بن قحطبة » يتألق تحت الاضواء وسط حديقة واسعة وقد نهضت أشجار الرّمان تشكل سياجاً في الجانب الشرقي.

أصبح الامام ذلك اليوم صائماً كعادته في الفاتح من محرّم الحرام وقد غمرت وجهه الأسمر سحابة من حزن كربلائي ..

٢٩٣

وكانت أعماقه تتأجج بمشاهد عاشورائية ، ورثتها الذاكرة منذ اللحظة التي هوى بها الحسين ظامئاً على شطآن الفرات بين « النواويس » و« كربلاء » ..

وقال الامام لصاحبه وهو يحاوره وكان رجلاً أشعرياً قميّاً :

ـ يا سعد ١٧١ عندكم لنا قبر؟

أجاب الأشعري :

ـ جعلت فداك .. قبر فاطمة بنت موسى؟

قال الامام وقد تجمعت في عينيه غيوم ممطرة :

ـ نعم .. من زارها عارفا بحقّها فله الجنّة .. عن أبي عن جدّي قال : « ان لله حرماً وهو مكّة ، وإن للرسول حرماً وهو المدينة ، وإن لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة ، وإن لنا حرماً وهو بلدة قم ، وستدفن بها امرأة من أولادي تسمى فاطمة فمن زارها وجبت له الجنّة » ١٧٢.

ستنهض في تلك البقعة المباركة قباب ومنائر وتتألق مآذن ومساجد يذكر فيها اسم الله وحده ..

كانت الحجرة التي يقطنها الامام تفضي الى حجرة واسعة اتخذها المأمون مقرّاً له ..

٢٩٤

وجاء المأمون ، فنهض الامام استقبالاً له واستأذن سعد فغادر المكان قال المأمون وقد استقرّ به المكان :

ـ يا أبا الحسن .. اليوم جمعة ١٧٣ فاكتب لي خطبة أقرأها على الناس في الصلاة.

ـ أفعل ذلك يا أمير المؤمنين.

ـ سوف أرسل لك ابن بشير ١٧٤ بعد ساعة.

قال المأمون ذلك ونهض .. فنهض له الامام.

وشرع الامام يكتب له خطبة فيها موعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد :

ـ « .. الحمد لله الذي لا من شيء كان .. ولا على صنع شيء استعان ، ولا من شيء خلق .. بل قال له : كن فيكون.

وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له .. الجليل عن منابذة الأنداد .. ومكابدة الأضداد .. واتخاذ الصواحب والأولاد ... وأشهد أن محمداً عبده المصطفى ، وأمينه المجتبى .. أرسله بالقرآن المفصّل ، ووحيه الموصّل ، وفرقانه المحصّل .. فبشر بثوابه وحذّر من عقابه .. صلى‌الله‌عليه‌وآله ..

أوصيكم عباد الله بتقوى الله .. الذي يعلم سرّكم وجهركم .. ويعلم ما تكتمون فإن الله لم يترككم سدى ولم يخلقكم

٢٩٥

عبثا ...

الحذر .. الحذر عباد الله .. فقد حذّركم الله نفسه ، فلا تعرضوا للندم .. واستجلاب النقم .. والمصير الى عذاب جهنم ... ان عذابها كان غراما .. إنّها ساءت مستقرّاً ومقاماً ..

لا تطفى ، وعيون لا ترقى ... ونفوس لا تموت ولا تحيا ..

في السلاسل والاغلال ، والمثلات والأنكال .. « كلما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب .. إنّ الله كان عزيزاً حكيماً .. »

« نارٌ أحاط بها سرادقها » .. فلا يُسمع لهم نداء .. ولا يُجاب لهم دعاء ولا يُرحم لهم بكاء ..

ففرّوا عباد الله الى الله بهذه الانفس الفانية .. في الصيحة المتوالية في الايام الخالية .. من قبل أن ينزل بكم الموت .. فيغضبكم أنفسكم ويفجعكم بمهجكم .. ويحول بينكم وبين الرجعة ..

هيهات حضرت آجالكم .. وختمت أعمالكم .. وجفّت أقلامكم .. فلا للرجعة من سبيل .. ولا الى الاقامة من وصول .. عصمنا الله وايّاكم ، بما عصم به أولياءه الأبرار .. وأرشدنا واياكم لما أرشد له عباده الأخيار .. » ١٧٥.

٢٩٦

استدعى المأمون ابن بشير وكان يستظل تحت شجرة كالبتوس باسقة ، وما امتثل أمامه في حالة من الاستعداد والطاعة العمياء.

قال المأمون بعد أن ركز في عينيه النظر لحظات :

ـ أرني كفّين ..

وفوجئ ابن بشير فقدّم كفّيه مبسوطتين وعلامات سؤال واستفهام تموج في عينيه القلقتين.

ضغط المأمون على الحروف وهو يقول له :

أطل أظفارك .. ولا تقلّمها ١٧٦.

وفوجئ « منصور » بهذا الأمر الغريب ، ولكنه هتف :

ـ سمعاً وطاعة يا أمير المؤمنين.

ـ والآن اذهب الى الرضا فانه سيسلّمك رقعه فيه خطبة الجمعة فوافيني بها في المسجد ..

كانت الجموع تصطف وقد زالت الشمس وشرع المأمون يقرأ خطبة الجمعة ..

لم يستطع المأمون إخفاء تأثره بالكلمات الشفافة المؤثرة تنساب الى القلب .. الله المطلق مصدر الوجود ونبع الحياة المتدفق .. الله القدرة المطلقة .. الواحد الأحد .. وهذه كلمته

٢٩٧

الخالدة في القرآن جاء بها رسوله محمد النبي ..

إنّ الله لم يخلق الانسانية عبثاً هناك غائية يتحرك خلالها البشر .. نحو مصير يحدّده الانسان في مساره .. ليس هناك في الدنيا ما يستأهل أن يبيع الانسان فيها نفسه للشيطان إنّ جهنم بالمرصاد .. ودقات القلب خطى الانسان نحو الموت مصير الانسان الحتم .. وحدهم الأبرار والأخيار هم الفائزون يوم لا ينفع مال ولا بنون ..

وخشعت القلوب .. ودمعت العيون .. حتى المأمون ارتجف قلبه وأخذته قشعريرة .. وانتابته هواجس أربكته وهو يستعد للصلاة ..

ولكنه عندما دخل حجرته وقد قضيت الصلاة ووقعت عيناه على صندوق من خشب الأبنوس .. وعلى كأس فيه بقية نبيذ من ليلة أمس نسي كل شيء .. ولم يعد يفكّر الا بعرشه ومملكته .. والعودة الى بغداد .. بغداد التي أضحت حلمه الوحيد .. وراح يستعيد ذكرياته هناك .. الموسيقى الصادحة على ضفاف النهر .. واغنيات « الموصلي » ١٧٧ والليالي العابثة ..

جنحت الشمس للمغيب .. وأرسلت آخر اشعتها الذهبية فوق الربى البعيدة .. وشيئاً فشيئاً تكاثفت الظلمة لتهب الاشياء

٢٩٨

غلاله من الغموض والرهبة ..

وأوى الامام الى محرابه وقد غمرته حالة من السكينة فيما صفق المأمون بكفيه منادياً على حارس وقف كالتمثال قريباً :

ـ ليحضر ابن بشير.

فتح المأمون الصندوق الخشبي المزيّن بالنقوش والألوان واستخرج قطعة من جلد غزال مربعة الشكل ولم تكن سوى رقعة الشطرنج .. وخرجت من الصندوق فيلة وجنود وقلاع وأفراس ... وراح المأمون يدندن طرباً وقد هبّت نسائم ليلية من النافذة المطلّة على حديقة غنّاء :

أرض مربعة حمراء من أدم

ما بين ألفين موصوفين بالكرم

تذاكرا الحرب فاحتالا لها شبهاً

من غير أن يسيعا فيها بفسك دم

هذا يغير على هذا وذاك على

هذا يغير وعين الحرب لم تنم

فانظر الى الخيل قد جاشت بمعركة

في عسكرين بلا طبل ولا علم ١٧٨

وصبّ له كأساً من النبيذ في « جام » ياقوت أحمر كان امبراطور الهند قد أهداه إليه ١٧٩.

ودخل ابن بشير ليهتف جذلاً :

ـ البشرى يا أمير المؤمنين.

٢٩٩

ـ!!؟

ـ خلع أهل بغداد ابن شكلة.

ـ أعرف ذلك.

ـ من أين يا سيّدي والبريد لم يصل طوس.

نظر المأمون إليه وقد ارتسم ابتسامة ساخرة على شفتيه :

ـ عرفت ذلك في « سرخس » يوم قتل الفضل ...

وسكت لحظات ثم قال ساخراً :

ـ مسكين عمّي لا يحسن شيئاً غير الغناء! بل هو أرق صوتاً من إسحاق الموصلي.

تجرأ ابن بشير ولكنه قال متظاهراً بالجدّ :

ـ وعمّتك عليّة يا أمير المؤمنين؟

ـ لا تتخابث علي! .. هيّا لتصفّ جنودك وخيلك فقد بدأت الحرب!

زجّ المأمون وزيره وقد برقت عيناه .. وكان من الواضح ان المأمون لا يكترث له .. كان قد أعدّ خطّة جديدة لم يختبرها ..

وقع الوزير في مأزقٍ إذ وجد نفسه محاصراً بين أربعة بيادق ... وراح المأمون يحرّك قلاعاً وجنوداً وفيلة .. وسقوط الوزير .. وهتف ابن بشير :

٣٠٠