موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

وهم سكوت مذعنون ، لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ، فوجدت القتال أهون عليّ من معالجة الأغلال في جهنّم (١)!

في انتظار نهار الهرير والمصاحف :

وقام الإمام عليه‌السلام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : «أيها الناس ، قد بلغ بكم الأمر وبعدوّكم ما قد رأيتم ، ولم يبق منهم إلّا آخر نفس ، وإن الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأوّلها ، وقد صبر لكم القوم على غير دين حتى بلغنا منهم ما بلغنا ، وأنا غاد عليهم بالغداة أحاكمهم إلى الله عزوجل» (٢).

فلما أظهر عليه‌السلام أنه سيصبّح معاوية بالتنجيز بلغ ذلك أهل الشام ففزعوا لذلك وانكسروا ، وبلغ ذلك معاوية ففزع لذلك وانكسر (٣) ودعا عمرو بن العاص وقال له :

إنما هي الليلة حتّى يغدو عليّ علينا بالفيصل ، فما ترى؟ فقال عمرو :

إن رجالك لا يقومون لرجاله ، ولست مثله ، هو يقاتلك على أمر وأنت تقاتله على غيره ، أنت تريد البقاء وهو يريد الفناء. وأهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم ، وأهل الشام لا يخافون عليّا إن ظفر بهم ... ولكن ألق إليهم أمرا إن قبلوه اختلفوا وإن ردّوه اختلفوا أيضا : أدعهم إلى كتاب الله حكما فيما بينك وبينهم ، فإنّك بالغ به حاجتك في القوم ، فإنّي لم أزل أؤخّر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه. فقال معاوية : صدقت (٤)! اربطوا المصاحف على أطراف القنا.

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٧٤.

(٢) وقعة صفين : ٤٧٦.

(٣) وقعة صفين : ٤٦٧.

(٤) وقعة صفين : ٤٧٦ ـ ٤٧٧.

١٨١

فرفع أهل الشام المصاحف على رءوس الرماح وقلدوها الخيل ، ورفع مصحف دمشق الأعظم (مبعوث عثمان) تحمله عشرة رجال على رءوس الرماح (١) قد شدّوا ثلاثة أرماح مجتمعة وقد ربطوا عليها مصحف المسجد الأعظم ، يمسكه عشرة رهط.

وروى المنقري ، عن الجعفي ، عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : أنهم استقبلوا عليا عليه‌السلام بمائة مصحف ورفعوا في كلّ جانب من جانبي جيشه مائتي مصحف فكان جميعها خمسمائة مصحف. ثمّ قام الطفيل بن أدهم حيال علي عليه‌السلام ، وأبو شريح الجذامي حيال الميمنة ، وقام ورقاء بن المعمّر حيال الميسرة ، ثمّ نادوا : يا معشر العرب! الله الله في نسائكم وبناتكم ، فمن للروم (إذا فنينا) ومن للأتراك وأهل فارس غدا إذا فنيتم؟ الله الله في دينكم. هذا كتاب الله بيننا وبينكم (٢)! فلما لم يروهم أجابوا لذلك.

ذكروا : أن أهل الشام قالوا لمعاوية : إنك قد غرّرت بدعائك القوم وأطمعتهم فيك ، وما نرى أهل العراق أجابوا إلى ما دعوناهم إليه ، فأعدها جذعة (أي : أعد الحرب مرة أخرى).

فدعا معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص وأمره أن يكلّم أهل العراق ، فأقبل حتّى إذا كان بين الصفّين نادى : يا أهل العراق! أنا عبد الله بن عمرو بن العاص ، إنما قد كانت بيننا وبينكم أمور للدين أو الدنيا! فإن تكن للدين فقد والله أعذرنا وأعذرتم ، وإن تكن للدنيا فقد والله أسرفنا وأسرفتم ، وقد دعوناكم إلى أمر لو دعوتمونا إليه لأجبناكم! فإن يجمعنا وإياكم الرضا فذلك من الله! فاغتنموا هذه الفرجة لعله أن يعيش فيها المحترف وينسى فيها القتيل ، وإن بقاء المهلك بعد الهالك قليل (٣).

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٨١.

(٢) وقعة صفين : ٤٧٨ ـ ٤٧٩.

(٣) وقعة صفين : ٤٨٢ ـ ٤٨٣.

١٨٢

تحذير الإمام عليه‌السلام :

فقام الإمام عليه‌السلام وقال : «عباد الله! إني أحقّ من أجاب إلى كتاب الله ، ولكنّ معاوية وعمرو بن العاص ، وابن أبي معيط ، وحبيب بن مسلمة ، وابن أبي سرح ليسوا بأصحاب قرآن ولا دين ، وإني أعرف بهم منكم (فقد) صحبتهم أطفالا وصحبتهم رجالا ، فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال! إنها كلمة حقّ يراد بها باطل! إنهم ـ والله ـ ما رفعوها أنهم يعرفونها ويعملون بها ، ولكنّها الخديعة والمكيدة والوهن! أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة فقد بلغ الحقّ مقطعه ولم يبق إلّا أن يقطع دابر (القوم) الذين ظلموا.

ويحكم! أنا أوّل من أجاب إلى كتاب الله وأوّل من دعا إليه ، ولا يسعني في ديني وليس يحلّ لي أن ادعى إلى كتاب الله (دعوة جادّة) فلا أقبله! وإني إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم به ونقضوا عهده ونبذوا كتابه ... ولكنّي أعلمتكم أنهم قد كادوكم ، وأنهم ليسوا يريدون العمل بالقرآن» (١).

وفي خبر المنقريّ بسنده ، عن الجعفيّ ، عن الباقر أن عليا عليه‌السلام دعا فقال : «اللهمّ إنّك تعلم أنّهم ما الكتاب يريدون فاحكم بيننا وبينهم ، إنّك أنت الحكم الحقّ المبين» فطائفة قالت : القتال! وطائفة قالت : المحاكمة إلى الكتاب ، ولا يحلّ لنا الحرب وقد دعينا إلى حكم الكتاب (٢) وقالوا : أجب القوم إلى ما دعوك إليه فإنّا قد فنينا (٣) وقالوا : أكلتنا الحرب وقتلت الرجال! نعم قال قوم : نقاتل القوم على

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٨٩ ، وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٢٣ : اقتتلوا إلى ارتفاع الضحى ثمّ رفعوا المصاحف ... فقال علي عليه‌السلام : بلغهم ما فعلت من رفع المصحف لأهل الجمل ففعلوا مثله ، ولم يريدوا ما أردت ، فلا تنظروا إلى فعلهم. وانظر مروج الذهب ٢ : ٣٩١.

(٢) وقعة صفين : ٤٧٨ ـ ٤٧٩.

(٣) وقعة صفين : ٤٨٣.

١٨٣

ما قاتلناهم عليه أمس ، ولكن لم يقل هذا إلّا قليل منهم ، ثمّ لما ثارت الجماعة بالموادعة رجع هؤلاء عن قولهم إلى قول جماعتهم.

فقام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وقال لهم : «إنّه لم يزل أمري معكم على ما أحبّ إلى أن أخذت منكم الحرب ، وقد ـ والله ـ أخذت منكم وتركت وأخذت من عدوّكم فلم تترك فهي فيهم أنكى وأنهك! ألا إني كنت بالأمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا! وكنت ناهيا فأصبحت منهيا! وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون» ثمّ قعد.

ثم تكلّم رؤساء القبائل : فقام من ربيعة وهي الجبهة العظمى : كردوس بن هانئ البكري ، ثمّ شقيق بن ثور السّدوسي البكري أيضا ، ثمّ حريث بن جابر البكريّ أيضا ، ثمّ خالد بن المعمّر السدوسي البكري أيضا ، ثمّ الحضين بن المنذر الربعي (١).

وأقبل عديّ بن حاتم الطائي ثمّ قام عمرو بن الحمق الخزاعي ، فقام الأشعث بن قيس الكندي مغضبا (٢) مصرّا على الاستجابة لمعاوية والشاميّين ، فقال الإمام عليه‌السلام إن هذا أمر ينظر فيه (٣)! وكان الأشعث هو سيّد كندة فلم يرض بالسكوت! بل كان من أشدّهم قولا لإطفاء الحرب والركون للموادعة! وأمّا سيّد همدان سعيد بن قيس فكان هكذا تارة وهكذا أخرى (٤).

الإمام عليه‌السلام يستردّ الأشتر :

«وا سوء صباحاه» كلمة عربية أكثر ما تصدق ، تصدق على صباح يوم

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٨٤ ـ ٤٨٥ ، وفي نهج البلاغة خ ٢٠٨.

(٢) وفي تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٨ : وكان معاوية قد استماله وكتب إليه ودعاه إلى نفسه!

(٣) وقعة صفين : ٤٨٢.

(٤) وقعة صفين : ٤٨٤.

١٨٤

الجمعة العاشر من شهر صفر القتال في صفين ، صباح ليلة الهرير ، مع ارتفاع شمسه ارتفعت المصاحف الخمسمائة على رءوس رماح الشاميّين ، وبارتفاعها ارتفعت وتيرة الخلاف والاختلاف بين العراقيين على عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، هذا كلّه والأشتر في صبيحة ليلة الهرير قد أشرف على الدخول في عسكر معاوية (١) بل فسطاطه وبساطه ثم بلاطه.

وكان من الدّاعين إلى المناجزة عديّ بن حاتم الطائي سيد طيّئ قام فقال : إنه لم يصب عصبة منّا إلّا وقد أصيب منهم مثلها ونحن أمثل بقية منهم ، وقد جزعوا ، وليس بعد الجزع إلّا ما نحب ، فناجز القوم (٢).

ولكن زيد بن حصين الطائي لم يطع سيّد قومه ، وكان من المجتهدين في العبادة من أصحاب البرانس (٣).

وكان مسعر بن فدكي التميمي من قرّاء تميم البصرة فأقرّه الإمام عليه‌السلام على قرّاء البصرة في صفين (٤) ، فتوافقا وقادا زهاء عشرين ألفا (؟!) عصابة منهم من القرّاء الذين صاروا خوارج فيما بعد ، وقد اسودت جباههم من السجود ، مقنّعين في الحديد قد وضعوا سيوفهم على عواتقهم ، يتقدمهم زيد ومسعر ، نادوا الإمام باسمه : يا علي ، أجب القوم إلى كتاب الله إذ دعيت إليه! وإلّا قتلناك كما قتلنا ابن عفّان! والله لنفعلنّها إن لم تجبهم أو لنسلمنّك إلى عدوّك! فابعث إلى الأشتر ليأتيك!

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٩٠.

(٢) وقعة صفين : ٤٨٢.

(٣) وقعة صفين : ٩٩.

(٤) وقعة صفين : ٢٠٨.

١٨٥

وكان يزيد بن هانئ السبيعي الهمداني حاضرا فأرسله الإمام إلى الأشتر : أن ائتني! فانطلق إليه وعاد فقال : قال الأشتر : ائته فقل له : ليست هذه بالساعة التي ينبغي أن تزيلني فيها عن موقفي ، فإني قد رجوت الله أن يفتح لي ، فلا تعجلني.

وكان إبراهيم بن الأشتر حاضرا قال : ما انتهى إلينا الرسول حتى ارتفع العجاج والأصوات من قبل أبي الأشتر (بالتكبير) وظهرت دلائل الفتح والنصر لأهل العراق ، ودلائل الإدبار والخذلان لأهل البطلان!

فقال مقدّمو القوم : والله ما نراك إلّا أمرته بقتال القوم؟

فقال الإمام عليه‌السلام : أليس إنّما كلمته علانية على رءوسكم وأنتم تسمعون؟! أرأيتموني ساررت رسولي؟!

قالوا : فابعث إليه ليأتك ، وإلّا ـ فو الله ـ اعتزلناك!

فقال علي عليه‌السلام لزيد : يا زيد قل له : أقبل إليّ فإن الفتنة قد وقعت!

فانطلق إليه فأخبره ، فسأله الأشتر : الرفع هذه المصاحف؟! قال : نعم ، قال : إنّها من مشورة ابن النابغة (يعني ابن العاص) أما والله لقد ظننت أنها حين رفعت ستوقع اختلافا وفرقة! ثمّ قال له : ويحك ألا ترى إلى ما يلقون؟ ألا ترى إلى الذي يصنع الله لنا؟ أينبغي أن ندع هذا وننصرف عنه؟!

فقال له يزيد : أتحبّ أن تظفر أنت هنا وأمير المؤمنين يفرج عنه ويسلّم إلى عدوّه؟! فإنّهم قالوا له : لترسلنّ إلى الأشتر فليأتينّك أو لنقتلنّك كما قتلنا عثمان! أو لنسلمنّك إلى عدوّك!

فانتكس الأشتر وانكسر وانصرف وتراجع وعاد مقبلا حتّى انتهى إليهم فصاح بهم : يا أهل الذل والوهل! أحين علوتم القوم فظنّوا أنكم قاهرون لهم رفعوا لكم المصاحف يدعونكم إلى ما فيها؟! وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها وسنّة من قد أنزلت عليه ، فلا تجيبوهم ، أمهلوني فواقة (ناقة ـ بمقدار حلبها) فإني

١٨٦

قد أحسست بالفتح! قالوا : لا ، قال : فأمهلوني عدوة الفرس فإني قد طمعت في النصر! قالوا : إذن ندخل معك في خطيئتك! قال : فحدّثوني عنكم ـ وقد قتل أماثلكم وبقي أراذلكم ـ متى كنتم محقّين : أحين كنتم تقتلون أهل الشام؟ فأنتم الآن حين أمسكتم عن القتال مبطلون! أم أنتم الآن محقّون؟ فقتلاكم إذن في النار الذين لا تنكرون فضلهم وكانوا خيرا منكم!

فقالوا : يا أشتر ، إنا لسنا نطيعك فاجتنبنا ودعنا منك ، قاتلناهم في الله وندع قتالهم في الله.

فقال لهم : يا أصحاب الجباه السود! كنّا نظنّ أن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوق إلى لقاء الله! فلا أرى فراركم إلّا إلى الدنيا من الموت! خدعتم والله فانخدعتم ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم! ألا قبحا يا أشباه الإبل الجلّالة (!) ما أنتم برائين بعدها عزّا أبدا ، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون! فتسابّوا وتضاربوا بالسياط ولم يكفّوا حتّى صاح بهم الإمام عليه‌السلام ، فالتفت إليه الأشتر وقال له : يا أمير المؤمنين ، احمل الصف على الصفّ يصرع القوم.

فتصايحوا : إن عليا أمير المؤمنين قد رضي بحكم القرآن ولا يسعه إلّا ذلك! وأقبل الناس يقولون : قد رضي أمير المؤمنين ، قد قبل أمير المؤمنين ، وهو مطرق إلى الأرض ساكت لا يبض بكلمة!

وقال الأشتر : إن كان أمير المؤمنين قد قبل ورضي بحكم القرآن فقد رضيت بما رضي به أمير المؤمنين (١). وتراجعت عصابة من القرّاء ، فجاءوا إلى أمير المؤمنين وقالوا له :

يا أمير المؤمنين ، ما تنتظر بهؤلاء القوم؟ ألا نمشي إليهم بسيوفنا حتّى يحكم الله بيننا وبينهم بالحقّ؟

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٨٩ ـ ٤٩٢ عن إبراهيم بن الأشتر لمصعب بن الزبير.

١٨٧

فقال لهم : قد جعلنا حكم القرآن بيننا وبينهم ، فلا يحلّ قتالهم حتّى ننظر بم يحكم القرآن (١)؟

ولعلّهم بالعمدة كانوا من قرّاء البصرة ، وكان على خيل البصرة سهل بن حنيف الأنصاري فانتصر لموقف الإمام عليه‌السلام وقال لهم : يا هؤلاء القوم! اتهموا أنفسكم ؛ فإنا كنّا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الحديبية. وجاء عمر فقال : يا رسول الله! ألسنا على الحقّ وهم على الباطل؟ قال : بلى ، قال : أو ليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال : بلى. قال : فعلام نعطي الدنيّة في ديننا (ألا) نرجع إلى ما يحكم الله بيننا وبينهم (بالسيف)؟!

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا ابن الخطاب! إنّي رسول الله ولن يضيّعني الله!

فانطلق عمر مغضبا فأتى أبا بكر وقال له مثل ذلك ، فقال له أبو بكر مثل قول رسول الله.

ثمّ أنزل الله سورة الفتح فأرسل الرسول إلى عمر فدعاه وقرأها عليه فقال عمر : أهو فتح يا رسول الله؟ قال : نعم. ثمّ قال سهل لهؤلاء القرّاء (أجل) إنّ هذا فتح (٢).

ولكنّ عليا عليه‌السلام عاد فقال : إنما فعلت ما فعلت لمّا بدا فيكم الفشل والخور (الضعف) وسمعه سعيد بن قيس الهمداني ، فانطلق فجمع قومه وجاء بهم إليه وقال له : يا أمير المؤمنين ، ها أنا ذا وقومي لا نرادّك ولا نردّ عليك ، فمرنا بما شئت!

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٩٧.

(٢) شرح الأخبار للقاضي النعمان ٢ : ٥٢ ـ ٥٣ ، الحديث ٤١٥ عن شقيق بن سلمة الكوفي. وكان أخو سهل : عثمان بن حنيف قد قتل شهيدا يومئذ ، كما فيه أيضا ٢ : ٢٩ عن عبيد الله بن أبي رافع في تسمية من شهد مع عليّ حروبه. ومات سهل بعده بسنة ، كما سيأتي.

١٨٨

فقال عليه‌السلام : أما والله لو كان هذا قبل رفع المصاحف لأزلتهم عن عسكرهم أو تنفرد سالفتي (عنقي) قبل ذلك! ولكن انصرفوا راشدين ، فلعمري ما كنت لاعرّض قبيلة واحدة للناس (١).

ووساطة الأشعث ورسائل معاوية :

وجاء الأشعث بن قيس إلى الإمام عليه‌السلام فقال : يا أمير المؤمنين ، ما أرى الناس إلّا وقد رضوا ، وسرّهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن! فإن شئت ذهبت إلى معاوية أسأله ما يريد وأنظر ما الذي يسأل؟ قال عليه‌السلام : إن شئت فأته.

فانطلق إليه وقال له : يا معاوية ، لأيّ شيء رفعتم هذه المصاحف؟

قال : لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به في كتابه ، فابعثوا منكم رجلا ترضون به ، ونبعث منّا رجلا ، ثمّ نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ، ثمّ نتّبع ما اتّفقا عليه. فعاد إلى الإمام بالكلام (٢).

وأرسل معاوية إلى الإمام برسالة فيها : «إن الأمر قد طال بيننا وبينك ، وكلّ واحد منّا يرى أنّه على الحقّ فيما يطلب من صاحبه ، ولن يعطي واحد منّا الطاعة للآخر! وقد قتل فيما بيننا بشر كثير! وأنا أتخوّف أن يكون ما بقي أشدّ مما مضى ، وإنّا سوف نسأل عن هذا الموطن! ولا يحاسب به غيري وغيرك! فهل لك في أمر لنا ولك فيه براءة وحياة وعذر ، وصلاح للأمة وحقن للدماء ، وألفة للدين وذهاب للفتن والضغائن! أن يحكم بيننا وبينك حكمان رضيّان أحدهما من أصحابي والآخر

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٢٠.

(٢) وقعة صفين : ٤٩٨ ـ ٤٩٩.

١٨٩

من أصحابك ، فيحكمان بما في كتاب الله بيننا ، فإنه خير لي ولك! وأقطع لهذه الفتن! فاتّق الله فيما دعيت له ، وارض بحكم القرآن إن كنت من أهله! والسلام».

فكتب إليه الإمام عليه‌السلام : «من عبد الله علي أمير المؤمنين ، إلى معاوية بن أبي سفيان ، أما بعد ، فإنّ أفضل ما يشغل به المرء نفسه اتّباع ما يحسن به فعله ويستوجب فضله ويسلم من عيبه ، وإن البغي والزور يزريان بالمرء في دينه ودنياه ، ويبديان من خلله عند من يغنيه ما استرعاه الله ما لا يغني عنه تدبيره ، فاحذر الدنيا ، فإنه لا فرح في شيء وصلت إليه منها! ولقد علمت أنك غير مدرك ما قضي فواته. ولقد رام قوم أمرا بغير الحق فتأوّلوا على الله تعالى فأكذبهم ، ومتّعهم قليلا ثمّ اضطرّهم إلى عذاب غليظ. فاحذر يوما يغتبط فيه من أحمد عاقبة عمله ، ويندم فيه من أمكن الشيطان من قياده ولم يحادّه ، فغرّته الدنيا واطمأنّ إليها.

ثمّ إنّك قد دعوتني إلى حكم القرآن! ولقد علمت أنّك لست من أهل القرآن ولست حكمه تريد! والله المستعان ، وقد أجبنا القرآن إلى حكمه ولسنا إياك أجبنا ، ومن لم يرض بحكمه فقد ضلّ ضلالا بعيدا» (١).

فكأنّ معاوية أجاب الإمام برسالة فيها : «أما بعد ، عافانا الله وإياك! فقد آن لك أن تجيب إلى ما فيه صلاحنا وألفة بيننا! وقد فعلت وأنا أعرف حقّي! ولكنّي اشتريت بالعفو صلاح الأمة! ولا أكثر فرحا بشيء جاء ولا ذهب (جوابا لقول الإمام : فإنه لا فرح في شيء ...) وإنما أدخلني في هذا الأمر القيام بالحقّ فيما بين الباغي والمبغيّ عليه! (عثمان وقاتليه) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! فدعوت إلى كتاب الله فيما بيننا وبينك ، فإنّه لا يجمعنا وإيّاك إلّا هو! نحيي ما أحيا القرآن ونميت ما أمات القرآن! والسلام» (٢).

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٩٣ ـ ٤٩٤.

(٢) وقعة صفين : ٤٩٧ ـ ٤٩٨.

١٩٠

وخطاب وعتاب :

وإذ أصرّ الناس على الموادعة والصلح قال الإمام عليه‌السلام : إنّ هؤلاء القوم لم يكونوا ليفيئوا إلى الحقّ ، ولا ليجيبوا إلى كلمة السواء حتّى يرموا بالمناسير تتبعها العساكر ، وحتّى يرجموا بالكتائب تقفوها الجلائب ، وحتّى يجرّ ببلادهم الخميس يتلوه الخميس ، وحتّى يدعو الخيل في نواحي أرضهم وبأحناء مساربهم ومسارحهم ، وحتّى تشنّ عليهم الغارات من كلّ فجّ ، وحتّى يلقاهم قوم صبر لا يزيدهم هلاك من هلك من قتالهم وموتاهم في سبيل الله إلّا جدّا في طاعة الله وحرصا على لقاء الله.

ولقد كنّا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقتل آباؤنا وأبناؤنا وإخواننا وأعمامنا ، ما يزيدنا ذلك إلّا إيمانا وتسليما ومضيّا على أمضّ الألم ، وجدّا على جهاد العدو ، والاستقلال بمبارزة الأقران. ولقد كان الرجل منّا والآخر من عدوّنا يتصاولان تصاول الفحلين ، ويتخالسان أنفسهما أيّهما يسقي صاحبه كأس المنون ، فمرّة لنا من عدوّنا ومرّة لعدوّنا منّا ، فلما رآنا الله صبرا صدقا أنزل بعدوّنا الكبت وأنزل علينا النصر ولعمري لو كنّا نأتي مثل الذي أتيتم ، ما قام الدين ولا عزّ الإسلام!

ثمّ قال لهم : وايم الله لتحلبنّها دما! فاحفظوا ما أقول لكم (١).

ثمّ إنّ الناس قاموا لقتلاهم يدفنونهم (٢) وقد أصيب من أهل العراق في صفين خمسة وعشرون ألفا ، ومن أهل الشام خمسة وأربعون ألفا (٣).

__________________

(١) الإرشاد للمفيد ١ : ٢٦٧ ـ ٢٦٨ والموقعية من المصدر التالي. وفي كتاب سليم بن قيس ٢ : ٦٩٦ ، الحديث ١٥ : أن ذلك كان قبل صفين! ولكنه تحريف غير ملائم ، وتخريجه : ١٥. وفي وقعة صفين : ٥٢٠ ، وفي نهج البلاغة خ ٥٦.

(٢) وقعة صفين : ٥٢٠ ـ ٥٢١.

(٣) وقعة صفين : ٥٥٨ ، عن تميم بن حذلم الناجي ، ومثله في تاريخ خليفة : ١١٧ ـ ١١٨ ـ مسندا عن الصحابي عبد الرحمن بن أبزى. وفي آخر : عدّوا بالقصب. وكذلك في أنساب الأشراف ٢ : ٣٢٢ ، ومروج الذهب ٢ : ٣٩٤ عن أبي مخنف وغيره.

١٩١

تعيين الحكمين :

لم يعيّن معاوية للمحاكمة إلّا مبدعها ابن العاص ، جاء هذا فيما رواه المنقري ، عن الجعفي ، عن الباقر عليه‌السلام قال : لما أراد الناس من عليّ أن يضع حكما قال لهم : إنّ معاوية لم يكن ليضع لهذا الأمر أحدا هو أوثق برأيه ونظره من عمرو بن العاص ، وإنه لا يصلح للقرشيّ إلّا مثله! فعليكم بعبد الله بن عباس فارموه به ، فإن عمرا لا يعقد عقدة إلّا حلّها عبد الله ، ولا يحلّ عقدة إلّا عقدها ، ولا يبرم أمرا إلّا نقضه ، ولا ينقض أمرا إلّا أبرمه.

فقال الأشعث : لا والله لا يحكم فيها مضريان حتّى تقوم الساعة! ولكن إذا جعلوا رجلا من مضر فاجعله رجلا من أهل اليمن!

فقال عليّ : إن عمرا إذا كان له في أمر هوى فليس من الله في شيء ، فأخاف أن يخدع عمر ويمنّيكم.

فقال الأشعث : والله لئن يكن أحدهما من أهل اليمن ويحكما ببعض ما نكره فهو أحبّ إلينا من أن يكون في حكمهما ما نحبّ وهما مضريان (١)!

وقام عبد الله بن الكوّاء اليشكري الهمداني إلى الإمام عليه‌السلام وقال : إن عبد الله بن قيس (الأشعري) وافد أهل اليمن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصاحب مقاسم أبي بكر ، وعامل عمر ، قد رضي به القوم ، وعرضنا عليهم عبد الله بن عباس فزعموا أنّه قريب القرابة منك ظنون في أمرك (متّهم) (٢)!

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٠٠.

(٢) وقعة صفين : ٥٠٢.

١٩٢

ونادى الأشعث والقراء الذين خرجوا بعد : إنا قد اخترنا ورضينا أبا موسى الأشعري!

فقال لهم علي عليه‌السلام : فإني لا أرضى بأبي موسى ولا أرى أن أوّليه!

فقال الأشعث وزيد بن حصين الطائي ومسعر بن فدكي التميمي ومعهم عصابة من القرّاء (البصريين) : فإنّا لا نرضى إلّا به! فإنه قد حذّرنا ما وقعنا فيه!

فقال علي عليه‌السلام : فإنه ليس لي برضا وقد فارقني وخذّل الناس عنّي ثمّ هرب حتّى أمّنته بعد أشهر ، ولكن هذا ابن عباس أوّليه ذلك.

قالوا : والله ما نبالي أكنت أنت أو ابن عباس ، ولا نريد إلّا رجلا هو منك ومن معاوية سواء ولا يكون إلى واحد منكما بأدنى من الآخر.

فقال علي عليه‌السلام : فالأشتر. فقال الأشعث : وهل سعّر الأرض علينا غير الأشتر؟!

فقال علي عليه‌السلام : فقد أبيتم إلّا أبا موسى؟ قالوا : نعم! قال : فاصنعوا ما أردتم.

وكان أبو موسى قد خرج من العراق إلى الشام معتزلا في قرية تدعى العرض (بين تدمر والرصافة) فبعثوا إليه من يأتي به ، وكان معه مولى له فلما علم مولاه الخبر دخل عليه وقال له : إن الناس قد اصطلحوا. فقال : الحمد لله رب العالمين. قال : وقد جعلوك حكما. قال : إنا لله وإنا إليه راجعون. ثمّ جاء حتّى دخل عسكر علي عليه‌السلام.

وجاء الأحنف بن قيس التميمي إلى علي عليه‌السلام وقال له : يا أمير المؤمنين ، إنّك قد رميت بحجر الأرض (داهيتها) ومن حارب الله ورسوله في أنف الإسلام (صدره) وإن عبد الله بن قيس (الأشعري) رجل قد حلبت أشطره فوجدته قريب القعر كليل المدية ، وهو رجل يماني وقومه مع معاوية! وإنّ صاحب القوم من ينأى حتّى يكون مع النجم ويدنو حتى يكون في أكفّهم! فإن تجعلني حكما فاجعلني ،

١٩٣

وإن أبيت أن تجعلني حكما فاجعلني ثاني أو ثالثا ، فو الله لا يحلّ عقدة إلّا عقدت لك أشدّ منها ، فإن قلت إني لست من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فابعث رجلا من أصحاب رسول الله غير عبد الله بن قيس وابعثني معه. فعرض ذلك على الناس فأبو إلّا الأشعري!

فقال علي عليه‌السلام : إن القوم أتوني بعبد الله بن قيس مبرنسا (لابس البرنس : القبعة) فقالوا لي : ابعث هذا فقد رضينا به! والله بالغ أمره (١)!

تقييد الكتابين :

لما اضطرّ «شيخ المظلومين» إلى التسليم للأمر الواقع وقال للعراقيين معه : فاصنعوا ما أردتم! دعوا عمرو بن العاص وكاتب معاوية عمير بن عبّاد الكناني (٢) وبحضور أمير المؤمنين عليه‌السلام والأشعث الكندي والأحنف التميمي وآخرين ، فاملي على الكاتب فكتب : «هذا ما تقاضى عليه عليّ أمير المؤمنين» فقال له عمرو : اكتب اسمه واسم أبيه ، إنما هو أميركم ، وأما أميرنا فلا!

فقال الأحنف التميمي : يا أمير المؤمنين ، لا تمح اسم إمرة المؤمنين عنك ، فإني أتخوّف إن محوتها أن لا ترجع إليك أبدا! لا تمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضا!

وقال الأشعث الكندي : (يا أمير المؤمنين) امح هذا الاسم!

وقام إليه رجل من أصحابه فقال : نهيتنا عن الحكومة ثمّ أمرتنا بها! فما ندري أيّ الأمرين أرشد؟! فصفق بإحدى يديه على الأخرى وقال : هذا جزاء

__________________

(١) وقعة صفين : ٤٩٩ ـ ٥٠٢. وانظر وقارن : أنساب الأشراف ٢ : ٣٣٠ ، الحديث ٤٠٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٩ ، وفي المناقب ٣ : ٢١٣ : عمير بن عبّاد الكلبي. وفي وقعة صفين : عميرة : ٥١١. وفي الإمامة والسياسة ١ : ١٣٣ : عمرو بن عبادة.

١٩٤

من ترك العقدة (الشدّة) أما والله لو أنّي حين أمرتكم بما أمرتكم به حملتكم على المكروه الذي يجعل الله فيه خيرا ، فإن استقمتم هديتكم ، وإن اعوججتم قوّمتكم ، وان أبيتم تداركتكم ، لكانت الوثقى ، ولكن بمن؟ وإلى من؟ أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي! كناقش الشوكة بالشوكة! وهو يعلم أنّ ضلعها معها!

اللهمّ قد ملّت أطبّاء هذا الداء الدويّ ، وكلّت النزعة بأشطان الركي (بحبال البئر) أين القوم الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه ، وقرءوا القرآن فأحكموه ، وهيجوا إلى الجهاد فولهوا وله اللقاح إلى أولادها ، وسلبوا السيوف أغمادها ، وأخذوا بأطراف الأرض زحفا زحفا وصفّا صفّا ، بعض هلك وبعض نجا ، لا يبشّرون بالأحياء ولا يعزّون عن الموتى. مره العيون من البكاء ، خمص البطون من الطوى ، ذبل الشفاه من الدعاء ، صفر الألوان من السهر ، على وجوههم غبرة الخاشعين ، اولئك إخواني الذاهبون ، فحقّ لنا أن نظمأ إليهم ونعضّ الأيدي على فراقهم.

إن الشيطان يسنى لكم طرقه (يفتح عينه) ويريد أن يحلّ دينكم عقدة عقدة ، ويعطيكم بالجماعة الفرقة ، وبالفرقة الفتنة ، فاصدفوا عن نزعاته ونفثاته ، واقبلوا النصيحة ممّن أهداها إليكم ، واعقلوها على أنفسكم (١).

ثم قال الإمام عليه‌السلام : لا إله إلّا الله سنّة بسنّة : أما والله لعلى يدي دار هذا يوم الحديبية حين كتبت الكتاب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «هذا ما تصالح عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو» فقال سهيل : لا اجيبك إلى كتاب تسمّي فيه رسول الله ، ولو أعلم أنّك رسول الله لم اقاتلك ، إني إذا ظلمتك إذ منعتك أن تطوف ببيت الله وأنت رسول الله. ولكن اكتب : محمد بن عبد الله ، اجبك! فقال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا علي ، إني لرسول الله ، وإني لمحمّد بن عبد الله ، ولن يمحو عنّي الرسالة كتابي إليهم :

__________________

(١) نهج البلاغة خ ١٢١ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٨٦.

١٩٥

من محمد بن عبد الله ، فاكتب : محمد بن عبد الله» (١) فغضبت فقلت : بلى والله إنه لرسول الله وإن رغم أنفك! فقال رسول الله : اكتب ما يأمرك ، وإن لك مثلها ستعطيها وأنت مضطهد (٢) فاليوم أكتبها إلى أبنائهم كما كتبها رسول الله إلى آبائهم ، سنّة ومثلا!

فقال عمرو بن العاص : سبحان الله! ومثل هذا؟ شبّهتنا بالكفّار ونحن مؤمنون؟!

فقال له علي عليه‌السلام : يا ابن النابغة! ومتى لم تكن للكافرين وليا وللمسلمين عدوّا؟! وهل تشبه إلّا امك التي وضعت بك!

فغضب عمرو فقام وقال : والله لا يجمع بيني وبينك بعد هذا اليوم مجلس أبدا!

فقال علي عليه‌السلام : والله إني لأرجو أن يظهر الله عليك وعلى أصحابك (٣).

فلما اعيد الكتاب إليه أمر بمحوه (٤) فسئل : أتقرّ أنهم مسلمون مؤمنون؟

فقال علي عليه‌السلام : ما أقرّ لمعاوية ولا لأصحابه أنهم مؤمنون ولا مسلمون! ولكن ليكتب معاوية ويقرّ لنفسه ولأصحابه بما شاء ، ويسمّي نفسه وأصحابه ما شاء! فكتب الكتاب كاتب معاوية.

__________________

(١) وقعة صفين : ٥٠٨ ، ونحوه في تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٩.

(٢) وقعة صفين : ٥٠٩ بروايتين والاضطهاد في أنساب الأشراف ٢ : ٣٣٧ ومختصر الخبر في تاريخ ابن الوردي ١ : ١٥٢. وعن الماوردي في أعلام النبوة ومسند أحمد في مناقب آل أبي طالب ٣ : ٢١٣ ـ ٢١٤.

(٣) أمالي الطوسي : ١٨٧ ، الحديث ٣١٥ عن أبي مخنف ، ووقعة صفين : ٥٠٨ ـ ٥٠٩ ، وتاريخ ابن الوردي ١ : ١٥٢.

(٤) وقعة صفين : ٥٠٨.

١٩٦

فروى المنقري ، عن الشيباني قال : كان قد وقع كتاب الصلح إلى سعيد بن أبي بردة في صحيفة صفراء عليها خاتمان في أعلاها وأسفلها كلاهما «محمد رسول الله» وكان نصّ الكتاب :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، هذا ما تقاضى عليه عليّ بن أبي طالب ، ومعاوية بن أبي سفيان ، قاضى عليّ بن أبي طالب على أهل العراق ومن كان معه في شيعته من المؤمنين والمسلمين : وقاضى معاوية ابن أبي سفيان على أهل الشام ومن كان معه من شيعته من المؤمنين والمسلمين أنّا ننزل عند حكم الله وكتابه ، وأن لا يجمع بيننا إلّا إياه ، وأن كتاب الله بيننا وبينكم من فاتحته إلى خاتمته ، نحيي ما أحيا القرآن ونميت ما أمات القرآن. فما وجد الحكمان في كتاب الله بيننا وبينكم فإنهما يتبعانه ، وما لم يجداه في كتاب الله أخذا بالسنة العادلة الجامعة غير المفرّقة.

والحكمان : عبد الله بن قيس ، وعمرو بن العاص ، وأخذنا عليهما عهد الله وميثاقه ليقضيا بما وجدا في كتاب الله ، فإن لم يجدا في كتاب الله فالسنة الجامعة غير المفرّقة.

وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين ... أنهما آمنان على أموالهما وأهليهما ، والأمة أنصار لهما على الذي يقضيان به عليهما وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كلتيهما عهد الله : أنا على ما في هذه الصحيفة ، ولنقومن عليه ، وإنا عليه لأنصار.

وإنها قد وجبت القضية بين المؤمنين بالأمن والاستقامة ، ووضع السلاح أينما ساروا ، على أنفسهم وأموالهم وأهليهم وأراضيهم ، وشاهدهم وغائبهم.

وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه ليحكمان بين الأمة بالحق ، ولا يردّانها في فرقة ولا (في) حرب حتّى يقضيا.

وأجل القضية : إلى شهر رمضان ، فإن أحبّا أن يعجّلا عجّلا. وإن توفى واحد من الحكمين فإن أمير شيعته يختار مكانه رجلا لا يألو عن المعدلة والقسط.

١٩٧

وإن ميعاد قضائهما الذي يقضيان فيه : مكان عدل بين أهل الشام وأهل الكوفة ، فإن رضيا مكانا غيره فحيث رضيا ، لا يحضرهما فيه إلّا من أراد ، وأن يأخذ الحكمان من شاءا من الشهود ليكتبوا شهادتهم على ما في الصحيفة.

ونحن براء ممّن حكم بغير ما أنزل الله ، اللهمّ إنا نستعينك على من ترك ما في هذه الصحيفة وأراد فيها إلحادا وظلما» وكتب عميرة يوم الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين (١).

وتواعد الحكمان الاجتماع في أذرح (على ثغر الشام والحجاز) وأن يبعث علي عليه‌السلام بأربعمائة من أصحابه ، وكذلك معاوية ، فيشهدون الحكومة (٢).

موقف الأشتر من الصحيفة :

ولما كتبت الصحيفة ودعي الشهود للشهادة وكتبت شهادتهم ، دعي لها الأشتر فقال :

__________________

(١) وقعة صفين : ٥١٠ ـ ٥١١ ، رواية الشيباني ، وقبلها خبر جابر الجعفي عن الشعبي وزيد بن الحسن ، ومحمد بن علي الباقر عليه‌السلام بزيادة ونقصان في الحروف وكثرة الشهود وفيه «فإن مات أحد الأميرين قبل القضاء فلشيعته أن يولّوا مكانه رجلا» مما يتناقض وسائر النصوص عن الباقر عليه‌السلام ، فهو مردود.

(٢) وقعة صفين : ٥١١ ، والطبري ٥ : ٦٦ ، وفي تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٩ : كتبوا كتابين : كتابا بخط كاتب معاوية : عمير بن عبّاد الكناني وكتابا بخط كاتب علي : عبيد الله بن أبي رافع. وليس هذا في وقعة صفين ، وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٣٤ أرسل هذه الرواية المختارة فقط دون الأخرى وفي الطبري ٥ : ٥٤ هي أيضا برواية أبي مخنف.

١٩٨

لا صحبتني يميني ولا نفعتني بعدها الشمال إن كتب لي في هذه الصحيفة اسم على صلح ولا موادعة! أو لست على بيّنة من ربّي ، ويقين من ضلالة عدوّي؟! أو لستم قد رأيتم الظفر إن لم تجمعوا على الخور؟!

فقال له الأشعث : إنك والله ما رأيت ظفرا ولا خورا! هلمّ فاشهد على نفسك وأقرر بما كتب في هذه الصحيفة ، فإنه لا رغبة بك عن الناس!

فقال الأشتر : بلى والله إن بي لرغبة عنك في الدنيا للدنيا وفي الآخرة للآخرة! ولقد سفك الله بسيفي هذا دماء رجال ما أنت بخير منهم عندي ولا أحرم دما! قال : ولكن قد رضيت بما صنع علي أمير المؤمنين ودخلت فيما دخل فيه وخرجت مما خرج منه ، فإنه لا يدخل إلّا في هدى وصواب (١)!

ومع هذا التصريح اللامع حاولوا أن يفتنوا فيما بينه وبين أمير المؤمنين فقالوا له : إن الأشتر لم يرض بما في هذه الصحيفة ولا يرى إلّا قتال القوم!

فقال الإمام عليه‌السلام : بلى ، إن الأشتر ليرضى إذا رضيت. وقد رضيتم ورضيت ، ولا يصلح الرجوع بعد الرضا ولا التبديل بعد الإقرار ، إلّا أن يعصى الله ويتعدّى ما في كتابه.

وأما الذي ذكرتم من تركه أمري وما أنا عليه فليس (الأشتر) من أولئك ، وليس أتخوفه على ذلك! وليت فيكم مثله اثنين! بل ليت فيكم مثله واحدا يرى في عدوّه مثل رأيه إذ لخفّت عليّ مئونتكم ، ورجوت أن يستقيم لي بعض أودكم (٢)!

__________________

(١) وقعة صفين : ٥١١ ـ ٥١٢ هذا ، وقد ذكر اسمه في شهود الصحيفة على رواية الجعفي مما يوهنها.

(٢) الإرشاد للمفيد ١ : ٢٦٩ ـ ٢٧٠ وبعده : وقد نهيتكم عمّا أتيتم فعصيتم فكنت كما قال أخو هوازن.

١٩٩

وأما القضية فقد استوثقنا لكم فيها (حتّى) طمعت أن لا تضلوا ، إن شاء الله ربّ العالمين (١).

وقام إليه محرز بن جريش فقال له : يا أمير المؤمنين ، أما إلى الرجوع عن هذا الكتاب سبيل؟! فو الله إني لأخاف أن يورث ذلّا!

فقال عليه‌السلام : أبعد أن كتبناه ننقضه؟! إنّ هذا لا يحل (٢)!

ونظر الإمام عليه‌السلام إلى سليمان بن صرد الخزاعي وعلى وجهه ضربة سيف فتلا قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)(٣) ثمّ قال له : وأنت ممن ينتظر وممن لم يبدّل.

فقال : يا أمير المؤمنين ، أما والله لقد مشيت في الناس ليعودوا إلى أمرهم الأول فما وجدت أحدا عنده خير! إلّا قليلا! أما لو وجدت أعوانا ما كتبت هذه الصحيفة أبدا (٤)!

لا حكم إلّا لله! :

ولما يئس الأشعث من شهادة الأشتر على كتاب التحكيم وفي الوقت ذاته

__________________ـ

وهل أنا إلّا من غزيّة إن غوت

غويت ، وإن ترشد غزيّة أرشد

والخبر في الطبري ٥ : ٥٩ عن أبي مخنف.

(١) وقعة صفين : ٥٢١ ، ومن هنا يعلم أن إملاء الوثيقة كان باستيثاق الإمام عليه‌السلام ، وفي الطبري ٥ : ٥٩ عن أبي مخنف.

(٢) وقعة صفين : ٥١٩.

(٣) الأحزاب : ٢٣.

(٤) وقعة صفين : ٥١٩.

٢٠٠