أصول الإيمان

عبدالقاهر التميمي الشافعي

أصول الإيمان

المؤلف:

عبدالقاهر التميمي الشافعي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٩

فليست بنسخ ولذلك لم يكن سقوط الفرض بالعجز والموت نسخا له. ومنها أن يكون الناسخ والمنسوخ في رتبة واحدة من جهة إيجاب العلم والعمل (١) أو يكون (٢) الناسخ أقوى في ذلك من المنسوخ (٣) فعلى هذا الأصل يجوز نسخ القرآن بالقرآن ونسخ السنة بالقرآن. واختلفوا في نسخ القرآن بالسنة فأجاز أصحاب الرأي نسخة بالسنة المتواترة. ومنع أصحاب الشافعي من نسخ القرآن بالسنة. ويجوز نسخ خبر الواحد بمثله وبالمتواتر ولا يجوز نسخ المتواتر بخبر الواحد ويجوز بمثله. ولا يجوز نسخ شيء من القرآن والسنة بالقياس. واجمع الفقهاء على جواز تخصيص العموم بالقياس الجلي إلّا من لا يقول بالقياس. واختلف أهل القياس في تخصيص العموم بالقياس الخفي فأجازه أكثرهم وأباه قوم منهم والجواز أصح.

__________________

(١) [أو العمل].

(٢) [ولم يكن].

(٣) [فإن كان مما يوجب العلم والعمل كان الناسخ أيضا مثله وإن كان المنسوخ موجبا للعمل دون العلم جاز نسخه بما يوجب العمل وكان نسخه بما يوجب العلم والعمل أولى بالجواز].

١٨١
١٨٢

الأصل الحادي عشر

من أصول هذا الكتاب

في معرفة أحكام العباد في المعاد

هذا الأصل مشتمل على خمس عشرة مسألة هذه ترجمتها :

مسألة في إجازة فناء الحوادث.

مسألة في بيان كيفية الفناء على ما يفنى.

مسألة في إجازة إعادة ما يفنى.

مسألة في نفس ما يصح إعادته.

مسألة في بيان ما يعاد من الأجسام والأرواح.

مسألة في بيان ما يعاد من الحيوانات.

مسألة في أن الإعادة هل هي واجبة أم جائزة.

مسألة في خلق الجنة والنار.

مسألة في دوامهما ودوام ما فيهما.

مسألة في أن الله تعالى فاعل نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار.

مسألة في أن الله قادر على الزيادة في النعيم والعذاب.

مسألة في تعويض البهائم في الآخرة.

مسألة في حكم أهل الوعيد ومن يرد عذابه.

مسألة في إثبات الشفاعة.

مسألة في إثبات الحوض والصراط والميزان وسؤال منكر ونكير وعذاب القبر وما يجري مجرى ذلك. فهذه مسائل هذا الأصل وسنذكر في كل واحدة منها مقتضاها إن شاء الله تعالى.

١٨٣

المسألة الأولى من هذا الأصل

في إجازة فناء الحوادث

أجاز أصحابنا وأكثر الأمة فناء جميع العالم جملة وتفصيلا وقالوا إن الذي خلقها قادر على إفناء جميعها وقادر على إفناء بعضها. وهذا التجويز إنما هو في الأجسام فأما في الأعراض فكل عرض واجب عدمه في الثاني من حال حدوثه لاستحالة بقائه عندنا. وخالفنا في هذه الجملة فرق إحداها : الدهرية القائلة بقدم الأجسام فإنهم أحالوا عدمها كما أحالوا حدوثها. والفرقة الثانية : فرقة أخرى من الدهرية أحالوا عدم الأعراض كما أحالوا عدم الأجسام وزعموا أن الأعراض مجتمعة في الأجسام إذا ظهر بعضها في الجسم كمن فيه ضده. وقد بيّنا بطلان قول هاتين الفرقتين في أبواب حدوث العالم. والفرقة الثالثة : فرقة ضالة انتسبت إلى الإسلام وأقرت بحدوث الأجسام وأنكرت جواز عدمها وزعمت أنها لا تفنى وإنما تتغير من حال إلى حال باختلاف الأعراض عليها. وهذا قول حكاه ابن الراوندي عن الجاحظ وبه قال قوم من الكرّامية. وزعم أكثرهم أن الحوادث التي تحدث ، بزعمهم ، في القديم لا يجوز عدم شيء منها. وفي هذا تصريح بأن الله يحدث شيئا ولا يقدر على إفنائه. فقلنا كل ما صح حدوثه صح عدمه بعد حدوثه كالأعراض التي في الأجسام. فإن سألونا على هذا عن فناء الجنة والنار قلنا إن فناءهما جائز في العقل وإن قلنا بدوامهما من طريق الخبر والشرع.

المسألة الثانية من هذا الأصل

في كيفية فناء ما يفنى

أجمع أصحابنا على أن الأعراض لا يصح بقاؤها فإن كل عرض يجب عدمه في الثاني من حال حدوثه. واختلفوا في كيفية فناء الأجسام : فقال أبو الحسن الأشعري : إن الله يفني الجسم بأن لا يخلق فيه البقاء في الحال التي يريد أن يكون فانيا فيه. لأن الباقي عنده يكون باقيا ببقاء فإذا لم يخلق الله البقاء في الجسم فني. وإلى هذا القول ذهب ضرار بن عمرو. وقال شيخنا أبو العباس

١٨٤

القلانسي رحمه‌الله : إنما يفني الله الجوهر بفناء يخلقه فيه فيفنى الجوهر في الحال الثانية من حال حدوث الفناء فيه. وقال قاضينا أبو بكر محمد بن الطيب الأشعري [الباقلاني] إنما يكون فناء الجوهر بقطع الأكوان عنه ؛ فإذا لم يخلق الله في الجوهر كونا ولونا فني وكان لا يثبت البقاء معنى غير الباقي. فهذا قول أصحابنا. واختلفت القدرية فيه : فزعم معمر أن خلق الشيء غيره وكذلك بقاؤه وفناؤه غيره. وزعم أن للبقاء بقاء ولكل بقاء بقاء لا إلى نهاية وكذلك لكل فناء فناء لا إلى نهاية وأحال أن يفني الحوادث كلها. وزعم محمد بن شبيب أن الفناء عرض غير الفاني وأنه يحلّ في الجسم فيفنى الجسم به في الثاني من حال حلوله فيه. وهذا مثل قول القلانسي غير أن القلانسي أثبت بقاء الجسم معنى غير الجسم وزعم ابن شبيب أن البقاء ليس غير الباقي. وذهب الكعبي منهم إلى مثل شيخنا أبي الحسن فأثبت البقاء معنى ولم يثبت الفناء معنى وقال بأن الأعراض لا تبقى وأن الجسم يفنى إذا لم يخلق الله فيه البقاء. وزعم الجبّائي وابنه [وأكثر القدرية] أن الله تعالى إذا أراد فناء الأجسام خلق فناء لها لا في محل وكان ذلك الفناء عرضا ضدا للاجسام كلها فيفني به جميع الأجسام. وأحالا فناء بعض الأجسام مع بقاء بعض منها. وفي هذا القول مخالفة لقواعد دين الإسلام من وجوه : منها أن إجازة وجود عرض لا في محل يؤدي إلى إجازة وجود كل عرض لا في محل وذلك يمنع تعاقبها على الأجسام وفي هذا إبطال دلالة الموحدين على حدوث الأجسام. ومنها أنّه يوجب أن يكون الله عزوجل قادرا على إفناء جميع الأجسام ولا يكون قادرا على إفناء بعضها. ومنها إحالة بقاء الإله منفردا كما لم يزل منفردا لأن الأجسام إذا لم تفن إلا بضدّ وضدّها أيضا لا يفنى إلا بضد آخر فلا يخلو الباري عن حادث يكون ضدا لما فني به قبله [من الأعراض فيتسلسل إلى ما لا نهاية] وهذا يوجب استحالة تعريه في الأزل عن تلك الأضداد والحوادث كما ألزمنا الدهرية إذا أقروا بأن الأجسام لا تخلوا عن الأكوان المتضادة وإنها لم تخل منها فيما مضى ووجب أنّها محدثة لأنها لم تسبق الحوادث. وقد ألزم الجبائي وابنه مثل ذلك إذ أحالا أن يخلو الإله في المستقبل عن حوادث من الأجسام أو من الفناء الذي هو ضدها وكفاهما بذلك خزيا.

١٨٥

المسألة الثالثة من هذا الأصل

في جواز إعادة ما يفنى

أجمع المسلمون وأهل الكتاب والبراهمة على إعادة الخلق وجوازها بعد الفناء في الجملة وان اختلفوا في التفصيل. وخالفهم في هذه الجملة فرق : إحداها : الدهرية المنكرة لحدوث العالم. والثانية : قوم من الفلاسفة أقروا بحدوث العالم وأنكروا الإعادة بعد العدم. والثالثة : فرقة من عبدة الأصنام الذين كانوا في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقروا بحدوث العالم وأنكروا البعث والقيامة والجنة والنار : وقالوا (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) (١). والرابعة : فرقة من غلاة الروافض المنصورية والجناحية الذين أنكروا القيامة [والجنة والنار] وأسقطوا فروض العبادات وقالوا إن الفرائض والشريعة كناية عن الأئمة الذين أمرنا باتباعهم وموالاتهم من أهل البيت وأباحوا المحرمات كلها وزعموا أن المحرمات المذكورة في القرآن كناية عن قوم أمرنا ببغضهم من النواصب كأبي بكر وعمر. وهؤلاء اتباع منصور العجلي واتباع عبيد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر. وقد مضى الكلام على منكري حدوث العالم بما فيه كفاية. وأما الكلام على من أقر بالحدوث وأنكر الإعادة فوجه الاستدلال عليه أن يقاس الإعادة على الابتداء فإن القادر على إيجاد الشيء عن العدم ابتداء ، بأن يكون قادرا على إعادته ، أولى إذا لم يلحقه عجز. وفي هذه الطائفة أنزل الله : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٢).

المسألة الرابعة من هذا الأصل

في نفس ما يصح إعادته

قال شيخنا أبو الحسن الأشعري رحمه‌الله : كل ما عدم بعد وجوده صحت إعادته جسما كان أو عرضا. وقال القلانسي من أصحابنا : يصح إعادة الأجسام ولا

__________________

(١) سورة الجاثية آية ٢٤.

(٢) سورة يس آية ٧٨ / ٧٩.

١٨٦

يصح إعادة الأعراض. وبناه على أصله في أن المعاد يكون معادا لمعنى يقوم به ولا يصح قيام معنى بالعرض فلذلك أنكر إعادته. وذهب أبو الحسن إلى أن الإعادة ابتداء ثان فكما أن الابتداء الأول صح على الجسم والعرض من غير قيام معنى بالعرض فكذلك الابتداء الثاني صحيح عليه من غير قيام معنى به. وأنكر الكعبي وأتباعه من القدرية إعادة الأعراض. وقال الجبّائي ، الأعراض نوعان : باق وغير باق. وما صح بقاؤه منها صحت إعادته بعد الفناء وما لا يصح بقاؤه فلا تصح إعادته. وأجاز ابنه أبو هاشم إعادة جميع الأعراض إلا ما يستحيل عليه البقاء عنده أو كان من مقدور العباد. ويصح عنده إعادة ما هو من جنس مقدور العباد إذا كان من فعل الله تعالى. وقال أبو الهذيل : كل ما أعرف كيفيته من الأعراض فلا يجوز أن يعاد وكل ما لا أعرف كيفيته فجائز أن يعاد. وقالت الكرّامية ما عدم بعد وجوده فلن يجوز أن يعاد جسما كان أو عرضا وإنما يجوز أن يخلق مثله. وتأولوا ما في القرآن من إعادة الخلق على معنى أنّهم يركّبون ثانيا وأجسامهم لم تعدم وإنما تفرقت أجزاؤهم. وتركيبها ثانيا هو الإعادة. وكفّرتهم الأمة كلها في هذا لأنه ليس ما ذهبوا إليه قولا لأحد من سلف هذه الأمة. وعلة التسوية بين الحوادث كلها في جواز إعادتها اشتراكها في الحدوث فلا ينكر حدوثها ثانيا كما لم يستحلّ حدوثها أوّلا.

المسألة الخامسة من هذا الأصل

في بيان ما يعاد من الأجسام والأرواح

اختلفوا في هذه المسألة : فقال المسلمون واليهود والسامرة بإعادة الأجساد والأرواح وردّ الأجساد إلى الأرواح على التعيين ؛ برجوع كل روح إلى الجسد الذي كان فيه. وأنكرت الحلولية وأكثر النصارى إعادة الأجساد والأرواح وزعموا أن الثواب والعقاب إنما يكون للأرواح. وزعم أهل التناسخ أن الإعادة إنما يكون بكرور الأرواح في أجساد مختلفة وذلك كله في الدنيا وإن كل روح أحسنت في قالبها أعيدت في قالب يتنعم فيه وكل روح اساءت في قالبها أعيدت في قالب

١٨٧

يؤذيها. وزعموا أن أرواح الحيّات والعقارب كانت قد أساءت في بعض القوالب فعذبت في قوالب الحيّات والعقارب. فيقال لهم : هل تثبتون لكون الروح في القالب ابتداء لم يكن قبله في غيره؟ فإن قالوا : لا ، صاروا إلى قول الدهرية القائلة بقدم الأجسام وقد أفسدنا قولهم قبل هذا ، وإن قالوا نعم ، قيل : فما أنكرتم أن ليس كون الروح الآن في هذا القالب جزاء له على عمل كان قبل ذلك كما لم يكن كونها في القالب الأول جزاء له على عمل كان قبل ذلك. والعجب من إنكار أهل التناسخ قول المسلمين بأخذ الميثاق عليهم في الذّرّ الأول لهم لو كان ذلك صحيحا لكنّا نذكره وهم يدّعون أن روح كل إنسان كانت فيما مضى في قالب آخر وعملت فيه طاعات أو معاصي فلحقها الجزاء في هذا القالب ولا يذكر ذلك أحد منهم ولا منّا. فمن أجاز هذا وأنكر ذلك فإنما يسخر من نفسه.

المسألة السادسة من هذا الأصل

في بيان ما يعاد من الحيوانات

قد ورد الخبر بإعادة البهائم واقتصاص بعضها من بعض كاقتصاص الجماء من القرناء. وهذا في العقل جائز غير واجب. وإذا أعادها الله جاز أن يفنيها بعد الإعادة وجاز أن يجعلها بعد الإعادة ترابا. وفي بعض الروايات أن الله تعالى يجعلها ترابا فيقول الكافر حينئذ : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (١) أي ليتني صرت ترابا. وقيل إنّ الكافر هنا إبليس ومعناه أنه يقول : ليتني كنت في الأصل من تراب كما كان آدم من تراب ولم أستكبر عليه عند الأمر بالسجود له. وزعم النظام أن الله تعالى يعيد جميع الحيوانات ويجعلها كلها في الجنة. وقد رضينا له أن يكون في الجنة التي يأوي إليها الكلاب والخنازير والحيّات والعقارب والحشرات مع قتله لها في الدنيا ومنعه إياها عن كنيف (٢) داره فضلا عن بستانه. وزعم المعروف بأبي كلدة من القدرية بأن الحيوانات الحسنة التي [فيها] منافع في الدنيا تعاد إلى الجنة

__________________

(١) سورة النبإ آية ٤٠.

(٢) الكنيف : الساتر.

١٨٨

والحيوانات المؤذية القبيحة المناظر يحشر إلى جهنم زيادة في عذاب أهلها من غير أن ينالها في أنفسها العذاب. وعلى هذا الأصل ينبغي أن يحصل ما حسنت صورته وكان مؤذيا وما قبح منظره وكان نافعا بين الباب والدار لا في الجنة ولا في النار.

المسألة السابعة من هذا الأصل

في أن الإعادة ، هل هي واجبة أم لا

قال أصحابنا : إنّها من طريق العقل جائزة ومن طريق الخبر واجبة. وزعم المدعون للأصلح من القدرية مع الكرّامية أنها واجبة على الله تعالى من طريق العقول للتفرقة بين المحسن والمسيء بالثواب والعقاب. فقلنا للقدرية إذا جاز تعجيل الثواب والعقاب قبل الموت فلو عجلهما سقط وجوب الإعادة. وقلنا للكرّامية إذا جاز عندنا وعندكم العفو عن جميع العصاة بطل وجوب الإعادة لأجل العقاب والثواب حتى لو ابتدأ الله بأمثالها جاز ولو كان الثواب واجبا عليه ولم يكن فضلا منه لم يستحق به شكرا وإسقاط شكر الله على الثواب كفر. فما يؤدي إليه مثله.

المسألة الثامنة من هذا الأصل

في خلق الجنة والنار

وهما عندنا مخلوقتان. وزعمت الضرارية والجهمية وطائفة من القدرية أنهما غير مخلوقتين فإن آدم عليه‌السلام إنما كان في جنة من بساتين الدنيا وقال الكعبي : يجوز أن تكونا مخلوقتين ويجوز أن تكونا غير مخلوقتين وإن كانتا مخلوقتين جاز فناؤهما وإعادتهما في القيامة ولا يجوز فناؤهما بعد [دخول] أهلهما. ودليلنا على وجودهما إخبار الله تعالى عن الجنة أنها أعدت للمتقين وعن النار أنها أعدت للكافرين. ويدل على وجودهما ما تواترت به الأخبار ، التي كفرت القدرية بها ، في قصة المعراج وسائر ما ورد في صفات الجنة والنار.

١٨٩

المسألة التاسعة من هذا الأصل

في دوام الجنة والنار وما فيهما من نعيم وعذاب

أجمع أهل السنة وكل من سلف من أخيار الأمة على دوام بقاء الجنة والنار وعلى دوام نعيم أهل الجنة ودوام عذاب الكفرة في النار. وزعم قوم من الجهمية أن الجنة والنار تفنيان. وزعم أبو الهذيل أن أهل الجنة والنار ينتهون إلى حال يبقون فيها خمودا ساكنين سكونا دائما لا يقدر الله تعالى حينئذ على شيء من الأفعال ولا يملك لهم حينئذ ضرا ولا نفعا. وكفاه بدعواه فناء مقدورات الله تعالى خزيا مع تكذيبه إياه في قوله : (أُكُلُها دائِمٌ) (١).

المسألة العاشرة من هذا الأصل

في أن الله تعالى خالق نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار

أجمعت الأمة قبل معتمر والجاحظ أن الله تعالى يخلق لذّات أهل الجنة وآلام أهل النار. وزعم معتمر أنه ليس شيء من الأعراض فعلا لله تعالى وإنما الأعراض من فعل الأجسام إما طباعا وإما اختيارا. ولا يخلق الله ألما ولا لذة ولا صحة ولا سقما ولا شيئا من الأعراض. وزعم الجاحظ أن الله تعالى لا يعذب أحدا بالنار ولا يدخل أحدا النار وإنما النار تجذب أهلها إلى نفسها بطبعها وتمسكهم على التأبيد بطبعها. وهذا القول يوجب انقطاع الرغبة إلى الله تعالى في الإنقاذ منها. لا أنقذ الله منها من قال بذلك.

المسألة الحادية عشرة من هذا الأصل

في أن الله تعالى قادر على أن يزيد في نعيم ،

أهل الجنة وعلى أن يزيد في عذاب ، أهل النار

قالت الأمة بأسرها قبل طبة النظام أن الله تعالى قادر على أن يزيد في نعيم أهل الجنة وعلى أن يزيد في عذاب أهل النار أكثر مما قضاه لكل صنف منهم. وزعم

__________________

(١) سورة الرعد آية ٣٥.

١٩٠

النظام أنه لا يقدر على ذلك وزعم أيضا أن طفلا لو وقف على شفير جهنم لم يكن الله عزوجل قادرا على إلقائه فيها وقدر غيره على إلقائه فيها. فوصف الإنسان بالقدرة على ما لم يصف الله بالقدرة عليه ولا على جنسه. وكفاه بهذا خزيا.

المسألة الثانية عشرة من هذا الأصل

في تعويض البهائم في الآخرة

قال أصحابنا : إن الآلام التي لحقت البهائم والأطفال والمجانين عدل من الله تعالى وليس واجبا [عليه] تعويضها على ما نالها في الدنيا من الآلام فإن أنعم الله عليها في الآخرة نعما كانت فضلا منه. وزعمت البراهمة والقدرية أن تعويض البهائم على ما نالها في الدنيا من الآلام واجب على الله في الآخرة ، وقالوا : إنما حسن منه إيلامها للعوض المضمون لها في الآخرة كالطبيب يؤلم المريض ليوصله بذلك الإيلام إلى نفع أعظم منه. فقلنا : لو كان إيلامه للبهائم إنما حسن منه لأجل العوض في الآخرة لوجب أن لا يحسن ذلك منه مع قدرته على إيصال أمثال تلك الأعواض إليهم من غير إيلام. والطبيب الذي ذكرتموه إنما حسن منه إيلام لا يقدر على نفع من آلمه إلّا به ولأنه كان حسن ذلك لأجل العوض الذي ذكروه لوجب أن يحسن منا إيلام غيرنا من غير استحقاق ، لأجل نفع نوصله إليه بعد الألم. فإن قالوا : إنما لا يحسن ذلك منا لأنا لا نعرف مقدار عوض كل ألم والله عالم به فحسن ذلك منه ، قيل : قد عرّفنا الله تعالى أعواض بعض الآلام كالقصاص والدية ومع ذلك لا يحسن من أحدنا أن يقطع يد من لا ذنب له ثم يقول : أردت إيصال عوض اليد إليك فخذ مني عوضه ؛ إن شئت القصاص وإن شئت الدية وضعفها. فإن قالوا إن ذلك بعض عوض القطع الأول ، قيل : إن يكن كذلك لزمكم على أصلكم تجوير البارئ تعالى بأن أوجب على الجاني أقل من حق المجني عليه. فإن قالوا إن الله متمّ له مقدار عوضه في الآخرة. قيل إن الذي يفعله الله من ذلك إذا لم يكن واجبا عليه كان فضلا منه ومن أصلكم أن التفضل لا ينوب عن الاستحقاق ولا يكون بمنزلته. فإن قالوا إنما حسن من الله إيلام من لا ذنب له

١٩١

في الدنيا بعلتين إحداهما : العوض الذي ذكرناه والثانية : وقوع اعتبار معتبر به قيل أما علة العوض فقد نقضناها عليكم وأما الاعتبار فمنقلب عليكم. لأنه وإن اعتبر قوم بذلك اعتبار خير ، فقد اعتبر به قوم فصاروا من اعتبارهم بذلك إلى قول الدهرية أو إلى قول التناسخ. وذلك أنّ الدهرية قالت في اعتلالها لو كان للعالم صانع حكيم لما آلم من لا ذنب له. وقال أهل التناسخ : لمّا رأينا الله عزوجل يؤلم الأطفال بالأمراض وبالصاعقة ويؤلم البهائم التي لا ذنب لها ولم يجز أن يكون ظالما لها بالإسلام علمنا أن أرواح البهائم والأطفال كانت قبل هذا الدور في قوالب قد أساءت فيها فعوقبت في هذه القوالب بهذه الآلام ، فإن وجب ذلك لاعتبار حسن وجب تركه لاعتبار قبيح به. وإذا بطل هذا كله وضح أن الإيلام من الله ليس للعلة التي ذكروها وإنما هي لأنه متصرف في ملكه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

المسألة الثالثة عشرة من هذا الأصل

في بيان أجل الوعيد

اختلفوا في هذه المسألة فقال أصحابنا : إن تأبيد العذاب إنما يكون لمن مات على الكفر أو على البدعة التي يكفر بها صاحبها كالقدرية والخوارج وغلاة الروافض ومن جرى مجراهم. فأما أصحاب الذنوب من المسلمين إذا ماتوا قبل التوبة فمنهم من يغفر الله عزوجل له قبل تعذيب أهل العذاب. ومنهم من يعذّبه في النار مدة ثم يغفر له ويردّه إلى الجنة برحمته. وزعمت الخوارج أن مخالفيهم كفرة مخلدون في النار. وقالوا في أصحاب الذنوب من موافقيهم إنهم قد كفروا واستحقوا الخلود في النار. وزعمت القدرية أن مخالفيهم كفرة وأنّ أهل الذنوب من موافقيهم يخلدون في النار ، إلا ابن شبيب والخالدي منهم ، فإنهما أجازا المغفرة لأهل الكبائر من موافقيهم. وقال أصحابنا : إن أصحاب الوعيد من الخوارج والقدرية يخلدون في النار لا محالة. وكيف يغفر الله تعالى لمن يقول ليس لله أن يغفر له ويزعم أن عفو الله عن صاحب الكبيرة سفه وخروج عن الحكمة. وقال أصحابنا : إن الناس في الآخرة ثلاثة أصناف : سابقون مقرّبون ،

١٩٢

وأصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال. فالسابقون : هم الذين يدخلون الجنة من أطفال المؤمنين والسقط ومن جرى مجراه. ومنهم سبعون ألفا من هذه الأمة كل واحد منهم يشفع في سبعين ألفا كما ورد في الخبر وذكر فيهم عثمان بن عفان وعكاشة بن محصن. وأصحاب الشمال كلهم كفرة. وأصحاب اليمين كلهم مؤمنون لأن الله تعالى وصف أصحاب الشمال بأنهم كذبوا بالقيامة وأنهم ظنوا أن لن يحوروا وأنهم شكّوا في البعث. وصاحب الذنب من المسلمين غير مكذّب بذلك ولا شاكّ فيه فلا بد أن يكون إما من أصحاب اليمين وإما من السابقين وكلاهما يصير إلى الجنة برحمة الله تعالى ، غير أن من أصحاب اليمين من يحاسب حسابا يسيرا ، فإن أصاب أحدهم عذاب ففي مدة الحساب اليسير ثم ينقلب إلى أهله مسرورا. وقد قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١) وكل آية في الوعيد بإزائها نظيرها في الوعد فإن قوله : (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (٢) ، بإزائه قوله : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) (٣) وقوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ) (٤) ، بإزاء قوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ) (٥). وإذا تعارضت الآيات في الوعد والوعيد خصصنا آيات الوعيد بآيات الوعد أو جمعنا بينهما. فيعذب العاصي مدة ثم يغفر له ويدخل الجنة لأجل الثواب بعد أن استوفى حظه من العذاب إذ لا يجوز أن يثاب في الجنة ثم يرد إلى النار. وقول القدرية ، إن صاحب الكبيرة لا نسميه برّا على الإطلاق وإنما يقال إنه برّ في كذا على الإضافة ، يعارضه قول من قال من المرجئة إنه لا يقال له فاجر ولا فاسق على الإطلاق وإنما يقال إنه فسق في كذا على الإضافة. وقولهم : إن ذنبه الواحد أحبط جميع طاعاته ، خلاف قول الله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (٦). وقال في من يكفر بالإيمان : (فَقَدْ حَبِطَ

__________________

(١) سورة النساء آية ١١٦.

(٢) سورة الانفطار آية ١٤.

(٣) سورة المطففين آية ٢٢.

(٤) سورة النساء آية ١٤.

(٥) سورة النساء آية ١٣.

(٦) سورة هود آية ١١٣.

١٩٣

عَمَلُهُ) (١) وقال [قوله] أيضا : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) (٢) ، فأخبر أن إحباط الحسنات إنما يكون بالموت على الكفر ووجب من هذا أنّ ما سواه من السيئات تذهبه الحسنات. ومن لم يقل بهذا فلا غفران لسيئاته وكفاه بذلك خزيا.

المسألة الرابعة عشر من هذا الأصل

في إثبات الشفاعة

أثبت أهل السنة الشفاعة للأنبياء عليهم‌السلام وللمؤمنين بعضهم في بعض على قدر منازلهم. وقال المفسّرون في تفسير المقام المحمود انه الشفاعة. وفي الحديث : «ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي». وروي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيّر بين أن يدخل نصف أمته الجنة وبين الشفاعة فاختار الشفاعة وأخبر أن سبعين ألفا يدخلون الجنة بلا حساب كل واحد منهم يشفع في سبعين ألفا ، وسأله عكاشة (٣) بن محصن أن يدعو الله أن يجعله منهم فدعا له : وأنكرت الخوارج والقدرية الشفاعة في أهل الذنوب وهم صادقون في أن لا حظّ لهم منها. وسألونا في هذا الباب عن رجل حلف بطلاق امرأته وعتق مماليكه أو حلف بالله تعالى أن يعمل عملا يستحق به الشفاعة وقالوا لنا : ما الذي يلزم هذا الحالف؟ فإن قلتم نأمره باجتناب المعاصي ، فمن اجتنبها لا يحتاج إلى الشفاعة. وإن قلتم نأمره بالمعاصي خالفتم الإجماع في هذا. وجوابنا عن هذا السؤال أن الحالف إن حلف على أن يعمل عملا يستحق به الشفاعة حانث في يمينه لأن من نال الشفاعة في الآخرة فإنما ينالها بفضل من الله تعالى بلا استحقاق. وإن حلف أن يعمل عملا يصير به من أهل الشفاعة أمرناه بأن يعتقد أصولنا في التوحيد والنبوات وأن يجتنب البدع الضالّة وأن

__________________

(١) سورة المائدة آية ٥.

(٢) سورة البقرة آية ٢١٧.

(٣) هو عكاشة الأسدي أحد السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب. توفي في السنة الحادية عشرة للهجرة.

١٩٤

يتبرّأ من أهل البدع على العموم وممن لا يرى الشفاعة على الخصوص وأن يلعن منكري الشفاعة من الخوارج والقدرية ، فإنه إذا اعتقد ذلك برّ في يمينه وكان ممن يجوز الشفاعة إن كان له ذنب وجاز أن يكون هو شفيعا لغيره. جعلنا الله من أهلها برحمته.

المسألة الخامسة عشرة من هذا الأصل

في إثبات الحوض والصراط والميزان وسؤال الملكين في القبر

أنكر ذلك الجهمية وأنكرت الضرارية أكثر ذلك. وزعم بعض القدرية أن سؤال الملكين في القبر إنما يكون بين النفختين في الصّور وحينئذ يكون عذاب قوم في القبر. وقالت السالمية بالبصرة : إن الكفار لا يحاسبون في الآخرة. وزعم قوم يقال لهم الوزنية : أن لا حساب ولا ميزان. وأقرت الكرّامية بكل ذلك كما أقر به أصحابنا غير أنهم زعموا أن منكرا ونكيرا هما الملكان اللذان وكّلا بكل إنسان في حياته. وعلى هذا القول يكون منكر ونكير كل إنسان غير منكر ونكير صاحبه. وقال أصحابنا إنهما ملكان غير الحفيظين على كل إنسان. وقالت الكرّامية في وزن الأعمال : إنها توزن أجسام يخلقها الله عزوجل بعدد الأعمال. وأجاز أصحابنا ذلك من طريق العقول غير أنّهم قالوا : إن الوزن يكون للصحف ، التي كتب فيها أعمال بني آدم ، لآثار رويت في ذلك. وقلنا في منكري الحوض لا سقاهم الله منه. ومنكر الصراط يزلّ عن الصراط إلى النار لا محالة. فأما الحال بين النفختين فإن الملائكة تموت في تلك الحال فكيف يصح السؤال فيها من بعضهم. وطريق إثبات ما ذكرناه من هذه المسألة الأخبار المستفيضة التي أجمع أهل النقل على صحتها. ولا اعتبار فيها بخلاف من ليس الحديث من صفته بعد ثبوت جواز ذلك كله في العقل. وفي إسقاط ابن سالم حساب الكفرة في الآخرة ردّ لقول الله عزوجل فيهم : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (١).

__________________

(١) سورة الغاشية آية ٢٥ و ٢٦.

١٩٥
١٩٦

الأصل الثاني عشر

من أصول هذا الكتاب في بيان أصول الإيمان

ومسائل هذا الأصل تشتمل على خمس عشرة مسألة هذه ترجمتها : مسألة في حقيقة الإيمان والكفر.

مسألة في حقيقة الطاعة والمعصية.

مسألة في زيادة الإيمان ونقصانه.

مسألة في جواز الاستثناء في الإيمان.

مسألة في إيمان من اعتقد تقليدا.

مسألة في إيمان الصبيان ووقت وجوب الإيمان.

مسألة في حكم من مات من ذراري المشركين.

مسألة في بيان حكم من لم تبلغه دعوة الإسلام.

مسألة في بيان من يقطع بإيمانه.

مسألة في الأفعال الدالة على الكفر.

مسألة في أديان الأنبياء قبل النبوة.

مسألة في بيان من يصح منه الطاعة ومن لا تصح منه.

مسألة في أقسام الطاعات والمعاصي.

مسألة في شرط الإيمان ومقدماته.

مسألة في حكم الدار وبيان ما يفصل بين داري الكفر والإيمان. فهذه مسائل هذا الأصل وسنذكر في كل واحدة منها مقتضاها إن شاء الله تعالى.

١٩٧

المسألة الأولى من هذا الأصل

في بيان حقيقة الإيمان والكفر

أصل الإيمان في اللغة : التصديق ، يقال منه آمنت به وآمنت له إذا صدقته ومنه قوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) (١) ، أي بمصدّق. فالمؤمن بالله هو المصدّق لله في خبره وكذلك المؤمن بالنبي مصدق له في خبره. والله مؤمن لأنه يصدق وعده بالتحقيق. وقد يكون المؤمن في اللغة مأخوذا من الأمان والله مؤمن أولياءه من العذاب. وفي معنى المسلم في اللغة قولان.

أحدهما : إنه المخلص لله العبادة من قولهم قد سلم هذا الشيء لفلان إذا خلص له.

والثاني : المسلم بمعنى المستسلم لأمر الله تعالى كقوله : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٢) أي استسلمت لأمره. ومعنى الكفر في اللغة الستر وإنما سمّي جاحد ربّه والمشرك به كافرين ، لأنهما سترا على أنفسهما نعم الله تعالى عليهما وسترا طريق معرفته على الأغمار. والعرب تقول : كفرت المتاع في الوعاء أي سترته [فيه]. وسمّي الليل كافرا لأنه يستر كل شيء بظلمته [قال الشاعر : في ليلة كفر النّجوم غمامها. ومنه سميت] الكفّارة لأنها تغطي الإثم وتستره وسمي الحراث كافرا لأنه يستر البذر في الأرض. فهذا أصل الإيمان والكفر في اللغة. فأما حقيقتهما على لسان أهل العلم فإن أصحابنا اختلفوا فيهما على ثلاثة مذاهب : فقال أبو الحسن الأشعري إن الإيمان هو التصديق لله ولرسله عليهم‌السلام في أخبارهم ولا يكون هذا التصديق صحيحا إلا بمعرفته. والكفر عنده هو التكذيب ، وإلى هذا القول ذهب ابن الراوندي والحسين بن الفضل البجلي (٣). وكان عبد الله بن سعيد يقول : إن الإيمان هو الإقرار بالله عزوجل وبكتبه وبرسله إذا كان ذلك عن معرفة وتصديق بالقلب ، فإن خلا الإقرار عن المعرفة بصحته لم

__________________

(١) سورة يوسف آية ١٦.

(٢) سورة البقرة آية ١٣١.

(٣) هو الحسين بن الفضل بن عمير البجلي الكوفي المفسر نزيل نيسابور كان آية في معان ـ

١٩٨

يكن إيمانا. وقال الباقون من أصحاب الحديث : إن الإيمان جميع الطاعات فرضها ونفلها. وهو على ثلاثة أقسام : قسم منه يخرج [صاحبه] به من الكفر ويتخلص به من الخلود في النار إن مات عليه. وهو معرفته بالله تعالى وبكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره من الله مع إثبات الصفات الأزلية لله تعالى ونفي التشبيه والتعطيل عنه ومع إجازة رؤيته واعتقاد سائر ما تواترت الأخبار الشرعية به. وقسم منه يوجب العدالة وزوال اسم الفسق عن صاحبه ويتخلص به من دخول النار وهو أداء الفرائض واجتناب الكبائر. وقسم منه [يوجب] كون صاحبه من السابقين الذين يدخلون الجنة بلا حساب وهو أداء الفرائض والنوافل مع اجتناب الذنوب كلها. وزعمت الجهمية أن الإيمان هو المعرفة وحدها. وروي عن أبي حنيفة إنه قال : الإيمان هو المعرفة والإقرار. وقالت النجارية : الإيمان ثلاثة أشياء : معرفة وإقرار وخضوع. وقالت القدرية والخوارج برجوع الإيمان إلى جميع الفرائض مع ترك الكبائر وافترقوا في صاحب الكبيرة : فقالت القدرية إنه فاسق لا مؤمن ولا كافر بل هو في منزلة بين المنزلتين. وقالت الخوارج كل من ارتكب ذنبا فهو كافر. ثم افترقوا بينهم : فزعمت الأزارقة منهم إنه كافر مشرك بالله. وقالت النجدات منهم إنه كافر بنعمة وليس بمشرك. وزعمت الكرّامية : أن الإيمان إقرار فرد وهو قول الخلائق ، بلى ، في الذر الأول حين قال الله تعالى لهم : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) (١). وزعموا أن ذلك القول باق في كل من قاله مع سكوته وخرسه إلى القيامة لا يبطل عنه إلا بالردة. فإذا ارتد ثم أقرّ ثانيا كان إقراره الأول بعد الردة إيمانا وزعموا أن تكرير الإقرار ليس بإيمان. وزعموا أن المنافقين كإيمان الأنبياء والملائكة وسائر المؤمنين. وزعموا أيضا أن المنافقين مؤمنون حقا وأجازوا أن يكون مؤمن حقا مخلدا في النار كعبد الله بن أبيّ (٢) رئيس المنافقين وأن يكون

__________________

ـ صاحب فنون وتعبد قيل إنه كان يصلي في اليوم والليلة ستمائة ركعة وعاش مائة وأربع سنين وروى عن يزيد بن هارون والكبار توفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين للهجرة.

(١) سورة الأعراف آية ١٧١.

(٢) هو عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين وهو القائل : لئن رجعنا الى المدينة ليخرجن الاعز منها الأذل ، فلما رجعوا من غزوة تبوك منعه ابنه عبد الله المفلح الصالح من دخول ـ

١٩٩

كافر حقا في الجنة كعمّار بن ياسر في حال ما أكره على كلمة الكفر لو مات فيه. واستدل من جعل جميع الطاعات إيمانا بظواهر الكتاب والسنة ، منها قول الله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) (١) أي صلواتكم إلى بيت المقدس ، فدل هذا على أن الصلاة إيمان. وفي آيات كثيرة دلالة على أن أصل الإيمان في القلب خلاف قول الكرّامية ، منها قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٢) ، وقال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) (٣). وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ليس الإيمان بالتحلّي ولا بالتمنّي ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل. والدليل على أن المنافقين غير مؤمنين خلاف قول الكرّامية قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) (٤) وكان المنافقون يوادّون من حاد الله ورسوله ، فدل على أنّهم لم يكونوا مؤمنين. وقال : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (٥) وفيه دليل على أن من لا هداية في قلبه فليس بمؤمن بربه. وفي رواية أهل البيت عن علي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان». وتواترت الرواية عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن (الإيمان بضع وسبعون شعبة ، أعلاها شهادة أن لا إله إلّا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق). وقد استقصينا هذه المسألة في كتاب مفرد في الإيمان.

المسألة الثانية من هذا الأصل

في بيان حقيقة الطاعة والمعصية

قال أصحابنا : إن الطاعة هي المتابعة. واختلف المتكلمون في حقيقتها ؛

__________________

ـ المدينة حتى يأذن له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم توفي في ذي القعدة من السنة التاسعة للهجرة.

(١) سورة البقرة آية ١٤٣.

(٢) سورة الحجرات آية ١٤.

(٣) سورة المائدة آية ٤١.

(٤) سورة المجادلة آية ٢٢.

(٥) سورة التغابن آية ١١.

٢٠٠