تفسير من وحي القرآن - ج ٢٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٤

سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحديبية ، فأقبل زوجها ـ مسافر من بني مخزوم ، وقال مقاتل : هو صيفي بن الراهب في طلبها ـ وكان كافرا ، فقال : يا محمد رد عليّ امرأتي فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا ، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل الله تعالى الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ) (١).

ربما كانت هذه الرواية صحيحة بالنسبة للأجواء التي أحاطت بالمضمون التشريعي للآية ، فتكون القضية هي أن توقف النبي عن إرجاع هذه المرأة ، قد يكون ناشئا من ملاحظته أن المعاهدة لا تشمل النساء ، بل تختص بالرجال (٢) ، في ما يمكن أن يكونوا قد لاحظوه من الخوف على هروب الرجال إلى النبي ، بعد أن أصبح في موقع القوة التي تجذب الناس إليه في ذلك المجتمع الذي يخضع للقوة رغبة أو رهبة ، مما قد يضعف مواقع المشركين ، أما النساء فليست واردة في الحساب ، لأنها ليست في الموقع الذي يمكنها من الهرب في وعي المجتمع هناك ، الأمر الذي لا يجعل القضية ملحوظة في المعاهدة وقد جاء الوحي مؤكدا لذلك. وربما كانت القضية لديه أنه كان لا يملك تشريعا منزلا من الله في هذه الواقعة ، فهل يحل إرجاع المرأة المسلمة إلى الزوج الكافر ، أو لا يحل ذلك؟ لأن التشريع المتدرج لم يكن قد تعرض إلى ذلك ، أو أنه لم يدخل في مفردات التفاصيل بحيث تشمل مثل هذه الحالة التي تدخل في صلب المعاهدة ، في ما يمكن أن يكون بمثابة الاستثناء من القاعدة

__________________

(١) أسباب النزول ، ص : ٢٣٦.

(٢) قال الجبائي : لم يدخل في شرط صلح الحديبية إلا رد الرجال دون النساء ، ولم يجز للنساء ذكر ، وإن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط جاءت مسلمة مهاجرة من مكة ، فجاء أخواها إلى المدينة فسألا رسول الله (ص) ردّها عليهما ، فقال رسول الله (ص) ، إن الشرط بيننا في الرجال لا في النساء ، فلم يردها عليهما.

تفسير الميزان ، ج : ١٩ ، ص : ٢٥٤.

١٦١

التحريمية العامة. وقد كان توقفه منطلقا من أن المعاهدات لا تشمل المواقع التي تتضمن الحرام الشرعي ، فكان يريد أن يعرف حكم الله ، فجاءت الآية لتضع القضية في نصابها الشرعي الصحيح.

وإذا لم تكن الرواية صحيحة ، فإن القضية تتصل بالموقف العام من هذه المسألة في الأجواء الإسلامية العامة ، في علاقات المشركين بالمسلمين ، في نطاق المعاهدات المكتوبة ، أو في نطاق الهدنة المعقودة بينهم بطريقة واقعية.

* * *

قيمة المرأة إسلاميا من خلال هذه الآيات

يمكن أن نستوحي من هذه الآيات ما يمنحه الإسلام للمرأة من قيمة كبيرة في الاستقلال العقيدي ، فليس لزوجها الحق في أن يفرض عليها عقيدته على أساس تبعيتها له ، بل هي إنسان مستقل يملك الفكر المستقل الذي يتحرك في نطاق العقيدة ، كما يملك الإرادة التي تؤكد الموقف والانتماء. كما يوحي إلينا ، من الناحية التاريخية ، إلى أيّ مدى كانت المرأة مستقلة في مستوى الإيمان الكبير ، بحيث كانت تترك زوجها وأهلها وأولادها ، فرارا بدينها ، حتى لا تسقط تحت تأثير الضغوط القاسية التي يحاول الكافرون ممارستها ضدها ليفتنوها عن دينها ، فكانت تتحمل الصعوبات الشديدة والسفر المجهد الطويل ، حتى تصل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتجد الحماية عنده ، كما تجد المناخ الذي تستطيع أن تتنفس فيه هواء الإسلام النقي.

وكان الوحي واضحا في تأكيده على المؤمنين الذين يمثلون المجتمع الإسلامي بأن يحققوا لهن الحماية إذا عرفوا صدق إيمانهن ، وثبات موقفهن.

١٦٢

وقد يكون في هذا بعض الإيحاء بحماية المرأة من كل ضغط يحاول استغلال ضعفها لإبعادها عن تفاصيل الالتزام الإسلامي ، في ما يعمل له الخط الكافر أو الخط المنحرف من فرض السفور والخلاعة والانحراف عليها ، أو من ممارسة القهر والعنف الجسدي والمعنوي ضدها ، لتترك الالتزامات العبادية والأخلاقية.

إن من الضروري على المجتمع المسلم دراسة الوسائل الكفيلة بمواجهة الضغوط الاجتماعية أو السياسية التي تبتعد بالمرأة المسلمة عن الانحراف ، عند ما تلجأ إلى الجماعة المسلمة لحمايتها من ذلك ، لأن مسألة الحماية ، في حالة الهجرة من بلاد الكفار إلى بلاد الإسلام ، لا تختص بهذا الجانب ، بل إنها تمثل النموذج في مسألة الانحراف الذي يمكن أن يمتد معناه إلى التفاصيل ، كما يتمثل في المبدأ.

* * *

امتحان المؤمنات المهاجرات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هذا نداء للمؤمنين ، باعتبارهم يمثلون القوة الضاغطة التي تملك أمر الحماية الواقعية بقيادة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ليواجهوا القوم الذين يأتون إلى المدينة للمطالبة بإرجاع هؤلاء النسوة إلى الكفار ، فلا يستطيعون إلى ذلك سبيلا.

(إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) معلنات إيمانهن على خط الإسلام وفرارهن بدينهن من ضغط الكفار الذين يعملون لفتنتهن عن ذلك ، ولمنعهن عن ممارسة الالتزامات الدينية ، (فَامْتَحِنُوهُنَ) لتتعرفوا طبيعة الموقف الحقيقي لهن ، إذا ما كان وليد بعض مشاكل شخصية في نطاق العلاقات الزوجية أو الأبوية ، أو نحو ذلك مما قد يستسلمن فيه لانحرافات أخلاقية

١٦٣

يخشين من نتائجها ، أو لسرقة مالية ، أو لأوضاع نفسية قلقة ، أو أنه وليد التزام ديني عميق لم يكن يملكن الامتداد فيه ولا الثبات عليه هناك ، وكنّ يستحلفن «ما خرجت من بغض ولا رغبة عن أرض إلى أرض ولا التماس دنيا وما خرجت إلا حبا لله ولرسوله» (١).

(اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) فهو الذي يعرف عمق الفكرة الإيمانية لدى المؤمن ، فلا يحتاج إلى اختباره وامتحانه من أجل المعرفة ، بل إن المسألة هي إيكال أمر المعرفة إلى المجتمع المسلم ليحدد موقفه على ذلك الأساس ، في ما يريد أن يتحمله من المسؤولية. وهكذا نلاحظ أن الله لم يقم موقف المجتمع المسلم من الأحداث الخفية على أساس الغيب ، في ما يوحي به إلى نبيّه ، بل ترك الأمر للوسائل المألوفة للمعرفة ، لأنه يريد من المسلمين أن يعيشوا التجربة الحية ، في ما يملكون من الوسائل العملية ، (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) في ما يظهر من الدراسة التفصيلية لأوضاعهن الواقعية ، ولأفكارهن الإيمانية ، ولاعترافاتهن الإسلامية ، ولإعلانهن الاستعداد للسير على خط الاستقامة في العقيدة والعمل (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) فقد قطع الله العلاقة الزوجية بينهن وبين الكافرين سواء كانت العلاقة الزوجية سابقة على الإيمان أو كانت لاحقة له ، في ما يريد الكافرون إجبارها عليها ، لأن الكافر لا يجوز له الزواج من المسلمة ، كما لا يجوز للمسلمة الزواج من الكافر أو المشرك ، (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) من المال الذي دفعوه مهرا لهن ، وذلك من أجل الحفاظ على طبيعة المعاهدة المعقودة بين المسلمين والكافرين التي تعمل على الإبقاء على الجو السلمي في ما بينهم ، مما يجعل الامتناع عن إرجاع زوجات الكافرين المؤمنات ، خاضعة للتعويض المالي على الأزواج ، مما يخفف من سلبياتها النفسية من خلال النظرة المادية التي تحكم الذهنية الموجودة في ذلك

__________________

(١) يراجع مجمع البيان ، م : ٥ ، ص : ٤١٠.

١٦٤

المجتمع في علاقة الرجل بالمرأة. (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) لأنهن يملكن الارتباط بعلاقة زوجية جديدة بعد انفساخ الزواج السابق بالإسلام ، ضمن الشروط الشرعية المعتبرة ، ومن بينها المهر الذي يدفعه المسلمون لهن ضمن عقد الزواج.

(وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) بالاستمرار على زوجيتكم لهن ، إذا أسلمتم وبقين على الكفر ، أو إذا كفرن بعد الإسلام ، فإن الله لا يحل للمسلم الزواج من كافرة بمعنى الإلحاد أو الشرك ، فإن الظاهر من السياق إرادة ذلك من هذه الفقرة في الآية ، فلا يشمل أهل الكتاب ، لأن القرآن لا يستعمل هذا المصطلح في الحديث عنهم ، مع ملاحظة أن إطلاق الكافرين عليهم ممكن من جهة الكفر برسالة الرسول ، وقد عبر عن ذلك في سورة البينة في قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) [البينة : ١] ، ولكنه أطلق ذلك مع ذكر كلمة «أهل الكتاب».

وقد جاء في بعض الأحاديث المأثورة عن أهل البيت عليه‌السلام ما يوحي بشمولها لأهل الكتاب ، مما جعلها ناسخة للآية الكريمة التي تبيح نكاح أهل الكتاب ، فقد جاء في الكافي بإسناده إلى زرارة عن أبي جعفر «محمد الباقر عليه‌السلام» عن قول الله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فقال : هذه منسوخة بقوله : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) (١).

ولكننا نلاحظ على هذا الحديث ما لاحظه العلماء ، بأن النسخ غير وارد ، لأن آية الممتحنة سابقة على آية المائدة نزولا ، فكيف يمكن للسابق أن ينسخ اللاحق ، فلا بد من تأويل الحديث أو طرحه.

(وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) إذا لحقت المرأة بالكفار ، (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) من مهر نسائهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين. (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) على أساس

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٩ ، ص : ٢٥٤.

١٦٥

التوازن في المعاملة المتبادلة بالمثل. (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فهو الذي يعلم صلاح عباده ، فيجري تشريعاته على أساس الحكمة في ما يأخذون به أو في ما يتركونه.

(وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ) أي إذا لحقت بعض زوجات المؤمنين بالكفار ، ولم يتمكن أزواجهن من استرجاع المهر ، (فَعاقَبْتُمْ) بأن نال الكفار منكم عقوبة بالغلبة عليهم والحصول على الغنيمة منهم ، (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) من صلب الغنيمة عوضا عما فاتهم من المهر الذي خسروه بذهاب زوجاتهم مما يضطرون معه للزواج من أخرى ... وهناك وجوه أخرى لتفسير الآية لا مجال لذكرها ، (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) في الوقوف عند حدوده في ذلك كله.

* * *

١٦٦

الآية

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٢)

* * *

كيف نفهم معنى بيعة الناس للرسول؟

للبيعة في المفهوم الإسلامي معنى الالتزام الشخصي العقيدي بالطاعة للقيادة في كل المضمون الذي تفرضه الرسالة المتحركة في خط القيادة ، ولهذا فإن هناك إيمانا بالرسول ، في معنى رسالته ، في ما يلتزمه المسلم في فكره وشعوره وحياته ، وهناك خضوع حركيّ في الانفتاح على حاكميته وقيادته في خط الطاعة. ولعل هذا هو الجواب على ما قد يثأر من أسئلة حول معنى البيعة للرسول ، لأن البيعة قد تعني العنوان الذي يحرك الالتزام الشخصي ليمنح

١٦٧

الموقف شرعية في علاقة الشخص المبايع بصاحب البيعة ، بحيث يستمد القائد أو الأمير شرعيته من خلال ذلك. وهذا مما لا معنى له في قضية الرسالة والرسول ، لأن الإيمان بهما ينطلق من مسألة الشرعية الإلهية التي حددت شخصية الرسول في حركة الرسالة.

وخلاصة الفكرة ، أنّ هناك بيعة تمنح الشرعية لصاحبها في ما يلتزم به الكثيرون من المسلمين بالنسبة إلى الأشخاص الذين لا يملكون شرعية في ولايتهم على الناس إلا بذلك ، وهذا مما لا مضمون له في بيعة الرسول ، أو الإمام ، في نظرية الإمامة ، ولكن هناك بيعة تعبر عن الالتزام الذاتي بالولاية بعد الالتزام العقيدي بها أو لتأكيده بالإعلان بهذا الالتزام بها ، وهذا هو معنى البيعة في الرسول ، أو الإمام.

* * *

بيعة النساء

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ) اللاتي دخلن في الإسلام وأعلنّ إيمانهن بالله وبالرسول (يُبايِعْنَكَ فَبايِعْهُنَ) ليعبرن لك عن التزامهن بهذا الخط في خط الرسالة ، وبقيادتك في حركة النبوة من مواقع استقلالهن في إرادة الانتماء للعقيدة التي يؤمن بها ، إذا إن المرأة ليست تابعة للرجل ليكون إيمانها على هامش إيمانه ، وبيعتها تابعة لبيعته ، لأنها إنسان مستقل في مسألة الإيمان والكفر ، والطاعة والمعصية ، وفي دائرة المسؤولية ، فلا يغني الأب عن ابنته ، ولا الزوج عن روجته ، ولا الولد عن والدته شيئا ، (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) لأن التوحيد هو القاعدة الثابتة للعقيدة الإسلامية ، وهو العنوان الشامل لكل تطلعات الإنسان في فكره وعمله ، باعتبار أنه يؤكد الالتزام بوحدانية الله

١٦٨

في الألوهية والعبادة والطاعة ، بحيث تختصر مفردات الإسلام كلها ، فهو النافذة التي تطل على الدين كله ، ولعل التعبير عن التوحيد ، الذي هو عقيدة إيجابية ، بالامتناع عن الإشراك الذي هو حالة سلبية ، من جهة أن الواقع الذي يعيش فيه المجتمع آنذاك هو واقع الشرك العبادي الذي كان يلتقي بالعقيدة بالله ، في ما كانوا يعتقدونه في الأصنام بأنها تقربهم إلى الله زلفى ، حيث كانوا يقدمون لها فروض العبادة ، الأمر الذي كان يفرض التأكيد على رفض الشرك فكرا وعملا لتتخلص العقيدة بالله من شوائب الشرك ، وليكون التوحيد هو الخط الذي يلتزمونه في الإيمان بالله ، ورفض الشرك في العقيدة والعبادة.

(وَلا يَسْرِقْنَ) لتكون المرأة أمينة على مال زوجها وأهلها وكل الناس من حولها ، فإن الأمانة من الأخلاق الأصيلة في التخطيط الأخلاقي للشخصية المسلمة. (وَلا يَزْنِينَ) لأن الزنى يؤدي إلى اختلال الأوضاع الأخلاقية الاجتماعية في المسألة الجنسية التي أراد الله لها أن لا تتحرك بعيدا عن البيت الزوجي ، لئلا تتحول العلاقات ، في هذا الإطار ، إلى ما يشبه الفوضى التي تسيء إلى الكثير من قضايا المجتمع في نظامه العام. (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) ، سواء كان ذلك بالإجهاض أو بالقتل المتعمد بالطريقة المألوفة. (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) وذلك بأن ينسبن أولادهن إلى غير آبائهن من خلال علاقات الزنى التي تؤدي إلى حمل الزوجة من أجنبيّ ثم تكذب على زوجها وتفتري عليه ، بنسبة الولد إليه. ولعل التعبير بالبهتان الذي (يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) ، باعتبار أن الولد إذا سقط في حال الوضع فإنه يسقط بين يدي الأم ورجليها.

(وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) في كل ما تأمرهن به من الطاعة في فعل الخير والامتناع عن الشر ، لتكون البيعة التزاما بالمعروف كله في ما يأمر به النبي من موقع رسالته وقيادته ، وبذلك يشمل رفض المعصية ، الواجبات

١٦٩

والمحرمات.

(فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) في ما أخطئوا فيه ، وفي ما انحرفوا عنه ثم تابوا منه إلى الله.

ولعل التأكيد على هذه الأمور في مضمون البيعة من جهة أنها تعبّر عن بعض القضايا الملحة في الأوضاع التي تعيشها المرأة أمام قضايا الانحراف ، وبذلك تكون نموذجا لكل مواقع الانحراف في المحرمات التي يمكن للمرأة أن ترتكبها ، لأن البيعة تتحرك في الالتزام بالإسلام كله ، لا ببعض أحكامه وقضاياه.

وقد جاء في الكافي بإسناده عن أبان عن أبي عبد الله «جعفر الصادق عليه‌السلام» قال : لما فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكة بايع الرجال ثم جاءت النساء يبايعنه ، فأنزل الله عزوجل (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) إلى آخر الآية.

قالت هند : أما الولد ، فقد ربّيناهم صغارا وقتلتهم كبارا ، وقالت أم حكيم بنت الحارث بن هشام ، وكانت عند عكرمة بن أبي جهل : يا رسول الله ما ذاك المعروف الذي أمرنا الله أن لا نعصيك فيه؟ قال : لا تلطمن خدا ، ولا تخمشن وجها ، ولا تنتفن شعرا ، ولا تشققن جيبا ، ولا تسودن ثوبا ، ولا تدعين بويل. فبايعهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذا.

فقالت : يا رسول الله كيف نبايعك؟ قال : إنني لا أصافح النساء ، فدعا بقدح من ماء ، فأدخل يده فيه ثم أخرجها ، فقال : أدخلن أيديكن في هذا الماء (١).

وجاء في تفسير القمي بإسناده عن عبد الله بن سنان قال : سألت أبا عبد

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٩ ، ص : ٢٥٥.

١٧٠

الله «جعفر الصادق عليه‌السلام» عن قول الله : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) قال : هو ما فرض الله عليهن من الصلاة والزكاة وما أمرهن به من خير (١).

وهذا يؤكد شمولية المعروف ، ويشير إلى أن التركيز على عدم لطم الخدود وشق الجيوب ونحوهما كان بمثابة النموذج ، لا بمثابة التفسير.

وقد استفاد الفقهاء من الرواية السابقة ومن أمثالها ، حرمة مصافحة المرأة الأجنبية للرجل الأجنبي ، فإن النبي لم يمتنع عن مصافحتهن في مقام البيعة ، انطلاقا من حالة ذاتية ، بل من حالة شرعية ، وتمام الكلام في ذلك موكول إلى الفقه.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ١٩ ، ص : ٢٥٦.

١٧١

الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) (١٣)

* * *

(لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وهذا هو النداء الذي ختم الله به الآية بالمضمون الذي بدأه بها ، ولكن بأسلوب آخر ، (لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) وهم اليهود ، أو كل الذين تمردوا على الله في رسالاته ، لأن عنوان الغضب يشمل الجميع ، (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) فلا طمع لهم في ثوابها ، ولا رجاء لهم في الوصول إليها ، (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ) وهم المنكرون للآخرة ، (مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) لأنهم يعتقدون أن الدنيا هي نهاية المطاف ، فلا مجال للقاء بالموتى بعد الموت ، فليحذر المؤمنون منهم لأنهم يمثلون الانحراف الممتد في عمق حركة الالتزام في الحياة.

* * *

١٧٢

سورة الصف

مدنية

وآياتها أربع عشرة

١٧٣
١٧٤

في أجواء السورة

في هذه السورة المدنية حديث متنوع عن عدة قضايا ترتبط في ما بينها بحركة الرسالة في بعض مواقعها ، وفي الخط التاريخي الذي يطل على أجواء النبوات ، ليعود بعد ذلك فيثير مسألة الالتزام الحركي في حياة المسلمين الذي يجعل الترابط بين الإيمان والجهاد كجزء من الترابط العام بين القول والفعل ، ليصل بعد ذلك إلى الدعوة إلى الانضمام إلى الرسالة بالمستوى الذي يكون المؤمنون أنصار الله كما كان الحواريون المؤمنون بعيسى عليه‌السلام أنصار الله ، ليكونوا الجماعة المميزة الملتزمة بالخط الرسالي ، في مقابل الجماعات الكافرة التي تعيش الضلال على مستوى العقيدة والعمل.

* * *

اسم السورة

أمّا كلمة «الصف» ، فقد جاءت عنوانا للسورة من خلال الآية الكريمة (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) باعتبار أن العمق الفكري للآية هو الجهاد القتالي الذي يتحرك فيه المسلمون في وحدة

١٧٥

الصف التي لا تترك فيه مجالا لأية ثغرة ينفذ منها الأعداء إلى المجتمع الإسلامي.

* * *

١٧٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) (٤)

* * *

معاني المفردات

(مَقْتاً) : المقت : البغض الشديد.

(صَفًّا) : جعل الأشياء على خط مستو كالناس والأشجار.

(بُنْيانٌ) : البناء.

(مَرْصُوصٌ) : من الرصاص ، والمراد به ما أحكم من البناء بالرصاص

١٧٧

فيقاوم ما يصادمه من أسباب الانهدام.

* * *

وجوب اقتران القول بالفعل

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) هذه هي الفاتحة التسبيحية للسورة التي يتحسس فيها المؤمن الوجود كله ، وهو يسبح الله في الإعلان عن انفعاله التكويني والإرادي بعظمته تعالى ، ليعيش المؤمن عظمة الله في وعيه الفكري والروحي فينفتح على المسؤولية من خلال ذلك ، وينطلق إلى الجهاد في سبيل الله من هذا الموقع.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الذي يمنح القوة لأوليائه من خلال أن العزة له جميعا ، ويخطط لهم منهج الحياة على أساس المصلحة الحقيقية من خلال أنه الحكيم المطلق.

* * *

(لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ؟)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) هذا هو الخط الإيماني الذي يريد الله من المؤمنين أن يتحركوا فيه ، على أساس أن الإيمان ليس مجرد كلمة تقال ، ولا تمنيات تعيش في دائرة الشعور ، بل هو عقيدة تجتذب الفعل ، وشعور يتحرك في الموقف. فالمضمون الإيماني في الإسلام يعني العقيدة والشريعة والمنهج في ما تلتقي عليه من التخطيط لحركة الإنسان في الحياة ، وبنائها على أساس رضا الله ، ولا بد للوصول إلى ذلك من الالتزام الجدي

١٧٨

الفاعل الذي يجسد التطابق بين القول والفعل ، لأن الهدف الإسلامي هو تغيير الحياة والإنسان ، ولأن الانحراف عن ذلك يعني إرباك حركة القيادة في مواجهة التحديات ، مما يؤدي إلى اهتزاز الوضع الإسلامي كله ، وإفساح المجال للفئات المضادة أن تسيطر على المسلمين ، من خلال اختلال مواقع القوة في الميزان الإسلامي ، لا سيما إذا كانت المسألة تتصل بالجانب العسكري الذي يواجه فيه الواقع الإسلامي هجوم الأعداء وحصارهم للمسلمين ، من أجل القضاء على الإسلام أو إخضاع المسلمين للسيطرة الكافرة. وربما كانت هذه الآيات نداء جهاديا في ما جاءت به أحاديث أسباب النزول ، فقد روي عن ابن عباس قال : كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون : وددنا أن الله دلّنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به ، فأخبرهم الله أن أفضل الأعمال إيمان لا شك فيه ، والجهاد ، فكره ذلك أناس وشق عليهم وتباطأوا عنه ، فنزلت الآية (١).

وهذا هو الخط الذي ينبغي أن تتحرك التربية الإسلامية على أساسه من أجل صياغة الإنسان المسلم صياغة إسلامية على أساس أن يكون تجسيدا عمليا للإسلام في مفهومه وشريعته.

* * *

(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) وذلك هو غاية الفظاعة في ما يمكن أن يوجه إلى المؤمن عند ما يتطلع إلى نفسه وإلى موقعه من ربه ، فيرى نفسه ممقوتا منه أشدّ المقت ، ومبغوضا أشدّ البغض ، بينما يفرض عليه إيمانه أن ينال المحبة من الله ، للحصول على رحمته التي هي أساس خلاصه

__________________

(١) مجمع البيان ، م : ٥ ، ص : ٤١٧.

١٧٩

وسعادته في الدنيا والآخرة. وهذا مما يوحي إليه بخطورة المسألة التي لم يعهد التعبير عن غيرها بهذا الأسلوب العنيف الذي يضع المسألة في أعلى درجة من الأهمية ، لأنّه يمثل في النطاق الذاتي لونا من ألوان الخداع والغش في إعلان الموقف الإيماني الذي يعني الميثاق مع الله على تحويل ذلك إلى موقف عملي. وأية جريمة أعظم من جريمة خداع الإنسان لربه. أما في النطاق الاجتماعي ، فإنه يمنع قيام أية ثقة اجتماعية بين الناس في ما يتحركون به على مستوى العلاقات والمعاملات على أساس ما يعلنونه من التزامات الإيمان ، عند ما تكون الأخلاق العامة في هذا المستوى السلبي من الوفاء بالالتزامات الخاصة والعامة ، أو ما يثيرونه من الالتزامات الخاصة في ما بينهم. وأما في نطاق الدولة ، فإنه يمنع القيادة من الشعور بالقوة أمام المشاكل الصعبة والتحديات الكبيرة التي تواجهها في مسألة الأمن والنظام ، مما يؤدي إلى اختلال النظام العام للأمة بالمستوى الذي يعرضها للضعف ويدفعها في نهاية المطاف إلى السقوط والانهيار.

وعلى ضوء ذلك ، فإنّ هذه القيمة الأخلاقية ـ وهي التطابق بين القول والفعل ـ تمثل العمق الإيماني الذاتي على مستوى الفرد ، والقيمة الاجتماعية على مستوى تماسك المجتمع في علاقاته العامة والخاصة ، والأساس القوي لقوة الدولة في التزام الأمة بالقيادة في مسئولياتها العامة.

وإذا كانت الرواية السابقة قد ذكرت نزول الآيتين في حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الجهاد ، فإن ذلك يمثل النموذج الحي الذي يعطي الخط العريض لكل النماذج الأخرى في كل أحكام الإسلام وشرائعه.

* * *

١٨٠