أصول الفقه - ج ٩

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٩

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-82-9
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٠٢

وضعي مجعول ابتدائي الخ (١). وفيه تأمّل أيضاً ، فإنّ المراد بالتأسيس ليس هو اختراع النوع ، بل هو اعتبار الملكية مثلاً في مورد لم يعتبرها العقلاء كما في ملكية الفقراء للزكاة مثلاً.

قوله : غايته أنّ موضوعات التكاليف إنّما تكون من المخترعات الشرعية كنفس التكاليف (٢).

وقوله : وأمّا موضوعات الأحكام الوضعية فقد تكون تأسيسية ، وقد تكون إمضائية كنفس الحكم الوضعي ، فالأوّل كأخذ السيادة والفقر موضوعاً لتملّك السادات والفقراء الخمس والزكاة ، فإنّه لو لم يعتبر الشارع ذلك لا تكاد تكون السيادة والفقر موضوعاً للتملّك ... الخ (٣).

يظهر من صدر العبارة أنّ موضوع الحكم التأسيسي لابدّ أن يكون تأسيسياً ومخترعاً شرعياً ، كنفس الحكم المجعول لذلك الموضوع ، لكنّه لم يظهر وجهه والواقع خلافه ، إذ كثيراً ما يكون موضوع الحكم التكليفي أمراً تكوينياً ، مثل الدلوك ورؤية الهلال ، إلى غير ذلك من موضوعات الأحكام الشرعية التكليفية ، وهكذا الحال في الحكم الوضعي التأسيسي ، فإنّ موضوع الملكية في الزكاة هو الفقير وكذا في الخمس هو الهاشمي ، وليسا من المخترعات الشرعية.

نعم ، هنا أمر آخر ـ أشار إليه بقوله : فإنّه لو لم يعتبر الشارع ذلك ( أي ملكية الزكاة ) لا تكاد تكون السيادة والفقر موضوعاً للتملّك ، وبقوله : فإنّ العاقل البالغ

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٧٥.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٣٨٨.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٣٨٨.

١٦١

المستطيع لا يكاد يكون موضوعاً لوجوب الحجّ ما لم يجعله الشارع موضوعاً ليترتّب عليه وجوب الحجّ ـ وهو أنّ موضوعية الموضوع منتزعة من جعل الحكم وارداً عليه ، نظير السببية والشرطية لما هو شرط التكليف وسببه ، بل سيأتي أنّ موضوعية الموضوع عين سببية السبب وشرطية الشرط ، لكن هذا ـ أعني كون موضوعية الموضوع منتزعة من جعل الحكم له ـ لا دخل له بما هو الظاهر من صدر العبارة ، وهو كون الموضوع للحكم التأسيسي من المخترعات الشرعية ، مضافاً إلى أنّ كون موضوعية الموضوع منتزعة من جعل الحكم له لا يختصّ بكون الجاعل للحكم هو الشارع ، بل هو جارٍ في الأحكام المجعولة عرفاً ، فتأمّل.

وقال السيّد سلّمه الله في تحريره : ثمّ إنّ ما ذكرناه من كون الأحكام الوضعية كلّها إمضائية غير تأسيسية إنّما هو بالقياس إلى أنفسها ، وأمّا بالقياس إلى موضوعاتها فقد تكون تأسيسية وقد تكون إمضائية ، مثلاً اعتبار الملكية بنفسه أمر إمضائي ، ولكن اعتبار الفقير أو السيّد موضوعاً لها فهو تأسيسي لا إمضائي ، إذ ليس من هذا الاعتبار عند العقلاء عين ولا أثر ... الخ (١).

وفيه تأمّل ، لما عرفت من أنّ المراد من التأسيس ليس هو اختراع النوع ، بل هو اعتبار الملكية مثلاً في مورد لم يعتبرها العقلاء فيه ، كما في ملكية الزكاة. وعلى كلّ حال ، فحاصل ما أُفيد هو كون التأسيس في الموضوع لا في الحكم ، وذلك عبارة أُخرى عن التأسيس في جعل ذلك الحكم لذلك الموضوع ، فلا يكون قولنا إنّه تأسيس في الموضوع للحكم العرفي إلاّمن قبيل تغيير العبارة ، ومن الواضح أنّ العقلاء عندهم حكم هو الوجوب وهو التحريم ووو ، فنقول : إنّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٧٥.

١٦٢

الشارع قد أسّس موضوعات تلك الأحكام ومتعلّقاتها بجعله الوجوب وارداً على الصلاة مثلاً ، فيكون لازم ذلك أنّ جميع الأحكام التكليفية إمضائية لا تأسيسية ، لأنّ التأسيس في الحكم بمقتضى هذه العبارة أن يكون بنوعه أو بجنسه مخترعاً ، بحيث إنّه لا يوجد مثله عند العقلاء ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : الأمر الخامس قد تقدّم منّا مراراً أنّ المجعولات الشرعية ليست من القضايا الشخصية الخارجية ... الخ (١).

هذا في الأحكام الكلّية ، وأمّا الأحكام الشخصية الخاصّة فهي لا تخرج عن كونها أحكاماً شرعية ، غايته أنّها ليست قانونية عامّة ، بل خاصّة بخصوص بعض المكلّفين مثل أحكامه الخاصّة ، ومثل بعض التكاليف الخاصّة لبعض الصحابة ، سواء كانت وضعية أو كانت تكليفية. وبالجملة : لا وجه لحصر المجعولات الشرعية بالكلّيات ، بل هناك أحكام شرعية ومجعولات شرعية هي غير كلّية. نعم لا بحث لنا عنها وإن وقع فيها البحث في الفقه ، مثل تحريرهم في باب النكاح خصائص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قوله : نعم ، جرى الاصطلاح على التعبير عن الأمر الذي رتّب الحكم الوضعي عليه بالسبب ، فيقال : إنّ العقد سبب للملكية والزوجية ... الخ (٢).

قد حقّق قدس‌سره في محلّه أنّ العقود ليست من الأسباب للمعاملة المنشأة بها بل هي آلات إنشائها ، وحينئذ فالأولى للتمثيل للسبب في باب المعاملات بالتنكيل وملكية العمودين فإنّهما سبب للانعتاق ، ونحو ذلك من الأسباب ، والأمر سهل.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل في قوله في الأمر السادس في التمثيل لشرائط

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٨٨.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٣٨٩.

١٦٣

المجعول في الأحكام الوضعية ، بقوله : وكالعقد المؤلّف من الايجاب والقبول الذي جعل موضوعاً للملكية والزوجية (١) ، وهكذا الحال فيما أفاده في التمثيل للجزئية والشرطية المنتزعة عن الوضع بقوله : والثاني كالملكية المترتّبة على العقد المركّب من الايجاب والقبول بما له من الشرائط والموانع (٢).

قوله : أمّا الأُولى فكالأُمور الاعتبارية العرفية كالملكية والرقّية والزوجية والضمان وغير ذلك ـ إلى قوله ـ وليست منتزعة عن الأحكام التكليفية ... الخ (٣).

لكن حيث إنّها من مقولة المسبّبات ، تكون داخلة في الخلاف الآتي في أنّ المجعول هو السببية أو المسبّب.

قوله : وليست منتزعة من الأحكام التكليفية بل في بعضها لا يتصوّر ما يصلح لأن يكون منشأ الانتزاع كالحجّية والطريقية ... الخ (٤).

تقدّم الكلام (٥) في الحجّية وما هو التكليف في موردها ، كما أنّه تقدّم الكلام (٦) على هذا النحو من الأحكام الوضعية أعني الملكية وأخواتها ، وأنّه لا محصّل لكونها منتزعة من التكليف ، ولا محصّل لكون التكليف منتزعاً منها ، وأقصى ما في البين أن يكون هذا النحو من الوضعيات موضوعاً للأحكام

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٩٠.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٣٩٣.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٣٩٢.

(٤) فوائد الأُصول ٤ : ٣٩٢.

(٥) راجع المجلّد السادس ، الصفحة : ٢٩٨.

(٦) في الصفحة : ١٥٧.

١٦٤

التكليفية في مورده دون [ العكس ].

وربما كان ذلك الحكم الوضعي موضوعاً لحكم وضعي آخر كما عرفت من ملكية أحد العمودين في كونها موضوعاً للانعتاق ، فلو قلنا مثلاً بأنّ مجرّد الملكية لا توجب الانعتاق ، بل اعتبرنا فيه كون المملوك مسلماً مثلاً ، أو كون المالك غير مديون ، أو كون ذلك بعد أداء الثمن الذي اشتراه به ، كان ذلك مثالاً للثاني الذي ذكره ، أعني ما يكون من الجزئية والشرطية منتزعاً من جعل الحكم الوضعي ، فإنّه أولى من المثال بأجزاء العقد وشرائطه ، لما عرفت من أنّ العقد آلة لايجاد ذلك الأمر الاعتباري الذي هو الملكية ، لا أنّه موضوع أو شرط أو سبب لذلك الأمر الاعتباري. ولكن مع ذلك لا يخلو المثال بالعقد وأجزائه وشرائطه من المناسبة ، فإنّ جزئية الايجاب مثلاً وشرطية ماضويته وعدم التعليق فيه أيضاً منتزعة من اعتبار الملكية عند إيجادها بتلك الآلة. والحاصل : أنّ أجزاء العقد وشرائطه من الانتزاعيات ، لكن ليست أجزاء السبب للملكية ولا أجزاء موضوع الملكية ، بل هي أجزاء آلة إيجاد الملكية.

قوله : سواء كان منشأ الانتزاع تكليفاً أو وضعاً ، فالأوّل كالتكليف بعدّة من الأُمور ... الخ (١).

لا يخفى أنّ الجزئية والشرطية والمانعية في باب التكاليف لا تنحصر في جزء المكلّف به أو شرطه أو مانعه ، بل تجري في جزء موضوع التكليف أو شرطه أو مانعه ، لكن هذه في الحقيقة أجزاء وشرائط وموانع للسبب ، غايته أنّ السبب تارة يكون سبباً لأمر وضعي وأُخرى لأمر تكليفي ، كما في مثل سببية الدلوك للوجوب المتعلّق بالصلاة ، أو سببية السفر بشروطه للزوم القصر ، أو

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٩٣.

١٦٥

سببية الافطار العمدي لوجوب الكفّارة وهكذا.

وبالجملة : الأولى في باب الجزئية والشرطية والمانعية تثليث الأقسام ، فإنّ الجزء إمّا أن يكون جزء المكلّف به ، أو يكون جزء موضوع التكليف ، أو يكون جزء السبب في الوضعيات ، وهكذا الحال في الشرط والمانع ، لكن هذه الأقسام كلّها منتزعة من جعل التكليف أو الوضع.

قوله : فإنّ هذه الأُمور كلّها انتزاعية لا تنالها يد الجعل التأسيسي والامضائي ، لا استقلالاً كجعل وجوب ذي المقدّمة ، ولا تبعاً كجعل وجوب المقدّمة ... الخ (١).

قد حرّرت في هذا المقام عنه قدس‌سره ما حاصله : أنّه لم يعلم ماذا أراد القائلون بكون هذه الأُمور ـ أعني الجزئية والشرطية والمانعية ـ مجعولة ، فهل المقصود أنّها مجعولة ابتداءً في عرض جعل ما رتّب عليها من وضع أو تكليف ، فهما من قبيل الوجوبين المتعلّقين بالمتلازمين ، كاستقبال القبلة واستدبار الجدي في كون وجوب كلّ منهما مجعولاً بجعل مستقل وارد على القدر المشترك بينهما ، لأنّ جعل الوجوب وارداً على كلّ واحد منهما مستقلاً يوجب كون المجعول ابتداءً هو ما يبدأ به ، ويكون الآخر مجعولاً بالتبع. ومنه يظهر أنّ مثل هذين الوجوبين يمكن أن يجعلا معاً بجعل واحد وارد على القدر المشترك ، ويمكن جعل أحدهما ابتداءً وصيرورة الآخر مجعولاً بالتبع قهراً.

أو أنّ مرادهم أنّ هذه الأُمور هي المجعولة ابتداءً ويكون ما يلحقها من وضع أو تكليف مجعولاً قهراً بالتبع ، أو أنّ الأمر بالعكس.

وعلى كلّ حال ، فإنّ المختار لنا هو أنّ هذه الأُمور غير مجعولة لا بالأصالة

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٩٢ ـ ٣٩٣.

١٦٦

ولا بالتبع ، سواء كانت مضافة إلى سبب الوضع ، كالعقد المؤلّف من إيجاب وقبول والمشروط فيه العربية مثلاً المعتبر فيه عدم الربا ، أو كانت مضافة إلى شرط التكليف ، كما إذا فرض أنّ وجوب إكرام زيد كان مشروطاً بالمركّب من مجيء عمرو ومجيء خالد معه وأن لا يكون معهما بكر مثلاً ، أو كانت مضافة إلى متعلّق التكليف كما في التكليف بالصلاة المركّبة من أجزاء وشرائط وفقد موانع ، فإنّ الجزئية والشرطية والمانعية في هذه الأقسام الثلاثة لا تكون مجعولة لا أصالة ولا تبعاً ، بل تكون منتزعة ، ففي القسمين الأوّلين تكون منتزعة من ترتّب التكليف أو الوضع على ذلك الموضوع المؤلّف من الأجزاء والشرائط وفقد الموانع.

بيان ذلك : أنّا قد بيّنا في العلّة التكوينية المؤلّفة من أجزاء وشرائط وفقد موانع أنّه لا يكون لجزئية تلك الأجزاء وشرطية تلك الشروط ومانعية تلك الموانع ما بحذاء في الخارج وعالم التكوين ، إذ ليس الموجود في ذلك العالم إلاّ تأثير المقتضي الذي هو النار مثلاً في المعلول الذي هو الاحتراق مع قرب النار من الحطب وعدم المانع من التأثير ، فلا يكون اقتضاء المقتضي ولا شرطية الشرط المذكور ولا مانعية المانع المذكور إلاّ أُموراً انتزاعية منتزعة من ذلك التأثير بالكيفية الخاصّة ، نظير انتزاع صفة التقدّم والتأخّر من اتّصاف الشيء بكونه موجوداً في هذا المكان أو في هذا الزمان.

وإذا تحقّق أنّ الجزئية والشرطية والمانعية بالاضافة إلى العلل التكوينية ليست مجعولة في عالم التكوين ، بل هي منتزعة من تكوين العلّة والمعلول ، لعدم ما بازاء لها في عالم التكوين ، نقول : إنّ الشرطية والجزئية والمانعية في عالم التشريع لمّا لم يكن لها ما بازاء في عالم التشريع ، لا تكون إلاّ أُموراً منتزعة عمّا هو المجعول الذي يكون له ما بحذاء في عالم الجعل والتشريع ، وهو ما رتّب

١٦٧

عليها من وضع أو تكليف.

وأمّا نسبة هذه الأُمور إلى متعلّق التكليف فكذلك أيضاً لا تكون إلاّمنتزعة من نفس ذلك التكليف ، مثلاً جزئية السورة من الصلاة قبل تعلّق الأمر بها لا يكون لها تحقّق في عالم التشريع ، فإنّ الشارع وإن أمكنه أن يتصوّر الصلاة مركّبة من السورة ، إلاّ أن هذا التصوّر بالنسبة إلى جعل الجزئية وجوده كعدمه ، فكما أنّ صفحة التشريع قبل هذا التصوّر تكون خالية من جزئية السورة ، فكذلك تكون خالية منها بعد تصوّر الصلاة مركّبة منها ، ولو صرّح ألف مرّة بأني جعلت السورة جزءاً من الصلاة لا تكون السورة جزءاً منها بحيث يصدق عليها أنّها جزء المأمور به ، ما لم يكن ذلك التصريح كاشفاً عن تعلّق الأمر بالصلاة المركّبة منها ، ولو تعلّق الأمر بالصلاة المركّبة من السورة كانت السورة جزءاً من المأمور به قهراً ولو صرّح بأنّها ليست عندي جزءاً ، ما لم يكن ذلك عدولاً عن تعلّق الأمر بالمركّب منها.

ثمّ إنّه بعد الأمر بالصلاة المركّبة من السورة تكون السورة جزءاً من الصلاة المأمور بها ، إلاّ أنه لمّا لم يكن للجزئية ما بحذاء في عالم التشريع ، بل لم يكن في ذلك العالم ما له بحذائه شيء سوى تعلّق الأمر بالصلاة المركّبة من السورة ، لم تكن الجزئية المذكورة مجعولة لا بالأصالة ولا بالتبع. أمّا الأوّل فواضح ، لأنّ المجعول الابتدائي إنّما هو الوجوب المتعلّق بالمركّب. وأمّا الثاني فلما عرفت من أنّه لابدّ في المجعول الشرعي سواء كان أصلياً أو تبعياً من أن يكون له ما بحذاء في عالم التشريع ، وقد عرفت أنّه ليس للجزئية ما بازاء في عالم التشريع ، وأنّه ليس في صفحة ذلك العالم سوى جعل الوجوب المتعلّق بالمركّب من السورة ، وحينئذ لا تكون الجزئية المذكورة إلاّ أمراً انتزاعياً منتزعاً من ذلك المجعول

١٦٨

الشرعي ، وهو تعلّق الوجوب بالمركّب من السورة. وبعبارة أُخرى : تكون الجزئية منتزعة من ذلك الأمر الضمني المتعلّق بالسورة في ضمن تعلّقه بالمركّب منها. وهكذا الحال في الشرطية والمانعية.

واعلم أنّ هذا التقريب بعينه يتأتّى في إضافة هذه الأُمور إلى شرط التكليف وفي إضافتها إلى سبب الوضع ، هذا ما كنت حرّرته سابقاً ، ولكن تقدّم التأمّل في ذلك كلّه فراجع (١).

والذي تلخّص : أنّ الجزئية إمّا أن تكون في عالم التشريع نظير الفوقية المنتزعة من جعل جسم فوق آخر ، بأن تكون الجزئية لا واقعية لها إلاّذلك الأمر الانتزاعي الذي لا واقعية له في عالم التشريع ، فضلاً عن عالم الأعيان. وإمّا أن تكون مجعولة تبعاً لجعل الوجوب الضمني في ضمن وجوب الكل ، مثل وجوب المقدّمة بالنسبة إلى وجوب ذي المقدّمة ، على وجه يكون ذلك الوجوب الضمني الوارد على الركوع مثلاً موجباً لانجعال الجزئية للركوع. وإمّا أن تكون مجعولة ثانياً بعد الجعل الأوّلي الذي هو الوجوب الضمني ، فتكون في ذلك على العكس من الملكية وآثارها التكليفية ، غايتها أنّ الأمر في الجزئية بالعكس ، بمعنى أنّ المجعول أوّلاً هو التكليف الضمني ، وبعد تحقّق الوجوب الضمني للجزء يجعل الجزئية له ، ويكون نسبة ذلك الحكم التكليفي إلى الحكم الوضعي كنسبة الموضوع إلى الحكم. والأوّل هو المختار لشيخنا قدس‌سره ، لكنّه قدس‌سره حسب هذا التحرير الذي نقلته عنه لم يتعرّض لإبطال الوجهين الآخرين ، واقتصر في هذا التحرير على بيان مختاره وهو الوجه الأوّل.

فنقول : أمّا الوجه الثاني فهو باطل ، لبطلان أساسه وهو كون الحكم

__________________

(١) لم يتقدّم ذلك ولكن سيأتي في الحاشية اللاحقة في الصفحة : ١٧٢ وما بعدها.

١٦٩

المجعول غير اختياري للجاعل. ومنه يظهر أنّه لا محصّل لانوجاب المقدّمة بإيجاب ذيها ، بل هما وجوبان مستقلاّن غايته أنّهما متلازمان ، بمعنى أنّه إذا أوجب ذا المقدّمة لزمه إيجاب نفس المقدّمة.

وأمّا الوجه الثالث وهو جعل الجزئية لما هو واجب ضمناً ، بأن يكون مورد الحكم التكليفي موضوعاً لما هو الحكم الوضعي ، فهو وإن كان ممكناً إلاّ أنه ليس بأولى من عكسه ، وهو جعل مورد الوجوب الضمني موضوعاً لما هو الحكم الوضعي (١) ، بأن يجعل الوجوب لما هو جزء في عالم التشريع على ما حرّرناه (٢) من أنّ جعل الجزئية سابق في الرتبة على جعل الحكم التكليفي ، هذا.

مضافاً إلى أنّ ما نحن فيه لا يمكن أن يجعل الجزئية حكماً لما هو واجب ضمناً ، لأنّ ما هو واجب ضمناً هو نفس الجزء ، فلابدّ أن تكون الجزئية هي السابقة ، وهذا بخلاف مسألة الملكية وجواز التصرّف ، فإنّه يمكن أن يدّعى أنّ جواز التصرّف حكم وارد على ما وقع عليه العقد من دون أخذ الملكية فيه ، وبعد أن صار يجوز التصرّف فيه يحكم عليه بأنّه ملك ، وإن قلنا فيما تقدّم ببطلانه ، نظراً إلى أنّ جواز التصرّف لم يرد إلاّعلى الملك لا على ما وقع عليه العقد مع قطع النظر عن الملك ، لكنّه على بطلانه لا يمكن تأتّيه فيما نحن فيه ، فتأمّل.

وبالأحرى أن يكون هذا النزاع لفظياً ، فإنّ الجزئية المضافة إلى المأمور به المنتزعة من تعلّق الأمر بالمركّب ، لا أظنّ عاقلاً يدّعي أنّها متحقّقة في عالم الاعتبار على حذو الاعتبارات الشرعية ، بل ليست هي إلاّعبارة عن كون ذلك

__________________

(١) [ هكذا وردت العبارة في الأصل والظاهر أنّها من سهو القلم ].

(٢) الظاهر أنّه قدس‌سره يشير بذلك إلى ما سيأتي في الحاشية اللاحقة في الصفحة : ١٧٢ وما بعدها.

١٧٠

الفعل متّصفاً بكونه مأموراً به بالأمر الضمني ، فهي على ذلك مساوقة لكون الكل مأموراً به ، فلا تكون إلاّ أن تزاعية ، نظير انتزاعية صفة المحروقية لهذا القرطاس عند إحراقه ، وانتزاع صفة المحروقية الضمنية لكلّ واحد من أجزائه على وجه يتّصف كلّ واحد من أجزائه بأنّه جزء المحروق.

كما أنّ لحاظ الشارع المركّب بلحاظ كلّ واحد من تلك الأفعال داخلاً في ضمنه في الرتبة السابقة على الأمر ممّا لا يمكن إنكاره لعاقل. ولأجل ذلك تراهم يقولون كما في الكفاية حيث [ قال : ] وبدون الأمر به لا اتّصاف بها أصلاً وإن اتّصف بالجزئية أو الشرطية للمتصوّر أو لذي المصلحة كما لا يخفى (١) وحاصله : أنّ الكلام في جزئية الركوع مثلاً للمأمور به ، لا في جزئيته لما هو المتصوّر قبل الأمر.

ولا يخفى أنّ هذا هو الذي نسمّيه مقام الاختراع أو مقام التصوّر قبل الأمر وهو عالم تشريعي واعتبار ناشٍ عن اللحاظ التشريعي ، وأنّ الشارع لاحظ تلك الأفعال مجتمعة ونظر إليها نظر الشيء الواحد ، وذلك عبارة أُخرى عن النظر إلى كلّ واحد من تلك الأفعال داخلاً في ضمن ذلك المركّب ، وهذا هو الذي نسمّيه مقام الجزئية الشرعية ، فهل يمكن إنكاره لأحد من العقلاء ، كلاّ ثمّ كلاّ.

وما أُفيد من أنّ الشارع إذا لاحظها جزءاً قبل الأمر أو صرّح بأنّه جعلها جزءاً لا تكون جزءاً من المأمور به مسلّم ، إلاّ أن ذلك لا ينفي الجزئية في عالم التشريع والاعتبار الشرعي الذي هو قبل عالم الايجاب ، وبهذا نستريح من جملة من الإشكالات المتوجّهة على أنّه لا جعل أصلاً سوى الأمر بالكل المنبسط على كلّ واحد من الأجزاء ، مثل كون جزئية الجزء مطلقة شاملة لحال التعذّر ، فيوجب

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٠٢.

١٧١

ذلك سقوط الأمر بالكل عند تعذّره ، ونحو ذلك من الإشكالات والأساسات العلمية التي لا تلتئم مع انحصار الجعل بالأمر المذكور ، فلاحظ وتدبّر.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الحال في جزئية السبب أو شرطه ، فإنّها تكون مجعولة بنحو ما ذكرناه في جعل جزئية المأمور به وشرطه ومانعه ، فلاحظ وتأمّل فإنّ الشارع عند جعله الحكم التكليفي أو الوضعي مترتّباً على السبب المركّب الذي هو موضوعه في الحقيقة ، لابدّ أن يكون قد تصوّر ذلك الموضوع المركّب ، وذلك التصوّر عبارة عن اعتباره التركيب في ذلك الموضوع ، واعتبار التركيب فيه عبارة عن اعتبار كل واحد من تلك الأجزاء داخلاً في المركّب المذكور ، فيكون جميع ذلك ـ أعني التركيب والجزئية ـ مجعولاً للشارع ، على حذو ما عرفت من تركيب متعلّق التكليف.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده قدس‌سره في مبحث [ الأقل ] والأكثر فيما لو كان الترديد بين الأقل والأكثر في الأسباب الشرعية فراجع وتأمّل. نعم إنّ جريان الأصل النافي في نفس جزئية الجزء لا تنفع في إحراز سببية الباقي بعد فرض كون السببية في نفسها غير مجعولة فتأمّل ، فراجع ص ٤٧ من هذا التحرير وراجع ما حرّرناه هناك (١).

قوله : فإنّه من تعلّق التكليف بكلّ واحد منها وانبساطه عليها تنتزع الجزئية والشرطية والمانعية ... الخ (٢).

لكن هذه المجموعة تكون متعلّقاً للتكليف ، فلابدّ أن تكون سابقة في الرتبة عليه ، ولابدّ من لحاظ اجتماعها واعتبارها شيئاً واحداً قبل لحاظ تعلّق

__________________

(١) راجع المجلّد الثامن من هذا الكتاب ، الصفحة : ٢٦٣ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٣٩٣.

١٧٢

التكليف بها ، فيكون اتّصاف الركوع مثلاً بكونه جزءاً من هذه المجموعة سابقاً في الرتبة على تعلّق الأمر بها ، وذلك هو المعبّر عنه بالجزئية للماهية المخترعة. نعم إنّ كونه جزءاً من المأمور به لا يكون إلاّمتأخّراً عن الأمر ، وهذا هو محصّل ما أفاده في الكفاية بقوله : وأمّا النحو الثاني ـ إلى قوله ـ وبدون الأمر به لا اتّصاف بها أصلاً ، وإن اتّصف بالجزئية أو الشرطية للمتصوّر أو لذي المصلحة كما لا يخفى (١).

وعلى كلّ حال ، لا تكون جزئية الجزء إلاّمنتزعة من لحاظ المجموع المؤلّف منه ومن غيره شيئاً واحداً ، سواء كان ذلك في مقام الاختراع أو في مقام مجرّد التصوّر أو كان في مقام الأمر ، وإن كانت نسبة المقامات السابقة على تعلّق الأمر إلى مقام تعلّق الأمر كنسبة الموضوع إلى الحكم. ولعلّ من قال : إنّ الجزئية مجعولة ، وأنّ الأمر مجعول بالتبع أو هو منتزع ، ناظر إلى هذه الجهة أعني لابدّ أن يكون قبل الأمر لحاظ تركيب وجزئية وشرطية ثمّ يعلّق الأمر بذلك المركب ، ويكفي في هذه القبلية القبليةُ الرتبية ، حتّى أنّه لو تصوّر المركّب وعلّق الأمر لكان ذلك كافياً في القبلية المذكورة ، فهذه الجزئية الملحوظة في حال تعلّق الأمر لا تكون متأخّرة عن الأمر ، بل لابدّ أن تكون سابقة عليه ، فليس لنا أن نقول إنّها منتزعة من تعلّق الأمر على وجه تكون متأخّرة عنه رتبة ، بل هي سابقة عليه سبق الموضوع للحكم. نعم بعد تعلّق الأمر بالمجموع المركّب يتّصف قهراً كلّ جزء منه بأنّه جزء المأمور به ، كما أنّ نفس المجموع المركّب يتّصف بأنّه مأمور به ، فإن كان الكلام في أنّ الجزئية مجعولة يراد به أنّ هذه الجزئية ـ أعني اتّصاف الجزء بأنّه جزء المأمور به كاتّصاف الكل بأنّه مأمور به ـ مجعولة للشارع بجعل

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٠١ ـ ٤٠٢.

١٧٣

زائد على جعله الأمر المتعلّق بالكل ، فذلك ممّا لا يقوله عاقل.

وإن كان المراد هو أنّه قبل تعلّق الأمر هناك تركيب وهناك مجموع لوحظ مجموعاً ثمّ تعلّق به الأمر ، فهذا أيضاً غير قابل للانكار ، إذ لا يمكن أن ينكره عاقل ، وحينئذ ننقل الكلام إلى جميع تلك الأفعال المتفرّقة ولحاظها شيئاً واحداً مرتبطاً بعضها ببعض ، فلنا أن نقول إنّه جعل وخلق ، ولنا أن نعبّر عنه بمقام الاختراع ، وهو لا يحتاج إلى خطبة أو إعلان وصعود منبر يقول فيه إنّي قد ركّبت هذا المجموع من كذا وكذا ، بل يكفي فيه ما عرفت من لحاظ تلك المجموعة شيئاً واحداً ولو في الرتبة السابقة على إيجاد الأمر المتعلّق بها ، بل يكفي فيه أن يتصوّرها كذلك في مقام إيراده الأمر عليها ، ولنا حينئذ أن نسمّي ذلك المجموع الملحوظ في ذلك المقام بالماهيات المخترعة ، وأن نسمّي ذلك المقام مقام اختراع ، وإن شئت فعبّر عنه بمقام خلق ذلك المجموع وجعله كأنّه ماهية بسيطة في عرض سائر الماهيات ، لكنّه ليس بحقيقي ، بل هو تشريعي لا تحقّق له إلاّفي وعاء الاعتبار التشريعي.

وحينئذ فلنا أن نقول : إنّ الجزئية لذلك الجزء مجعولة ، وبعد الفراغ من ذلك الاختراع يعلّق الأمر بالمجموع ، فيكون ذلك الاختراع بالنسبة إلى ذلك الأمر كنسبة الموضوع إلى الحكم. وحاصل ما ندّعيه أنّ التركيب سابق على الأمر ، وهو ـ أعني التركيب ـ اعتبار شرعي حاصل باعتبار الشارع ، وذلك عبارة أُخرى عن جعله ، فيكون من المجعولات الشرعية ، وليس هو إلاّ اعتبار أنّ هذا الفعل مربوط بذلك الفعل ، وأنّ هذا جزء وهذا جزء وذلك جزء وهكذا ، فتكون الجزئية مجعولة شرعية ، وتكون من جملة الاعتبارات الشرعية ، وذلك عبارة أُخرى عن كونها حكماً شرعياً ، غايته أنّه وضعي في قبال التكليفي ، إذ ليس المراد من الحكم

١٧٤

الوضعي إلاّ الاعتبار المشار إليه.

لا يقال : لو سلّمنا أنّ لحاظ التركيب السابق على تعلّق الأمر بالمجموع من الاعتبارات الشرعية ، فلا نسلّم أنّ جزئية الجزء من ذلك المركّب مجعولة شرعاً ، بل هي منتزعة من اعتبار الوحدة في ذلك المجموع ، فلا تكون الجزئية مجعولة شرعاً.

لأنّا نقول : ليس اعتبار التركيب في ذلك المركّب إلاّعبارة عن اعتبار كلّ واحد من ذلك المجموع جزءاً من ذلك المجموع ، إذ ليست الجزئية إلاّعبارة عن لحاظ هذا الجزء مثلاً منضمّاً إلى الباقي ، وذلك هو عين التركيب الذي هو عبارة عن لحاظ كلّ واحد منضمّاً إلى البواقي ، أعني لحاظ هذه الأفعال المتفرّقة منضمّاً بعضها إلى بعض.

نعم ، هذا اللحاظ أعني لحاظ كلّ واحد جزءاً من المجموع أو لحاظ الانضمام والاتّحاد في تلك الأفعال المتفرّقة لابدّ أن يكون في مقام أعني مقام الاختراع أو مقام تصوّره ليورد الأمر عليه ويعلّقه به ، فاضافة الجزئية إلى ذلك المقام لا تكون إلاّ أن تزاعية ، فيقال إنّ هذا جزء المخترع أو جزء المتصوّر في مقام الأمر أو جزء المأمور به ، ولا ريب في أنّ هذه الاضافة انتزاعية ، كاضافة نفس الكل إلى نفس ذلك المقام ، فيقال مجموع المخترع أو مجموع المتصوّر أو مجموع المأمور به.

ثمّ لا يخفى أنّه لو أُريد من التركيب مقام المصلحة ، بمعنى كون ذلك المجموع المركّب ذا مصلحة موجبة لأن يأمرنا الشارع به ، فلا يخفى أنّ ذلك المقام من التركيب مقام واقعي ، ومدخلية كلّ واحد من أجزاء ذلك المركّب وقيوده مدخلية واقعية ، وحينئذ تكون الجزئية بهذا المعنى واقعية غير مجعولة بل

١٧٥

ولا انتزاعية.

ولكن هذا التركّب الواقعي لا يغني عن التركّب الشرعي الذي هو عبارة عن لحاظ المجموع شيئاً واحداً ، غايته أنّ الشارع يجري في ذلك اللحاظ على ذلك المجرى الواقعي ، ولأجل [ ذلك ] لو فرضنا محالاً أنّ الشارع لا يجري على ذلك المجرى ، بل عند تعليق أمره بتلك الأفعال لم يلاحظ اجتماعها ووحدتها ، بل لاحظها متفرّقة وعلّق أمره بها على ما هي عليه من التعدّد والتفرّق ، بل لم يكن أمره بها إلاّكما ينظر إلى الصلاة والصوم والزكاة والحجّ على ما هي عليه من التفرّق ويقول افعلوها ، إذ لا يكون في البين حينئذ كلّية ولا جزئية ، بل لا يكون إلاّ أفعال متعدّدة ذات أوامر متعدّدة ، جمعها بأمر واحد وهو قوله : افعلوها.

وبالجملة : أنّ الشارع حينما يأمر بذلك المجموع إن لاحظه شيئاً واحداً كان ذلك عبارة أُخرى عن اختراع التركيب بينها ، على وجه يكون كلّ واحد من تلك الأجزاء داخلاً في ذلك المجموع ، ويكون هذا التركيب عين جزئية كلّ واحد من تلك الأجزاء ، لأنّ لحاظ المجموع شيئاً واحداً عبارة أُخرى عن لحاظ تلك الأجزاء منضمّاً بعضها إلى بعض ، فليس لحاظ الكلّية إلاّلحاظ الأجزاء مجتمعة ، وليس لحاظ الأجزاء مجتمعة إلاّلحاظ الجزئية لكلّ واحد منها ، وحينئذ فبعد كون ذلك اللحاظ عبارة عن الاعتبار الشرعي كانت الجزئية مجعولة بعين جعل الكل ، لكن هذه الجزئية ليست هي عبارة عن الجزئية لما هو المأمور به المتأخّرة عن تعلّق الأمر بالمركّب ، فإنّ تلك انتزاعية صرفة كما أفادوه ، بل إنّ الجزئية التي ندّعي جعلها في عالم التشريع هي التابعة للماهيات الاختراعية بالنحو الذي ذكرناه من الاختراع ، أعني به اعتبار المركّب ولحاظه مركّباً في الرتبة السابقة على التركيب ، التي هي عين لحاظ كلّ واحد من تلك الأفعال داخلاً في ضمن ذلك

١٧٦

المركّب.

قوله : وبعد انبساط التكليف عليها تنتزع الشرطية والجزئية والمانعية قهراً ، ولا يعقل بعد ذلك جعل شيء آخر جزءاً أو شرطاً للمأمور به أو مانعاً عنه إلاّبنسخ التكليف الأوّل وإنشاء تكليف آخر يتعلّق بما يعمّ ذلك الشيء ... الخ (١).

هذه الأوامر الواردة على بعض الأجزاء والشرائط مثل أن يقول : فإذا فرغت من الفاتحة والسورة فاركع ، لا تكون إلاّ إرشاداً إلى أنّ الركوع جزء من المأمور به ، وليست هي نفس ذلك الأمر الضمني الحاصل في ضمن الأمر المتعلّق بالكل ، لاستحالة كون الضمني استقلالياً ، وإلاّ لخرج عن كونه ضمنياً وصار واجباً استقلالياً في ظرف الواجب ، وحينئذ لو أمر الآمر بالصلاة المجرّدة عن الركوع مثلاً ، ثمّ أراد أن يجعل الركوع جزءاً منها ، ففي مقام التشريع وعالم الثبوت لا يكفي أن يجعل له الأمر الضمني ، لما عرفت من استحالة كونه استقلالياً ، ولا يكون قوله اركع في الصلاة إلاّمن قبيل الواجب الاستقلالي في الواجب ، كما أنّه لا يكفي أن يجعل الركوع جزءاً من الصلاة ، فإنّ هذا الجعل لا يحقّق ما هو المقصود له ، وهو كون الركوع مأموراً به ضمناً في ضمن الأمر المتعلّق بالصلاة ليكون جزءاً من المأمور به ، وحينئذ ينحصر الطريق في التوصّل إلى جعل الركوع جزءاً من الصلاة بالعدول عن الأمر الأوّل والتزام خلق أمر جديد يعلّقه بالصلاة المشتملة على الركوع ، وهو عبارة عن النسخ المشار إليه ، وعلى هذا الأساس يجري ما نقول من أنّ الاطلاق والتقييد والعموم والتخصيص لا يكون إلاّفي مقام الاثبات ، وأنّ مقام الثبوت شيء واحد ، وأنّه ليس هناك تعميم وتخصيص ولا

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٩٣.

١٧٧

إطلاق وتقييد ، فلو كان الحكم في مقام الثبوت عاماً ثمّ أُريد تخصيصه احتيج إلى ارتكاب طريقة النسخ ، وهكذا الحال فيما لو كان مطلقاً في مقام الثبوت وأُريد تقييده.

وممّا ذكرناه في الجزئية والشرطية والمانعية ـ أعني جزء المؤثّر في الصلاح ـ وأنّها في هذه المرحلة واقعية ، أو جزء المخترع وهذه المرحلة تكون الجزئية مجعولة فيها للمخترع ، أو جزء المتصوّر حين تعلّق الأمر ، وفي هذه المرحلة تكون الجزئية مجعولة ابتداءً إن قلنا إنّها عين كون الجزء منظوراً إليه في ضمن النظر إلى الكل ، وإن قلنا إنّها منتزعة من ذلك النظر فهي انتزاعية ، وأمّا المرتبة المتأخّرة عن الأمر فليست هي إلاّكون الجزء مأموراً به في ضمن تعلّق الأمر بالمركّب ، وأين ذلك من كونه جزءاً من المأمور به كي يقال إنّها منتزعة من الأمر.

وهذه المراحل بعينها جارية فيما نسمّيه بالصحّة والفساد ، إذ ليست الصحّة إلاّ التمامية أعني نفس الكل ، فإنّ هذه الكلّية لذلك المجموع المركّب هي توأم مع جزئية الجزء ، يجتازان معاً هذه المراحل التي ذكرناها للجزئية ، وبذلك نستغني عمّا أفادوه في الصحّة والفساد من التشقيقات الآتي ذكرها في التحرير ص ١٤٥ وص ١٤٦ (١) ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : وإنّما الخلاف وقع في جعل السببية ... الخ (٢).

مثال السببية الشرعية للتكليف سببية الدلوك لوجوب الصلاة ، ومثال السببية الشرعية للوضع سببية التنكيل بالعبد لانعتاقه. أمّا سببية الأفعال الوضوئية

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٩٨ ـ ٤٠٠.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٣٩٣.

١٧٨

للطهارة من الحدث ، أو سببية الغسل للطهارة من الخبث ، أو سببية ملاقاة النجس لنجاسة الملاقي ، أو سببية الجنابة أو النوم للحدث الأكبر أو الأصغر ، فكونها ممّا نحن فيه متوقّف على كون هذه المسبّبات من المجعولات الشرعية أو كونها من الأُمور الواقعية التي كشف عنها الشارع ، فعلى الأوّل تدخل فيما نحن فيه ، بخلافه على الثاني فإنّها بناءً عليه تكون من الأسباب الواقعية التي لا مدخل فيها للجعل الشرعي. نعم تلك المسبّبات الواقعية لها آثار تكليفية مثل حرمة مس المصحف وحرمة الأكل وجواز الصلاة ونحو ذلك ، وذلك مطلب آخر لا دخل له بما نحن فيه.

وعلى أيّ ، فقد اختلفوا في الأسباب الشرعية مثل ما عرفت من الدلوك بالنسبة إلى وجوب الصلاة ، ومثل التنكيل بالنسبة إلى الانعتاق ، والأقوال في ذلك أربعة :

الأوّل : أنّ نفس السببية مجعولة ، وأنّه لا جعل للشارع إلاّهذا المقدار ، فيجعل الدلوك سبباً لوجوب الصلاة والتنكيل سبباً للانعتاق.

الثاني : أنّ المجعول الشرعي هو نفس المسبّب عند وجود ذات السبب ، فليس المجعول إلاّ الوجوب عند الدلوك والحرّية عند التنكيل.

الثالث : أنّ المجعول كلّ منهما ، فيجعل الدلوك سبباً لوجوب الصلاة ويجعل وجوب الصلاة عند الدلوك.

الرابع : أنّ السببية ذاتية غير قابلة للجعل ، فالدلوك بذاته علّة لوجوب الصلاة وهكذا ، ولازمه أنّه لا جعل للشارع أصلاً لا في ناحية السببية ولا في ناحية المسبّب. أمّا الأوّل فلكونها ذاتية للدلوك ، وأمّا الثاني فلأنّ حصول المسبّب عند

١٧٩

حصول سببه قهري ، وهذا هو مسلك صاحب الكفاية (١) ، لكنّه لم يصرّح بالثاني ، إلاّ أنّه لازم كلامه ، لكنّه إنّما يكون لازماً لكلامه لو كان مراده أنّ الدلوك سبب للمجعول ، أمّا لو كان مراده أنّه سبب للجعل فلا يكون لازم كلامه انتفاء الجعل الشرعي إلاّمن الطرف الأوّل دون الطرف الثاني.

أمّا الوجه الثالث فقد أبطله شيخنا قدس‌سره بأنّ أحد الجعلين يغني عن الجعل الآخر فيلزم لغوية أحدهما. مضافاً إلى ما أورد عليه على الوجه الأوّل من أنّ لازمه انسلاخ الوجوب عن المجعولية وأنّه يستحيل جعل السببية.

ولا يخفى أنّ الأنسب في الايراد على الوجه الأوّل هو جعل الايراد الثاني أوّلاً والايراد الأوّل ثانياً ، فيقال : إنّه يرد على القول بجعل السببية أوّلاً : أنّها غير قابلة للجعل التشريعي ، بل ولا للجعل التكويني إلاّتبعاً أو عرضاً كما أفاده في الكفاية (٢). وثانياً : أنّ لازم جعل السببية هو انسلاخ مثل الوجوب عند الدلوك عن المجعولية الشرعية ، فإنّ المراد من جعل الشارع السببية للدلوك هو جعل الدلوك سبباً للوجوب ذاته ، لا أنّه يجعله سبباً لجعل الوجوب كما ربما يكون هو مراد الكفاية من السببية الذاتية ، هذا.

ولكن يمكن التأمّل في الايراد الأوّل ، فإنّ جعل السببية إنّما يكون غير ممكن في الأسباب والمسبّبات التكوينية ، أمّا السببية الاعتبارية فحيث إنّ قوامها الاعتبار والاعتبار خفيف المؤونة ، فلا مانع من جعلها الذي هو عبارة عن اعتبارها لكن ذلك لا يتأتّى فيما لو كان المسبّب من الموجودات العينية ، وإنّما يتأتّى فيما يكون المسبّب اعتبارياً ، سواء كان السبب اعتبارياً كما في سببية ملكية أحد

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٠٠ ـ ٤٠١.

(٢) كفاية الأُصول : ٤٠٠ ـ ٤٠١.

١٨٠