تفسير أبي السّعود - ج ٦

تفسير أبي السّعود - ج ٦

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٠٨

(لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) (١٣)

____________________________________

مِنْهُمْ) أى من أولئك العصبة (مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) بقدر ما خاض فيه (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) أى معظمه وقرىء بضم الكاف وهى لغة فيه (مِنْهُمْ) من العصبة وهو ابن أبى فإنه بدأ به وأذاعه بين الناس عداوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل هو وحسان ومسطح فإنهما شايعاه بالتصريح به فإفراد الموصول حينئذ باعتبار الفوج أو الفريق أو نحوهما (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) أى فى الآخرة أو فى الدنيا أيضا فأنهم جلدوا وردت شهاداتهم وصار ابن أبى مطرودا مشهودا عليه بالنفاق وحسان أعمى وأشل اليدين ومسطح مكفوف البصر وفى التعبير عنه بالذى وتكرير الإسناد وتنكير العذاب ووصفه بالعظم من تهويل الخطب مالا يخفى (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) تلوين للخطاب وصرف له عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذويه إلى الخائضين بطريق الالتفات لتشديد ما فى لو لا التحضيضية من التوبيخ ثم العدول عنه إلى الغيبة فى قوله تعالى (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) لتأكيد التوبيخ والتشنيع لكن لا بطريق الإعراض عنهم وحكاية جناياتهم لغيرهم على وجه المثابة بل بالتوسل بذلك إلى وصفهم بما يوجب الإتيان بالمحضض عليه ويقتضيه اقتضاء تاما ويزجرهم عن ضده زجرا بليغا فإن كون وصف الإيمان مما يحملهم على إحسان الظن ويكفهم عن أسامته بأنفسهم أى بأبناء جنسهم النازلين منزلة أنفسهم كقوله تعالى (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) وقوله تعالى (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) مما لاريب فيه فإخلالهم بموجب ذلك الوصف أقبح وأشنع والتوبيخ عليه أدخل مع ما فيه من التوسل به إلى التصريح بتوبيخ الخائضات ثم إن كان المراد بالإيمان الإيمان الحقيقى فإيجابه لما ذكر واضح والتوبيخ خاص بالمؤمنين وإن كان مطلق الإيمان الشامل لما يظهره المنافقون أيضا فإيجابه له من حيث إنهم كانوا يحترزون عن إظهار ما ينافى مدعاهم فالتوبيخ حينئذ متوجه إلى الكل وتوسيط الظرف بين لو لا وفعلها لتخصيص التحضيض بأول زمان سماعهم وقصر التوبيخ على تأخير الإنيان بالمحضض عليه عن ذلك الآن والتردد فيه ليفيد أن عدم الإتيان به رأسا فى غاية ما يكون من القباحة والشناعة أى كان الواجب أن يظن المؤمنون والمؤمنات أول ما سمعوه ممن اخترعه بالذات أو بالواسطة من غير تلعثم وتردد بمثلهم من آحاد المؤمنين خيرا (وَقالُوا) فى ذلك الآن (هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) أى ظاهر مكشوف كونه إفكا فكيف بالصديقة ابنة الصديق أم المؤمنين حرمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) إما من تمام القول المحضض عليه مسوق لحث السامعين على إلزام المسمعين وتكذيبهم إثر تكذيب ما سمعوه منهم بقولهم هذا إفك مبين وتوبيخهم على تركه أى هلا جاء الخائضون بأربعة شهداء يشهدون على ما قالوا (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا) بهم وإنما قيل (بِالشُّهَداءِ) لزيادة التقرير (فَأُولئِكَ) إشارة إلى الخائضين وما فيه من معنى البعد للإيذان بغلوهم فى الفساد وبعد منزلتهم فى الشر أى أولئك المفسدون (عِنْدَ اللهِ) أى فى حكمه وشرعه المؤسس على الدلائل الظاهرة المتقنة (هُمُ الْكاذِبُونَ) الكاملون فى الكذب المشهود

١٦١

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ(١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) (١٦)

____________________________________

عليهم بذلك المستحقون لإطلاق الاسم عليهم دون غيرهم ولذلك رتب عليه الحد خاصة وإما كلام مبتدأ مسوق من جهته تعالى للاحتجاج على كذبهم بكون ما قالوه قولا لا يساعده الدليل أصلا (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) خطاب للسامعين والمسمعين جميعا (وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا) من فنون النعم التى من جملتها الإمهال للتوبة (وَالْآخِرَةِ) من الآلاء التى من جملتها العفو والمغفرة بعد التوبة (لَمَسَّكُمْ) عاجلا (فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ) بسبب ما خضتم فيه من حديث الإفك والإبهام لتهويل أمره والاستهجان بذكره يقال أفاض فى الحديث وخاض واندفع وهضب بمعنى (عَذابٌ عَظِيمٌ) يستحقر دونه التوبيخ والجلد (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) بحذف إحدى التاءين ظرف للمس أى لمسكم ذلك العذاب العظيم وقت تلقيكم إياه من المخترعين (بِأَلْسِنَتِكُمْ) والتلقى والتلقف والتلقن معان متقاربة خلا أن فى الأول معنى الاستقبال وفى الثانى معنى الخطف والأخذ بسرعة وفى الثالث معنى الحذق والمهارة وقرىء تتلقونه على الأصل وتلقونه من لقيه وتلقونه بكسر حرف المضارعة وتلقونه من إلقاء بعضهم على بعض وتلقونه وتألقونه من الولق والإلق وهو الكذب وتثقفونه من ثقفته إذا طلبته فوجدته وتثقفونه أى تتبعونه (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) أى تقولون قولا مختصا بالأفواه من غير أن يكون له مصداق ومنشأ فى القلوب لأنه ليس بتعبير عن علم به فى قلوبكم كقوله تعالى (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) سهلا لا تبعة له أو ليس له كثير عقوبة (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ) والحال أنه عنده عزوجل (عَظِيمٌ) لا يقادر قدره فى الوزر واستجرار العذاب (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) من المخترعين أو المشايعين لهم (قُلْتُمْ) تكذيبا لهم وتهويلا لما ارتكبوه (ما يَكُونُ لَنا) ما يمكننا (أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) وما يصدر عنا ذلك بوجه من الوجوه وحاصله نفى وجود التكلم به لا نفى وجوده على وجه الصحة والاستقامة والإنبغاء وهذا إشارة إلى ما سمعوه وتوسيط الظرف بين لو لا وقلتم لما مر من تخصيص التحضيض بأول وقت السماع وقصر التوبيخ واللوم على تأخير القول المذكور عن ذلك الآن ليفيد أنه المحتمل للوقوع المفتقر إلى التحضيض على تركه وأما ترك القول نفسه رأسا فمما لا يتوهم وقوعه حتى يحضض على فعله ويلام على تركه وعلى هذا ينبغى أن يحمل ما قيل إن المعنى إنه كان الواجب عليهم أن يتفادوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم وأما ما قيل من أن ظروف الأشياء منزلة منزلة أنفسها لوقوعها فيها وأنها لا تنفك عنها فلذلك يتسع فيها مالا

١٦٢

(يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١٩)

____________________________________

يتسع فى غيرها فهى ضابطة ربما تستعمل فيما إذا وضع الظرف موضع المظروف بأن جعل مفعولا صريحا لفعل مذكور كما فى قوله تعالى (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ) أو مقدر كعامة الظروف المنصوبة بإضمار اذكر وأما ههنا فلا حاجة إليها أصلا لما تحققت أن مناط التقديم توجبه التحضيض إليه وذلك يتحقق فى جميع متعلقات الفعل كما فى قوله تعالى (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها (سُبْحانَكَ) تعجب ممن تفوه به وأصله أن يذكر عند معاينة العجيب من صنائعه تعالى تنزيها له سبحانه عن أن يصعب عليه أمثاله ثم كثر حتى استعمل فى كل متعجب منه أو تنزيه له تعالى عن أن تكون حرمة نبيه فاجرة فإن فجورها تنفير عنه ومخل بمقصود الزواج فيكون تقريرا لما قبله وتمهيدا لقوله تعالى (هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) لعظمة المبهوت عليه واستحالة صدقه فإن حقارة الذنوب وعظمها باعتبار متعلقاتها (يَعِظُكُمُ اللهُ) أى ينصحكم (أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ) أى كراهة أن تعودوا أو يزجركم من أن تعودوا أو فى أن تعودوا من قولك وعظته فى كذا فتركه (أَبَداً) أى مدة حياتكم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فإن الإيمان وازع عنه لا محالة وفيه تهييج وتقريع (وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب دلالة واضحة لتتعظوا وتتأدبوا بها أى ينزلها كذلك أى مبينة ظاهرة الدلالة على معانيها لا أنه يبينها بعد أن لم تكن كذلك وهذا كما فى قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل أى خلقهما صغيرا وكبيرا ومنه قولك ضيق فم الركية ووسع أسفلها وإظهار الاسم الجليل فى موقع الإضمار لتفخيم شأن البيان (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوال جميع مخلوقاته جلائلها دقائقها (حَكِيمٌ) فى جميع تدابيره وأفعاله فأنى يمكن صدق ما قيل فى حق حرمة من اصطفاه لرسالاته وبعثه إلى كافة الخلق ليرشدهم إلى الحق ويزكيهم ويطهرهم تطهيرا وإظهار الاسم الجليل ههنا لتأكيد استقلال الاعتراض التذييلى والإشعار بعلة الألوهية للعلم والحكمة (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ) أى يريدون ويقصدون (أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) أى تنتشر الخصلة المفرطة فى القبح وهى الفرية والرمى بالزنا أو نفس الزنا فالمراد بشيوعها شيوع خبرها أى يحبون شيوعها ويتصدون مع ذلك لإشاعتها وإنما لم يصرح به اكتفاء بذكر المحبة فإنها مستتبعة له لا محالة (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) متعلق بتشيع أى تشيع فيما بين الناس وذكر المؤمنين لأنهم العمدة فيهم أو بمضمر هو حال من الفاحشة فالموصول عبارة عن المؤمنين خاصة أى يحبون أن تشيع الفاحشة كائنة فى حق المؤمنين وفى شأنهم (لَهُمْ) بسبب ما ذكر (عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا) من الحد وغيره مما يتفق من البلايا الدنيوية ولقد ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن أبى وحسانا ومسطحا حد القذف وضرب صفوان حسانا ضربة بالسيف وكف بصره

١٦٣

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢١)

____________________________________

(وَالْآخِرَةِ) من عذاب النار وغير ذلك مما يعلمه الله عزوجل (وَاللهُ يَعْلَمُ) جميع الأمور التى من جملتها ما فى الضمائر من المحبة المذكورة (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ما يعلمه تعالى بل إنما تعلمون ما ظهر لكم من الأقوال والأفعال المحسوسة فابتلوا أموركم على ما تعلمونه وعاقبوا فى الدنيا على ما تشاهدونه من الأحوال الظاهرة والله سبحانه هو المتولى للسرائر فيعاقب فى الآخرة على ما تكنه الصدور هذا إذا جعل العذاب الأليم فى الدنيا عبارة عن حد القذف أو متنظما له كما أطبق عليه الجمهور أما إذا بقى على إطلاقه يراد بالمحبة نفسها من غير أن يقارنها التصدى للإشاعة وهو الأنسب بسياق النظم الكريم فيكون ترتيب العذاب عليها تنبيها على أن عذاب من يباشر الإشاعة ويتولاها أشد وأعظم ويكون الاعتراض التذييلى أعنى قوله تعالى (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) تقريرا لثبوت العذاب الأليم لهم وتعليلا له (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) تكرير للمنة بترك المعاجلة بالعقاب للتنبيه على كمال عظم الجريرة (وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) عطف على فضل الله وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة والإشعار باستتباع صفة الألوهية للرأفة والرحمة وتغيير سبكه وتصديره بحرف التحقيق لما أن بيان اتصافه تعالى فى ذاته بالرأفة التى هى كمال الرحمة والرحيمية التى هى المبالغة فيها على الدوام والاستمرار لا بيان حدوث تعلق رأفته ورحمته بهم كما أنه المراد بالمعطوف عليه وجواب لو لا محذوف لدلالة ما قبله عليه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أى لا تسلكوا مسالكه فى كل ما تأتون وما تذرون من الأفاعيل التى من جملتها إشاعة الفاحشة وحبها وقرىء خطوات بسكون الطاء وبفتحها أيضا (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ) وضع الظاهران موضع ضميريهما حيث لم يقل ومن يتبعها أو ومن يتبع خطواته لزيادة التقرير والمبالغة فى التنفير والتحذير (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) علة للجزاء وضعت موضعه كأنه قيل فقدار تكب الفحشاء والمنكر لأن دأبه المستمر أن يأمر بهما فمن اتبع خطواته فقد امتثل بأمره قطعا والفحشاء ما أفرط قبحه كالفاحشة والمنكر ما ينكره الشرع وضمير إنه للشيطان وقيل للشأن على رأى من لا يوجب عود الضمير من الجملة الجزائية إلى اسم الشرط أو على أن الأصل يأمره وقيل هو عائد إلى من أى فإن ذلك المتبع يأمر الناس بهما لأن شأن الشيطان هو الإضلال فمن اتبعه يترقى من رتبة الضلال والفساد إلى رتبة الإضلال والإفساد (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بما من جملته هاتيك البيانات والتوفيق للتوبة الماحصة للذنوب وشرع الحدود المكفرة لها (ما زَكى) أى ما طهر من دنسها وقرىء ما زكى بالتشديد أى ما طهر الله تعالى ومن فى قوله تعالى (مِنْكُمْ) بيانية وفى قوله

١٦٤

(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٢٣)

____________________________________

تعالى (مِنْ أَحَدٍ) زائدة وأحد فى حين الرفع على الفاعلية على القراءة الأولى وفى محل النصب على المفعولية على القراءة الثانية (أَبَداً) لا إلى نهاية (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي) يطهر (مَنْ يَشاءُ) من عباده بإضافة آثار فضله ورحمته عليه وحمله على التوبة ثم قبولها منه كما فعل بكم (وَاللهُ سَمِيعٌ) مبالغ فى سمع الأقوال التى من جملتها ما أظهروه من التوبة (عَلِيمٌ) بجميع المعلومات التى من جملتها نياتهم وفيه حث لهم على الإخلاص فى التوبة وإظهار الاسم الجليل للإيذان باستدعاء الألوهية للسمع والعلم مع ما فيه من تأكيد استقلال الاعتراض التذييلى (وَلا يَأْتَلِ) أى لا يحلف افتعال من الالية وقيل لا يقصر من الألو والأول هو الأظهر لنزوله فى شأن الصديق رضى الله عنه حين حلف أن لا ينفق على مسطح بعد وكان ينفق عليه لكونه ابن خالته وكان من فقراء المهاجرين ويعضده قراءة من قرأ ولا يتأل (أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) فى الدين وكفى به دليلا على فضل الصديق رضى الله تعالى عنه (وَالسَّعَةِ) فى المال (أَنْ يُؤْتُوا) أى على أن لا يؤتوا وقرىء بتاء الخطاب على الالتفات (أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ) صفات لموصوف واحد جىء بها بطريق العطف تنبيها على أن كلا منها علة مستقلة لاستحقاقه الإيتاء وقيل لموصوفات أقيمت هى مقامها وحذف المفعول الثانى لغاية ظهوره أى على أن لا يؤتوهم شيئا (وَلْيَعْفُوا) ما فرط منهم (وَلْيَصْفَحُوا) بالإغضاء عنه وقد قرىء الأمران بتاء الخطاب على وفق قوله تعالى (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) أى بمقابلة عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مبالغ فى المغفرة والرحمة مع كمال قدرته على المؤاخذة وكثرة ذنوب الداعية إليها وفيه ترغيب عظيم فى العفو ووعد كريم بمقابلته كأنه قيل ألا تحبون أن يغفر الله لكم فهذا من موجباته روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأها على أبى بكر رضى الله عنه فقال بلى أحب أن يغفر الله لى فرجع إلى مسطح نفقته وقال والله لا أنزعها أبدا (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) أى العفائف مما رمين به من الفاحشة (الْغافِلاتِ) عنها على الإطلاق بحث لم يخطر ببالهن شىء منها ولا من مقدماتها أصلا ففيها من الدلالة على كمال النزاهة ما ليس فى المحصنات أى السليمات الصدور التقيات القلوب عن كل سوء (الْمُؤْمِناتِ) أى المتصفات بالإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به من الواجبات والمحظوات وغيرها إيمانا حقيقيا تفصيليا كما ينبىء عنه تأخير المؤمنات عما قبلها مع أصالة وصف الإيمان فإنه للإيذان بأن المراد بها المعنى الوصفى المعرب عما ذكر لا المعنى الاسمى المصحح لإطلاق الاسم فى الجملة كما هو المتبادر على تقدير التقديم والمراد بها عائشة الصديقة رضى الله عنها والجمع باعتبار

١٦٥

(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (٢٥)

____________________________________

أن رميها رمى لسائر أمهات المؤمنين لاشتراك الكل فى العصمة والنزاهة والانتساب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما فى قوله تعالى (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) ونظائره وقيل أمهات المؤمنين فيدخل فيهن الصديقة دخولا أوليا وأما ما قيل من أن المراد هى الصديقة والجمع باعتبار استتباعها للمتصفات بالصفات المذكورة من نساء الأمة فيأباه أن العقوبات المترتبة على رمى هؤلاء عقوبات مختصة بالكفار والمنافقين ولا ريب فى أن رمى غير أمهات المؤمنين ليس بكفر فيجب أن يكون المراد إياهن على أحد الوجهين فإنهن قد خصصن من بين سائر المؤمنات فجعل رميهن كفرا إبرازا لكرامتهن على الله عزوجل وحماية لحمى الرسالة من أن يحوم حوله أحد بسوء حتى أن ابن عباس رضى الله عنهما جعله أغلظ من سائر أفراد الكفر حين سئل عن هذه الآيات فقال من أذنب ذنبا ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض فى أمر عائشة رضى الله عنها وهل هو منه رضى الله عنه إلا لتهويل أمر الإفك والتنبيه على أنه كفر غليظ (لُعِنُوا) بما قالوه فى حقهن (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) حيث يلعنهم اللاعنون من المؤمنين والملائكة أبدا (وَلَهُمْ) مع ما ذكر من اللعن الأبدى (عَذابٌ عَظِيمٌ) هائل لا يقادر قدره لغاية عظم ما اقترفوه من الجناية وقوله تعالى (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ) الخ إما متصل بما قبله مسوق لتقرير العذاب المذكور بتعيين وقت حلوله وتهويله ببيان ظهور جناياتهم الموجبة له مع سائر جناياتهم المستتبعة لعقوباتها على كيفية هائلة وهيئة خارقة للعادات فيوم ظرف لما فى الجار والمجرور المتقدم من معنى الاستقرار لا لعذاب وإن أغضينا عن وصفه لإخلاله بجزالة المعنى وإما منقطع عنه مسوق لتهويل اليوم بتهويل ما يحويه على أنه ظرف لفعل مؤخر قد ضرب عنه الذكر صفحا للإيذان بقصور العبارة عن تفصيل ما يقع فيه من الطامة التامة والداهية العامة كأنه قيل يوم تشهد عليهم (أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) يكون من الأحوال والأهوال مالا يحيط به حيطة المقال على أن الموصول المذكور عبارة عن جميع أعمالهم السيئة وجناياتهم القبيحة لا عن جناياتهم المعهودة فقط ومعنى شهادة الجوارج المذكورة بها أنه تعالى ينطقها بقدرته فتخبر كل جارحة منها بما صدر عنها من أفاعيل صاحبها لا أن كلا منها يخبر بجناياتهم المعهودة فحسب والموصول المحذوف عبارة عنها وعن فنون العقوبات المترتبة عليها كافة لا عن إحداهما خاصة ففيه من ضروب التهويل بالإجمال والتفصيل مالا مزيد عليه وجعل الموصول المذكور عبارة عن خصوص جناياتهم المعهودة وحمل شهادة الجوارح على إخبار الكل بها فقط تحجير للواسع وتهوين لأمر الوازع والجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل للدلالة على استمرارهم عليها فى الدنيا وتقديم عليهم على الفاعل للمسارعة إلى بيان كون الشهادة ضارة لهم مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر كما مر مرارا وقوله تعالى (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ) أى يوم إذ تشهد جوارحهم بأعمالهم القبيحة يعطيهم الله تعالى جزاءهم الثابت الذى يحقق أن يثبت

١٦٦

(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٢٦)

____________________________________

لهم لا محالة وافيا كاملا كلام مبتدأ مسوق لبيان ترتيب حكم الشهادة عليها متضمن لبيان ذلك المبهم المحذوف على وجه الإجمال ويجوز أن يكون يوم يشهد ظرفا ليوفيهم ويومئذ بدلا منه وقيل هو منصوب على أنه مفعول لفعل مضمر أى اذكر يوم تشهد بالتذكير للفصل (وَيَعْلَمُونَ) عند معاينتهم الأهوال والخطوب حسبما نطق به القرآن الكريم (أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) الثابت الذى يحق أن يثبت لا محالة فى ذاته وصفا وأفعاله التى من جملتها كلماته التامات المنبئة عن الشئون التى يشاهدونها منطبقة عليها (الْمُبِينُ) المظهر للأشياء كما هى فى أنفسها أو الظاهر أنه هو الحق وتفسيره بظهور ألوهيته تعالى وعدم مشاركة الغير له فيها وعدم قدرة ما سواه على الثواب والعقاب ليس له كثير مناسبة للمقام كما أن تفسير الحق بذى الحق البين أى العادل الظاهر عدله كذلك ولو تتبعت ما فى الفرقان المجيد من آيات الوعيد الواردة فى حق كل كفار مريد وجبار عنيد لا تجد شيئا منها فوق هانيك القوارع المشحونة بفنون التهديد والتشديد وما ذاك إلا لإظهار منزلة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى علو الشأن والنباهة وإبراز رتبة الصديقة رضى الله عنها فى العفة والنزاهة وقوله تعالى (الْخَبِيثاتُ) الخ كلام مستأنف مسوق على قاعدة السنة الإلهية الجارية فيما بين الخلق على موجب أن لله تعالى ملكا يسوق الأهل إلى الأهل أى الخبيثات من النساء (لِلْخَبِيثِينَ) من الرجال أى مختصات بهم لا يكدن يتجاوزنهم إلى غيرهم على أن اللام للاختصاص (وَالْخَبِيثُونَ) أيضا (لِلْخَبِيثاتِ) لأن المجانسة من دواعى الانضمام (وَالطَّيِّباتُ) منهن (لِلطَّيِّبِينَ) منهم (وَالطَّيِّبُونَ) أيضا (لِلطَّيِّباتِ) منهن بحيث لا يكادون يجاوزوهن إلى من عداهن وحيث كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أطيب الأطيبين وخيرة الأولين والآخرين تبين كون الصديقة رضى الله عنها من أطيب الطيبات بالضرورة واتضح بطلان ما قيل فى حقها من الخرافات حسبما نطق به قوله تعالى (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) على أن الإشارة إلى أهل البيت المنتظمين للصديقة انتظاما أوليا وقيل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصديقة وصفوان وما فى اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان بعلو رتبة المشار إليهم وبعد منزلتهم فى الفضل أى أولئك الموصوفون بعلو الشأن مبرءون مما نقوله أهل الإفك فى حقهم من الأكاذيب الباطلة وقيل الخبيثات من القول للخبثين من الرجال والنساء أى مختصة ولائقة بهم لا ينبغى أن تقال فى حق غيرهم وكذا الخبيثون من الفريقين أحفاء بأن يقال فى حقهم خبائث القول والطيبات من الكلم للطيبين من الفريقين مختصة وحقيقة بهم وهم أحفاء بأن يقال فى شأنهم طيبات الكلم أولئك الطيبون مبرءون مما يقول الخبيثون فى حقهم فمآله تنزيه الصديقة أيضا وقيل خبيثات القول مختصة بالخبيثين من فريقى الرجال والنساء لا تصدر عن غيرهم والخبيثون من الفريقين مختصون بخبائث القول متعرضون لها والطيبات من الكلام للطيبين من الفريقين أى مختصة بهم لا تصدر عن غيرهم والطيبون من الفريقين مختصون بطيبات الكلام لا يصدر عنهم غيرها أولئك الطيبون مبرءون مما يقوله الخبيثون من

١٦٧

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (٢٨)

____________________________________

الخبائث أى لا يصدر عنهم مثل ذلك فمآله تنزيه القائلين سبحانك هذا بهتان عظيم (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) عظيمة لما لا يخلو عنه البشر من الذنوب (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) هو الجنة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) إثر ما فصل الزواجر عن الزنا وعن رمى العفائف عنه شرع فى تفصيل الزواجر عما عسى يؤدى إلى أحدهما من مخالطة الرجال والنساء ودخولهم عليهن فى أوقات الخلوات وتعليم الآداب الجميلة والأفاعيل المرضية المستتبعة لسعادة الدارين ووصف البيوت بمغايرة بيوتهم خارج مخرج العادة التى هى سكنى كل أحد فى ملكه وإلا فالمآجر والمعير أيضا منهيان عن الدخول بغير إذن وقرىء بيوتا غير بيوتكم بكسر الباء لأجل* الياء (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أى تستأذنوا من يملك الإذن من أصحابها من الاستئناس بمعنى الاستعلام من آنس الشىء إذا أبصره فإن المستأنس مستعلم للحال مستكشف أنه هل يؤذن له أو من الاستئناس الذى هو* خلاف الاستيحاش لما أن المستأذن مستوحش خائف أن لا يؤذن له فإذا أذن له استأنس (وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) عند الاستئذان روى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن التسليم أن يقول السلام عليكم أأدخل ثلاث مرات فإن أذن له دخل وإلا رجع (ذلِكُمْ) أى الاستئذان مع التسليم (خَيْرٌ لَكُمْ) من أن تدخلوا بغتة أو على تحية الجاهلية حيث كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتا غير بيته يقول حييتم صباحا حييتم مساء فيدخل فربما صاب الرجل مع امرأته فى لحاف وروى أن رجلا قال للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أستأذن على أمى قال له نعم قال ليس لها خادم غيرى أأستأذن عليها كلما دخلت قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتحب أن تراها عريانة قال لا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستأذن* (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) متعلق بمضمر أى أمرتم به أو قيل لكم هذا كى تتذكروا وتتعظوا وتعملوا بموجبه (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً) أى ممن يملك الإذن على أن من لا يملكه من النساء والولدان وجدانه كفقدانه أو أحدا أصلا على أن مدلول النص الكريم عبارة هو النهى عن دخول البيوت الخالية لما فيه من الاطلاع على ما يعتاد الناس إخفاءه مع أن التصرف فى ملك الغير محظور مطلقا وأما حرمة دخول ما فيه النساء والولدان فثابتة بدلالة النص لأن الدخول حيث حرم مع ما ذكر من العلة فلأن يحرم عند انضمام ما هو أقوى منه إليه أعنى الإطلاع على العورات أولى (فَلا تَدْخُلُوها) واصبروا (حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) أى من جهة من يملك الإذن عند إتيانه ومن فسره بقوله حتى يأتى من يأذن لكم أو حتى تجدوا من يأذن لكم فقد أبرز القطعى فى معرض الاحتمال ولما كان جعل النهى مغيا بالإذن مما يوهم الرخصة فى الانتظار على الأبواب مطلقا بل فى تكرير الاستئذان ولو بعد الرد دفع ذلك بقوله تعالى (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) أى إن

١٦٨

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) (٣٠)

____________________________________

أمرتم من جهة أهل البيت بالرجوع سواء كان الأمر ممن يملك الإذن أو لا فارجعوا ولا تلحوا بتكرير الاستئذان كما فى الوجه الأول ولا تلجوا بالإصرار على الانتظار إلى أن يأتى الآذن كما فى الثانى فإن ذلك مما يجلب الكراهة فى قلوب الناس ويقدح فى المروءة أى قدح (هُوَ) أى الرجوع (أَزْكى لَكُمْ) أى أطهر مما لا يخلو عنه اللج والعناد والوقوف على الأبواب من دنس الدناءة والرذالة (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) فيعلم ما تأتون وما تذرون مما كلفتموه فيجازيكم عليه (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا) أى بغير استئذان (بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) أى غير موضوعة لسكنى طائفة مخصوصة فقط بل ليتمتع بها من يضطر إليها كائنا من كان من غير أن يتخذها سكنا كالربط والخانات والحوانيت والحمامات ونحوها فإنها معدة لمصالح الناس كافة كما ينبىء عنه قوله تعالى (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) فإنه صفة للبيوت أو استئناف جار مجرى التعليل لعدم الجناح أى فيها حق تمتع لكم كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الأمتعة والرجال والشراء والبيع والاغتسال وغير ذلك مما يليق بحال البيوت وداخليها فلا بأس بدخولها بغير استئذان من داخليها من قبل ولا ممن يتولى أمرها ويقوم بتدبيرها من قوام الرباطات والخانات وأصحاب الحوانيت ومتصرفى الحمامات ونحوهم ويروى أن أبا بكر رضى الله عنه قال يا رسول الله إن الله تعالى قد أنزل عليك آية فى الاستئذان وإنا نختلف فى تجاراتنا فننزل هذه الخانات أفلا ندخلها إلا بإذن فنزلت وقيل هى الخربات يتبرز فيها والمتاع التبرز والظاهر أنها من جملة ما ينتظمه البيوت لا أنها المرادة فقط وقوله تعالى (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) وعيد لمن يدخل مدخلا من هذه المداخل لفساد أو اطلاع على عورات (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ) شروع فى بيان أحكام كلية شاملة للمؤمنين كافة يندرج فيها حكم المستأذنين عند دخولهم البيوت اندراجا أوليا وتلوين الخطاب وتوجيهه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتفويض ما فى حيزه من الأوامر والنواهى إلى رأيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنها تكاليف متعلقة بأمور جزئية كثيرة الوقوع حقيقة بأن يكون الآمر بها والمتصدى لتدبيرها حافظا ومهيمنا عليهم ومفعول الأمر أمر آخر قد حذف تعويلا على دلالة جوابه عليه أى قل لهم غضوا (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) عما يحرم ويقتصروا به على ما يحل (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم وتقييد الغض بمن التبعيضية دون الحفظ لما فى أمر النظر من السعة وقيل المراد بالحفظ ههنا خاصة هو الستر (ذلِكَ) أى ما ذكر من الغض والحفظ (أَزْكى لَهُمْ) أى أطهر لهم من دنس الريبة (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) لا يخفى عليه شىء مما يصدر عنهم من الأفاعيل التى من جملتها جالة النظر واستغمال سائر الحواس وتحريك

١٦٩

(وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣١)

____________________________________

الجوارح وما يقصدون بذلك فليكونوا على حذر منه فى كل ما يأتون وما يذرون (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ) فلا ينظرن إلى مالا يحل لهن النظر إليه (وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) بالتستر أو التصون عن الزنا وتقديم الغض لأن النظر يريد الزنا ورائد الفساد (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) كالحلى وغيرها مما يتزين به وفيه من المبالغة فى النهى عن إبداء مواضعها مالا يخفى (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) عند مزاولة الأمور التى لا بد منها عادة كالخاتم والكحل والخضاب ونحوها فإن فى سترها حرجا بينا وقيل المراد بالزينة مواضعها على حذف المضاف أو ما يعم المحاسن الخليقية والتزيينية والمستثنى هو الوجه والكفان لأنها ليست بعورة (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) إرشاد إلى كيفية إخفاء بعض مواضع الزينة بعد النهى عن إبدائها وقد كانت النساء على عادة الجاهلية يسدلن خمرهن من خلفهن فتبدو نحورهن وقلائدهن من جيوبهن لوسعها فأمرن بإرسال خمرهن إلى جيوبهن سترا لما يبدو منها وقد ضمن الضرب معنى الإلقاء فعدى بعلى وقرىء بكسر الجيم كما تقدم (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) كرر النهى لاستثناء بعض مواد الرخصة عنه باعتبار الناظر بعد ما استثنى عنه بعض مواد الضرورة باعتبار المنظور (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) فإنهم المقصودون بالزينة ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الموضع المعهود (أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ) لكثرة المخالطة الضرورية بينهم وبينهن وقلة توقع الفتنة من قبلهم لما فى طباع الفريقين من النفرة عن مماسة القرائب ولهم أن ينظروا منهن ما يبدو عند المهنة والخدمة وعدم ذكر الأعمام والأخوال لما أن الأحوط أن يتسترن عنهم حذارا من أن يصفوهن لأبنائهم (أَوْ نِسائِهِنَّ) المختصات بهن بالصحبة والخدمة من حرائر المؤمنات فإن الكوافر لا يتحرجن عن وصفهن للرجال (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) أى من الإماء فإن عبد المرأة بمنزلة الأجنبى منها وقيل من الإماء والعبيد لما روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى فاطمة رضى الله عنها بعبد وهبه لها وعليها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) أى أولى الحاجة إلى النساء وهم الشيوخ الهم والممسوحون وفى المجبوب والخصى خلاف وقيل هم البله الذين يتتبعون الناس لفضل طعامهم ولا يعرفون شيئا من أمور النساء وقرىء غير بالنصب على الحالية (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ)

١٧٠

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٣٢)

____________________________________

لعدم تمييزهم من الظهور بمعنى الاطلاع أو لعدم بلوغهم حد الشهوة من الظهور بمعنى الغلبة والطفل جنس وضع موضع الجمع اكتفاء بدلالة الوصف (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ) أى ما يحفينه من الرؤية (مِنْ زِينَتِهِنَّ) أى ولا يضربن بأرجلهن الأرض ليتقعقع خلخالهن فيعلم أنهن ذوات خلخال فإن ذلك مما يورث الرجال ميلا إليهن ويوهم أن لهن ميلا إليهم وفى النهى عن إبداء صوت الحلى بعد النهى عن إبداء عينها من المبالغة فى الزجر عن إبداء موضعها مالا يخفى (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً) تلوين للخطاب وصرف له عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الكل بطريق التغليب لإبراز كمال العناية بما فى حيزه من أمر التوبة وأنها من معظمات المهمات الحقيقة بأن يكون سبحانه وتعالى هو الآمر بها لما أنه لا يكاد يخلو أحد من المكلفين عن نوع تفريط فى إقامة مواجب التكاليف كما ينبغى وناهيك بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيبتنى سورة هود لما فيها من قوله عزوجل فاستقم كما أمرت لا سيما إذا كان المأمور به الكف عن الشهوات وقيل توبوا عما كنتم تفعلونه فى الجاهلية فإنه وإن جب بالإسلام لكن يجب الندم عليه والعزم على تركه كلما خطر بباله وفى تكرير الخطاب بقوله تعالى (أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) تأكيد للإيجاب وإيذان بأن وصف الإيمان موجب للامتثال حتما وقرىء أيه المؤمنون (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تفوزون بذلك بسعادة الدارين (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) بعد ما زجر تعالى عن السفاح ومباديه القريبة والبعيدة أمر بالكاح فإنه مع كونه مقصودا بالذات من حيث كونه مناطا لبقاء النوع خير مزجرة عن ذلك وأيامى مقلوب أيايم جمع أيم وهو من لا زوج له من الرجال والنساء بكرا كان أو ثيبا كما يفصح عنه قول من قال[فإن تنكحى أنكح وإن تتأيمى * وإن كنت أفتى منكم أتأيم] أى زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) على أن الخطاب للأولياء والسادات واعتبار الصلاح فى الأرقاء لأن من لا صلاح له منهم بمعزل من أن يكون خليقا بأن يعتنى مولاه بشأنه ويشق عليه ويتكلف فى نظم مصالحه بما لا بد منه شرعا وعادة من بذل المال والمنافع بل حقه أن يستبقيه عنده وأما عدم اعتبار الصلاح فى الأحرار والحرائر فلأن الغالب فيهم الصلاح على أنهم مستبدون فى التصرفات المتعلقة بأنفسهم وأموالهم فإذا عزموا النكاح فلا بد من مساعدة الأولياء لهم إذ ليس عليهم فى ذلك غرامة حتى يعتبر فى مقابلتها غنيمة عائدة إليهم عاجلة أو آجلة وقيل المراد هو الصلاح للنكاح والقيام بحقوقه (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) إزاحة لما عسى يكون وازعا من النكاح من فقر أحد الجانبين أى لا يمنعن فقر الخاطب أو المخاطوبة من المناكحة فإن فى فضل الله عزوجل غنية عن المال فإنه غاد ورائح يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب أو وعد منه سبحانه بالإغناء لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اطلبوا الغنى فى هذه الآية لكنه مشروط بالمشيئة كما فى قوله تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ (وَاللهُ واسِعٌ) غنى ذو سعة لا يرزؤه إغناء الخلائق إذ لا نفاد لنعمته ولا غاية لقدرته مع ذلك (عَلِيمٌ) يبسط

١٧١

(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٣)

____________________________________

الرزق لمن يشاء ويقدر حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة (وَلْيَسْتَعْفِفِ) إرشاد للعاجزين عن مبادى النكاح وأسبابها إلى ما هو أولى لهم وأحرى بهم بعد بيان جواز مناكحة الفقراء أى ليجتهد فى العفة وقمع الشهوة (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً) أى أسباب نكاح أو لا يتمكنون مما ينكح به من المال (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) عدة كريمة بالتفضل عليهم بالغنى ولطف لهم فى استعفافهم وتقوية لقلوبهم وإيذان بأن فضله تعالى أولى بالأعفاء وأدنى* من الصلحاء (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ) بعد ما أمر بإنكاح صالحى الماليك الأحقاء بالإنكاح أمر بكتابة من* ستحقها منهم والكتاب مصدر كاتب كالمكاتبة أى الذين يطلبون المكاتبة (مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) عبدا كان أو أمة وهى أن يقول المولى لمملوكه كاتبتك على كذا درهما تؤديه إلى وتعتق ويقول المملوك قبلته أو نحو ذلك فإن أداه إليه عتق قالوا معناه كتبت لك على نفسى أن تعتق منى إذا وفيت بالمال وكتبت لى على نفسك أن تفى بذلك أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت على العتق عنده والتحقيق أن المكاتبة اسم للعقد الحاصل من مجموع كلاميهما كسائر العقود الشرعية المنعقدة بالإيجاب والقبول ولا ريب فى أن ذلك لا يصدر حقيقة إلا من المتعاقدين وليس وظيفة كل منهما فى الحقيقة إلا الإتيان بأحد شطريه معربا عما يتم من قبله ويصدر عنه من الفعل الخاص به من غير تعرض لما يتم من قبل صاحبه ويصدر عنه من فعله الخاص به إلا أن كلا من ذينك الفعلين لما كان بحيث لا يمكن تحققه فى نفسه إلا منوطا بتحقق الآخر ضرورة أن التزام العتق بمقابلة البدل من جهة المولى لا يتصور تحققه وتحصله إلا بالتزام البدل من طرف العبد كما أن عقد البيع الذى هو تمليك المبيع بالثمن من جهة البائع لا يمكن تحققه إلا بتملكه به من جانب المشترى لم يكن بد من تضمين أحدهما الآخر وقت الإنشاء فكما أن قول البائع بعت إنشاء لعقد البيع على معنى أنه إيقاع لما يتم من قبله أصالة ولما يتم من قبل المشترى ضمنا إيقاعا متوقفا على رأيه توقفا شبيها بتوقف عقد الفضولى كذلك قول المولى كاتبتك على كذا إنشاء لعقد الكتابة أى إيقاع لما يتم من قبله من التزام العتق بمقابلة البدل أصالة ولما يتم من قبل العبد من التزام البدل ضمنا إيقاعا متوقفا على قبوله فإذا قبل تم العقد ومحل الموصول الرفع على* الابتداء خبره (فَكاتِبُوهُمْ) والفاء لتضمنه معنى الشرط أو النصب على أنه مفعول لمضمر يفسره هذا والامر فيه للندب لأن الكتابة عقد يتضمن الإرفاق فلا تجب كغيرها ويجوز حالا ومؤجلا ومنجما* وغير منجم وعند الشافعى رحمه‌الله لا يجوز إلا مؤجلا منهما وقد فصل فى موضعه (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) أى أمانة ورشدا وقدرة على أداء البدل بتحصيله من وجه حلال وصلاحا لا يؤذى الناس بعد العتق* وإطلاق العنان (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) أمر للموالى ببذل شىء من أموالهم وفى حكمه حط شىء

١٧٢

من مال الكتابة ويكفى فى ذلك أقل ما يتمول وعن على رضى الله عنه حط الربع وعن ابن عباس رضى الله عنهما الثلث وهو للندب عندنا وعند الشافعى للوجوب ويرده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المكاتب عبد ما بقى عليه درهم إذ لو وجب الحط لسقط عنه الباقى حتما وأيضا لو وجب الحط لكان وجوبه معلقا بالعقد فيكون العقد موجبا ومسقطا معا وأيضا فهو عقد معاوضة فلا يجبر على الحطيطة كالبيع وقيل معنى آتوهم أقرضوهم وقيل هو أمر لهم بأن ينفقوا عليهم بعد أن يؤدوا ويعتقوا وإضافة المال إليه تعالى ووصفه بإينائه إياهم للحث على الامتثال بالأمر بتحقيق المأمور به كما فى قوله تعالى (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) فإن ملاحظة وصول المال إليهم من جهته تعالى مع كونه هو المالك الحقيقى له من أقوى الدواعى إلى صرفه إلى الجهة المأمور بها وقيل هو أمر بإعطاء سهمهم من الصدقات فالأمر للوجوب حتما والإضافة والوصف لتعيين المأخذ وقيل هو أمر ندب لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين بالتصدق عليهم ويحل ذلك للمولى وإن كان غنيا لتبدل العنوان حسبما ينطق به قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حديث بريرة هو لها صدقة ولنا هدية (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ) * أى إماءكم فإن كلا من الفتى والفتاة كناية مشهورة عن العبد والأمة وعلى ذلك مبنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليقل أحدكم فتاى وفتاتى ولا يقل عبدى وأمتى ولهذه العبارة فى هذا المقام باعتبار مفهومها الأصلى حسن موقع ومزيد مناسبة لقوله تعالى (عَلَى الْبِغاءِ) وهو الزنا من حيث صدوره عن النساء لأنهن اللاتى يتوقع منهن* ذلك غالبا دون من عداهن من العجائز والصغائر وقوله تعالى (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) ليس لتخصيص النهى* بصورة إرادتهن التعفف عن الزنا وإخراج ما عداها من حكمه كما إذا كان الاكراه بسبب كراهتهن الزنا لخصوص الزانى أو لخصوص الزمان أو لخصوص المكان أو لغير ذلك من الأمور المصححة للإكراه فى الجملة بل للمحافظة على عادتهم المستمرة حيث كانوا يكرهونهن على البغاء وهن يردن التعفف عنه مع وفور شهوتهن الآمرة بالفجور وقصورهن فى معرفة الأمور الداعية إلى المحاسن الزاجرة عن تعاطى القبائح فإن عبد الله بن أبى كانت له ست جوار يكرههن على الزنا وضرب عليهن ضرائب فشكت اثنتان منهن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت وفيه من زيادة تقبيح حالهم وتشنيعهم على ما كانوا عليه من القبائح ما لا يخفى فإن من له أدنى مروءة لا يكاد يرضى بفجور من يحويه حرمه من إمائه فضلا عن أمرهن به أو إكراههن عليه لا سيما عند إرادتهن التعفف فتأمل ودع عنك ما قيل من أن ذلك لأن الإكراه لا يتأتى إلا مع إرادة التحصن وما قيل من أنه إن جعل شرطا للنهى لا يلزم من عدمه جواز الإكراه لجواز أن يكون ارتفاع النهى لامتناع المنهى عنه فإنهما بمعزل من التحقيق وإيثار كلمة إن على إذا مع تحقق الإرادة فى مورد النص حتما للإيذان بوجوب الانتهاء عن الإكراه عند كون إرادة التحصن فى حين التردد والشك فكيف إذا كانت محققة الوقوع كما هو الواقع وتعليله بأن الإرادة المذكورة منهن فى حين الشاذ النادر مع خلوه عن الجدوى بالكلية يأباه اعتبار تحققها إباء ظاهرا وقوله تعالى (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) قيد للإكراه* لكن لا باعتبار أنه مدار للنهى عنه بل باعتبار أنه المعتاد فيما بينهم كما قبله جىء به تشنيعا لهم فيما هم عليه من احتمال الوزر الكبير لأجل النزر الحقير أى لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراههن على البغاء لطلب المتاع السريع الزوال الوشيك الاضمحلال فالمراد بالابتغاء الطلب المقارن لنيل المطلوب واستيفائه بالفعل إذ

١٧٣

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (٣٤)

____________________________________

* هو الصالح لكونه غاية للإكراه مترتبا عليه لا المطلق المتناول للطلب السابق الباعث عليه (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ) الخ جملة مستأنفة سيقت لتقرير النهى وتأكيد وجوب العمل به ببيان خلاص المكرهات عن عقوبة المنكره عليه عبارة ورجوع غائلة الإكراه إلى المكرهين إشارة أى ومن يكرههن على ما ذكر من البغاء* (فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أى لهن كما وقع فى مصحف ابن مسعود وعليه قراءة ابن عباس رضى الله تعالى عنهم وكما ينبىء عنه قوله تعالى (مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَ) أى كونهن مكرهات على أن الإكراه مصدر من المبنى للمفعول فإن توسيطه بين اسم إن وخبرها للإيذان بأن ذلك هو السبب للمغفرة والرحمة وكان الحسن البصرى رحمه‌الله إذا قرأ هذه الآية يقول لهن والله لهن والله وفى تخصيصهما بهن وتعيين مدارهما مع سبق ذكر المكرهين أيضا فى الشرطية دلالة بينة على كونهم محرومين منهما بالكلية كأنه قيل لا للمكره ولظهور هذا التقدير اكتفى به عن العائد إلى اسم الشرط فتجويز تعلقهما بهم بشرط التوبة استقلالا أو معهن إخلال بجزالة النظم الجليل وتهوين لأمر النهى فى مقام التهويل وحاجتهن إلى المغفرة المنبئة عن سابقة الإثم إما باعتبار أنهن وإن كن مكرهات لا يخلون فى تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة ما بحكم الجبلة البشرية وإما باعتبار أن الإكراه قد يكون قاصرا عن حد الالجاء المزيل للاختيار بالمرة وإما لغاية تهويل أمر الزنا وحث المكرهات على التثبت فى التجافى عنه والتشديد فى تحذير المكرهين ببيان أنهن حيث كن عرضة للعقوبة لو لا أن تداركهن المغفرة والرحمة مع قيام العذر فى حقهن فما حال من يكرههن فى استحقاق العذاب (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ) كلام مستأنف جىء به فى تضاعيف ما ورد من الآيات السابقة واللاحقة لبيان جلالة شئونها المستوجبة للإقبال الكلى على العمل بمضمونها وصدر بالقسم الذى تعرب عنه اللام لإبراز كمال العناية بشأنه أى وبالله لقد أنزلنا إليكم فى هذه السورة الكريمة آيات مبينات لكل ما بكم حاجة إلى بيانه من الحدود وسائر الأحكام والآداب وغير ذلك مما هو من مبادى بيانها على أن إسناد التبيين إليها مجازى أو آيات واضحات تصدقها الكتب القديمة والعقول السليمة على أن مبينات من بين بمعنى تبين ومنه المثل قد بين الصبح لذى عينين وقرىء على صيغة المفعول أى التى بينت وأوضحت فى هذه السورة من معانى الأحكام والحدود وقد جوز أن يكون الأصل مبينا فيها الأحكام* فانسع فى الظرف بإجرائه مجرى المفعول (وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) عطف على آيات أى وأنزلنا مثلا كائنا من قبيل أمثال الذين مضوا من قبلكم من القصص العجيبة والأمثال المضروبة لهم فى الكتب السابقة والكلمات الجارية على ألسنة الأنبياء عليهم‌السلام فينتظم قصة عائشة رضى الله عنها المحاكية لقصة يوسف عليه‌السلام وقصة مريم رضى الله عنها وسائر الأمثال الواردة فى السورة الكريمة انتظاما واضحا وتخصيص الآيات المبينات بالسوابق وحمل المثل على القصة العجيبة فقط يأباه تعقيب الكلام بما* سيأتى من التمثيلات (وَمَوْعِظَةً) تتعظون به وتنزجرون عما لا ينبغى من المحرمات والمكروهات وسائر ما يخل بمحاسن الآداب فهى عبارة عما سبق من الآيات والمثل لظهور كونها من المواعظ بالمعنى المذكور

١٧٤

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣٥)

____________________________________

ومدار العطف هو التغاير العنوانى المنزل منزلة التغاير الذاتى وقد خصت الآيات بما يبين الحدود والأحكام والموعظة بما وعظ به من قوله تعالى (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) وقوله تعالى (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) وغير ذلك من الآيات الواردة فى شأن الآداب وإنما قيل (لِلْمُتَّقِينَ) مع شمول الموعظة للكل حسب شمول* الإنزال لقوله تعالى (أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ) حثا للمخاطبين على الاعتناء بالانتظام فى سلك المتقين ببيان أنهم المغتنمون لآثارها المقتبسون من أنوارها فحسب وقيل المراد بالآيات المبينات والمثل والموعظة جميع ما فى القرآن المجيد من الآيات والأمثال والمواعظ فقوله تعالى (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الخ حينئذ استئناف مسوق لتقرير ما فيها من البيان مع الإشعار بكونه فى غاية الكمال على الوجه الذى ستعرفه وأما على الأول فلتحقيق أن بيانه تعالى ليس مقصورا على ما ورد فى السورة الكريمة بل هو شامل لكل ما يحق بيانه من الأحكام والشرائع ومباديها وغاياتها المترتبة عليها فى الدنيا والآخرة وغير ذلك مما له مدخل فى البيان وأنه واقع منه تعالى على أتم الوجوه وأكملها حيث عبر عنه بالتنوير الذى هو أقوى مراتب البيان وأجلاها وعبر عن المنور بنفس النور تنبيها على قوة التنوير وشدة التأثير وإيذانا بأنه تعالى ظاهر بذاته وكل ما سواه ظاهر بإظهاره كما أن النور نير بذاته وما عداه مستنير به وأضيف النور إلى السموات والأرض للدلالة على كمال شيوع البيان المستعار له وغاية شموله لكل ما يليق به من الأمور التى لها مدخل فى إرشاد الناس بوساطة بيان شمول المستعار منه لجميع ما يقبله ويستحقه من الأجرام العلوية والسفلية فإنهما قطران للعالم الجسمانى الذى لا مظهر للنور الحسى سواه أو على شمول البيان لأحوالهما وأحوال ما فيهما من الموجودات إذ ما من موجود إلا وقد بين من أحواله ما يستحق البيان إما تفصيلا أو إجمالا كيف لا ولا ريب فى بيان كونه دليلا على وجود الصانع وصفاته وشاهدا بصحة البعث أو على تعلق البيان بأهلهما كما قال ابن عباس رضى الله عنهما هادى أهل السموات والأرض فهم بنوره يهتدون وبهداه من حيرة الضلالة ينجون هذا وأما حمل التنوير على إخراجه تعالى للماهيات من العدم إلى الوجود إذ هو الأصل فى الإظهار كما أن الإعدام هو الأصل فى الإخفاء أو على تزيين السموات بالنيرين وسائر الكواكب وما يفيض عنها من الأنوار أو بالملائكة عليهم‌السلام وتزيين الأرض بالأنبياء عليهم‌السلام والعلماء والمؤمنين أو بالنبات والأشجار أو على تدبيره تعالى لأمورهما وأمور ما فيهما فمما لا يلائم المقام ولا يساعده حسن النظام (مَثَلُ نُورِهِ) أى نوره الفائض منه تعالى على* الأشياء المستنيرة به وهو القرآن المبين كما يعرب عنه ما قبله من وصف آياته بالإنزال والتبيين وقد صرح بكونه نورا أيضا فى قوله تعالى (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) وبه قال ابن عباس رضى الله عنهما والحسن وزيد

١٧٥

ابن أسلم رحمهم‌الله تعالى وجعله عبارة عن الحق وإن شاع استعارته له كاستعارة الظلمة للباطل يأباه مقام بيان شأن الآيات ووصفها بما ذكر من التبيين مع عدم سبق ذكر الحق ولأن المعتبر فى مفهوم النور هو الظهور والإظهار كما هو شأن القرآن الكريم وأما الحق فالمعتبر فى مفهومه من حيث هو حق هو الظهور* لا الإظهار والمراد بالمثل الصفة العجيبة أى صفة نوره العجيبة (كَمِشْكاةٍ) أى كصفة كوة غير نافذة فى الجدار فى الإنارة والتنوير (فِيها مِصْباحٌ) سراج ضخم ثاقب وقيل المشكاة الأنبوبة فى وسط القنديل والمصباح الفتيلة المشتعلة (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) أى قنديل من الزجاج الصافى الأزهر وقرىء بفتح الزاى* وكسرها فى الموضعين (الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) متلألىء وقاد شبيه بالدر فى صفائه وزهرته ودرارى الكواكب عظامها المشهورة وقرىء درىء بدال مكسورة وراء مشددة وياء ممدودة بعدها همزة على أنه فعيل من الدرء وهو الدفع أى مبالغ فى دفع الظلام بضوئه أو فى دفع بعض أجزاء ضيائه لبعض عند البريق واللمعان وقرىء بضم الدال والباقى على حاله وفى إعادة المصباح والزجاجة معرفين إثر سبقهما منكرين والإخبار عنهما بما بعدهما مع انتظام الكلام بأن يقال كمشكاة فيها مصباح فى زجاجة كأنها كوكب درى من تفخيم شأنهما ورفع مكانهما بالتفسير إثر الإبهام والتفصيل بعد الإجمال وبإثبات ما بعدهما لهما بطريق الإخبار المنبىء عن القصد الأصلى دون الوصف المبنى على الإشارة إلى الثبوت فى الجملة مالا يخفى ومحل الجملة الأولى الرفع على أنها صفة لمصباح ومحل الثانية الجر على أنها صفة لزجاجة واللام* مغنية عن الرابط كأنه قيل فيها مصباح هو فى زجاجة هى كأنها كوكب درى (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ) أى يبتدأ إيقاد المصباح من شجرة (مُبارَكَةٍ) أى كثيرة المنافع بأن رويت ذبالته بزيتها وقيل إنما وصفت بالبركة* لأنها تنبت فى الأرض التى بارك الله تعالى فيها للعالمين (زَيْتُونَةٍ) بدل من شجرة وفى إبهامها ووصفها بالبركة ثم الإبدال منها تفخيم لشأنها وقرىء توقد بالناء على أن الضمير القائم مقام الفاعل للزجاجة دون المصباح وقرىء توقد على صيغة الماضى من التفعل أى ابتداء ثقوب المصباح منها وقرىء توقد بحذف* إحدى التاءين من تتوقد على إسناده إلى الزجاجة (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) تقع الشمس عليها حينا دون حين بل بحيث تقع عليها طول النهار كالتى على قلة أو صحراء واسعة فتقع الشمس عليها حالتى الطلوع والغروب وهذا قول ابن عباس رضى الله عنهما وسعيد بن جبير وقتادة وقال الفراء والزجاج لا شرقية وحدها ولا غربية وحدها لكنها شرقية وغربية أى تصيبها الشمس عند طلوعها وعند غروبها فتكون شرقية وغربية تأخذ حظها من الأمرين فيكون زيتها أضوأ وقيل لا نابتة فى شرق المعمورة ولا فى غربها بل فى وسطها وهو الشأم فإن زيوتها أجود ما يكون وقيل لا فى مضحى تشرق الشمس عليها دائما فتحرقها ولا فى مقنأة تغيب عنها دائما فتتركها نيأ وفى الحديث لا خير فى شجرة ولا فى نبات فى مقنأة ولا خير فيهما* فى مضحى (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) أى هو فى الصفاء والإنارة بحيث يكاد يضىء بنفسه من غير مساس نار أصلا وكلمة لو فى أمثال هذه المواقع ليست لبيان انتفاء شىء فى الزمان الماضى لانتفاء غيره فيه فلا يلاحظ لها جواب قد حذف ثقة بدلالة ما قبلها عليه ملاحظة قصدية إلا عند القصد إلى بيان الإعراب على القواعد الصناعية بل هى لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق من الحكم الموجب أو المنفى على

١٧٦

كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له إجمالا بإدخالها على أبعدها منه إما لوجود المانع كما فى قوله تعالى أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم فى بروج مشيدة وإما لعدم الشرط كما فى هذه الآية الكريمة ليظهر بثبوته أو انتفائه معه ثبوته أو انتفاؤه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية لما أن الشىء متى تحقق مع ما ينافيه من وجود المانع أو عدم الشرط فلأن يتحقق بدون ذلك أولى ولذلك لا يذكر معه شىء آخر من سائر الأحوال ويكتفى عنه بذكر الواو العاطفة للجملة على نظيرتها المقابلة لها والمتناولة لجميع الأحوال المغايرة لها عند تعددها وهذا معنى قولهم إنها لاستقصاء الأحوال على سبيل الإجمال وهذا أمر مطرد فى الخبر الموجب والمنفى فإنك إذا قلت فلان جواد يعطى ولو كان فقيرا أو بخيل لا يعطى ولو كان غنيا تريد بيان تحقق الإعطاء فى الأول وعدم تحققه فى الثانى فى جميع الأحوال المفروضة والتقدير يعطى لو لم يكن فقيرا ولو كان فقيرا ولا يعطى لو لم يكن غنيا ولو كان غنيا فالجملة مع ما عطفت هى عليه فى حين النصب على الحالية من المستكن فى الفعل الموجب أو المنفى أى يعطى أولا يعطى كائنا على جميع الأحوال وتقدير الآية الكريمة يكاد زيتها يضىء لو مسته نار ولو لم تمسسه نار أى يضىء كائنا على كل حال من وجود الشرط وعدمه وقد حذفت الجملة الأولى حسبما هو المطرد فى الباب لدلالة الثانية عليها دلالة واضحة (نُورُ) خبر مبتدأ محذوف وقوله تعالى (عَلى نُورٍ) متعلق بمحذوف هو صفة له مؤكدة* لما أفاده التنكير من الفخامة والجملة فذلكة للتمثيل وتصريح بما حصل منه وتمهيد لما يعقبه أى ذلك النور الذى عبر به عن القرآن ومثلت صفته العجيبة الشأن بما فصل من صفة المشكاة نور عظيم كائن على نور كذلك لا على أنه عبارة عن نور واحد معين أو غير معين فوق نور آخر مثله ولا عن مجموع نورين اثنين فقط بل عن نور متضاعف من غير تحديد لتضاعفه بحد معين وتحديد مراتب تضاعف ما مثل به من نور المشكاة بما ذكر لكونه أقصى مراتب تضاعفه عادة فإن المصباح إذا كان فى مكان متضايق كالمشكاة كان أضوأ له وأجمع لنوره بسبب انضمام الشعاع المنعكس منه إلى أصل الشعاع بخلاف المكان المتسع فإن الضوء ينبث فيه وينتشر والقنديل أعون شىء على زيادة الإنارة وكذلك الزيت وصفاؤه وليس وراء هذه المراتب مما يزيد نورها إشراقا ويمده باضاءة مرتبة أخرى عادة هذا وجعل النور عبارة عن النور المشبه به مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ) أى يهدى هداية خاصة موصلة إلى المطلوب حتما لذلك النور* المتضاعف العظيم الشأن وإظهاره فى مقام الإضمار لزيادة تقريره وتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية الناشئة من إضافته إلى ضميره عزوجل (مَنْ يَشاءُ) هدايته من عباده بأن يوفقهم لفهم ما فيه من دلائل* حقيته وكونه من عند الله تعالى من الإعجاز والاخبار عن الغيب وغير ذلك من موجبات الإيمان به وفيه إيذان بأن مناط هذه الهداية وملاكها ليس إلا مشيئته تعالى وأن تظاهر الأسباب بدونها بمعزل من الإفضاء إلى المطالب (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) فى تضاعيف الهداية حسبما يقتضى حالهم فإن له دخلا* عظيما فى باب الإرشاد لأنه إبراز للمعقول فى هيئة المحسوس وتصوير لأوابد المعانى بصورة المأنوس ولذلك مثل نوره المعبر به عن القرآن المبين بنور المشكاة وإظهار الاسم الجليل فى مقام الإضمار للإيذان

١٧٧

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (٣٦)

____________________________________

باختلاف حال ما أسند إليه تعالى من الهداية الخاصة وضرب الأمثال الذى هو من قبيل الهداية العامة* كما يفصح عنه تعليق الأولى بمن يشاء والثانية بالناس كافة (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) مفعولا كان أو محسوسا ظاهرا كان أو باطنا ومن قضيته أن تتعلق مشيئته بهداية من يليق بها ويستحقها من الناس دون من عداهم لمخالفته الحكمة التى عليها مبنى التكوين والتشريع وأن تكون هدايته العامة على فنون مختلفة وطرائق شتى حسبما تقتضيه أحوالهم والجملة اعتراض تذييل مقرر لما قبله وإظهار الاسم الجليل لتأكيد استقلال الجملة والإشعار بعلة الحكم وبما ذكر من اختلاف حال المحكوم به ذاتا وتعلقا (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) لما ذكر شأن القرآن الكريم فى بيانه للشرائع والأحكام ومباديها وغاياتها المترتبة عليها من الثواب والعقاب وغير ذلك من أحوال الآخرة وأهوالها وأشير إلى كونه فى غاية ما يكون من التوضيح والإظهار حيث مثل بما فصل من نور المشكاة وأشير إلى أن ذلك النور مع كونه فى أقصى مراتب الظهور إنما يهتدى بهداه من تعلقت مشيئة الله تعالى بهدايته دون من عداه عقب ذلك بذكر الفريقين وتصوير بعض أعمالهم المعربة عن كيفية حالهم فى الاهتداء وعدمه والمراد بالبيوت المساجد كلها حسبما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما وقيل هى المساجد التى بناها نبى من أنبياء الله تعالى الكعبة التى بناها إبراهيم وإسمعيل عليهما‌السلام وبيت المقدس الذى بناه داود وسليمان عليهما‌السلام ومسجد المدينة ومسجد قباء اللذان بناهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتنكيرها للتفخيم والمراد بالإذن فى رفعها الأمر ببنائها رفيعة لا كسائر البيوت وقيل هو الأمر برفع مقدارها بعبادة الله تعالى فيها فيكون عطف الذكر عليه من قبيل العطف التفسيرى وأياما كان ففى التعبير عنه بالإذن تلويح بأن اللائق بحال المأمور أن يكون متوجها إلى المأمور به قبل ورود الأمر به ناويا لتحقيقه كأنه مستأذن فى ذلك فيقع الأمر به موقع* الإذن فيه والمراد بذكر اسمه تعالى ما يعم جميع أدكاره تعالى وكلمة فى متعلقة بقوله تعالى (يُسَبِّحُ لَهُ) وقوله* تعالى (فِيهَا) تكرير لها للتأكيد والتذكير لما بينهما من الفاصلة وللإيذان بأن التقديم للاهتمام لا لقصر التسبيح على الوقوع فى البيوت فقط وأصل التسبيح التنزيه والتقديس يستعمل باللام وبدونها أيضا كما فى قوله تعالى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قالوا أريد به الصلوات المفروضة كما ينبىء عنه تعيين الأوقات بقوله* تعالى (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أى بالغدوات والعشايا على أن الغدو إما جمع غداة كقنى فى جمع قناة كما قيل أو مصدر أطلق على الوقت حسبما يشعر به اقترانه بالآصال وهو جمع أصيل وهو العشى وهو شامل الأوقات ما عدا صلاة الفجر المؤداة بالغداة ويجوز أن يراد به نفس التنزيه على أنه عبارة عما يقع منه فى أثناء الصلوات وأوقاتها لزيادة شرفه وإنافته على سائر أفراده أو عما يقع فى جميع الأوقات وأفراد طرفى النهار بالذكر لقيامهما مقام كلها لكونهما العمدة فيها بكونهما مشهودين وكونهما أشهر ما يقع فيه المباشرة للأعمال والأشتغال بالاشغال وقرىء والإيصال وهو الدخول فى الأصيل وقوله تعالى :

١٧٨

(رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٨)

____________________________________

(رِجالٌ) فاعل يسبح وتأخيره عن الظروف لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ولأن فى وصفه نوع طول فيخل تقديمه بحسن الانتظام وقرىء يسبح على البناء للمفعول بإسناده إلى أحد الظروف ورحال مرفوع بما ينبىء عنه حكاية الفعل من غير تسمية الفاعل على طريقة قوله [ليبك يزيد ضارع لخصومة) كأنه قيل من يسبح له فقيل يسبح له رجال وقرىء تسبح بتأنيث الفعل مبنيا للفاعل لأن جمع التكسير قد يعامل معاملة المؤنث ومبنيا للمفعول على أن يسند إلى أوقات الغدو والآصال بزيادة الباء وتجعل الأوقات مسبحة مع كونها مسبحا فيها أو يسند إلى ضمير التسبيحة أى تسبح له التسبيحة على المجاز المسوغ لإسناده إلى الوقتين كما خرجوا قراءة أبى جعفر ليجزى قوما أى ليجزى الجزاء قوما بل هذا أولى من ذلك إذ ليس هنا مفعول صريح (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ) صفة لرجال مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة مفيدة لكمال* تبتلهم إلى الله تعالى واستغراقهم فيما حكى عنهم من التسبيح من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم كائنا ما كان وتخصيص التجارة بالذكر لكونها أقوى الصوارف عندهم وأشهرها أى لا يشغلهم نوع من أنواع التجارة (وَلا بَيْعٌ) أى ولا فرد من أفراد البياعات وإن كان فى غاية الربح وإفراده بالذكر مع اندراجه تحت* التجارة للإيذان بإنافته على سائر أنواعها لأن ربحه متيقن ناجز وربح ما عداه متوقع فى ثانى الحال عند البيع فلم يلزم من نفى إلهاء ما عداه نفى إلهائه ولذلك كررت كلمة لا لتذكير النفى وتأكيده وقد نقل عن الواقدى أن المراد بالتجارة هو الشراء لأنه أصلها ومبدؤها وقيل هو الجلب لأنه الغالب فيها ومنه يقال تجر فى كذا أى جلبه (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) بالتسبيح والتحميد (وَإِقامِ الصَّلاةِ) أى إقامتها لمواقيتها من غير* تأخير وقد أسقطت التاء المعوضة عن العين الساقطة بالأعلال وعوض عنها الإضافة كما فى قوله [وأخلفوك عد الأمر الذى وعدوا] أى عدة الأمر (وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) أى المال الذى فرض إخراجه للمستحقين* وإيراده ههنا وإن لم يكن مما يفعل فى البيوت لكونه قرينة لا تفارق إقامة الصلاة فى عامة المواضع مع ما فيه من التنبيه على أن محاسن أعمالهم غير منحصرة فيما يقع فى المساجد وكذلك قوله تعالى (يَخافُونَ) الخ* فإنه صفة ثانية لرجال أو حال من مفعول لا تلهيهم وأيا ما كان فليس خوفهم مقصورا على كونهم فى المساجد وقوله تعالى (يَوْماً) مفعول ليخافون لا ظرف له وقوله تعالى (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) * صفة ليوما أى تضطرب وتتغير فى أنفسها من الهول والفزع وتشخص كما فى قوله تعالى (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) أو تتغير أحوالها وتتقلب فتتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعا عليها وتبصر الأبصار بعد أن كانت عمياء أو تتقلب القلوب بين توقع النجاة وخوف الهلاك والأبصار من أى ناحية يؤخذ بهم ويؤتى كتابهم (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) متعلق بمحذوف يدل عليه ما حكى من أعمالهم المرضية أى

١٧٩

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٣٩)

____________________________________

يفعلون ما يفعلون من المداومة على التسبيح والذكر وإيتاء الزكاة والخوف من غير صارف لهم عن ذلك* ليجزيهم الله تعالى (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أى أحسن جزاء أعمالهم حسبما وعد لهم بمقابلة حسنة واحدة عشرة* أمثالها إلى سبعمائة ضعف (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أى يتفضل عليهم بأشياء لم توعد لهم بخصوصياتها أو بمقاديرها ولم تخطر ببالهم كيفياتها ولا كمياتها بل إنما وعدت بطريق الإجمال فى مثل قوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) وزيادة وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكاية عنه عزوجل أعددت لعبادى الصالحين مالا عين رأت ولا* أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وغير ذلك من المواعيد الكريمة التى من جملتها قوله تعالى (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) فإنه تذييل مقرر للزيادة وعد كريم بأنه تعالى يعطيهم غير أجزية أعمالهم من الخيرات مالا يفى به الحساب وأما عدم سبق الوعد بالزيادة ولو إجمالا وعدم خطورها ببالهم ولو بوجه ما فيأباه نظمها فى سلك الغاية والموصول عبارة عمن ذكرت صفاتهم الجميلة كأنه قيل والله يرزقهم بغير حساب ووضعه موضع ضميرهم للتنبيه بما فى حيز الصلة على أن مناط الرزق المذكور محض مشيئته تعالى لا أعمالهم المحكية كما أنها المناط لما سبق من الهداية لنوره تعالى لا لظاهر الأسباب وللإيذان بأنهم ممن شاء الله تعالى أن يرزقهم كما أنهم ممن شاء الله تعالى أن يهديهم لنوره حسبما يعرب عنه ما فصل من أعمالهم الحسنة فإن جميع ما ذكر من الذكر والتسبيح وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وخوف اليوم الآخر وأهواله ورجاء الثواب مقتبس من القرآن العظيم الذى هو المعنى بالنور وبه يتم بيان أحوال من اهتدى بهداه على أوضح وجه وأجلاه هذا وقد قيل قوله تعالى (فِي بُيُوتٍ) الخ من تتمة التمثيل وكلمة فى متعلقة بمحذوف هى صفة لمشكاة أى كائنة فى بيوت وقيل لمصباح وقيل لزجاجة وقيل متعلقة بيوقد والكل مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل كيف لا وأن ما بعد قوله تعالى (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) على ما هو الحق أو ما بعد قوله تعالى (نُورٌ عَلى نُورٍ) على ما قيل إلى قوله تعالى (بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) كلام متعلق بالممثل قطعا فتوسيطه بين أجزاء التمثيل مع كونه من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه بالأجنبى يؤدى إلى كون ذكر حال المنتفعين بالتمثيل المهديين لنور القرآن الكريم بطريق الاستتباع والاستطراد مع كون بيان حال أضدادهم مقصودا بالذات ومثل هذا مما لا عهد به فى كلام الناس فضلا أن يحمل عليه الكلام المعجز (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) عطف على ما ينساق إليه ما قبله كأنه قيل الذين آمنوا أعمالهم حالا ومآلا كما وصف والذين كفروا (أَعْمالُهُمْ) أى أعمالهم التى هى من أبواب البر كصلة الأرحام وفك العناة وسقاية الحاج وعمارة البيت وإغاثة الملهوفين وقرى الأضياف ونحو ذلك مما لو قارنه الإيمان لاستتبع الثواب كما فى قوله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ) الآية (كَسَرابٍ) وهو ما يرى فى الفلوات من لمعان الشمس عليها وقت الظهيرة فيظن أنه ماء يسرب أى يجرى (بِقِيعَةٍ) متعلق بمحذوف هو صفة لسراب أى كائن فى قاع وهى الأرض المنبسطة

١٨٠