الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-188-2
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٩

ثم قال : و «المقصرين» (١).

وروى ابن أبي شيبة ، عن ابن عباس ، أنهم قالوا : يا رسول الله ، ما بال المحلقين ظاهرت عليهم الترحيم؟

قال : لأنهم لم يشكوا (٢). ورواه البيهقي موقوفا.

وبعث الله تعالى ريحا عاصفة فاحتملت أشعارهم فألقتها في الحرم كما رواه ابن سعد ، عن مجمع بن يعقوب ، عن أبيه.

وأقام رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «بالحديبية تسعة عشر يوما ، ويقال عشرين ليلة ، ذكره محمد بن عمر ، وابن سعد. قال ابن عائذ : وأقام رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في غزوته هذه شهرا ونصفا (٣).

ونقول :

إن لنا ههنا وقفات ، وهي التالية :

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٧ وفي هامشه قال : أخرجه الحاكم ج ٤ ص ٢٣٠ والبيهقي ج ٥ ص ٢٣٦ والدعاء للمحلقين متفق عليه من حديث ابن عمر.

راجع : البخاري ج ٣ ص ٥٦١ (١٧٢٧) ومسلم ج ٢ ص ٩٤٥ (٣١٧ / ١٣٠١) والبحار ج ٢٠ ص ٣٥٤ وعن فتح الباري ج ٥ ص ٢٥٦ وتفسير القمي ج ٢ ص ٣١٤ ونور الثقلين ج ٥ ص ٥٤ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٩٣ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ٢ ص ٦٣٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٢٣.

(٢) أخرجه البيهقي في الدلائل ج ٤ ص ١٥١ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٧ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٨٣ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٧٨٤.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٦ و ٥٧ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٢٥.

١٤١

التبرك :

أما بالنسبة لموضوع التبرك بشعر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وبغير ذلك نقول : إن ذلك من بديهيات الإسلام ، فراجع كتاب التبرك للعلامة الأحمدي «رحمه‌الله».

ما نحره صلى‌الله‌عليه‌وآله عند المروة :

وقد أراد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يطعم الناس في مكة من بعض البدن التي كان يريد أن ينحرها ، تألفيا لهم على الإسلام ، وكسرا للحواجز التي كانوا يسعون لإقامتها بين الناس وبينه ، فأرسل عشرين بدنة لتنحر عنه عند المروة كما تقدم.

الهدي عن سبعة :

وقد ذكرت الروايات المتقدمة : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان ينحر الهدي الواحد عن سبعة أشخاص.

ونقول :

إن ذلك غير جائز في مذهب أهل بيت النبوة «عليهم‌السلام» ، الذين هم أدرى بما في البيت. فلا شك في أن ذلك مكذوب على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

حلمهم الكبير الطعن في علي عليه‌السلام :

تقدم أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعد أن كتب كتاب الصلح : «قال لأصحابه : قوموا فانحروا ثم احلقوا ، قال : فو الله ما قام منهم رجل حتى

١٤٢

قال ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد ، قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس.

فقالت أم سلمة : يا نبي الله ، أتحب ذلك؟ أخرج ولا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك ، وتدعو حالقك فيحلقك الخ ..» (١).

والسؤال هو :

هل كان علي «عليه‌السلام» ضمن الذين رفضوا حلق رؤوسهم في الحديبية ، حين قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «رحم الله المحلقين» ، ليكون ذلك من موجبات الطعن في عصمته ، أم أنه كان قد أطاع أمر الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في ذلك؟

والجواب :

أولا : إنه لا شك في أن عليا أمير المؤمنين «عليه‌السلام» لم يعص أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لا في هذه الواقعة ، ولا في غيرها ، فهو يقول : «وإني والله لم أخالف رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ولم أعصه في

__________________

(١) راجع : تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٨٣ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٠٠ ومسند أحمد ج ٤ ص ٣٣١ وعن صحيح البخاري ج ٣ ص ١٨٢ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٥ ص ٢١٥ وج ٩ ص ٢٢٠ والمصنف لعبد الرزاق ج ٥ ص ٣٤٠ ومسند ابن راهويه ج ٤ ص ١٤ وعن المعجم الكبير ج ٢٠ ص ١٤ وإرواء الغليل ج ١ ص ٥٨ وجامع البيان ج ٢٦ ص ١٣٠ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٢١٤ والدر المنثور ج ٦ ص ٧٧ وتاريخ مدينة دمشق ج ٥٧ ص ٢٢٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٣٥ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٦ وج ١١ ص ١٩١.

١٤٣

أمر قط» (١).

ثانيا : رغم تحفظنا على حديث أم سلمة ، لأنه يظهر أنها «رحمها الله» قد أدركت أمرا غفل عنه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لكننا نقول فيه :

إنه وإن كان ظاهره العموم والشمول لجميع أصحابه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لكن التأمل فيه يقتضي حمله على العموم والشمول لجميع المعترضين عليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الرافضين لإطاعة أمره دون غيرهم.

أي فالمراد : ما قام رجل ممن كانوا قد اعترضوا على الصلح ، واغتموا له.

لأن المستفاد من الروايات هو : أن ثمة فريقا من الناس كان يجب عليهم الحلق في عمرتهم تلك ، ولكنهم لم يطيعوا أمر الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولا قاموا بما لزمهم القيام به ، بل تلكأوا في بادئ الأمر ، وتعللوا ، ثم إنهم حين وجدوا أن لا مناص من التحلل آثروا أن يتحللوا بالتقصير ؛ لا بالحلق ؛ وذلك بسبب ما عرض لهم من شك.

ويوضح ذلك النصوص التالية :

١ ـ روى ابن هشام ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : حلق رجال يوم الحديبية ، وقصّر آخرون.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : يرحم الله المحلقين.

قالوا : والمقصرين يا رسول الله؟

__________________

(١) راجع : الأمالي للمفيد ص ٢٣٥ والأمالي للشيخ الطوسي ص ١١ ونهج البلاغة ج ٢ ص ١٧١ وحلية الأبرار ج ٢ ص ٨٥ والبحار ج ٣٢ ص ٤٦٤ و ٥٩٥ وعن ج ٧٤ ص ٣٩٧ وشرح النهج للمعتزلي ج ٥ ص ١٨١ وكشف الغمة ج ٢ ص ٤.

١٤٤

قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : يرحم الله المحلقين.

قالوا : والمقصرين يا رسول الله؟

قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : يرحم الله المحلقين.

قالوا : والمقصرين يا رسول الله؟

قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : والمقصرين.

فقالوا : يا رسول الله ، فلم ظاهرت الترحم للمحلقين دون المقصرين.

قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لم يشكّوا (١).

فالشاكون إذن قد أحلوا من إحرامهم بالتقصير ، مع أن وظيفتهم كانت هي الحلق ، امتثالا لأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

تذكير :

قال السهيلي : إن الذين قصروا هم : فقط عثمان ، وأبو قتادة ، ولم يقصر غيرهما (٢).

٢ ـ يفهم من رواية القمي : أن بعض الذين لم يسوقوا الهدي كانوا قد

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٧ عنه ، وعن ابن أبي شيبة ، ودلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ١٥١ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٧٨٤ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٨٣ ومسند أحمد ج ١ ص ٣٥٣ وسنن ابن ماجة ج ٢ ص ١٠١٢ وشرح صحيح مسلم للنووي ج ٩ ص ٥٠ وعن فتح الباري ج ٣ ص ٤٤٩ وج ٥ ص ٢٥٦ وعن المصنف لابن أبي شيبة ج ٤ ص ٣٠١ وكنز العمال ج ٥ ص ٢٣٧ وإرواء الغليل ج ٤ ص ٢٨٥ والدر المنثور ج ٦ ص ٨١ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٩٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٢٣.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٣.

١٤٥

حلقوا امتثالا وطاعة لأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وبعضهم قصر اكتفاء في التحليل بالتقصير ، ولم يمتثلوا أمره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالحلق ، وأن فيمن ساق الهدي من كان شاكا أيضا.

قال القمي : «قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأصحابه : انحروا بدنكم ، واحلقوا رؤوسكم ، فامتنعوا ، وقالوا : كيف ننحر ونحلق ، ولم نطف بالبيت ، ولم نسع بين الصفا والمروة؟!.

فاغتم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من ذلك ، وشكا ذلك إلى أم سلمة ، (ربما ليظهر رجاحة عقلها ودينها ـ وهي امرأة ـ على عقولهم ، وهم أصحاب الدعاوى العريضة).

فقالت : يا رسول الله ، انحر أنت ، واحلق.

فنحر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وحلق ، ونحر القوم على حين يقين ، وشك وارتياب.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تعظيما للبدن : رحم الله المحلقين.

وقال قوم لم يسوقوا البدن : يا رسول الله ، والمقصرين ؛ لأن من لم يسق هديا لم يجب عليه الحلق.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ثانيا : رحم الله المحلقين ، الذين لم يسوقوا الهدي.

فقالوا : يا رسول الله ، والمقصرين؟

فقال : رحم الله المقصرين» (١).

__________________

(١) راجع : تفسير القمي ج ٢ ص ٣١٤.

١٤٦

فرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أظهر رضاه ومحبته للمحلقين ، وتذمّره من الذين اكتفوا بالتقصير ، وهذا يفيد : أن الذين قصروا هم الذين خالفوا أمر الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فظهر : أن المخالفين لأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والشاكّين ليسوا هم جميع المسلمين الحاضرين في الحديبية ، بل هم فريق بعينه كما دلت عليه النصوص.

ولا شك في أن عليا «عليه‌السلام» ليس منهم ، وليس هناك نص تاريخي يصرح : بأن عليا «عليه‌السلام» كان بين الذين لم يحلقوا ، فإن طاعته للرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والتزامه الحرفي بأوامره ونواهيه كالنار على المنار وكالشمس في رابعة النهار ، وقد أشرنا أكثر من مرة إلى ما جرى في خيبر ، حينما أمره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالذهاب وعدم الالتفات ، فوقف ولم يلتفت وقال : على ما أقاتلهم يا رسول الله؟.

وتلك هي الآيات الشريفة لم تزل تنزل على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مقررة لعصمته ، كآية التطهير ، وتثبيت الفضل والكرامة له على من عداه له ، لأنه هو وحده المطيع لله ولرسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، كآية النجوى وغيرها.

هذا بالإضافة إلى شواهد أخرى تبيّن مدى حرصه «عليه‌السلام» على طاعة أوامر الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حرفيا. يجدها المتتبع لسيرته صلوات الله وسلامه عليه ..

١٤٧
١٤٨

الفصل الخامس :

اللمسات الأخيرة

١٤٩
١٥٠

في طريق العودة :

وقد روى مسلم عن سلمة بن الأكوع ، والبيهقي عن ابن عباس ، وابن سعد ، والبيهقي ، والحاكم عن أبي عمرة الأنصاري ، والبزار ، والطبراني ، والبيهقي عن أبي خنيس الغفاري ، ومحمد بن عمر عن شيوخه ، يزيد بعضهم على بعض :

أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما انصرف من «الحديبية» نزل بمر «الظهران» ، ثم نزل ب «عسفان» ، وأرملوا من الزاد ، فشكا الناس إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أنهم قد بلغوا من الجوع الجهد ، وفي الناس ظهر ، فقالوا : ننحره يا رسول الله ، وندهن من شحومه ، ونتخذ من جلوده أحذية ، فأذن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فأخبر بذلك عمر بن الخطاب فجاء إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقال : يا رسول الله ، لا تفعل ، فإن يكن في الناس بقية ظهر يكن أمثل ، كيف بنا إذا نحن لقينا العدو غدا جياعا رجالا؟! ولكن إن رأيت أن تدعو الناس ببقايا أزوادهم فتجمعها ، ثم تدعو فيها بالبركة ، فإن الله سيبلغنا بدعوتك.

ودعا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الناس ببقايا أزوادهم ، وبسط نطعا ، فجعل الناس يجيئون بالحفنة من الطعام وفوق ذلك ، فكان أعلاهم

١٥١

من جاء بصاع تمر ، فاجتمع زاد القوم على النطع ، قال سلمة : فتطاولت لأحرر ، كم هو؟ فحررته كربضة عنز ، ونحن أربع عشرة مائة.

فقام رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فدعا بما شاء الله أن يدعو ، فأكلوا حتى شبعوا ، ثم حشوا أوعيتهم ، وبقي مثله ، فضحك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى بدت نواجذه ، وقال : «أشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، والله لا يلقى الله تعالى عبد مؤمن بهما إلا حجب من النار».

ثم أذن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في الرحيل ، فلما ارتحلوا أمطروا ما شاؤوا وهم صائفون ، فنزل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ونزلوا ، فشربوا من ماء السماء. ثم قام رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فخطبهم ، فجاء ثلاثة نفر ، فجلس اثنان مع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وذهب واحد معرضا ، فقال رسول الله : «ألا أخبركم عن الثلاثة؟

قالوا : بلى يا رسول الله.

قال : أما واحد فاستحيا فاستحيا الله منه ، وأما الآخر فتاب فتاب الله عليه ، أما الثالث فأعرض. فأعرض الله عنه» (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٨ عن مسلم ، والبيهقي ، وابن سعد ، والحاكم ، والبزار ، والطبراني ، والواقدي ، وعن صحيح البخاري ج ١ ص ٢٤ وعن صحيح مسلم ج ٧ ص ٩ وسنن الترمذي ج ٤ ص ١٧١ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٣ ص ٢٣٢ ومجمع الزوائد ج ٨ ص ٣٠٤ والسنن الكبرى للنسائي ج ٣ ص ٤٥٣ وصحيح ابن حبان ج ١ ص ٢٨٧ وكتاب الدعاء ص ٥٣٤ والمعجم الأوسط ج ٤ ص ٢٩ وعن المعجم الكبير ج ٣ ص ٢٤٩ ورياض الصالحين ص ٥٧١ وكنز العمال ج ١٠ ص ٢٣٩ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٣٤٨ والبداية والنهاية ج ٦ ص ١٢٥.

١٥٢

ونلاحظ على ما تقدم ما يلي :

ألف : إن الناس لم يبادروا إلى نحر الإبل التي معهم ، رغم حاجتهم إلى الطعام إلا بعد استئذان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بذلك. وهذا يعطينا درسا في ضرورة الانضباط والمراجعة للقائد في كل أمر له ارتباط بالحالة العامة ..

ب : إن قول عمر : كيف بنا إذا نحن لقينا العدو غدا جياعا رجالا؟! غير مفهوم لنا ، فإن نحر بعض الإبل لا يلزم منه أن يلقى العدو رجالا ، فإن الحرب لا تكون على الإبل ، وإنما تكون على الخيل أو بدونها ..

ج : إذا نحروا الإبل ، واستفادوا من لحومها ، فإنهم لا يبقون جياعا ..

د : إن ما يحتاجونه في كل يوم للنحر والأكل لا يزيد على أربعة عشر جملا ، وهو مقدار يسير في جملة ما يفي بحاجات ألف وأربع مائة رجل ..

فلو أنهم نحروا خلال ثلاثة أيام ، أو أربعة : ستين من الإبل ثم يكونون بقرب المدينة ، فذلك معناه : أن يصبح مائتا رجل ـ على أقل تقدير ـ بلا ظهر يركبونه في سفرهم. إذا كان كل ثلاثة ، أو أربعة يعتقبون بعيرا ويبقى مع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ألف ومائتا مقاتل ، لم يتأثر وضعهم بشيء مما يجري ، وهؤلاء قادرون على مواجهة العدو ، ومعهم الظهر الكافي ، ولا يعانون من جوع ، ولا من غيره ..

ه : وكيف عرف عمر بن الخطاب هذا الأمر ، وجهله النبي الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟! ..

و: وإذا كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عارفا بهذا الرأي الصالح فلماذا لم يبادر من عند نفسه إلى ذلك الحل وصبر حتى اقترحه عليه عمر بن

١٥٣

الخطاب؟! ألم يكن «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو الذي بادر إلى إثارة آبار الحديبية بالسهم الذي ألقاه فيها ، ثم صنع لهم الكثير من المعجزات في سفر الحديبية بالذات؟! ..

أم يعقل : أنه كان يرعاهم في سفر الذهاب ، ثم تخلى عنهم في حال الإياب؟!

ولماذا يتخلى عنهم؟!

نوم المسلمين عن صلاتهم :

وروى البيهقي من طريق المسعودي ، عن جامع بن شداد ، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة ، عن ابن مسعود قال : لما أقبل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من «الحديبية» جعلت ناقته تثقل ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) فأدركنا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من السرور ما شاء ، فأخبرنا أنها أنزلت عليه ، فبينا نحن ذات ليلة إذ عرس بنا ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «من يحرسنا»؟

فقلت : أنا يا رسول الله.

فقال : «إنك تنام».

ثم قال : «من يحرسنا»؟

فقلت : أنا.

فقال : أنت.

فحرستهم ، حتى إذا كان وجه الصبح أدركني قول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إنك تنام ، فما استيقظت إلا بالشمس ، فلما استيقظنا قال

١٥٤

رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «إن الله لو شاء أن لا تناموا عنها لا تناموا ، ولكنه أراد أن يكون ذلك لمن بعدكم».

ثم قام فصنع كما كان يصنع ، ثم قال : «هكذا لمن نام أو نسي من أمتي».

ثم ذهب القوم في طلب رواحلهم ، فجاؤوا بهن غير راحلة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، قال : فقال لي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «اذهب ههنا» ، ووجهني وجها ، فذهبت حيث وجهني ، فوجدت زمامها قد التوى بشجرة ما كانت تحلها الأيدي.

قال البيهقي : كذا قال المسعودي عن جامع بن شداد : إن ذلك كان حين أقبلوا من الحديبية (١).

ثم روى من طريق شعبة ـ وناهيك به ـ عن جامع بن شداد ، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة ، عن ابن مسعود قال : أقبلنا مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من غزوة تبوك.

قال البيهقي : يحتمل أن يكون مراد المسعودي بذكر الحديبية : تاريخ نزول السورة حين أقبلوا من الحديبية فقط ، ثم ذكر معه حديث النوم عن الصلاة ، وحديث الراحلة ، وكانا في غزوة تبوك.

قلت : لم ينفرد المسعودي بذلك ، قال ابن أبي شيبة في المصنف : حدثنا منذر ، عن شعبة ، عن جامع بن شداد به ، ولا مانع من التعدد (٢).

__________________

(١) دلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ١٥٥.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٩ و ٦٠.

١٥٥

ونقول :

إن من الواضح : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا ينام عن صلاته ، وليس في هذا النص ما يدل على ذلك.

بل هو صريح : بنوم أصحابه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن صلاتهم ، فعلّمهم كيف يصنعون إذا اتفق لهم ذلك ..

وسيأتي إن شاء الله المزيد من الحديث عن هذا الأمر في غزوة تبوك.

صلح الحديبية أعظم الفتح :

قالوا : روى البيهقي عن عروة ، قال : قفل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» راجعا ، فقال رجل من أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : ما هذا بفتح ، لقد صددنا عن البيت ، وصدّ هدينا. وردّ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رجلين من المؤمنين كانا خرجا إليه.

فبلغ ذلك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : «بئس الكلام ، بل هو أعظم الفتح ، قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم.

ويسألوكم القضية.

ويرغبون إليكم في الأمان.

ولقد رأوا منكم ما كرهوا.

وأظفركم الله تعالى عليهم ، وردكم سالمين مأجورين ، فهو أعظم الفتح.

أنسيتم يوم أحد؟؟

إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ، وأنا أدعوكم في أخراكم؟!

أنسيتم يوم الأحزاب؟

١٥٦

(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا)؟!

فقال المسلمون : صدق الله ورسوله ، فهو أعظم الفتوح ، والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه ، ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا (١).

وكان الناس قصر رأيهم عما كان.

وكان أبو بكر يقول : ما كان فتح في الإسلام أعظم من صلح الحديبية ، وكان الناس قصر رأيهم عما كان بين رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وبين ربه.

والعباد يعجلون ، والله تعالى لا يعجل لعجلة العبد حتى يبلغ الأمور ما أراد ، لقد رأيت سهيل بن عمرو في حجة الوداع قائما عند المنحر يقرب لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بدنه ، ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ينحرها بيده ، ودعا الحلاق فحلق رأسه ، فأنظر إلى سهيل يلقط من شعره ، وأراه يضعه على عينيه ، وأذكر امتناعه أن يقر يوم الحديبية بأن يكتب :

__________________

(١) راجع المصادر التالية : سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٨ و ٥٩ وفي هامشه عن :

شرح المواهب اللدنية ج ٢ ص ٢١١ والدر المنثور ج ٦ ص ٦٨ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٤ والسنن الكبرى ج ٦ ص ٣٢٥ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٩٦ عن إعلام الورى ص ٦١ وعن الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٠٥ وعن شرح الشفاء للقاري ج ١ ص ١٢١ وعن السيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٤٦٩ وعن المصنف لابن أبي شيبة ج ٤ ص ٤٢٩ و ٤٥٨ و ٥٠١ وج ١٥ ص ٣١٨ والنص والإجتهاد ص ١٨٢ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٢٥.

١٥٧

(بسم الله الرحمن الرحيم) فحمدت الله تعالى الذي هداه للإسلام (١).

وروى الإمام أحمد ، والبخاري ، والترمذي ، والنسائي ، وابن حبان ، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال : كنا مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في سفر. يعني : «الحديبية» فسألته عن شيء ثلاث مرات ، فلم يرد عليّ.

فقلت في نفسي : ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ، نزرت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ثلاث مرات فلم يرد عليك ، فحركت بعيري ، ثم تقدمت أمام الناس ، وخشيت أن ينزل فيّ القرآن ، فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي ، فرجعت وأنا أظن أنه نزل فيّ شيء ، فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «لقد أنزلت عليّ الليلة سورة هي أحب إليّ من الدنيا وما فيها : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ، لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ..) (٢).

وروى ابن أبي شيبة ، والإمام أحمد ، وابن سعد ، وأبو داود ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم ـ وصححه ـ وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن مجمع بن جارية الأنصاري قال : شهدنا «الحديبية» مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلما انصرفنا عنها إلى كراع الغميم إذا الناس يوجفون الأباعر ، فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس؟

قالوا : أوحي إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فخرجنا مع الناس نوجف ، فإذا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على راحلته عند «كراع الغميم» ،

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٦٣ و ٦٤.

(٢) الآيتان ١ و ٢ من سورة الفتح.

١٥٨

فاجتمع الناس إليه فقرأ عليهم : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) الفتح.

فقال رجل من أصحاب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أو هو فتح؟

فقال : «أي والذي نفسي بيده إنه فتح»

زاد ابن سعد : فلما نزل بها جبريل قال : ليهنئك يا رسول الله ، فلما هناه جبريل هناه الناس (١).

وروى عبد الرزاق والإمام أحمد ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والشيخان والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم ، عن أنس قال : «لما رجعنا من «الحديبية» قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أنزلت علي ضحى آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا» ثلاثا.

قلنا ـ وفي لفظ قالوا ـ : هنيئا مريئا لك يا رسول الله ، قد بين الله لك ماذا

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ج ٣ ص ٤٢٠ وأخرجه أبو داود في الجهاد باب : (فيمن أسهم له سهما) وذكره الحافظ بن كثير في التفسير ج ٤ ص ١٩٧ والبيهقي في الدلائل ج ٤ ص ١٥٥ وراجع : صحيح مسلم ج ٥ ص ١٧٦ والمعجم الكبير ج ١٩ ص ٤٤٥ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ٢ ص ٦٣٥ والبحار ج ٢١ ص ٨ وعن سنن أبي داود ج ١ ص ٦٢٢ والمستدرك للحاكم ج ٢ ص ١٣١ و ٤٥٩ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٦ ص ٣٢٥ وعن فتح الباري ج ٧ ص ٣٤٠ وعن المصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٥٠٩ والمعجم الأوسط ج ٤ ص ١٢١ وسنن الدار قطني ج ٤ ص ٦٠ ونصب الراية ج ٤ ص ٢٧٨ وعن تفسير مجمع البيان ج ٩ ص ١٨٤ ونور الثقلين ج ٥ ص ٤٨ وجامع البيان ج ٢٦ ص ٩٣ والجامع لأحكام القرآن ج ١٦ ص ٢٦١ والدر المنثور ج ٦ ص ٦٨ وفتح القدير ج ٥ ص ٤٦ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٠٥ وتهذيب الكمال ج ٣٢ ص ٣٦٤.

١٥٩

يفعل بك ، فماذا يفعل بنا؟

فنزلت ، ـ وفي لفظ ، فنزلت عليه ـ : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ، حتى بلغ (فَوْزاً عَظِيماً)» (١).

وروى ابن أبي شيبة ، والإمام أحمد ، والبخاري في تاريخه ، وأبو داود والنسائي ، وابن جرير ، وغيرهم عن ابن مسعود قال : «أقبلنا من الحديبية مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي ، وكان إذا أتاه اشتد عليه ، فسري عنه ، وبه من السرور ما شاء الله ، فأخبرنا أنه أنزل عليه : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)» (٢).

ونقول :

إن لنا مع ما تقدم وقفات نوجزها على النحو التالي :

__________________

(١) أخرجه : ابن حبان ذكره الهيثمي في موارد الظمآن ص (٤٣٦) (١٧٦٠) والبيهقي ج ٥ ص ٢١٧ وأحمد ج ٤ ص ١٥٢ والحاكم ج ٤ ص ٤٦٠ وذكره السيوطي في الدر المنثور ج ٦ ص ٧١ والخطيب في التاريخ ج ٣ ص ٣١٩ والبيهقي في الدلائل ج ٤ ص ١٥٥ وراجع : مسند أبي يعلى ج ٦ ص ٢٠ وصحيح ابن حبان ج ٢ ص ٩٤ والمعجم الأوسط ج ٧ ص ١٠٠ وجامع البيان ج ٢٦ ص ٩٢ ومعاني القرآن ج ٦ ص ٤٩٢ وأسباب نزول الآيات ص ٢٥٦ وتفسير الجلالين ص ٧١٢ ولباب النقول ص ١٧٧ وفتح القدير ج ٥ ص ٤٦ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٦٠.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٦٠ عن البخاري في التفسير ج ٨ ص ٥٨٢ (٤٨٣٣) والبيهقي في الدلائل ج ٤ ص ١٥٥ والدر المنثور ج ٦ ص ٦٨ وفتح القدير ج ٥ ص ٤٦.

١٦٠