موسوعة أخلاق القرآن - ج ٦

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٦

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٠٧

الْأَرْضِ» (١).

ويقول في سورة نوح :

«لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً» (٢).

ويقول في سورة القصص :

«اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» (٣).

وقد روي أنه قيل لموسى : أدخل يدك في جيبك لان المدرعة التي كانت عليه لم يكن لها كم ، وفي هذا اشارة الى أنه ينبغي على المرء للوصول الى مراده ومقصوده ان يتشمر وأن يجد.

والسلوك بالمعنى الاخلاقي الاسلامي هو الاتجاه الى الله تبارك وتعالى ، والاخذ في الطريق الموصل الى مرضاته ، والذي لا يسلك الانسان طريقا أقوم منه ، والتنزيل يقول :

«وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (٤).

وهذا الخلق يقتضي حسن السلوك والسير في الطريق الموصل الى الله ، فلا يلتفت عنه ، ولا يمد عينيه الى غيره ، بل يمضي في مسيرته بجد واجتهاد.

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية ٢١.

(٢) سورة نوح ، الآية ٢٠.

(٣) سورة القصص ، الآية ٣٢.

(٤) سورة الانعام ، الآية ١٥٣.

١٢١

وأساس السلوك والسير الى الله تعالى ثلاث فضائل ، هي الحب والخوف والرجاء ، لانها هي التي تحث على عمارة وقت الانسان بما هو الاولى بصاحبه والانفع له ، ولذلك قال العلماء انها قطب رحى العبودية ، وعليها دارت رحى الاعمال ، وقد جمع الله عز شأنه هذه الامور الثلاثة في قوله :

«أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً» (١).

وقد تحدث الامام السلفي ابن قيم الجوزية في كتابه الجليل «مدارج السالكين» عن فضيلة السلوك في أكثر من موطن ، وقد أشار أولا ما يفيد أن تمام السلوك يتحقق بأن يربط الله تعالى على قلب العبد السالك اليه ، وقد ذكر الحديث الصحيح الذي يقول : «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان : أن يكون الله ورسوله أحب اليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه الا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر ـ بعد اذ أنقذه الله منه ـ كما يكره أن يقذف في النار» وذكر الآية الكريمة من سورة الكهف :

«وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً» (٢).

فهؤلاء الذين قيل فيهم ذلك كانوا بين قومهم الكفار ، في خدمة

__________________

(١) سورة الاسراء ، الآية ٥٧.

(٢) سورة الكهف ، الآية ١٤.

١٢٢

ملكهم الكافر ، فما هو الا أن وجدوا حقيقة الايمان والتوفيق ، وذاقوا حلاوته ، وباشر قلوبهم ، فقاموا من بين قومهم وقالوا : ربنا رب السماوات والارض ، لن ندعو من دونه الها ، لقد قلنا اذن شططا ، والربط على قلوبهم يتضمن الشد عليها بالصبر والتثبيت ، وتقويتها بنور الايمان.

والعبد المؤمن سائر الى الله ، لا ينقطع سلوكه اليه ما دام على قيد الحياة ، وهو لا يصل ما دام حيا الى الله وصولا يستغني به عن السير اليه البتة ، بل يشتد سيره الى الله كلما زادت ملاحظته لتوحيده واسمائه وصفاته جل جلاله ، ولهذا كان سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسّلام أعظم الخلق اجتهادا وقياما بالاعمال ، ومحافظة عليها الى أن توفاه الله تعالى ، وهو أعظم ما كان اجتهادا وقياما بوظائف العبودية ، فلو أن العبد أتى بأعمال الثقلين جميعها لم تفارقه حقيقة السير الى الله ، وكان على الدوام في طريق الطلب والارادة.

ومن السالكين ـ كما يذكر ابن القيم ـ من يكون سيره ببدنه وجوارحه أغلب عليه من سيره بقلبه وروحه ، ومنهم من يكون سيره بقلبه أغلب عليه ، ومنهم من يعطي كل مرتبة حقها ، فيسير الى الله ببدنه وجوارحه ، وقلبه وروحه ، وهؤلاء هم الاقوياء الكاملون. وقد أخبر الله سبحانه عن صفوة أوليائه بأنهم دائما في مقام الارادة له ، فقال تعالى :

«وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» (١).

وقال تعالى :

«وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ

__________________

(١) سورة الانعام ، الآية ٥٢.

١٢٣

الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى» (١).

فالعبد أخص أوصافه أن يكون مريدا صادق الارادة ، بحيث يكون مراده تبعا لمراد ربه الديني منه ، ليس له ارادة في سواه.

ويذكر صاحب المدارك ان السلوك يصح ويكمل اذا سلم من الآفات والعوائق والقواطع ، وذلك بثلاثة أشياء :

الاول : أن يكون على الدرب الاعظم وهو الدرب النبوي المحمدي.

الثاني : أن لا يجيب على الطريق داعي البطالة والوقوف والدعة.

الثالث : أن يكون في سلوكه ناظرا الى المقصود.

ويقرر ابن القيم أن السالك يحصر همته في أمرين وهو في مسيرته نحو ربه هما : استفراغ القلب في صدق الحب ، وبذل الجهد في امتثال الامر ، ويتوسع في بسط ذلك المعنى بقوله : «فان السالك الى ربه لا تزال همته عاكفة على أمرين : استفراغ القلب في صدق الحب ، وبذل الجهد في امتثال الامر. فلا يزال كذلك حتى يبدو على سره شواهد معرفته وآثار صفاته وأسمائه. ولكن يتوارى عنه ذلك أحيانا. ويبدو أحيانا. يبدو من عين الجود. ويتوارى بحكم الفترة. والفترات أمر لازم للعبد. فكل عامل له شرة ، ولكل شرة فترة. فأعلاها فترة الوحي. وهي للانبياء ، وفترة الحال الخاص للعارفين ، وفترة الهمة للمريدين. وفترة العمل للعابدين. وفي هذه الفترات أنواع من الحكمة والرحمة ، والتعرفات الالهية ، وتعريف قدر النعمة. وتجديد الشوق اليها ، ومحض التواجد اليها وغير ذلك.

ولا تزال تلك الشواهد تتكرر وتتزايد ، حتى تستقر ، وينصبغ بها

__________________

(١) سورة الليل ، الآية ١٩ ـ ٢١.

١٢٤

قلبه ، وتصير الفترة غير قاطعة له. بل تكون نعمة عليه ، وراحة له ، وترويحا وتنفيسا عنه. فهمة المحب اذا تعلقت روحه بحبيبه ، عاكفا على مزيد محبته ، وأسباب قوتها. فهو يعمل على هذا. ثم يترقى منه الى طلب محبة حبيبه له. فيعمل على حصول ذلك. ولا يعدم الطلب الاول ، ولا يفارقه البتة. بل يندرج في هذا الطلب الثاني. فتتعلق همته بالامرين جميعا. فانه انما يحصل له منزلة «كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به» بهذا الامر الثاني ، وهو كونه محبوبا لحبيبه. كما قال في الحديث «فاذا أحببته كنت سمعه وبصره الخ» فهو يتقرب الى ربه ، حفظا لمحبته له ، واستدعاء لمحبة ربه له. فحينئذ يشد مئزر الجد في طلب محبة حبيبه له بأنواع التقرب اليه ، فقلبه : للمحبة والانابة والتوكل ، والخوف والرجاء. ولسانه : للذكر وتلاوة كلام حبيبه. وجوارحه : للطاعات. فهو لا يفتر عن التقرب من حبيبه.

وهذا هو السير المفضي الى هذه الغاية التي لا تنال الا به. ولا يتوصل اليها الا من هذا الباب ، وهذه الطريق. وحينئذ تجمع له في سيره جميع متفرقات السلوك : من الحضور ، والهيبة ، والمراقبة ، ونفي الخواطر ، وتخلية الباطن».

* * *

وقد جاءت مادة السلوك في السنة النبوية المطهرة ، فمن ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما روى البخاري : «من سلك طريقا يطلب به علما سهل الله له طريقا من طرق الجنة» وذلك لان العلم الصحيح يوفق للاعمال الصالحة الموصلة الى الجنة ، وطلب العلم من اسباب الوصول الى الجنة.

وهناك حديث خاطب به الرسول عمر بن الخطاب ، وفي هذا الحديث رمز الى أن عمر رضي الله عنه كان من خيرة المتجملين بفضيلة السلوك الى

١٢٥

ربهم ، والاستقامة على طريق عبادتهم ، ولذلك كان يفر منه الشيطان ، ومعنى هذا أنه لا يوسوس اليه ولا يضله عن سواء السبيل ، فذلك قوله صلوات الله وسلامه عليه : «يا عمر ، ما لقيك الشيطان سالكا فجا الا سلك فجا غيره».

كما ان الرسول عليه الصلاة والسّلام قد أثنى على الانصار بما يفيد أنهم سلكوا الصراط المستقيم في مسيرتهم وتصرفاتهم ، حتى أصبحوا قدوة تحتذى بين الناس ، فقال عليه الصلاة والسّلام : «لو سلكت الانصار واديا أو شعبا لسلكت وادي الانصار أو شعبهم» وأورد البخاري مع هذه الرواية رواية أخرى تقول : «لو أن الانصار سلكوا واديا أو شعبا لسلكت في وادي الانصار ، ولو لا الهجرة لكنت امرأ من الانصار» وقد أراد بذلك حسن موافقتهم ، وليس المراد ان يصير تابعا لهم صلوات الله وسلامه عليه ، والانصار هم الذين قال فيهم : «الانصار لا يحبهم الا مؤمن ، ولا يبغضهم الا منافق ، فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله».

وفي بعض الاحاديث النبوية أفهمنا سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسّلام أن السلوك قد يكون سيرا حسيا ، وقد يكون سريانا روحيا ، وقد يكون جولانا فكريا ، وقد يشير الى بعض هذا قوله عليه الصلاة والسّلام لمن كانوا يصحبونه في الجهاد : «ان قوما خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبا ولا واديا الا وهم معنا ، حبسهم العذر».

فقوله عليه الصلاة والسّلام : «الا وهم معنا» قد نفهم منه أن هذه المعية الروحية القلبية نوع كريم من تعلق همم هؤلاء المحبوسين واتجاه أفكارهم وقلوبهم نحو خطوات هؤلاء المجاهدين في سبيل الله ، فهم لا يخطون خطوة في جهادهم ، ولا يسلكون طريقا ولا واديا الا وكان هؤلاء المحبوسون سالكين مع أولئك المجاهدين.

١٢٦

نسأل الله جل جلاله أن يوفقنا برحمته ورعايته لكي نكون من السالكين في طريقه المشغولين بطاعته الموفقين لمرضاته ، وعلى الله قصد السبيل.

* * *

١٢٧

الغيرة

الغيرة : ـ بفتح الغين ـ هي الحمية والأنفة ، ويقال : غار الرجل على امرأته ، وغارت المرأة على رجلها ، والمرأة الغيور هي من تغار ، والرجل المغيار : الشديد الغيرة. ويعرف البعض الغيرة بأنها تغير في القلب ، وهيجان الغضب لارادة الانتقام ، وقد يفهم بعض الناس أن الغيرة مقصورة على غيرة الزوج على زوجته. أو غيرة الزوجة على زوجها ، ولكن معنى الغيرة يتسع حتى يشمل الغيرة على الحريات والقيم ، والغيرة على الدين والعقيدة ، والغيرة على كل ما يعتز به العاقل الفاضل.

والغيرة بهذا المفهوم فضيلة محمودة ، وهي كما قال العلماء خلق من أخلاق الله تبارك وتعالى ، ولذلك وصفها ابن القيم بأنها جليلة المقدار ، لها «منزلة شريفة عظيمة جدا». وكأنه أراد أن ينبهنا الى انها خلق من أخلاق القرآن الكريم ، وفضيلة من فضائل الاسلام العظيم. وجانب من هدي الرسول عليه الصلاة والتسليم ، فقرر في كتابه : «مدارج السالكين» أن الغيرة منزلة من منازل «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ».

وقد أراد أن يستخلص معناها من القرآن المجيد ، فذكر أن مما يدخل في الغيرة بالمعنى الاخلاقي قول الله تبارك وتعالى :

١٢٨

«وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً» (١).

واستشهد بأن السري قال لاصحابه : أتدرون ما هذا الحجاب؟ حجاب الغيرة ولا أحد أغير من الله. ان الله تعالى لم يجعل الكفار ، أهلا لفهم كلامه ، ولا أهلا لمعرفته وتوحيده ومحبته ، فجعل بينهم وبين رسوله وكلامه وتوحيده حجابا مستورا عن العيون ، غيرة عليه أن يناله من ليس أهلا له.

وكذلك عقد الهروي في كتابه «منازل السائرين» فصلا جعل عنوانه : «باب الغيرة» استشهد فيه بقول الله عزوجل حاكيا عن نبيه سليمان عليه‌السلام : «ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والاعناق» وأوضح ابن القيم وجه الاستشهاد بالآية الكريمة ، فذكر ان سليمان عليه‌السلام كان يحب الخيل ، فشغله استحسانها والنظر اليها ـ لما عرضت عليه ـ عن صلاة النهار ، حتى توارت الشمس بالحجاب ، فلحقته الغيرة لله من الخيل ، اذ استغرقه استحسانها والنظر اليها عن الخدمة لمولاه وأداء حقه ، فقال : «ردوها عليّ» ، فطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف غيرة لله تعالى.

والغيرة كما يرى ابن القيم نوعان : غيرة من الشيء ، وهي كراهية الانسان مزاحمة الشيء له ومشاركته له في محبوبه ، وغيرة على الشيء ، وهي شدة حرص الانسان على المحبوب ، لخوفه ان يفوز به غيره ، أو يشاركه في الفوز به.

والغيرة أيضا عند رجال القلوب والارواح نوعان ، غيرة الحق تبارك وتعالى على عبده ، وغيرة العبد لربه. فغيرة الله على عبده هي أن لا يجعله

__________________

(١) سورة الاسراء ، الآية ٤٥.

١٢٩

للناس عبدا ، بل يتخذه لنفسه عبدا فلا يجعل له فيه شركاء متشاكسين ، بل يفرده لنفسه ، ويضن به على غيره.

وغيرة العبد لربه نوعان : غيرة من نفسه ، وهي أن لا يجعل شيئا من أعماله وأقواله وأحواله وأوقاته وأنفاسه لغير ربه تبارك وتعالى ، وغيرة العبد من غيره ، وهي أن يغضب الانسان ويغار من غيره اذا رأى محارم الله جل جلاله ينتهكها منتهكون ، أو يتطاول عليها متطاولون ، أو رأى حقوق الله جل جلاله يتهاون بها متهاونون ...

يقول ابن القيم : «وغيرة العبد من نفسه أهم من غيرته من غيره. فانك اذا غرت من نفسك صحت لك غيرتك لله من غيرك ، واذا غرت له من غيرك ، ولم تغر من نفسك ، فالغيرة مدخولة معلولة ولا بد ، فتأملها وحقق النظر فيها.

فليتأمل السالك اللبيب هذه الكلمات في هذا المقام ، الذي زلت فيه أقدام كثير من السالكين والله الهادي والموفق المثبت».

* * *

واذا انتقلنا الى روضة السنة النبوية المطهرة وجدنا الحديث الصحيح المروي عن عبد الله بن مسعود ، وفيه يقول رسول الله عليه الصلاة والسّلام : «ما أحد أغير من الله ، ومن غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وما أحد أحب اليه المدح من الله ، ومن أجل ذلك أثنى على نفسه ، وما أحد أحب اليه العذر من الله ، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين».

وحسب الغيرة شرفا وقدرا أن يخبرنا هذا الحديث انها خلق من أخلاق الله عز شأنه ، والحديث يشير في صدره الى قول الله تبارك وتعالى في سورة الاعراف :

١٣٠

«قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ، وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ» (١).

وقد تكرر ذكر الغيرة في السنة المطهرة ، فجاء في الحديث المروي عن أبي هريرة ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ان الله يغار ، وان المؤمن يغار ، وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرّم عليه».

وجاء في الحديث أيضا : «اني لغيور ، وما من امرىء لا يغار الا منكوس القلب» أي ضعيف مغلوب القلب.

ومن أعلام الصحابة المشهورين بالغيرة أبو ثابت سعد بن عبادة بن دليم الانصاري الساعدي ، شهد بدرا ، وهو صاحب راية الانصار في المشاهد كلها ، وكان سيدا جوادا ، صاحب رياسة وسيادة ، وكان محبا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، معظما لشأنه ، فقد روى ابنه قيس بن سعد قال : زارنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في منزلنا ، فقال : السّلام عليكم ورحمة الله. فرد سعد ردا خفيا. فقلت : ألا تأذن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟. قال : دعه يكثر علينا من السّلام. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : السّلام.

ثم رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتبعه سعد فقال : يا رسول الله اني كنت اسمع تسليمك ، وأرد عليك ردا خفيفا لتكثر علينا من السّلام. فانصرف معه رسول الله ، فأمر له سعد بماء فاغتسل ، ثم ناوله سعد ملحفة مصبوغة بزعفران فاشتمل بها ، ثم رفع رسول الله يديه وهو يقول : اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة.

__________________

(١) سورة الاعراف ، الآية ٣٣.

١٣١

ومن مناقب سعد أنه لما كانت غزوة الخندق بذل رسول الله عليه الصلاة والسّلام لعيينة بن حصن ثلث ثمار المدينة لينصرف بمن معه من غطفان ، واستشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة دون سائر الناس ، فقالا للنبي : يا رسول الله ، ان كنت أمرت بشيء فافعله ، وان كان غير ذلك فو الله لا نعطيهم الا السيف. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لم أومر بشيء ، وانما هو أمر أعرضه عليكما. فقالا : يا رسول الله ، ما طمعوا بذلك بنا قط في الجاهلية فكيف اليوم ، وقد هدانا الله بك؟. فسر النبي عليه صلوات الله وسلامه بكلامهما.

وكانت راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيد سعد بن عبادة يوم الفتح ، فمر بها على ابي سفيان ، وكان ابو سفيان قد أسلم ، فقال له سعد : اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الحرمة ، اليوم أذل الله قريشا.

فلما مر رسول الله في كتيبة من الانصار ناداه أبو سفيان : يا رسول الله ، أمرت بقتل قومك ، زعم سعد أنه قاتلنا؟. وقال عثمان وعبد الرحمن ابن عوف : يا رسول الله ، ما نأمن سعدا أن تكون منه صولة في قريش.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا أبا سفيان ، اليوم يوم المرحمة ، اليوم أعز الله قريشا. وأخذ الرسول اللواء من يد سعد ودفعه الى ابنه قيس.

ولقد كان سعد بن عبادة رضي الله عنه غيورا شديد الغيرة ، ولقد قال ذات يوم أمام النبي : لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح ـ أي غير ضارب بصفحة السيف وعرضه ، بل أضربه بحده لأقتله ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه ، والله أغير مني ، رواه الشيخان ، وزاد مسلم في روايته قوله : «من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا شخص أحب اليه العذر من الله ، من أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين

١٣٢

(لئلا يكون للناس على الله حجة يوم القيامة) أي فلا تعذيب الا بعد انذار ، لقول الله تعالى : (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) ولا شخص أحب اليه المدحة من الله ، من أجل ذلك وعد الله الجنة ، ولهذا وعد بالجنة ليدوم الثناء عليه جل شأنه.

هذا ومما ينبغي أن نلاحظه أن الغيرة منها غيرة يبغضها الله سبحانه ، وهي غيرة الرجل على أهله من غير ريبة. ولذلك جاء في حديث سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسّلام : «الغيرة التي يحبها الله الغيرة في الريبة ، وأما الغيرة التي يبغضها الله فهي الغيرة في غير ريبة».

ولذلك ورد أن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه نهى عن تتبع عورات النساء. ولذلك قال الامام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه : «لا تكثر الغيرة على أهلك ، فترمى بالسوء من اجلك».

ومما يذكره التاريخ الديني أن نبي الله داود عليه‌السلام كان فيه غيرة شديدة. وكذلك كان عمر رضي الله عنه رجلا غيورا ، ومن كلام الامام الحسن رضي الله عنه : «قبح الله من لا يغار».

نسأل الله تباركت آلاؤه ، وعمت نعماؤه ، أن يجملنا بفضيلة الغيرة الحميدة الرشيدة ، فنغار على أعراضنا وحرماتنا ، ونغار على محارم الله وحدوده ، ونغار على الحق أن يهضم أو يهان ، انه المسؤول للهداية والتوفيق ، وعلى الله قصد السبيل.

١٣٣

النظر

تقول اللغة : نظر الانسان اذا رأى بعين بصره أو بعين بصيرته ، ولذلك جاء : نظره بمعنى علمه ، ونظره عني به ، فأقبل عليه بوجهه ، ونظره عطف عليه ، ونظر الشيء : ترقب وقوعه ، ونظر الى آيات الله تبارك وتعالى : تدبر فيها وتأمل واعتبر ، ونظر في الشيء : فكر فيه ليعلم أمره. والنظر تقليب البصر والبصيرة لادراك الشيء ورؤيته وقد يراد به التأمل والفحص ، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد التروي ، ولذلك قد يقال : نظرت فلم تنظر ، أي نظرت فلم تتأمل ولم تترو. ونظر بين القوم أي حكم بينهم ، والنظر الاعتبار. والنظر الفكر في الشيء تقدره وتقيسه ، والنظور بوزن الصبور هو من لا يغفل عن النظر فيما أهمه ، والناظر هو الامين الذي يبعثه السلطان الى جماعة ليستبرىء أمرهم ، والنظر هو تقليب البصيرة في تأمل لادراك الشيء ومعرفته بعد فحص ومن ذلك قول الله عز من قائل في سورة يونس :

«قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» (١).

__________________

(١) سورة يونس ، الآية ١٠١.

١٣٤

واستعمال النظر في البصر أكثر استعمالا عند العامة ، وفي البصيرة أكثر عند الخاصة.

والنظر بالمعنى الاخلاقي يفيد معنى التأمل والتفكر والاعتبار ، مع الترقب والحذر ، والتبين والعلم ، وصحة الحكم واستقامة النظرة ، وهو بهذا المفهوم خلق من أخلاق القرآن الكريم ، وفضيلة من فضائل الاسلام العظيم ، وجانب من هدي الرسول عليه الصلاة والتسليم ، وقد جاء ذكر هذه الفضيلة الاخلاقية في مواطن القرآن الكريم ، كقوله سبحانه في سورة الحشر :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ، لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ» (١).

أي لتتأمل كل نفس فيما قدمته بين يديها ، وعليها أن تتدبره ولا تغفل عنه وقد علق تفسير «في ظلال القرآن» على هذا النص الكريم بهذه العبارة الكاشفة : «التقوى حالة في القلب يشير اليها اللفظ بظلاله ، ولكن العبارة لا تبلغ تصوير حقيقتها. حالة تجعل القلب يقظا حساسا شاعرا بالله في كل حالة ، خائفا متحرجا مستحييا أن يطلع عليه الله في حالة يكرهها ، وعين الله على كل قلب في كل لحظة. فمتى يأمن أن لا يراه؟!

«ولتنظر نفس ما قدمت لغد».

__________________

(١) سورة الحشر ، الآية ١٨ و ١٩.

١٣٥

وهو تعبير كذلك ذو ظلال وايحاءات أوسع من ألفاظه .. ومجرد خطوره على القلب يفتح أمامه صفحة أعماله بل صفحة حياته ، ويمد ببصره في سطورها كلها يتأملها وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته ، لينظر ماذا قدم لغده في هذه الصفحة .. وهذا التأمل كفيل بأن يوقظه الى مواضع ضعف ومواضع نقص ومواضع تقصير ، مهما يكن قد أسلف من خير وبذل من جهد. فكيف اذا كان رصيده من الخير قليلا ، ونصيبه من البر ضئيلا؟. انها لمسة لا ينام بعدها القلب أبدا ولا يكف عن النظر والتقليب.

ولا تنتهي الآية التي تثير كل هذه المشاعر حتى تلح على القلوب المؤمنة بمزيد من الايقاع : «واتقوا الله ان الله خبير بما تعلمون».

فتزيد هذه القلوب حساسية ورهبة واستحياء .. والله خبير بما يعملون ..

وبمناسبة ما تدعوهم اليه هذه الآية من يقظة وتذكر يحذرهم في الآية التالية من أن يكونوا «كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم» .. وهي حالة عجيبة. ولكنها حقيقة .. فالذي ينسى الله يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشده الى أفق أعلى ، وبلا هدف لهذه الحياة يرفعه عن السائمة التي ترعى. وفي هذا نسيان لانسانيته وهذه الحقيقة تضاف اليها أو تنشأ عنها حقيقة أخرى. وهي نسيان هذا المخلوق لنفسه فلا يدخر لها زادا للحياة الطويلة الباقية ، ولا ينظر فيما قدم لها في الغداة من رصيد.

«أولئك هم الفاسقون» .. المنحرفون الخارجون.

وفي الآية التالية يقرر أن هؤلاء هم أصحاب النار ، ويشير للمؤمنين ليسلكوا طريقا غير طريقهم وهم أصحاب الجنة. وطريق أصحاب الجنة غير طريق أصحاب النار :

١٣٦

«لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة. أصحاب الجنة هم الفائزون».

لا يستويان طبيعة وحالا ، ولا طريقا وسلوكا ، ولا وجهة ولا مصيرا ، فهما على مفرق طريقين لا يلتقيان ابدا في طريق. ولا يلتقيان أبدا في سمة ، ولا يلتقيان أبدا في خطة ، ولا يلتقيان ابدا في سياسة ، ولا يلتقيان ابدا في صف واحد في دنيا ولا آخرة.

«أصحاب الجنة هم الفائزون» يثبت مصيرهم ويدع مصير أصحاب النار مسكوتا عنه ، معروفا. وكأنه ضائع لا يعنى به التعبير.

وقد جاء في تفسير ابن كثير عن الآيات السابقة ان الله تعالى أمر بالتقوى وهي تشمل فعل المأمور به وتجنب المنهي عنه ، فالله يقول لعباده : حاسبوا أنفسكم قبل ان تحاسبوا ، وانظروا ماذا ادخرتم من الاعمال الصالحة ليوم عرضكم على ربكم وهو عليم بجميع اعمالكم واحوالكم ولا تخفى عليه منكم خافية ، ولا يغيب عنه من أموركم جليل أو حقير ، ولا تنسوا ذكر الله فينسيكم العمل بمصالح انفسكم لان الجزاء من جنس العمل ، ولقد خطب أبو بكر الصديق ذات يوم فقال : «أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لاجل معلوم؟ فمن استطاع منكم أن يقضي الاجل وهو في عمل الله عزوجل فليفعل ، ولن تنالوا ذلك الا بالله عزوجل. ان قوما جعلوا آجالهم لغيرهم ، فنهاكم الله ان تكونوا امثالهم : «ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم». أين من تعرفون من اخوانكم؟ قدموا على ما قدموا في أيام سلفهم ، وخلوا بالشقوة والسعادة ، أين الجبارون الاولون الذين بنوا المدائن ، وحصنوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار. هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه ، فاستضيئوا منه ليوم ظلمة واستنصحوا كتابه وتبيانه ، ان الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال :

١٣٧

«إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ، وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ» (١).

لا خير في قول لا يراد به وجه الله ، ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله ، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه ، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم.

وقد وردت مادة النظر في مواطن من القرآن الكريم ، كقوله تعالى في سورة الاعراف :

«أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ» (٢).

أي أولم ينظر هؤلاء المكذبون بآياتنا في ملك الله وسلطانه في السماوات والارض ، وفي ما خلق من شيء فيهما ، فيتدبروا ذلك ويعتبروا به ، ويعلموا أن ذلك لمن لا نظير له ولا شبيه ، ومن فعل من لا ينبغي أن تكون العبادة والدين الخالص الا له ، فيؤمنوا به ، ويصدقوا رسوله ، وينيبوا الى طاعته ، ويخلعوا الانداد والاوثان ، ويحذروا أن تكون آجالهم قد اقتربت ، فيهلكوا على كفرهم ، ويصيروا الى عذاب الله وأليم عقابه.

فبأي تخويف وتحذير بعد تحذير النبي وترهيبه يصدقون ، ان لم يصدقوا بهذا الحديث الذي جاءهم من عند الله عزوجل.

__________________

(١) سورة الانبياء ، الآية ٩٠.

(٢) سورة الاعراف ، الآية ١٨٥.

١٣٨

وقد روي عن أبي هريرة ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : رأيت ليلة أسري بي ، لما انتهينا الى السماء السابعة ، فنظرت فوقي فاذا انا برعد وبرق وصواعق ، وأتيت على قوم بطونهم كالبيوت ، فيها الحيات ترى من خارج بطونهم. قلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء أكلة الربا ، فلما نزلت الى السماء الدنيا نظرت الى أسفل مني فاذا أنا بغبار ودخان وأصوات ، فقلت ما هذا يا جبريل؟. قال : هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم ، أن لا يتفكروا في ملكوت السماوات والارض ، ولو لا ذلك لرأوا العجائب.

وفي سورة الغاشية :

«أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ» (١).

وفي سورة الاعراف :

«فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ» (٢).

وفي سورة الطارق :

«فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ» (٣).

وهذا أحد الشعراء يلفت في شعره الانظار والبصائر الى النظر والاعتبار فيقول :

نزهة المؤمن الفكر

لذة المؤمن العبر

نحمد الله وحده

نحن كل على خطر

__________________

(١) سورة الغاشية ، الآية ١٧.

(٢) سورة الاعراف ، الآية ٨٤.

(٣) سورة الطارق ، الآية ٥.

١٣٩

ربّ لاه وعمره

قد تقضى وما شعر

ربّ عيش قد كان فو

ق المنى مونق الزهر

في خرير من العيو

ن وظل من الشجر

وسرور من النبا

ت وطيب من الثمر

غيرته وأهله

سرعة الدهر بالغير

نحمد الله وحده

ان في ذا لمعتبر

ان في ذا لعبرة

للبيب ان اعتبر

ويقول بعض السلف : زوروا القبور كل يوم تفكركم ، وشاهدوا الموقف بقلوبكم ، وانظروا الى المنصرف بالفريقين الى الجنة أو النار ، واشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها ، وقال وهب بن منبه : ما طالت فكرة امرىء قط الا فهم ، وما فهم امرؤ قط الا علم ، وما علم امرؤ قط الا عمل. وقال عمر بن عبد العزيز : الكلام بذكر الله عزوجل حسن ، والفكرة في نعم الله أفضل العبادة. ويروى أن عيسى عليه‌السلام قال : طوبى لمن كان قوله تذكرا ، وصمته تفكرا ، ونظره عبرا.

وقد تكلم أهل التصوف عن النظر على طريقتهم وبأسلوبهم ، وهذا أبو الحسين النووي مثلا يقول : «مقامات أهل النظر في النظر شتى : فمنهم من كان نظره نظر التسلي ، ومنهم من كان نظره نظر استفادة ، ومنهم من كان نظره نظر عيان المكاشفة ، ومنهم من كان نظره نظر المنافسة في المشاهدة ، ومنهم من كان نظره نظر المشاكلة والمماثلة ، ومنهم من كان نظره نظر طيبة وملاحظة ، ومنهم من كان نظره نظر اشراف ومطالعة وكل واحد منهم من أهل النظر». ويقول حاتم الاصم : «الشهوة ثلاثة : شهوة في الاكل ، وشهوة في الكلام ، وشهوة في النظر ، فاحفظ الاكل بالثقة ، واللسان بالصدق ، والنظر بالعبرة».

١٤٠