النّحو الوافي

عبّاس حسن

النّحو الوافي

المؤلف:

عبّاس حسن


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار المعارف
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٨٨

الضّحا. ويصح فى المثالين وضع الظرف : «عند» مكان «لدن». ولكن استعمال «عند» فى بدء الغاية الزمنية قليل ، وهو ـ مع قلته ـ قياسى ؛ كالحديث الشريف : الصبر عند الصدمة الأولى. وقولنا : السفر عند الساعة الثامنة.

و «لدن» ، و «عند» يختلفان ـ بعد هذا ـ فى أمور ، أشهرها ستة : الأول : أن «لدن» ظرف يكاد يلازم الدلالة على بدء الغايات. وقد يستعمل أحيانا للدلالة على مجرد الحضور. أما «عند» فيستعمل كثيرا فى الدلالة على بدء الغايات ، وفى الدلالة على الحضور المجرد ، مثل : جلست عندك. فإنّ تحقّق معنى الجلوس لا يقتضى ابتداء مكانيّا معينا ، أى : لا يستلزم تعيين نقطة البدء المكانى ؛ إذ لو كان له ابتداء مكانىّ لوجب أن يكون له انتهاء مكانى أيضا ؛ لعدم وجود ابتداء بغير انتهاء. فأين مكان انتهاء الجلوس فى المثال السابق وأشباهه؟ لا وجود له. وعلى هذا لا ابتداء له أيضا. فمن القليل أن يقال : جلست من لدنك. وتشدّد بعض النحاة فمنعه ، وليس بممنوع ؛ ولكنه قليل جائز.

الثانى : أن «لدن» مبنى على السكون فى أكثر لغات العرب. أما «عند» فمعرب عندهم.

الثالث : أن «لدن» قد يتجرد للظرفية المباشرة (١) ، ولكن الأغلب أن يخرج منها إلى «شبه الظرفية» ؛ بالجر «بمن» (فيكون ، مبنيّا على السكون فى محل جر «بمن») (٢). أمّا «عند» فينصب كثيرا على الظرفية المباشرة ، أو يجر «بمن». والغالب أنه لا يدل على بدء الغايات إلا إذا كان مسبوقا بهذا الحرف الجار ، فإن لم يكن مسبوقا به كان ـ فى الغالب ـ للدلالة على مجرد الحضور ، لا لبدء الغاية. وجرّه «بمن» على كثرته قليل بالنسبة لجر «لدن» به.

الرابع : أن «لدن» يضاف (٣) للمفرد ـ كالأمثلة السالفة ـ ويضاف

__________________

(١) فيكون مبنيا على السكون فى محل نصب.

(٢) ومن الأمثلة لهذا قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً.)

(٣) وهو مضاف مع بنائه.

١٢١

للجملة بنوعيها أيضا. وإذا أضيف للجملة كان مقصورا على بداية الغاية الزمانية دون المكانية ؛ إذ الأرجح أن الظروف المكانية لا يضاف منها شىء للجملة إلا : «حيث» ـ كما سبق (١) ـ. فمن أمثلة إضافته للجملة الفعلية قول الشاعر :

صريع غوان راقهنّ ورقنه

لدن (٢) شبّ ، حتّى شاب سود الذوائب

ومثال الاسمية : وتذكر نعماه لدن أنت يافع ...

وعلى هذا يكون المضاف إليه بعد «لدن» مجرورا لفظا إن كان اسما معربا ، ومجرورا محلا إن كان اسما مبنيّا أو جملة.

أما «عند» فلا يضاف للجملة ، فالمضاف إليه بعده مجرور لفظا إن كان اسما معربا ، ومحلا إن كان مبنيّا.

الخامس : أن «لدن» قد يستعمل مفردا (٣) مع ظرفيته ؛ بشرط أن يقع بعده كلمة ؛ «غدوة» ـ من غير فاصل بينهما ـ منصوبة ، أو مرفوعة نحو : مكثت هنا لدن غدوة حتى الغروب. فالنصب على اعتبارها خبرا لكان المحذوفة مع اسمها ، والتقدير : لدن كان الوقت غدوة ... والرفع على أنها فاعل لكان التامة المحذوفة التى معناها : ظهر «ووجد» ؛ والتقدير : لدن كانت غدوة ، أى : ظهرت غدوة ووجدت. وعلى هذين الإعرابين يكون الظرف «لدن» مضافا للجملة تقديرا. وليس مفردا. أما على إعراب : «غدوة» المنصوبة تمييزا ، سماعيّا ، صاحبه «لدن» المفرد ، أو منصوبة على «التشبيه بالمفعول به» (٤) فلا يكون «لدن» مضافا على الصحيح. والأخذ

__________________

(١) فى رقم ٤ من هامش ص ٧٨.

(٢) الظرف «لدن» تنازعه ثلاثة عوامل : هى : صريع ـ الفعل : «راق» الأول ـ الفعل : راق ، الثانى.

(٣) أى : غير مضاف لفظا ولا معنى.

(٤) يقولون فى هذا الإعراب كلاما يجدر بنا إهماله ، وعدم التعويل عليه ، هو : أن «لدن» فى آخرها نون ساكنة ، قبلها دال تفتح ، أو تضم ، أو تكسر ، وقد تحذف نونها ؛ فحرف الدال فى ضبطه المتعدد شابه الحركات الإعرابية فى التبدل. وكذلك شابهت النون التنوين ؛ من جهة جواز حذفها ؛ فصارت : «لدن غدوة» فى اللفظ مثل : راقود خلا ؛ فنصب «غدوة» على التمييز المفرد ب «لدن» مثل نصب كلمة : «خلّا» براقود. أما نصبه على التشبيه بالمفعول به فلأنه عندهم مثل : أنا ـ

١٢٢

بالإعرابين الأولين ، أفضل ، لبعدهما عن التكلف ، والتعقيد ، والضعف.

ويصح فى كلمة : «غدوة» الجر على اعتبار «لدن» مضافا أيضا و «غدوة» هى المضاف إليه المجرور.

أما «عند» فلا ينقطع عن الإضافة إلا إذا ترك الظرفية وصار اسما محضا ؛ كأن يقول شخص : «عندى مال». فيقول له آخر : «وهل لك عند»؟ فكلمة «عند» هنا مبتدأ مرفوع. ومثل : «الكتاب عندى». فيقال : «هل يصونه عندك»؟ فكلمة : «عند» فاعل مرفوع. وهى فى المثالين ـ وأشباههما ـ اسم خالص الاسمية ، لا علاقة له بالظرفية.

السادس : أن «لدن» لا يكون إلا فضلة ؛ لأنه ظرف غير متصرف (فهو مقصور على النّصب على الظرفية ، أو الخروج منها إلى الجر بمن) بخلاف «عنا» فإنه قد يكون عمدة فى مثل : «السفر من عند البيت». فالجار والمجرور هما ـ أو متعلقهما ـ الخبر. ولما كان الخبر عمدة ، وكلمة : «عند» جزء منه وقد اشتركت فى تكوينه ، صارت مشتركة ـ تبعا لذلك ـ فى وصفه بأنه عمدة. ولا يصح أن يقال : «السفر من لدن البيت» ، لأن هذا يخرج «لدن» من نوع الفضلة إلى العمدة (١).

* * *

__________________

ـ مكرم عليا. فإن «نون لدن» تثبت تارة وتحذف أخرى ، كنون التنوين فى اسم الفاعل فعملت عمله ... و ... (راجع المطولات ومنها شرح التصريح فى هذا الباب والموضع.) وهو كلام جدلى محض ، بعيد عن الواقع الحق. وقد ذكرناه ليطلع عليه المتخصصون ، ثم يهملوه إن شاءوا. لأن السبب الحق هو كلام العرب.

(١) وفى «لدن» يقول ابن مالك :

وألزموا إضافة «لدن» فجر

ونصب «غدوة» بها عنهم ندر

يريد : أن العرب ألزموا لفظ «لدن» الإضافة ، فجر المضاف إليه. (يشير بهذا إلى أن عامل الجر فى الإضافة هو المضاف نفسه) ثم استدرك فقال : إنه قد يتجرد من الإضافة وينصب فى النادر كلمة معينة ، هى : «غدوة» دون غيرها.

١٢٣

زيادة وتفصيل :

يقول بعض النحاة : لو عطف على : «غدوة» المنصوبة ـ (نحو : أختار السباحة لدن غدوة وعشية) ـ أو جاء لها تابع آخر ، جاز نصب التابع مطلقا (١) ، مراعاة للفظ المتبوع الآن ؛ وجاز جره مراعاة لأصل المتبوع ؛ إذ الأصل فى كلمة : «غدوة» أن تكون «مضافا» إليه مجرورا. فلا مانع عندهم من جرّ التابع على «توهّم» أنّ المتبوع مجرور ، ولم يوافق على هذا الرأى آخرون بحجة جدلية.

والحق أن الالتجاء إلى الإعراب «التوهمى» كالالتجاء إلى الإعراب «للمجاورة» كلاهما التجاء إلى ما لا يصح الاستناد إليه. (وقد كررنا هذا فى مواضع مختلفة ، ومنها رقم ٦ من هامش ص ٧ السابقة (٢) ، وص ٦٠٩ ج ١ م ٤٩) وبخاصة إذا عرفنا أن أصحابه لا يؤيدونه بالأمثلة الواردة التى تكفى للإقناع بقياسيته.

* * *

__________________

(١) معطوفا أو نوعا آخر من التوابع.

(٢) وفيها بيان مناسب عنه ، ورأى بعض الأقدمين فيه.

١٢٤

مع (١) ـ لهذه الكلمة أحوال ثلاثة ؛ تضاف فى اثنتين ، وتفرد فى واحدة ، الأولى : الظرفية ؛ بأن تكون ظرف مكان يدل على اجتماع اثنين واصطحابهما ، أو ظرف زمان يدل على ذلك ، أو ظرفا محتملا للأمرين ، عند عدم القرينة التى تعينه لأحدهما (٢) فقط. فمثال دلالته على المكان وحده قولهم : (التواضع مع التّكلّف زهر مصطنع ؛ لا فى العيون نضر ، ولا فى الأنوف عطر) وقولهم : (لا راحة لراض مع ساخط ، ولا لكريم مع دنىء). ومثال دلالته على الزمان وحده : يغادر الطير عشه مع الصباح الباكر ، ويعود إليه مع إقبال الليل(٣) ...

وليس من من اللازم عند استعماله فى الزمان أن يكون الاجتماع والتلاقى متصلين فعلا ؛ وإنما يكفى أن يكونا متقاربين غاية التقارب ، حتى كأنهما متصلان من

__________________

(١) سبقت لها إشارة موجزة لمناسبة أخرى فى باب : «الظرف» ج ٢ م ٧٩ ص ٢٧٨.

(٢ و٢) لبيان ما سبق نقول : إن كل اجتماع والتقاء بين اثنين لا بد أن يكون فى زمان واحد ، ومكان واحد ؛ ومحال أن يتم الاجتماع والتلاقى بغير الأمرين مقترنين حتما. ففى مثل : قعد الزميل مع زميله فى الغرفة ـ لا يمكن أن يتحقق قعودهما مجتمعين إلا فى زمان واحد يطويهما ، ومكان واحد يحويهما. ومن المستحيل أن يوجد الزمان بغير المكان ، أو العكس.

فإذا أردنا أن ندل على وقوع اصطحاب واجتماع بين اثنين فى أمر ـ كالجلوس ، مثلا ـ كان أمامنا أساليب متعددة لأداء هذا المعنى. ولكن أبلغها وأدقها هو اختيار اللفظة الواحدة المختصة بتأدية هذه الدلالة ؛ وهى لفظة : «مع» فنقول : جلس الأخ مع أخيه فى بيتهما ؛ بدلا من أن نقول : ظهر الأخ وأخوه فى مكان واحد هو البيت ، جلسا فيه فى وقت واحد ... أو : نحو هذا ، من الأساليب التى قد يصيبها التفكك والضعف ؛ بسبب إهمال الكلمات الخاصة التى هى نص فى معان معينة. ونقول : أكل الصديق مع صديقه ، بدلا من أكل الصديقان فى مكان واحد ، وزمان واحد ... أو : مصطحبين زمانا ومكانا فى أثنائه. فالاجتماع ـ كما أسلفنا ـ لابد أن يشمل الأمرين ؛ الزمان والمكان حتما. غير أن المقام يقتضى ـ أحيانا ـ الاهتمام بأحدهما وتوجيه المعنى إليه دون الآخر ؛ لوجود قرينة لفظية أو غير لفظية توجب الاقتصار على واحد ، كما فى المثالين السالفين ؛ فالفعل فى كل منهما قرينة تدل فى السياق الخاص على أن القصد متجه للمكان ، مقصور عليه وحده ، من غير اعتبار للزمان الملازم للمكان. أما فى مثل استيقظت من النوم مع الفجر ، وقصدت لعملى مع الشروق ـ فإن القرينة اللفظية فى السياق تدل على أن الغرض المقصود هو الزمان وحده ؛ إذ لا أهمية للمكان هنا كعدم أهمية الزمان هناك ، فالقرائن اللفظية أو غير اللفظية هى وحدها ـ كشأنها دائما ـ التى تتحكم فى تخصيص كلمة : «مع» بالمكان أو الزمان. وهذا هو المراد من قولهم : «إنها ظرف زمان أو مكان». ولكنه قول مختصر يراد منه ما شرحناه. فإن لم توجد تلك القرينة كانت «مع» محتملة للأمرين ، صالحة لكل منهما من غير ترجيح.

١٢٥

شدة التقارب الزمنىّ ، مع أنهما غير متقاربين فى الواقع ؛ كقولهم فى وصف حركات الحصان السريع : (إنها كرّ مع فرّ ، وإقبال مع إدبار (١) ...) فاجتماع الكر والفر فى زمان واحد محال ، وكذلك اجتماع الإقبال والإدبار ؛ فالمراد من الاجتماع الزمنىّ فى مثل هذا هو : شدة التقارب. وكقولهم للحزين الضائق : «لا تحزن ؛ فإن مع العسر يسرا ، وإن مع اليوم أخاه الغد ، يقبل بالخير والإسعاد». فالعسر واليسر لا يجتمعان فى زمان واحد لإنسان. وكذلك اليوم والغد ... و ... وإذا المراد من الاصطحاب الزمنىّ والاجتماع قد يكون حقيقيّا ، وقد يكون بمعنى التقارب الشديد.

ومثال صلاحه للأمرين قولهم : (احتفينا بالعلماء الأجانب مع علمائنا ، وكرّمناهم مع النابغين من رجالاتنا).

وكلمة : «مع» بدلالتها السالفة ، ظرف غير متصرف ، ملازم ـ فى الأغلب ـ للإضافة لفظا ومعنى ؛ وللإعراب ؛ فهو منصوب على الظرفية بالفتحة. وقليل منهم يبنيه على السكون فى كل حالاته ، إلا إذا وقع بعده حرف ساكن فيبنيه على الكسر ؛ للتخلص من التقاء الساكنين ، أو على الفتح للخفة (٢) فيقول مع البناء على السكون : (لا أمن مع ظلم الوالى ، ولا عمران مع طغيانه). ويقول عند التقاء الساكنين :

قد يدرك المتأنى بعض حاجته

وقد يكون مع المستعجل الزّلل

ببناء كلمة : «مع» على الفتح أو الكسر.

الثانية : أن تكون ظرفا بمعنى : «عند» (٣) ، ومرادفة لها ، فى إفادة معنى الحضور المجرد ، فتكون ظرفا لا دلالة فيه على اجتماع ومصاحبة ، وتكون معربة ، مضافة ، واجبة الجر «بمن» الابتدائية ؛ نحو : (الكفيل على اليتيم يرعاه ،

__________________

(١) الكر : الهجوم ، والفرّ : الفرار. ومنهما قول امرئ القيس يصف حصانه : ـ وله إشارة فى ص ١٢٩ ـ

مكرّ ، مفرّ ، مقبل ، مدبر ، معا

كجلمود صخر حطّه السيل من عل

(٢) إذا بنى على الفتح عند هؤلاء وهو مضاف ، فكيف نعلم أن الفتحة فى آخره فتحة إعراب أو فتحة بناء؟ يكون التمييز بالقرائن ؛ كأن نعلم أن الناطق به فرد من تلك القبائل القليلة التى تبنيه ، أو ممن يحاكيهم.

(٣) سبق الكلام عليها فى ص ١٢١ وفى ج ١ ص ٢٢٢ م ٨٩.

١٢٦

ويصون ماله. وإذا أراد البذل والعطاء فلينفق من معه ، لا من مع اليتيم).

الثالثة : أن تكون اسما لا ظرفية معه ، ومعناها : «جميع» أى : «كلّ» وتدل على مجرد اصطحاب اثنين ـ أو أكثر ـ واجتماعهما فى وقت واحد ، أو وقت متعدد ، وفى هذه الحالة تكون معربة ، منصوبة ، منونة على أنها حال ، أو : خبر ، وهى فى الصورتين مؤولة بالمشتق ، ومفردة : (أى : لاحظّ لها من الإضافة مطلقا (١)) وكذلك لاحظّ لها من الدلالة على اتحاد فى الزمان أو المكان بعد أن تجردت للاسمية المحضة ، إلا بقرينة (٢) ؛ فمثالها حالا للمثنى : أقبل الزعيمان معا ؛ وقول الشاعر :

فلما تفرقنا كأنى ومالكا

 ـ لطول اجتماع (٣) ـ لم نبت ليلة معا

ومثالها حالا لجماعة الذكور :

وأفنى رجالى فبادوا معا

فأصبح قلبى بهم مستفزّ (٤)

ومثالها حالا لجماعة الإناث : إذا حنّت (٥) الأولى سجعن (٦) لها معا (٧) ...

__________________

(١) تلزم إضافة الظرف : (مع) حين يذكر قبله أحد المصطحبين ، نحو : كنت مع الأخ أقرأ. فإن سبقه المصطحبان لم يبق ما يضاف إليه ؛ فينصب منونا. نحو : سار القائد والجيش معا.

(٢) انظر «ا» من الزيادة.

(٣) اللام هنا بمعنى : «مع» أو : «بعد». ـ كما سبقت الإشارة فى ج ٢ باب : «حروف الجر» ، م ٩٠ ص ٣٧١ ـ

(٤) استفزه الأمر : أزعجه.

(٥) الكلام عن الحمام. حنت الحمامة ، أى : ترنمت بصوت فيه رقة وحنان.

(٦) اشتركن فى الترنيم بقوة وتوال.

(٧) ومن أمثلتها حالا لجماعة الإناث قول الشاعر فى وصف إبل :

لا ترتجى حين تلاقى الذائدا

أسبعة لاقت معا ، أم واحدا

فكلمة : «معا» حال من فاعل الفعل «لاقى» وهو ضمير مستتر تقديره : «هى» يعود على «الإبل» التى تدل على جماعة. فالضمير عائد على جماعة مؤنثة. ومعنى «لا ترتجى» : لا تخاف. فالرجا معناه الخوف بشرط أن يسبقه نفى ، كما جاء فى كتاب معانى القرآن للفراء ص ٢٨.

١٢٧

ومثالها خبرا : المجاهدان ، أو : المجاهدون معا ، أى : موجودان معا (١) .. أو : موجودون معا. والمراد : مجتمعان ، ومجتمعون ... ونحو قول القائل :

أفيقوا بنى حرب ، وأهواؤنا معا

وأرحامنا موصولة لم تقضّب

أى : وأهواؤنا مجتمعة ، وأرحامنا لم تنقطع.

وقوله : أوفّى صحابى حين حاجاتنا معا ... (٢)

__________________

(١) ومما يصلح للحال والخبر ـ ولكنه أوضح فى الحال ـ قول الأفوه الأودىّ من شعراء الجاهلية ، يصف أهل الفساد من قومه :

فينا معاشر لم يبنوا لقومهمو

وإن بنى قومهم ما أفسدوا عادوا

لا يرشدون ، ولن يرعوا لمرشدهم

فالجهل منهم معا والغىّ معتاد

 ـ انظر الإعراب فى : «ب» من الزيادة والتفصيل. ـ

(٢) يقول ابن مالك فى الكلام على «مع» :

و «مع» : «مع» فيها قليل ، ونقل

فتح وكسر لسكون يتّصل

يريد : أن كلمة «مع» فيها لغة أخرى قليلة هى : «مع» ـ بسكون العين ، بدلا من فتحها ـ ، وأنه نقل عن العرب فى هذه الساكنة العين ، فتحها وكسرها إذا جاء بعدها ساكن متصل بها ، أى : غير مفصول منها بفاصل بينهما.

(وتقدير الشطر الأول : «مع» ـ قليل فيها : مع).

١٢٨

زيادة وتفصيل :

ا ـ قد تكون «مع» بمعنى : «جميع ، أى : «كلّ» ـ كما عرفنا ـ فهل يتساويان فى المعنى تماما؟.

قال اللغويون : إن الأساس فى كلمة : «مع» هو أن تدل على اتحاد الوقت بين الشيئين ، أو الأشياء ، ما لم تقم قرينة على عدم الاتحاد ؛ كالقرينة التى فى قول امرئ القيس يصف حصانه :

«مكرّ ، مفرّ ، مقبل ، مدبر ، معا» ... ، لاستحالة الكرّ والفرّ ، والإقبال والإدبار فى وقت واحد (١). أما كلمة «جميع» فقد تقوم معها القرينة التى توجب الاتحاد الزمنى ، أو تمنعه ، أو تجيزه. ففى مثل : (تتحرك كواكب المجموعة الشمسية جميعا) ... يكون التحرك واقعا لا محالة فى وقت واحد ؛ بخلاف : تزور الشمس والقمر جميعا غرفتى ظهرا ، فإن اتحاد الوقت محال. أما فى مثل : زرنى عمى وخالى جميعا ؛ فيجوز الاتحاد وعدمه. فالفرق بين أكلنا معا وأكلنا جميعا ... ، أن : «معا» يفيد الاجتماع فى حال الفعل وزمنه. وأن «جميعا» هو بمعنى : «كلنا» سواء اجتمعنا فى زمن الفعل أم لا.

ب ـ لا طائل فيما يدور بين النحاة من جدل حول الأصل الأول لكلمة : «مع» الباقية على ظرفيتها ؛ أهى ثنائية الوضع منذ جرت على ألسنة العرب الأوائل؟ أم ثلاثية الوضع ، قد حذف حرفها الأخير «الثالث» ، وأن أصلها : معى ، فلما نقصت بحذف حرفها الأخير (الياء) سميت منقوصة (٢) لذلك؟ أم أن بعض أنواعها ثنائى ، وبعضا ثلاثى؟.

آراء متعددة خيرها الرأى القائل : إن الباقية على ظرفيتها ثنائية الأصل ، معربة ، منونة ، ويحذف التنوين عند الإضافة ، فإذا لم تضف ـ أحيانا ـ وكانت منونة منصوبة فهى ظرف باق على ظرفيته ـ فى بعض الآراء ـ ، متعلق

__________________

(١) انظر ما يتصل بهذا معنى وضبطا ، فى ص ١٢٦ وهامشها.

(٢) المراد بالمنقوص هنا ما حذف منه الحرف الأخير ، لعلة صرفية أو لغير علة. وهو غير المنقوص الذى مر فى باب الإعراب والبناء ج ١ ص ١٢٤ م ١٥.

١٢٩

بمحذوف ، إما حال ، وإمّا خبر على حسب السياق ... ، ولن يترتب على الاقتصار على هذا الرأى وإهمال غيره إساءة تلحق الأسلوب فى معناه ، أو فى ضبط كلماته ، بل يترتب عليه راحة من تعليلات شاقة مصنوعة ، لا تقوم على أساس قوىّ ، أو دليل يساير العقل والواقع. فوق ما فيه من تيسير وراحة (١).

هذا ، إن بقيت على ظرفيتها ـ تبعا لذلك الرأى. أما إن خرجت عنها ، وتجردت للاسمية المحضة وظلت منونة منصوبة ـ كما هو المسموع فيها ـ فقد تعرب حالا ، أو خبرا على حسب مقتضى السياق ، فإن كانت «حالا» فهى معربة. إما بالفتحة الظاهرة فى آخرها ، على اعتبارها اسما ثنائيّا ليس محذوف الآخر ، وإما بفتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع التنوين ، على اعتبارها اسما ثلاثيّا آخره ياء ، وأصله «معى» : فهى مثل : فتى ؛ أصلها : «فتى». تقلب الياء ألفا وتحذف هذه الألف فى النطق لا فى الكتابة عند تنوين الكلمة ؛ تقول : هذا فتى ـ رأيت فتى ـ أصغيت إلى فتى.

هذا إن كانت «حالا». أما إن كانت خبرا فلا بدّ من اعتبارها ثلاثية الأصل مرفوعة بضمة مقدرة على الألف المحذوفة لفظا ، لا خطّا (٢) ولا يمكن إعرابها خبرا وفى آخرها الفتحة والتنوين إلا على تقديرها ثلاثية الحروف. أما من يعربونها خبرا مع ثنائيتها فيحتمون بقاءها على الظرفية ، وتعليقها بمحذوف هو الخبر ، ويمنعون خروجها عن الظرفية إلى الاسمية ..

* * *

__________________

(١) لم نذكر هذه الآراء ـ كما نفعل أحيانا ـ لأن هذه واضحة الضعف ، ليس لها أثر عملى. فذكرها والرد عليها يخلق رأيا جديدا يزيد عددها ، ويوسع الجدل فيها. وهذا أحد الأسباب التى تثير الشكوى ـ بحق ـ من المطولات القديمة. أما تعدد الآراء واتساع الجدل فيما يجدى ؛ (كتيسير ، أو تحديد حكم ، أو استنباط آخر ... أو ...) فمرغوب فيه ؛ ـ بل هو هدف أساسى من أهداف المتخصص المتجرد لمهمته ، يصل منه إلى كشف غايات حميدة ، واستنباط نتائج نافعة.

(٢) لأنها مذكورة خطّا ، مكتوبة ياء ؛ طبقا لقواعد رسم الحروف.

١٣٠

غير ـ اسم محض (١) ، يدل على مخالفة ما قبله لما بعده فى ذاته ، وحقيقة تكوينه ، أو فى وصف من الأوصاف العرضية التى تطرأ على الذات. فمثال الأول : (الحيوان غير النبات ،) أى : ذات الحيوان وحقيقته الأصلية مخالفة لذات النبات ولحقيقته الأصلية. ومثال الثانى ؛ (خرج الفائز بوجه غير الذى دخل به ، ونظر للأمر بعين غير التى كان ينظر بها.) فليس المراد أن ذات الوجه وحقيقته قد تغيرت ، ولا أن ذات العين وحقيقتها استحالت فصارت شيئا مغايرا للأولى مغايرة تامة ، وإنما المراد أن الوجه طرأ على ظاهره أمر عرضىّ ؛ كالسرور ، والانشراح والإشراق ... و ... وأن العين طرأ عليها صفة جديدة عرضية ؛ كالثبات ، والصفاء ، وعدم الحركة الزائغة المضطربة ...

و «غير» فى أكثر أحوالها (٢) ـ ملازمة للإضافة ؛ إمّا لفظا ومعنى معا ؛ كالأمثلة السابقة ، وكقول القائل : (غيرى على السّلوان قادر ...) وإما معنى فقط ؛ ولهذه الحالة صورتان :

الأولى : أن يحذف المضاف إليه بشرط أن يكون معلوما ، ملحوظا لفظه فى النية والتقدير ، كأنه مذكور ، وأن تكون كلمة : «غير» مسبوقة بإحدى أداتى النفى : «ليس» أو : «لا» (٣) دون غيرهما من ألفاظ النفى ؛ نحو : (شبح الفقر غاد ورائح على ثلاثة ليس غير ؛ مسرف ، ومقامر ، وعاطل ،) أى : ليس غير الثلاثة. ونحو : (الصبر صبران لا غير ؛ صبر تجلّد يكون من القوىّ المرهوب ،

__________________

(١) اسم محض ، أى : لا ظرفيه فيه. وتدخل فى عداد الأسماء غير التامة (وهى : الأسماء الدالة على الغايات بالمعنى المشروح فى هامش ١٤١ ؛ مثل : قبل ، وبعد ، وأشباههما ـ ولتلك الأسماء غير التامة إشارة عابرة فى رقم ٢ من هامش ص ١٤٢ ورقم ٤ من هامش ص ١٦٥ وقد سبقت الإشارة إلى : «غير» وإلى أحكام أخرى تختص بالأسماء المبهمة ؛ كتعرفها بالإضافة وعدم تعرفها وعدم دخول «أل» عليها مع تفصيل الكلام على «غير.» من هذه الناحية. (فى ص ٢٤ و٦٦ و٨٠ و١٣٢. وإلى أشهر وجوه استعمالها بمناسبة أخرى فى ج ٢ باب الاستثناء ص ٢٦٨ م ٨٢ ، وص ٢٧٣ ، وما بعدهما).

(٢) لأنها قد تنقطع عن الإضافة لفظا ومعنى فى إحدى حالاتها ، كما سيجىء فى الصورة الثالثة ص ١٣٣.

(٣) يعارض بعض النحاة فى : «لا» النافية ، ويرى الاقتصار على : «ليس» دون سواها من أدوات النفى. ولكن الثقات يبيحون تقديم «لا» النافية ، ويدفعون معارضته بالمنقول الصحيح من كلام العرب. ويجيزون القياس عليه ؛ سواء أكانت : «لا» نافية للجنس أم نافية لغيره ؛ فالشرط أن تكون نافية مطلقا.

١٣١

وصبر تبلّد يكون من العاجز المغلوب) ؛ أى : لا غير الصبرين.

الثانية : أن يحذف المضاف إليه المعلوم ، مع ملاحظة معناه دون لفظه. وفيما يلى إيضاح وتفصيل للصورتين :

لكلمة : «غير» من ناحية الإعراب والبناء أربع (١) حالات ؛ تعرب فى ثلاث منها ، وتبنى فى واحدة.

(١) فتعرب عند إضافتها لفظا ومعنى معا ، كما فى الصورة الأولى ، وأمثلتها. وتضبط فى حالة إعرابها بالرفع ، أو بالنصب ، أو بالجر على حسب حالة الجملة ، ولا يدخلها التنوين.

(٢) وتعرب كذلك إذا حذف المضاف إليه لدليل يدل عليه ، ونوى لفظه (٢) للحاجة إليه ، أى : لوحظ نصّ لفظه حرفا حرفا ، دون غيره من الألفاظ ؛ فكأنه مذكور (٣) ، مع أنه غير مذكور فى الكلام. ولا يجوز حذفه فى هذه الحالة إلا بعد تحقق الشرطين السالفين ؛ (وهما : ملاحظته فى التقدير ، ووقوع كلمة : «غير» بعد : «ليس» أو بعد : «لا» النافيتين ، كما سبق إيضاح هذا والتمثيل له). وملاحظته هنا لا بدّ أن تتجه إلى لفظه نصّا ؛ فيكون هذا اللفظ نفسه ، وبحروفه معلوما ، وهو الذى تتجه إليه النية والتقدير.

وتضبط «غير» هنا بالرفع أو النصب أو الجر على حسب جملتها. ولا يدخلها التنوين ؛ لأنها كالمضافة لفظا لا يطرأ عليها تغير مطلقا بعد حذفه ، وإنما تظل على حالتها الأولى قبل حذفه.

__________________

(١) بل الأنسب أن تكون ثلاثة ؛ لما سيجىء فى الزيادة والتفصيل «ب» ص ١٣٥.

(٢) كل هذا بشرط ألا يكون «المضاف إليه» مبنيا ، وإلا جاز بناؤها على الفتح ؛ تطبيقا لما شرحناه فى مواضع مختلفة ، (منها : الحكم الرابع عشر ص ٦٦) إذ لو كان مبنيا لجاز أن ينتقل منه البناء إلى : «غير» فيجوز فيها بعد هذا السريان الإعراب أو البناء ، ولا يكون الإعراب واجبا (كما سنذكره فى «ا» من ص ١٣٥). ولا التفات هنا ـ وفيما يأتى ـ للرأى القائل : «البناء لا يسرى للمضاف المبهم ـ وشبهه ـ من المضاف إليه المبنى المحذوف ، بحجة أن الحذف يضعفه ، فلا يقوى على التأثير فى المضاف» ... فإن هذا رأى تخيلى محض ؛ مخالف لقاعدة عامة مستمدة من نصوص كثيرة واردة. ولذا أهمله كثير من النحاة.

(٣) وتبقى أحكام الإضافة بعد حذفه على حالها ، ومنها : عدم تنوين المضاف.

١٣٢

(٣) وتعرب أيضا على حسب حاجة الجملة إذا قطعت عن الإضافة نهائيّا ؛ (بأن حذف المضاف إليه ، ولم ينو لفظه ولا معناه (١) ؛ فكأنه غير موجود من الأصل ، وهذا حين يستغنى عنه المعنى المطلوب ، ولا يتجه الغرض إلى ذكره ؛ (لأنه معلوم ، أو لسبب بلاغىّ آخر) ، نحو : من زرع الإساءة حصد الشقاء ليس غيرا. أى : ليس الحصد مغايرا (٢). وفى هذه الحالة تكون معربة ، منونة ، نكرة.

__________________

(١) لم ينو لفظه ولا معناه ، أى : لم يلاحظ وجوده مطلقا من هاتين الناحيتين. فحكمه كحكم الذى لم يوجد من الأصل.

(٢) إذا لم يلاحظ لفظا ولا معنى كان بمنزلة الذى لم يوجد من الأصل ـ كما سبق فى رقم (١) ـ. ويكون المراد من كلمة «غير» هو : المعنى الاشتقاقى العام ، أى : مجرد المغايرة المطلقة» التى لا تتجه إلى شىء معين ، ولا تقع على أمر محدد غير مختلط بغيره ، ولا مبهم ، وتكون «غير» فى هذه الحالة متضمنة معنى المشتق. يوضح هذا ما يأتى من الأمثلة التى لا بد منها لبيان ما فيه من دقة وخفاء.

ا ـ إذا قلت : (اقتصرت اليوم على أكل الفاكهة ، ليس غير الفاكهة) ـ كان النفى واقعا على غير الفاكهة ، أى : واقعا على كل شىء مغاير للفاكهة. فالفاكهة لا تدخل فى نطاق الأشياء المنفية ؛ فكأنك تقول : ليس المأكول شيئا مغايرا أو مخالفا الفاكهة ؛ فهى المأكولة وحدها.

ب ـ أما إذا قلت : اقتصرت اليوم على أكل الفاكهة ، ليس غير ، أو : ليس غيرا. بالتنوين فيهما ، مع حذف المضاف إليه ، واعتباره كأن لم يوجد من الأصل ، فيكون المراد من كلمة : «غير» المعنى الاشتقاقى العام الذى تتضمنه ، وهو : «المغاير والمخالف» ؛ فكأنك تقول : ليس المأكول مغايرا». هذا المغاير «عام مبهم ، يشمل المغاير للفاكهة ، والمغاير للأكل ، والمغاير لأصول الصحة ، والمغاير للزمن ... والمغاير للقدرة المالية ... فليس فى الجملة ما يقيد النص على مغايرة معينة محددة ؛ وإنما فيها عموم وإبهام يريدهما المتكلم لحكمة بلاغية يرمى إلى تحقيقها.

ح ـ يشابه ما سبق ويزيده وضوحا قولنا : حضر القطار قبل الميعاد ، وسافر بعد الميعاد ، بإضافة «قبل» و «بعد» إلى مضاف إليه مذكور ؛ فالقبلية والبعدية إنما هما بالنسبة للمضاف إليه ، فهما مقيدان به حتما ، وليسا بمطلقين ولا مبهمين لكن إذا قلنا : حضر القطار قبلا وبعدا بالتنوين والتنكير ، فإن الأمر يتغير ؛ فتزول تلك «النسبة الجزئية» أو «الفرعية» الناشئة من الإضافة ، ويرتفع القيد الذى يقيد المضاف ؛ فيصير عاما مبهما ، بعد أن كان خاصا مقيدا ؛ ويكون اسما متضمنا معنى المشتق ؛ فى أصفى الآراء ـ فمعنى قولنا «حضر القطار قبلا» ، هو : «حضر القطار متقدما» فهذا التقدم عام مبهم يشمل أن يكون متقدما على ميعاده. أو : على نظيره من القطر الأخرى ، أر : على مكان وقوفه ، أو ... أو ... وكذلك يكون معنى قولنا : «حضر القطار بعدا» هو «حضر القطار متأخرا». وهذا التأخر عام مبهم ؛ يشمل التأخر عن ميعاده ، أو عن نظيره ، أو : عن مكان وقوفه ... فالقبلية والبعدية إنما يراد بهما معناهما الاشتقاقى المجرد الذى يتضمنه الاسم. فالأمر فيهما وفى «غير» سواء من هذه ـ

١٣٣

(٤) أما الحالة الواحدة التى تبنى فيها وجوبا فحين تكون مضافة ، والمضاف إليه محذوف قد لحظ ونوى معناه (١) دون لفظه ، وفى هذه الحالة تبنى على الضم ، نحو : (شرّ الأصدقاء المعتدى ليس غير) ؛ أى : ليس غير المعتدى ، أو ليس غير الآثم ، أو : ليس غير الجانى (٢) ...

ومما سبق ندرك الفرق بين المحذوف الذى ينوى لفظه ، والمحذوف الذى ينوى معناه ؛ فالأول : لابد فيه من ملاحظة لفظ المحذوف ، ونصه الحرفىّ. والثانى : لابد فيه من ملاحظة معناه فقط ؛ بتخير كلمة أخرى تؤدى معناه ، وتخالف لفظه. فالغرض من أنها بمعناه : أن تتمم مثله المعنى الجزئى الذى كان يتممه مع المضاف الموجود ؛ وأن يحقق النسبة الجزئية (٣) التى كان يحققها من غير اختلاف بينهما فى الأداء المعنوى. أما اللفظ فيجب أن يكون مختلفا.

هذا ، ومن الممكن إدماج الحالات الأربع السابقة فى حالتين :

الأولى : البناء إذا حذف المضاف إليه ونوى معناه. دون لفظه.

والأخرى : الإعراب فيما عداها.

* * *

__________________

ـ الناحية التى لا وجود فيها للمضاف إليه لا لفظا ولا معنى ، بالرغم من أن كلمة : «غير» ليست ظرفا ، وهما فى أصلهما من الظروف التى تسمى : «ظروف الغاية» وتحمل عليها : «غير» فى هذه الغاية ، كما تحمل هذه الظروف على «غير» فتشابهها فى حالات الإعراب والبناء. وسيجىء الكلام عليها فى ص ١٤١.

(١) أى : نوى ولوحظ وجود لفظ آخر ، أىّ لفظ ، يؤدى معناه ـ (كما سنذكره ، وكما سيجىء الكلام عنه فى الزيادة والتفصيل ص ١٣٥) ـ وإنما ينوى معناه إذا دعت إليه الحاجة.

(٢) سبق فى رقم ٢ من هامش ص ١٣٢ بيان حالة أخرى تبنى فيها جوازا ـ لا وجوبا ـ ويكون بناؤها على الفتح.

(٣) سبق ـ فى ص ١ ـ إيضاح معنى النسبة الجزئية ...

١٣٤

زيادة وتفصيل :

ا ـ يترتب على التفرقة بين ملاحظة المحذوف بلفظه السابق نصّا ، أو عدم ملاحظة ذلك ـ آثار متعددة ؛ منها : أن ملاحظة لفظه السابق تقتضى التمسك بمعناه. إذ لو وضع فى مكانه لفظ آخر لجاز أن يكون اللفظ الآخر مخالفا له فى المعنى ـ ولو قليلا ـ ؛ فيفسد الغرض لمقصود من الأداء.

ومنها : أن المحذوف قد يكون معرفة أو نكرة ؛ فينتقل أثر هذا إلى المضاف قطعا ما دام لفظ المضاف إليه معينا ملحوظا ؛ والإضافة محضة. فلو لم يلحظ لجاز أن يحل محله ما يخالفه فى التعريف والتنكير ؛ فيتأثر المعنى بنتيجة هذه المخالفة.

ومنها : أن المضاف إليه المحذوف قد يكون مبنيّا ؛ فيجوز ـ عند ملاحظة لفظه نصّا أن ينتقل منه البناء إلى المضاف المبهم ، ـ ونحوه ـ. وقد أشرنا (١) قريبا إلى وجوب إهمال الرأى الذى يمنع انتقال البناء إلى المضاف من المضاف إليه المبنى المحذوف ؛ بزعم أنه ضعيف ؛ بسبب حذفه ؛ فلا ينتقل منه البناء للمضاف ... وهو زعم مردود.

ب ـ أوضحنا المراد من «المضاف إليه» المحذوف الذى نوى لفظه نصّا ؛ والذى نوى معناه دون لفظه. وما قلناه هو ما ارتضاه «الصبان» و «الخضرى» ـ وغيرهما ـ ، وانتهينا إلى استخلاصه من الجدل الكثير الذى يغشيه. والحق أن النفس غير مطمئنة لما ارتضياه ، بل إن «الخضرى» ـ وغيره ـ لا يزال قلق النفس ؛ فقد فرغ من الكلام عن «المضاف إليه» الذى ذكر ولم يحذف ... وعن «المضاف إليه» الذى حذف ولم ينو لفظه ولا معناه ، ... ثم انتقل إلى الكلام عن المضاف إليه» الذى حذف لفظه ، وهذا المحذوف قد ينوى لفظه نصّا ، وقد ينوى معناه فقط ، فما حكم المضاف ـ من ناحية إعرابه وبنائه ـ مع هذا «المضاف إليه» المحذوف ... ، الذى ينوى لفظه نصّا ، أو ينوى معناه فقط؟ أيكون من هذا المضاف نوع معرب فقط ، ونوع

__________________

(١) فى رقم ٢ من هامش ص ١٣٢.

١٣٥

مبنى فقط ، أم الإعراب والبناء جائزان عند حذف المضاف إليه ونية لفظه نصّا ، أو معناه دون لفظه؟ يجيب بما نصه :

(الاقتصار على حالة واحدة يجوز فيها الإعراب والبناء هو ـ وإن كان خاليا من التكلف ـ مخالف لإجماعهم «فيما نعلم» على تعدد الحالتين ، وأن حالة البناء لا يجوز فيها الإعراب وبالعكس) (١). اه.

وهذه حجة بادية الوهن ، إن صح أن تسمى هذه حجة. لعدم اعتمادها على الدليل الحاسم ، وهو المسموع الكثير من كلام العرب. ولا شك أن الرأى الذى يجيز إعراب المضاف وبناءه عند حذف المضاف إليه مطلقا (أى : سواء نوى لفظه ، أم نوى معناه) رأى سديد ، فوق أنه خال من التكلف والتعقيد ، وقاض على القسم الغامض الملتوى ؛ قسم المضاف إليه الذى حذف ونوى معناه فقط ، وبذا تكون الأقسام ثلاثة ، لا أربعة ، وهذا أحسن ، ولا سيما إذا عرفنا أن بعض أئمة النحاة قد صرح بأن المعنى لا يختلف فى حالتى بناء المضاف ، وإعرابه ، ووصف الرضىّ هذا التصريح بأنه : «هو الحق (٢)».

ح ـ تطبيقا على ما سلف فى : «ا» وما قبلها من أحوال : «غير» ـ يجوز فى مثل : قرأت من الكتب سبعة ليس غير ـ اتباع ما يأتى فى ضبط كلمة : «غير» ، وفى إعرابها :

(٢) أن نقول : «ليس غير» على اعتبارها اسم : «ليس» مرفوعة بالضمة من غير تنوين ، لأنها مضافة معربة ، والمضاف إليه محذوف ، قد نوى لفظه نصّا ، والخبر محذوف ؛ فالتقدير : ليس غير السبعة مقروءا.

(٣) أن نقول : «ليس غير» ، على اعتبارها خبر : «ليس» منصوبا

__________________

(١) راجع الخضرى فى هذا الموضع من باب «الإضافة» عند بيت ابن مالك : واضمم بناء غير ...» إلخ.

(٢) راجع حاشية «ياسين» على شرح «التصريح» ، فى هذا الموضع.

(٣) بشرط ألا يكون لفظه مبنيا ؛ إذ لو كان مبنيا لجاز أن يسرى منه البناء للمضاف المبهم ـ ونحوه ـ كما عرفنا فى رقم ٢ هامش ص ١٣٢ ـ تطبيقا للحكم الرابع عشر الذى سبق فى ص ٦٥.

١٣٦

مضافا والاسم محذوف ، وكذلك المضاف إليه مع نيّة اللفظ ، فيكون التقدير : ليس المقروء غير السبعة.

(٣) أن نقول : «ليس غيرا» ، بالتنوين ، على اعتبارها : نكرة معربة ، خبر : «ليس». فالاسم محذوف ، وكذلك المضاف إليه مع عدم ملاحظة لفظه ولا معناه. والتقدير : ليس المقروء غيرا».

(٤) «ليس غير» بالتنوين أيضا على اعتبارها اسمها معربا ، والخبر محذوف ، والمضاف إليه محذوف كذلك ، لم ينو لفظه ولا معناه. والتقدير : ليس غير مقروءا.

(٥) «ليس غير» بلا تنوين باعتبارها اسم : «ليس» ، مبنى على الضم فى محل رفع ، والمضاف إليه محذوف ، قد نوى معناه فقط. والخبر محذوف أيضا. والتقدير : ليس غير المذكور مقروءا.

(٦) «ليس غير» ، باعتبارها اسم «ليس» ، مبنى على الفتح فى محل رفع ، بشرط أن يكون المضاف إليه محذوفا مع ملاحظة لفظه نصا ، ومبنيّا (لينتقل منه البناء إلى كلمة : «غير» ـ كما عرفنا ـ) والخبر محذوف أيضا. والتقدير : ليس غيرها مقروءا.

(٧) «ليس غير» ، باعتبارها خبر «ليس» مبنية على الفتح فى محل نصب ، والمضاف إليه محذوف ، مبنى حتما ، قد لوحظ لفظه السالف نصّا ، والاسم محذوف ، والتقدير : ليس المقروء غيرها ...

وفى الجدول الآتى تركيز ـ بشكل آخر ـ للصور السالفة.

١٣٧

الصورة

حكم : «غير»

ليس غير ...

اسم «ليس» معربا ، مرفوعا بالضمة من غير تنوين ، والمضاف إليه محذوف نوى لفظه فقط. والخبر محذوف.

ليس غير ...

اسم «ليس» مبنيّا على الضم فى محل رفع ، والمضاف إليه محذوف نوى معناه فقط. والخبر محذوف.

ليس غير ...

اسم «ليس» معربا ، مرفوعا ، مع التنوين ، والمضاف إليه محذوف ، ولم ينو لفظه ولا معناه. والخبر محذوف

ليس غير ...

خبر «ليس» ، مضافا معربا ، منصوبا بغير تنوين ، والمضاف إليه محذوف قد نوى لفظه. والاسم محذوف.

ليس غير ...

خبر «ليس» مبنيا على الفتح فى محل نصب ، والمضاف إليه محذوف مبنى حتما ، وقد نوى لفظه المبنىّ. والاسم محذوف.

ليس غير ...

اسم «ليس» مبنيّا على الفتح فى محل رفع ، والمضاف إليه محذوف مبنى ، وقد نوى لفظه المبنىّ. والخبر محذوف.

ليس غيرا ...

خبر «ليس» معربا منصوبا منونا ، والمضاف إليه محذوف ، ولم ينو لفظه ولا معناه. والاسم محذوف.

د ـ إذا حلّت : «لا» النافية للجنس محل : «ليس» جاز فى «غير» البناء على الضم فى محل نصب على اعتبارها مضافة ، اسم «لا» والمضاف إليه محذوف قد نوى معناه ، والخبر محذوف أيضا. ويجوز بناؤها على الفتح فى محل نصب على اعتبارها اسم : «لا» والمضاف إليه محذوف ، ولم ينو لفظه ولا معناه ؛ فكأنها غير مضافة ، ففتحتها فى هذه الحالة (١) كفتحة اسم : «لا» فى قولنا : لا مطر. والخبر محذوف فيهما.

ويجوز نصبها مباشرة إن كانت مضافة لغير مبنى والمضاف إليه مذكور ،

__________________

(١) وتبنى أيضا على الفتح جوازا إذا كانت مضافة لمبنى ؛ تطبيقا للقاعدة التى تجيز بناء الأسماء المبهمة. ومنها : «غير» ، وأسماء الزمان المبهمة إذا أضيفت لمبنى. وقد سبق الكلام عليها فى هذا الباب ص ٦٦. وأشرنا إليها ، فى ص ١٣٢ و١٣٥ و١٣٦ و ...

١٣٨

أو محذوف نوى لفظه نصّا. وهى فى الحالتين معربة منصوبة. ونكتفى بالحالات السالفة ...

ه ـ إذا كانت «لا» لنفى الوحدة (وهى التى تعمل عمل «ليس» بشروط خاصة سبق الكلام عليها فى بابها) (١) جاز فى «غير» البناء على الضم فى محل رفع على اعتبارها اسم «لا». والمضاف إليه محذوف قد نوى معناه ، والخبر محذوف وجاز أن تكون معربة مرفوعة بغير تنوين باعتبارها اسم «لا» إن كان المضاف إليه مذكورا ، أو محذوفا قد نوى لفظه. ويجوز تنوينها إذا حذف المضاف إليه ولم ينو لفظه ولا معناه.

وفى الصور السّالفة ما يغنى عما لم نذكره ، أو يصلح أن يكون مرشدا إليه. «ملاحظة» : الصور السالفة كلها فى : «ح» ـ ص ١٣٦ ـ والآتية بعدها فى : «د ، ه» إنما تتحقق على أساس التقسيم الشائع الرباعىّ. أما على أساس التقسيم الثلاثى ـ وهو الأحسن ـ حيث يصير المحذوف الذى نوى قسما واحدا فإن الإعراب والبناء يصلحان له.

و ـ إذا كانت «لا» للنفى المطلق (٢) أفادت هنا مع النفى العطف ، فكلمة : «غير» بعدها منفية ومعطوفة تسرى عليها جميع الأحكام التى تسرى على المعطوف ؛ ففى مثل : «أنفقت عشرة لا غير» : يجوز اعتبار «غير» معربة منصوبة بغير تنوين ؛ لأنها معطوفة على عشرة ، ومضافة. والمضاف إليه محذوف قد نوى لفظه ؛ ويجوز اعتبارها معطوفة مبنية على الفتح فى محل نصب لأنها مضافة والمضاف إليه محذوف مبنى ، أو غير مبنى لكن نوى معناه. ويجوز إعرابها ونصبها منونة والمضاف إليه محذوف لم ينو لفظه ولا معناه.

وفى نحو : زارنى ثلاثة لا غير» ، يجوز فى كلمة «غير» أن تكون معربة مرفوعة بغير تنوين ، على اعتبارها معطوفة مضافة. والمضاف إليه محذوف نوى لفظه. ويجوز أن تكون مبنية على الضم فى محل رفع على اعتبارها معطوفة مضافة ، والمضاف إليه محذوف نوى معناه.

__________________

(١) ج ١ ص ٤٤٠ م ٤٨.

(٢) وهى التى تنفى ولكن لا تعمل شيئا.

١٣٩

ويجوز أن تكون معربة مرفوعة منونة على اعتبارها معطوفة مضافة ، والمضاف إليه محذوف لم ينو لفظه ولا معناه.

ويجوز أن تكون مبنية على الفتح فى محل رفع مضافة ، والمضاف محذوف مبنى.

ز ـ إذا كانت : «غير» ليست مسبوقة بكلمة : «ليس» ، أو : «لا» النافيتين ؛ فأشهر وجوه استعمالها أن تكون للنعت ، أو الاستثناء ؛ على التفصيل المبين فى ج ٢ ص ٣١٨ م ٨٢.

ح ـ إذا كانت كلمة : «غير» مسبوقة «بليس» أو «لا» النافيتين على الوجه السابق ؛ فإنها تصير من الأسماء الدالة على «الغاية» وتدخل فى عدادها ، فتشبه الظروف الخاصة «بالغاية» (١) والتى سنوضحها فيما يلى.

* * *

__________________

(١) سبقت الإشارة إلى «غير» وبعض الأمور الخاصة بالأسماء المبهمة ، فى صفحة ٢٤ و٦٦ و٧٠ و٨٠ و٨٧.

١٤٠