تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

فبالركوع تنجو من عقبة الشهوات ، وبالسجود الأول من عقبة العضب الذي هو رئيس المؤذيات ، وبالسجود الثاني تنجو من عقبة الهوى الداعي إلى كل المضلات. فإذا تجاوزت هذه الصفات وتخلصت عن هذه الدركات ، وصلت إلى الدرجات العاليات وملكت الباقيات الصالحات ، وانتهيت إلى عقبة جلال مدبر الأرض والسموات ، فقل عند ذلك «التحيات المباركات» باللسان ، و «الصلوات» بالأركان و «الطيبات» بالجنان وقوة الإيمان بالله ، فيصعد نور روحك وينزل نور روح محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيتلاقى الروحان ويحصل هناك الروح والريحان فقل «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» فعند ذلك يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» فكأنه قيل لك : بم نلت هذه الكرامات؟ فقل : بقولي : «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمدا رسول الله» فقيل : إن محمدا الذي هداك أي شيء هديتك له صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقل «اللهم صل على محمد وآل محمد» ، فقيل لك : إن إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الذي قال (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة : ١٢٩] فما جزاؤك له صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقل «كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين» فيقال لك : هذه الخيرات من محمد وإبراهيم أو من الله؟ فقل : بل من الحميد المجيد «إنك حميد مجيد». ثم إن العبد إذا ذكر الله تعالى بهذه الأثنية والمدائح ذكره الله تعالى في محافل الملائكة «إذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه» (١) فإذا سمع الملائكة ذلك اشتاقوا إلى العبد فقال الله تعالى : إن الملائكة اشتاقوا إلى زيارتك وقد جاؤوك زائرين فابدأ بالسلام عليهم لتكون من السابقين ، فقل عن اليمين وعن الشمال «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» فلا جرم إذا دخل المصلون الجنة فالملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتهم فنعم عقبى الدار.

المنهج الثامن : أعظم المخلوقين جلالة ومهابة المكان والزمان ، فالمكان فضاء لا نهاية له ، وخلاء لا غاية له ، والزمان امتداد وهمي شبيه بنهر خرج من قعر جبل الأزل فامتد ودخل في قعر الأبد ، فلا يعرف لانفجاره مبدأ ولا لاستقراره منزل. فالأول والآخر صفة الزمان ، والظاهر والباطن صفة المكان ، وكمال هذه الأربعة «الرحمن الرحيم» فالحق سبحانه وسع المكان ظاهرا وباطنا ، ووسع الزمان أولا وآخرا ، وهو منزه عن الافتقار إلى المكان والزمان ، فإنه كان ولا مكان ولا زمان ، فعقد المكان بالكرسي (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة : ٢٥٥] وعقد الزمان بالعرش (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) [هود : ٧] لأن جري الزمان يشبه جري الماء ، فالعلو صفة الكرسي (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) [البقرة : ٢٥٥] والعظمة صفة العرش (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [التوبة : ١٢٩] وكمال العلو والعظمة لله

__________________

(١) المصدر السابق.

١٢١

(وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة : ٢٥٥] والعلو والعظمة درجتان من درجات الكمال إلا أن العظمة أقوى وفوق الكل درجة الكبرياء «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري» (١) ولا يخفى أن الرداء أعظم من الإزار وفوق جميع الصفات صفة الجلال وهي تقدسه في هويته المخصوصة عن مناسبة الممكنات وبه استحق الإلهية ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام» (٢) وفي التنزيل (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن : ٢٧] فالمصلي يبتغي وجه الله ، والداخل على السلطان يجب أن يتطهر من الأدناس والأرجاس ، وأولى المراتب التطهر من دنس الذنوب (تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) [التحريم : ٨] ثم من الدنيا حلالها وحرامها وهو الزهد ، ثم من الكونين الدنيا والآخرة وهو مقام المعرفة ، ثم من الالتفات إلى أعماله وهو مقام الإخلاص ، ثم من الالتفات إلى عدم الالتفات وهو مقام المحسنين ، ثم من الالتفات إلى كل ما سوى الله وهو مقام الصديقين ، ثم قم قائما (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) ، [الروم : ٣٠] واستحضر في نفسك جميع أقسام العالم من الروحانيات والجسمانيات فقل «الله أكبر» أي من الكل كما مر ، أو من لا يراني ولا يسمع كلامي كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الإحسان أن نعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (٣) أو أكبر من أن تصل إليه عقول الخلق وأفهامهم كما قال علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه : التوحيد أن لا تتوهمه أو أكبر من أن يقدر الخلق على قضاء حق عبوديته فإذا قلت «الله أكبر» فأجل طرف عقلك في ميادين جلال الله وقل «سبحانك اللهم وبحمدك» ثم قل «وجهت وجهي» ثم انتقل إلى عالم الأمر والتكليف واجعل سورة الفاتحة مرآة لكي تبصر فيها عجائب الدنيا والآخرة ، وتطلع منها على أنوار أسماء الله الحسنى وصفاته العليا والأديان السالفة والكتب الإلهية والشرائع النبوية فتصل إلى الشريعة ومنها إلى الطريقة ومنها إلى الحقيقة وتشاهد درجات الكاملين ودركات الناقصين ، فإذا قلت «بسم الله الرحمن الرحيم» أبصرت به الدنيا فباسمه قامت السموات والأرضون ، وإذا قلت «الحمد لله رب العالمين» أبصرت به الآخرة فبالحمد قامت الآخرة (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠] وإذا قلت «الرحمن الرحيم» أبصرت به عالم الجمال المشتمل على أصول النعم وفروع النوال ، وإذا قلت «مالك يوم الدين» أبصرت به عالم الجلال وما يحصل هناك من الأحوال والأهوال ، وإذا قلت

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب البر حديث ٣٦. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ١٦. أبو داود في كتاب اللباس باب ٢٥. أحمد في مسنده (٢ / ٢٤٨).

(٢) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب ٩١. أحمد في مسنده (٤ / ١٧٧).

(٣) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة ٣١ باب ٢. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٥٧. الترمذي في كتاب الإيمان باب ٤. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ٥٩. أحمد في مسنده (١ / ٢٧ ، ٥١).

١٢٢

«إياك نعبد» أبصرت به عالم الشريعة ، وإذا قلت «وإياك نستعين» أبصرت به عالم الطريقة ، وإذا قلت «اهدنا الصراط المستقيم» أبصرت به عالم الحقيقة وإذا قلت «صراط الذين أنعمت عليهم» أبصرت به درجات أرباب السعادات وأصحاب الكرامات ، وإذا قلت «غير المغضوب عليهم ولا الضالين» لاحظت دركات أهل التفريط والإفراط فإذا انكشفت لك هذه المقامات فلا تظن أنك قد بلغت الغايات بل عد إلى الإقرار للحق بالكبرياء ولنفسك بالهوان وقل «الله أكبر» ثم انزل من صفة الكبرياء إلى العظمة وقل «سبحان ربي العظيم» ثم انتصب ثانيا وادع لمن وقف موقفك وحمد حمدك وقل «سمع الله لمن حمده» فإنك إذا سألتها لغيرك وجدتها لنفسك فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم. ولا تكبير في هذا المقام لأن التكبير من الكبرياء والهيبة والخوف وهذا مقام الشفاعة ، ثم عد إلى التكبير وانحدر به إلى غاية العلو وقل «سبحان ربي الأعلى» لأن السجود أكثر تواضعا. روي أن لله ملكا تحت العرش اسمه حزقيل. فأوحى إليه أيها الملك طر فطار ثلاثين ألف سنة ، ثم ثلاثين ألف سنة ، فلم يبلغ من أحد طرفي العرش إلى الثاني فأوحى الله إليه : لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ إلى الطرف الثاني من العرش. فقال الملك عند ذلك : سبحان ربي الأعلى. أما فوائد السجدتين فالأولى الأزل والثانية الأبد ، والقعدة بينهما هي الدنيا ، فتعرف بأزليته أنه لا أول له فتسجد له ، وبأبديته أنه لا آخر له فتسجد له ثانيا. وأيضا الأولى فناء الدنيا في الآخرة ، والثانية فناء الآخرة في جلال الله تعالى ، وأيضا الأولى فناء الكل في أنفسها ، والثانية بقاؤها ببقائه ، وأيضا الأولى انقياد عالم الشهادة لقدرته ، والثانية انقياد عالم الأرواح لعزته (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤] وأيضا الأولى سجدة الشكر بمقدار ما أعطانا من معرفة ذاته وصفاته ، والثانية سجدة الخوف مما فاتنا من أداء حقوق كبريائه. وأيضا صلاة القاعدة على النصف من صلاة القائم فتواضع السجدتين بإزاء تواضع ركوع واحد ، وأيضا ليكونا شاهدين للعبد على أداء العبادة ، وأيضا ليناسب الوجود الأخذ من الوحدة إلى الكثرة ومن الفردية إلى الزوجية ، وأيضا الانتصاب صفة الإنسان والانحناء صفة الأنعام والجثوم صفة النبات. ففي الركوع هضم للنفس بمرتبة واحدة ، وفي السجود بمرتبتين ، ولعل ما فاتنا من الفوائد أكثر مما أدركنا.

المنهج التاسع في اللطائف : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل ربه فقال : ما جزاء من حمدك؟ فقال تعالى : الحمد لله فاتحة الشكر وخاتمته. فقال أهل التحقيق : من هاهنا جعلها الله فاتحة كتابه وخاتمة كلام أحبائه في جنته (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠] وعن علي عليه‌السلام أن أول ما خلق الله العقل من نوره المكنون ، ثم قال له : تكلم فقال : الحمد لله فقال الرب : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أعز عليّ منك. ونقل عن

١٢٣

آدم عليه‌السلام لما عطس قال : الحمد لله فأول كلام لفاتحة المحدثات الحمد ، وأول كلام لخاتمة المحدثات الحمد ، فلا جرم جعلها الله تعالى فاتحة كتابه. وأيضا أول كلام الله «الحمد لله» وآخر أنبيائه محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين الأول والآخر مناسبة ، فجعل «الحمد لله» أول آية من كتاب محمد رسول الله ، ولما كان كذلك وضع لمحمد رسول الله من كلمة الحمد اسمان : محمد وأحمد. وعند هذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنا في السماء أحمد وفي الأرض محمد» فأهل السماء في تحميد الله ورسوله أحمدهم ، والله تعالى في تحميد أهل الأرض كما قال : (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء : ١٩] ورسول الله محمدهم.

أخرى : الحمد لا يحصل إلا عند الفوز بالرحمة والنعمة ، فلما كان الحمد أول الكلمات وجب أن تكون النعمة والرحمة أول الأفعال فلهذا قال «سبقت رحمتي غضبي» (١).

أخرى : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اسمه أحمد أي أكثر الحامدين حمدا فوجب أن تكون رحمة الله في حقه أكثر فلهذا جاء رحمة للعالمين.

أخرى : إن من أسماء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوى اسمه محمد وأحمد الحامد والمحمود على ما جاء في الروايات ، وكلها تدل على الرحمة ، لأن الحمد يتضمن النعمة فقال تعالى : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الحجر : ٤٩] فقوله «نبىء» إشارة إلى محمد وهو مذكور قبل العباد ، والياء في قوله «عبادي» ضمير الله سبحانه. وكذا في «أني» و «أنا» و «الغفور» و «الرحيم» صفتان لله ، فالعبد يمشي يوم القيامة وقدامه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع خمسة أسماء تدل على الرحمة ، وخلفه خمسة ألفاظ من أسماء الله تعالى تدل على الرحمة ، ورحمة الرسول كثيرة (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] ورحمة الله تعالى غير متناهية (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف : ١٥٦] فكيف يضيع المذنب فيما بين هذه الأصناف من الرحمة؟!.

أخرى : في الفاتحة عشرة أشياء ، خمسة من صفات الربوبية : الله الرب الرحمن الرحيم المالك ، وخمسة من صفات العبودية : العبادة الاستعانة طلب الهداية طلب الاستقامة طلب النعمة في قوله «أنعمت عليهم» وكأنه قيل «إياك نعبد» لأنك أنت الله «وإياك نستعين» يا رب اهدنا يا رحمن ، وارزقنا الاستقامة يا رحيم ، وأفض علينا سجال فضلك يا مالك.

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ١٥ ، ٢٢. مسلم في كتاب التوبة حديث ١٤ ـ ١٦. الترمذي في كتاب الدعوات باب ٩٩. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٣. أحمد في مسنده (٢ / ٢٤٢ ، ٢٥٨).

١٢٤

أخرى : الإنسان مركب من خمسة أشياء : بدن ونفس شيطانية ونفس سبعبة ونفس بهيمية وجوهر ملكي عقلي. فتجلى اسم الله للجوهر الملكي فاطمأن إليه (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد : ٢٨] وتجلى للنفس الشيطانية باسم الرب فلان وانقاد لطاعة الديان (رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) [المؤمنون : ٩٧] وتجلى للنفس السبعية باسم الرحمن وهو مركب من القهر واللطف (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) [الفرقان : ٢٦] فترك الخصومة والعدوان. وتجلى للنفس البهيمية باسم الرحيم (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) [المائدة : ٤] فترك العصيان ، وتجلى للأبدان بصفة القهر والمالكية لأن البدن غليظ كثيف فيحتاج إلى قهر شديد (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦] فدان. فلمكان هذه التجليات انغلقت له أبواب النيران وفتحت عليه أبواب الجنان ورجع القهقرى كما جاء ، فلطاعة الأبدان قال : «إياك نعبد» ولطاعة النفس البهيمية قال : «وإياك نستعين» على ترك اللذات وارتكاب المنكرات ، ولطاعة النفس السبعية قال : «اهدنا وأرشدنا وعلى دينك ثبتنا» ولطاعة النفس الشيطانية طلب الاستقامة فقال : «اهدنا الصراط المستقيم» ولجوهره العقلي الملكي طلب مرافقة الأرواح المقدسة لا المدنسة فقال : «صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين».

أخرى : بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت فشهادة أن لا إله إلا الله من تجلي نور اسم الله ، وإقام الصلاة من تجلي نور اسم الرب لأن الرب من التربية ، والعبد يربي أمانة عدد الصلاة ، وإيتاء الزكاة من تجلي اسم الرحمن لأن الزكاة سببها الرحمة على الفقراء ، وصوم رمضان من تجلي اسم الرحيم لأن الصائم إذا جاع يذكر جوع الفقراء فيعطيهم (يحكى) أن يوسف حين تمكن من مصر كان لا يشبع فقيل له في ذلك؟ فقال : أخاف أن أشبع فأنسى الجياع. وأيضا الصائم يرحم نفسه لأنه إذا جاع حصل له فطام عن الالتذاذ بالمحسوسات ، فعند الموت يسهل عليه مفارقتها. ووجوب الحج من تجلي اسم «مالك يوم الدين» لأن الحج يوجب هجرة الوطن ومفارقة الأهل والولد وذلك يشبه سفر القيامة. وأيضا الحاج يكون عاريا حافيا حاسرا وهو يشبه أحوال القيامة.

أخرى : الحواس خمس ولكل أدب فأدب البصر (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم : ١٧] (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر : ٢] وأدب السمع (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) [الزمر : ١٨] وأدب الذوق (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) [المؤمنون : ٥١] وأدب الشم (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) [يوسف : ٩٤] وأدب المس (وَالَّذِينَ هُمْ

١٢٥

لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) [المؤمنون : ٦] فاستعن بأنوار الأسماء الخمسة : الله الرب الرحمن الرحيم المالك ، على تأديب هذه الحواس الخمس.

أخرى : الشطر الأول من الفاتحة مشتمل على الأسماء الخمسة لله فيفيض أنوارها على الأسرار ، والشطر الثاني مشتمل على الصفات الخمس للعبد فتصعد منها أسراره إلى تلك الأنوار ويحصل للعبد معراج في قراءته ، وتقرير الأسرار أن حاجة العبد إما لدفع ضر أو جلب خير ، وكل منهما إما في الدنيا وإما في الآخرة ، فهذه أربعة ، وهاهنا قسم خامس هو الأشرف وذلك الإقبال على طاعة الله وعبوديته لا لأجل رغبة أو رهبة ، فإن شاهدت نور اسم الله لم تطلب منه شيئا سوى الله ، وإن طالعت نور الرب طلبت منه خيرات الجنة ، وإن طالعت نور الرحمن طلبت منه خيرات الدنيا ، وإن طالعت نور الرحيم طلبت منه العصمة عن مضار الآخرة ، وإن طالعت نور «مالك يوم الدين» طلبت منه الصون عن آفات الدنيا الموقعة في عذاب الآخرة أعاذنا الله منها.

أخرى : للتجلي ثلاث مراتب : تجلي الذات (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [الأنعام : ٩١] وهذا لعظماء الأنبياء والملائكة المقربين وهذه نهاية الأحوال ويدل عليه اسم الله ، وتجلي الصفات وهو في أواسط الأحوال ويكون للأولياء وأولي الألباب الذين (يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) [آل عمران : ١٩١] ويدل عليه اسم الرحمن. وتجلي الأفعال والآيات وهو في بداية الأحوال ويكون لعامة العباد (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) [طه : ٥٣ ـ ٥٤] ويدل علي لفظ الرحيم (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) [غافر :].

أخرى : في الفاتحة كلمتان مضافتان إلى اسم الله «بسم لله» و «الحمد لله» بسم الله لبداية الأمور والحمد لله لخواتيم الأمور ، «بسم الله» ذكر «والحمد لله» شكر ببسم الله أستحق الرحمة رحمن الدنيا ، وبالحمد لله أستحق رحمة أخرى رحيم الآخرة. كلمتان أضيف إليهما اسمان لله «رب العالمين» «مالك يوم الدين» فالربوبية لبداية حالهم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] والملك لنهاية حالهم (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦] وبينهما اسمان مطلقان لوسط حالهم «الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» (١).

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب البر باب ١٦.

١٢٦

المنهج العاشر : للخلق خمس أحوال : أولها : الإيجاد والتكوين والإبداع ويدل عليه اسم الله. وثانيها : التربية في مصالح الدنيا ويدل عليه اسم الرب. وثالثها : التربية في معرفة المبدأ ويدل عليها اسم الرحمن. ورابعها : في معرفة المعاد ويدل عليها اسم الرحيم كي يقدم على ما ينبغي ويحجم عما لا ينبغي. وخامسها : نقل الأرواح من عالم الأجساد إلى المعاد ويدل عليه اسم «مالك يوم الدين» ثم إن العبد إذا انتفع بهذه الأسماء صار من أهل المشاهدة فقال : «إياك نعبد» لأنك أنت الله الخالق «وإياك نستعين» لأنك أنت الرب الرازق «إياك نعبد» لأنك الرحمن «وإياك نستعين» لأنك الرحيم «إياك نعبد» لأنك الملك «وإياك نستعين» لأنك المالك ، «إياك نعبد» لأنا ننتقل من دار الشرور إلى دار السرور ولا بد من زاد وخير الزاد العبادة ، «وإياك نستعين» لأن الذي نكتسب بقوتنا وقدرتنا لا يكفينا فإن السفر طويل والزاد قليل. ثم إذا حصل الزاد بإعانتك فالشقة شاسعة والطرق كثيرة ، فلا طريق إلا أن يطلب الطريق ممن هو بإرشاد السالكين حقيق «اهدنا الصراط المستقيم». ثم إنه لا بد لسالك الطريق الطويل من رفيق ودليل «صراط الذين أنعمت عليهم» فالأنبياء أدلاء والصديقون والشهداء والصالحون رفقاء ، غير المغضوب عليهم ولا الضالين لأن الحجب قسمان : نارية وهي الدنيا بما فيها ، ونورية وهي ما سواها. اللهم ادفع عنا كل ما يحجب بينك وبيننا إنك رب العالمين ومالك يوم الدين.

١٢٧

(سورة البقرة وقد يقال السورة التي تذكر فيها

البقرة مدنية غير آية نزلت يوم عرفة بمنى قوله تعالى

واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله

حروفها ٢٥٥٠٠ كلماتها ٦١٢١ آياتها عند أهل الكوفة ٢٨٦)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

القراآت : «لا ريب» بالمد خلف والعجلي عن حمزة وخلف لنفسه ، وكذلك قوله تعالى (لا خَيْرَ) و (لا جَرَمَ) وذلك لاجتماع الفتحة مع الألف أو لتأكيد معنى النفي للجنس «فيهى» ابن كثير ، وكذلك يشبع كل هاء كناية في جميع القرآن. «هدى للمتقين» مدغما من غير غنة : حمزة وعلي وخلف ويزيد وورش من طريق النجاري ، والهاشمي عن ابن كثير. وكذلك يدغمون النون الساكنة والتنوين في الراء حيث وقعت. أبو عمرو بالوجهين : إدغام الغنة وإظهارها ، والباقون بإظهار الغنة. ولا خلاف بين القراء في إدغام أصل النون والتنوين في اللام والواو والراء والياء والميم ، وإنما الخلاف بينهم في إظهار الغنة وإسقاطها وهي صوت الخيشوم «يؤمنون» غير مهموز : أبو عمرو ويزيد وورش والأعشى وحمزة في الوقف ، وكذلك ما أشبههما من الأفعال إلا في أحرف يسيرة تذكر في مواضعها. الباقون : بالهمز. (باب في المد) (بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) بالمد : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن ذكوان ، فلا يفرقون بين مدّ الكلمة والكلمتين. وكذلك روى ورش عن نافع. والباقون يفرقون فيمدون الكلمة ولا يمدون بين الكلمتين. فأطول الناس مدا ورش عن نافع ، وحمزة وخلف في اختياره والأعشى ، ومدهم بمنزلة أربع ألفات. وأوسطهم مدا علي وابن ذكوان وعاصم غير الأعشى ، وأقصرهم مدا ابن كثير وأبو جعفر ونافع غير ورش وأبو عمرو وسهل ويعقوب وهشام. وأصل المد ألف ساكنة على قدر فتحة فيك فتحا تاما ، وبالآخرة بترك الهمزة ونقلها إلى الساكن الذي قبلها حيث كان ورش ، وكذلك حمزة في الوقف فإن مذهبه أن يقف على كل كلمة مهموزة بغير همزة (باب السكتة)

١٢٨

روي عن حمزة وحماد والشموني أنهم يسكتون على كل حرف ساكن بعده همزة سكتة لطيفة نحو : الأرض ، والأنهار ، وقالوا : آمنا ، وأشباه ذلك. والسبب فيه التمكين والمبالغة في تحقيقها ، لأن الهمزة بعد السكتة كالمبتدأ بها. والاختيار في الكلمة الواحدة أن لا تسكت على ساكن غير لام التعريف احترازا عن قطع الكلمة.

الوقوف : «ألمّ» (ج) للاختلاف «لا ريب» ج على حذف خبر «لا» تقديره لا ريب فيه ، ثم يستأنف «فيه هدى» ومن وصل جعل فيه خبر «لا» أو وصف ريب وحذف خبر «لا» تقديره «لا ريب فيه عند المؤمنين». والوقف على التقديرين على «فيه» و «هدى» خبر مبتدأ محذوف أي هو هدى ، ومن جعل «هدى» حالا للكتاب بإعمال معنى الإشارة في «ذلك» على تقدير : أشير إلى الكتاب هاديا لم يقف قبل «هدى للمتقين» (لا) لأن الذين صفتهم «ينفقون» لا للعطف ، ليدخل عبد الله بن سلام وأصحابه في المتقين ، فإن القرآن لهم هدى ، وليدخل الصحابة المؤمنون بالغيب في ثناء الهدى ووعد الفلاح. ولو ابتدأ «والذين» كان «أولئك على هدى» خبرهم مختصا بهم. واختص هدى القرآن واسم التقوى بالذين يؤمنون بالغيب. «من قبلك» ج لاختلاف النظم بتقديم المفعول. «يوقنون» (ط) لأن أولئك مبتدأ وليس بخبر عما قبله ، وكذلك على كل آية وقف بها إلا ما أعلم بعلامة (لا) المفلحون.

التفسير وفيه أبحاث : البحث الأول في «ألم» اعلم أن الألفاظ التي يتهجى بها في قولهم (ألف ، با ، تا ، ثا) أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة التي منها ركبت الكلم ، لأن الضاد مثلا لفظ مفرد دال بالتواطؤ على معنى مستقل بنفسه غير مقترن بأحد الأزمنة ، وذلك المعنى هو الحرف الأول من ضرب مثلا ، فيكون لفظ الضاد اسما ، ولهذا قد يتصرف في بعضها بالإمالة نحو (با ، تا) وبالتفخيم نحو (با ، تا) وبالتعريف والتنكير والجمع والتصغير والوصف والإسناد إليه والإضافة. وقولهم (با ، تا ، ثا) متهجاة ومقصورة نحو (لا) ثم قولهم كتبت باء بالمد نحو كتبت (لا) لا يدل على أنها حروف مثل (لا) : فإنهم إنما قالوا كذلك في التهجي لكثرة الاستعمال واستدعائها التخفيف ، والذي رواه ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف» وأيضا ما وقع في عبارات المتقدمين أنها حروف التهجي خليق بأن يصرف إلى التسامح والتجوز لأنه اسم للحرف وهما متلازمان ، أو لأن الحرف قد يطلق على الكلمة تسمية للجنس باسم النوع. ويحكى عن الخليل أنه سأل أصحابه : كيف تنطقون بالباء التي في ضرب ، والكاف التي في ذلك؟ فقالوا : نقول باء ، كاف. فقال : إنما جثتم بالاسم لا الحرف. وقال : أقول : بـ ، ك. ثم إنهم راعوا في هذه

١٢٩

التسمية لطيفة ، وهي أنهم جعلوا المسمى صدر كل اسم منها إلا الألف فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها ، لأنه لا يكون إلا ساكنا. ومما يضاهيها في إبداع اللفظ دلالة على المعنى البسملة والحيعلة والتهليل ونحوها. وحكم هذه الأسماء سكون الإعجاز ما لم تلها العوامل فيقال : ألف ، لام ، ميم موقوفا عليها لفقد مقتضى الإعراب نحو. واحد ، اثنان ، ثلاثة ، دار ، ثوب ، جارية. فإذا وليتها العوامل أدركها الإعراب نحو : هذه ألف ، وكتبت ألفا ، ونظرت إلى ألف. والدليل على أن سكونها وقف وليس ببناء أنها لو بنيت لحذي بها حذو «كيف» و «أين» و «هؤلاء» ولم يقل صاد ، قاف ، نون. مجموعا فيها بين الساكنين.

وللناس في «الم» وما يجري مجراه من فواتح السور قولان : أحدهما أن هذا علم مستور وسر محجوب استأثر الله به ، والتخاطب بالحروف المفردة سنة الأحباب في سنن المحاب ، فهو سر الحبيب مع الحبيب بحيث لا يطلع عليه الرقيب :

بين المحبين سر ليس يفشيه

قول ولا قلم للخلق يحكيه

عن أبي بكر ، في كل كتاب سر وسره في القرآن أوائل السور. وعن علي كرم الله وجهه : إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي ، وقال بعض العارفين : العلم كبحر أجري منه واد ، ثم أجري من الوادي نهر ، ثم أجري من النهر جدول ، ثم أجري من الجدول ساقية. فالوادي لا يحتمل البحر ، والنهر لا يحتمل الوادي ، ولهذا قال عز من قائل : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) [الرعد : ١٧] فبحور العلم عند الله تعالى فأعطى الرسل منها أودية ، ثم أعطى الرسل من أوديتهم أنهارا إلى العلماء ، ثم أعطى العلماء إلى العامة جداول صغارا على قدر طاقتهم ، ثم أجرت العامة سواقي إلى أهاليهم بقدر طاقتهم ، وهذا مأخوذ مما ورد في الخبر «للعلماء سر وللخلفاء سر وللأنبياء سر وللملائكة سر ولله من بعد ذلك كله سر. فلو اطلع الجهال على سر العلماء لأبادوهم ، ولو اطلع العلماء على سر الخلفاء لنابذوهم ، ولو اطلع الخلفاء على سر الأنبياء لخالفوهم ، ولو اطلع الأنبياء على سر الملائكة لاتهموهم ، ولو اطلع الملائكة على سر الله لطاحوا حائرين وبادوا بائدين» والسبب في ذلك أن العقول الضعيفة لا تحتمل الأسرار القوية كما لا يحتمل نور الشمس أبصار الخفافيش. وسئل الشعبي عن هذه الحروف فقال : سر الله فلا تطلبوه. وعن ابن عباس أنه قال : عجزت العلماء عن إدراكها. وقيل : هو من المتشابه. وزيف هذا القول بنحو قوله تعالى (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) [النساء : ٨٢] (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل : ٨٩] (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] وإنما يمكن التدبر ويكون تبيانا وهدى إذا كان مفهوما ، وبقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني تركت

١٣٠

فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي» (١) فكيف يمكن التمسك به وهو غير معلوم؟ وأيضا لا يخاطب المكلف بما لا يفهم كما لا يخاطب العربي بالعجمي ، ولا يجوز التحدي بما لا يكون معلوما ، وعورض بقوله تعالى (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ٧] والوقف هنا لأن الراسخين لو كانوا عالمين بتأويله كان الإيمان به كالإيمان بالمحكم ، فلا يكون في الإيمان به مزيد مدح ، ولا يكون في قوله (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) [آل عمران : ٧] فائدة على ما لا يخفى ، وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» وقد روينا عن أكابر الصحابة ما روينا. وأيضا الأفعال التي كلفنا بها منها ما يظهر وجه الحكمة فيه كالصلاة فإن فيها تواضعا للمعبود والصوم ففيه كسر الشهوة والزكاة ففيها سد خلة المساكين ، ومنها ما لا يظهر فيه الحكمة ككثير من أفعال الحج ، ويحسن من الله تعالى الأمر بالنوعين لظهور الامتثال بهما ، بل كمال الانقياد في النوع الثاني أظهر وأكثر لأنه تعبد محض. فلم لا يجوز أن يكون في الأقوال أيضا مثل ذلك ، مع أن فيه فائدة أخرى هي اشتغال السر بذكر الله والتفكر في كلامه؟

القول الثاني : إن المراد من هذه الفواتح معلوم ، ثم اختلفوا على وجوه : الأول : أنها أسماء وهو قول أكثر المتكلمين واختاره الخليل وسيبويه ، كما سموا بلام والد حارثة بن لام الطائي ، وكقولهم للنحاس صاد ، وللسحاب عين ، وللجبل قاف ، وللحوت نون ، وسعود تمام الكلام في هذا القول. الثاني : أنها أسماء الله تعالى. روي عن علي عليه‌السلام أنه كان يقول : يا كهيعص ، يا حم عسق ، ويقرب منه ما روي عن سعيد بن جبير أنها أبعاض أسماء الله تعالى ، فإن «الر ، حم ، ن» مجموعها اسم «الرحمن» لكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في الجميع. الثالث : أنها أسماء القرآن وهو قول الكلبي والسدي وقتادة. الرابع : كل واحد من الحروف دال على اسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته ، فالألف إشارة إلى أنه أحد أول آخر أزلي أبدي ، واللام إشارة إلى أنه لطيف ، والميم إلى أنه مجيد ملك منان ، وفي «كهيعص» الكاف كاف لعباده ، والهاء هاد ، والياء من الحكيم والعين عالم ، والصاد صادق. أو الكاف محمول على الكبير والكريم. والياء على أنه مجير ، والعين على العزيز والعدل ، ويروى هذا عن ابن عباس. وعنه أيضا في «ألم» أنا الله أعلم ، وفي «المص» أنا الله أعلم وأفصل ، وفي «المر» أنا الله أرى. الخامس : أنها صفات الأفعال. الألف آلاؤه ، واللام لطفه ، والميم مجده ، قاله محمد بن كعب القرظي. السادس : الألف من الله ، واللام من

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب المناقب باب ٣١. أحمد في مسنده (٣ / ١٤ ، ١٧).

١٣١

جبرائيل ، والميم من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أي أنزل الله الكتاب بواسطة جبرائيل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. السابع : الألف أنا ، واللام لي ، والميم مني قاله بعض الصوفية. الثامن : أن ورودها مسرودة هكذا على نمط التعديد ليكون كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدى بالقرآن ، أي إن هذا المتلو عليهم وقد عجزوا عنه عن آخرهم كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ، فلولا أنه كلام خالق القدر لم يعجز معشر البشر عن الإتيان بمثل الكوثر قاله المبرد وجم غفير. والتاسع : كأنه تعالى يقول اسمعوها مقطعة حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك ، وهذا على طريقة تعليم الصبيان قاله عبد العزيز بن يحيى. العاشر : إن الكفار لما قالوا (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت : ٢٦] أنزل الله تعالى هذه الأحرف رغبة في إصغائهم ليهجم عليهم القرآن من حيث لا يشعرون قاله أبو روق وقطرب. الحادي عشر : قول أبي العالية إنه حساب على ما روى ابن عباس أنه مر أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يتلو سورة البقرة «آلم ذلك الكتاب» ثم أتى أخوة حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوه عن الم وقالوا : ننشدك الله الذي لا إله إلا هو ، أحق أنها أتتك من السماء؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم ، كذلك نزلت فقال حيي : إن كنت صادقا إني لأعلم أجل هذه الأمة من السنين ، ثم قال : كيف ندخل في دين رجل دلت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى مدته إحدى وسبعون سنة؟ فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال حيي : فهل غير ذلك؟ فقال : نعم (المص) فقال حيي : مائة وإحدى وستون فهل غير هذه؟ فقال : نعم (الر) قال حيي : نشهد إن كنت صادقا ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنة فهل غير هذا؟ قال : نعم (المر) قال حيي : ندري بأي أقوالك نأخذ! فقال أبو ياسر : أما أنا فأشهد أن أنبياءنا قد أخبروا عن ملك هذه الأمة ولم يبينوا أنها كم تكون ، فإن كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادقا فيما يقوله إني لأراه يستجمع له هذا كله ، فقام اليهود وقالوا : اشتبه علينا أمرك فأنزل الله تعالى (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) [آل عمران : ٧]. الثاني عشر : تدل على انقطاع كلام واستئناف كلام آخر. الثالث عشر : قول الأخفش إن الله تعالى أقسم بهذه الحروف المعجمة لشرفها من حيث إنها أصول اللغات ، بها يتعارفون ويذكرون الله ويوحدونه ، واقتصر على البعض والمراد الكل كما تقول : قرأت الحمد وتريد السورة كلها ، أقسم الله بها أن هذا الكتاب هو المثبت في اللوح المحفوظ. الرابع عشر : أن النطق بالحروف أنفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام ، الأميون وأهل الخط ، والكتاب بخلاف النطق بأسامي الحروف فإنه كان مختصا بمن خط وقرأ ، فلما أخبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها من غير تعلم خط وقراءة كان ذلك دليلا على أنه استفاد ذلك من قبل الوحي. الخامس عشر : قال

١٣٢

القاضي الماوردي : معناه ألم بكم ذلك الكتاب أي نزل ، وهذا لا يتأتى في كل فاتحة. السادس عشر : الألف إشارة إلى ما لا بد منه من الاستقامة على الشريعة في أول الأمر (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) [فصلت : ٣٠] واللام إشارة إلى الحاصل عند المجاهدات وهو رعاية الطريقة (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) [العنكبوت : ٦٩] والميم إشارة إلى صيرورة العبد في مقام المحبة كالدائرة التي يكون نهايتها عين بدايتها وهو مقام الفناء في الله بالكلية وهو الحقيقة (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ) [الأنعام : ٩١]. السابع عشر : الألف من أقصى الحلق ، واللام من طرف اللسان وهو وسط المخارج ، والميم من الشفة وهو آخر المخارج ، أي أول ذكر العبد ووسطه وآخره لا ينبغي إلا لله. الثامن عشر : سمعت بعض الشيعة يقول : هذه الفواتح إذا حذف منها المكررات يبقى ما يمكن أن تركب منه على صراط حق نمسكه ، وهذا غريب مع أنه متكلف فلهذا أوردته. واعلم أن الباقي من الفواتح بعد حذف المكرر أربعة عشر ، نصف عدد حروف المعجم بعد الكسر. وقد أورد الله الفواتح في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم ، وهذه الباقية تشتمل على أصناف أجناس الحروف. من المهموسة نصفها ، الصاد والكاف والهاء والسين والحاء ، ومن المجهورة نصفها الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون ، ومن الشديد نصفها ا ك ط ق ، ومن الرخوة نصفها لمر صعهسحين ، ومن المطبقة نصفها ص ط ، ومن المنفتحة نصفها الر كهوس ج ق ي ن ، ومن المستعلية نصفها ق ص ط. ومن المنخفضة نصفها الم ر ك ه ي ع س ح ن ، ومن حروف القلقة نصفها ق ط. وأكثر ألفاظ القرآن من هذه الحروف ، وهذا دليل على أن الله تعالى عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم تبكيتا لهم وإظهارا لعجزهم كما مر في الوجه الثامن ، ويؤيد ذلك أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما جاءتا في معظم هذه الفواتح مكررتين والله أعلم. التاسع عشر : قيل : معناه ألست بربكم. الألف واللام من أوله والميم من آخره أي أخذت منكم كتاب العهد في يوم الميثاق. والمختار من هذه الأقوال عند الأكثرين القول بأنها أسماء السور ، ثم إنه عورض بوجوه : الأول : أنا نجد سورا كثيرة اتفقت في التسمية بالم وحم والمقصود من العلم رفع الاشتباه. الثاني : لو كانت أسماء لاشتهرت وتواترت. الثالث : العرب لم يتجاوزوا بما سموا به مجموع اسمين نحو : معد يكرب وبعلبك ، ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة ، فالقول بأنها أسماء السور خروج عن لغتهم. الرابع : لو كانت أسماء لاشتهرت السور بها ، لكنها اشتهرت بغيرها نحو سورة البقرة وآل عمران. الخامس : هذه الألفاظ داخلة في السور وجزء الشيء متقدم على الشيء بالرتبة ، واسم الشيء متأخر عن الشيء ، فلزم أن يكون متقدما متأخرا معا وهو محال. وليس هذا لتسميتهم صاد للحرف الأول منه ،

١٣٣

فإن هذا كتسمية المفرد بالمؤلف فلا يلزم إلا تأخر المركب عن المفرد بوجهين ، وهذا تسمية المؤلف بالمفرد ويلزم المحال المذكور. وأجيب عن الأول بما يجاب عن الأعلام المشتركة من أنها ليست بوضع واحد ، مع أنه لا يبعد أن تجعل مشتركا حتى يتميز كل واحد من الآخر بعلامة أخرى لحكمة خفية. وعن الثاني بأن تسمية السورة بلفظة معينة ليست من الأمور العظام التي تتوفر الدواعي على نقلها. وعن الثالث بأن التسمية بثلاثة أسماء خروج عن كلام العرب ، ولكن إذا جعلت اسما واحدا فأما منثورة نثر أسماء العدد فلا استنكار لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكى حكاية نحو برق نحره ، وكما لو سمي ببيت شعر أو بطائفة من أسماء حروف المعجم. وعن الرابع أنه لا يبعد أن يصير اللقب أشهر من الاسم. وعن الخامس أن تأخر ما هو متقدم باعتبار آخر غير مستحيل ، وفي لسان الصوفية أن هيئة الصلاة ثلاث : القيام والركوع والسجود. فالألف إشارة إلى القيام ، واللام إلى الركوع ، والميم إلى السجود أي من قرأ فاتحة الكتاب في الصلاة التي هي معراج المؤمن شرفه الله بالهداية في قوله (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) وعلى هذا فيكون ذلك الكتاب إشارة إلى الفاتحة لأنها أم الكتاب. ثم إن هذه الأسماء ضربان : أحدهما ما لا يتأتى فيه الإعراب نحو (كهيعص المر) وثانيهما ما يتأتى فيه الإعراب لكونه اسما فردا كصاد وقاف ونون ، أو أسماء عدة مجموعها على زنة مفرد كحم وطس ويس فإنها موازنة لقابيل وهابيل ، وكقولك طسم إذا فتح نونها صار كدرابجرد. فالنوع الأول محكي ليس إلا ، والثاني فيه أمران الإعراب والحكاية ، فإذا أعرب منع الصرف للعملية والتأنيث قال الشاعر :

يذكرني حاميم والرمح شاجر

فهلا تلا حاميم قبل التقدم؟

والحكاية أن تجيء بالقول بعد نقله على استبقاء صورته نحو قولك «بدأت بالحمد لله» قال ذو الرمة

سمعت الناس ينتجعون غيثا

فقلت لصيدح انتجعي بلالا

وأما من قرأ صاد وقاف ونون مفتوحات فبفعل مضمر نحو «اذكر» أو حركت لالتقاء الساكنين. واستكره جعلها مقسما بها على طريق قولهم «نعم الله لأفعلن» على حذف حرف الجر وإعمال فعل القسم ، لأن القرآن والقلم بعدها محلوف بهما. واستكرهوا الجمع بين قسمين على مقسم عليه واحد ولهذا قال الخليل : الواو الثانية في قوله عز من قائل (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى. وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) [الليل : ١ ، ٢] واو العطف لا القسم نحو «وحياتي ثم حياتك لأفعلن» ولو كان انقضى قسمه بالأول على شيء لجاز أن يستعمل كلاما آخر نحو «بالله لأفعلن تالله لأخرجن» ولا سبيل فيما نحن بصدده إلى جعل «الواو» للعطف لمخالفة الثاني

١٣٤

الأول في الإعراب ، اللهم إلا أن تقدر مجرورة بإضمار الباء القسمية لا بحذفها فقد جاء عنهم «الله لأفعلن» مجرورا غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة ، وأما من قرأ صاد وقاف بالكسر فلالتقاء الساكنين. وهذه الفواتح جاءت في المصحف مكتوبة على صور الحروف أنفسها لا على صور أساميها ، لأن المألوف أنه إذا قيل للكاتب اكتب «صاد» مثلا فإنه يكتب مسماها ص. وأيضا اشتهار أمرها بأن المراد بها هنا الأسامي لا المسميات أمن وقوع اللبس فيها ، وأيضا خطان لا يقاسان ، خط المصحف لأنه سنة ، وخط العروض لأن المعتبر هناك الملفوظ. ومن لم يجعل هذه الفواتح أسماء السور فلا محل لها عنده كما لا محل للجمل المبتدأة والمفردات المعدودة ، ومن جعلها أسماء للسور فسنخبرك عن تأليفها مع ما بعدها الله حسبي.

البحث الثاني في قوله. «ذلك الكتاب» وفيه مسائل : الأولى : إنما صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد لأنه وقعت الإشارة بذلك إلى «الم» بعد ما سبق التكلم به ، والمنقضي في حكم المتباعد ولهذا يحسب الحاسب ثم يقول فذلك كذا ، أو لأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع في حد البعد كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئا : احتفظ بذلك ، أو لأنه وإن كان حاضرا نظرا إلى ألفاظه لكنه غائب نظرا إلى أسراره وحقائقه ، أو لأنه على مقتضى الوضع اللغوي لا العرفي ، أو لأنه إشارة إلى ما نزل بمكة قبل سورة البقرة. وقد يسمى بعض القرآن قرآنا ، أو لأنه إشارة إلى ما وعد به الرسول عند مبعثه (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل : ٥] أو لأنه إشارة إلى ما أخبر به الأنبياء أن الله سينزله على النبي المبعوث من ولد إسماعيل ، أو المراد أن هذا المنزل هو ذلك المثبت في اللوح المحفوظ كقوله (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الزخرف : ٤]. الثانية : إنما ذكر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث وهو السورة في بعض الوجوه نظرا إلى صفته وهو الكتاب كقولك «هند ذلك الإنسان» قال الذبياني :

نبئت نعمي على الهجران عاتبة

سقيا ورعيا لذاك العاتب الزاري

وإن جعلت الكتاب خبرا فنظرا إلى أن ذلك في معناه ومسماه فجاز إجراء حكمه عليه في التذكير كما أجري عليه في التأنيث في قولهم : «من كانت أمك». الثالثة : للقرآن أسماء كثيرة منها : الكتاب ـ وقد تقدم ـ ومنها الفرقان (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) [الفرقان : ١] لأنه نزل متفرقا في نيف وعشرين سنة ، أو لأنه يفرق بين الحق والباطل. ومنها التذكرة والذكرى والذكر (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) [الحاقة : ٤٨] (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)

١٣٥

[الذاريات : ٥٥] (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤] أي ذكر من الله تعالى به ذكر به عباده فعرفهم تكاليفه أو شرف وفخر. ومنها التنزيل (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ١٩٢] ومنها الحديث (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) [الزمر : ٢٣] شبهه بما يتحدث به فإن الله تعالى خاطب به المكلفين. ومنها الموعظة (قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) [يونس : ٥٧] ومنها الحكم والحكمة والحكيم والمحكم (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) [الرعد : ٣٧] (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) [القمر : ٥] (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) [يس : ١ ، ٢] (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) [فصلت : ٢] ومنها الشفاء والرحمة (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء : ٨٢] ومنها الهدى والهادي (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء : ٩] ومنها الصراط المستقيم (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) [الأنعام : ١٥٣] ومنها حبل الله (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) [آل عمران : ١٠٣] ومنها الروح (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢] لأنه سبب لحياة الأرواح. ومنها القصص (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) [آل عمران : ٦٢] ومنها البيان والتبيان والمبين (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١٣٨] (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل : ٨٩] (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) [يوسف : ١] ومنها البصائر (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) [الأعراف : ٢٠٣] ومنها الفصل (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) [الطارق : ١٣] ومنها النجوم (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) [الواقعة : ٧٥] لأنه نزل نجما نجما. ومنها المثاني (مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) [الزمر : ٢٣] لأنه يثنى فيه القصص والأخبار. ومنها النعمة (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى : ١١] قال ابن عباس : أي القرآن. ومنها البرهان (قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) [النساء : ١٧٤] ومنها البشير والنذير (قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً) [فصلت : ٣ ، ٤] ومنها القيم (قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً) [الكهف : ٢] ومنها المهيمن (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [المائدة : ٤٨] ومنها النور (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) [الأعراف : ١٥٧] ومنها الحق (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) [الحاقة : ٥١] ومنها العزيز (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) [فصلت : ٤١] ومنها الكريم (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) [الواقعة : ٧٧] ومنها العظيم (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [الحجر : ٨٧] ومنها المبارك (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ) [ص : ٢٩] فهذه جملة الأسماء وسيجيء تفاسيرها في مواضعها. الرابعة : في تأليف ذلك الكتاب مع «الم» اسما للسورة ففي التأليف وجوه : أن يكون «الم» مبتدأ أو «ذلك» مبتدأ ثانيا «والكتاب» خبره ، والجملة خبر المبتدأ الأول أي هو الكتاب الكامل الذي يستأهل أن يسمى كتابا كما تقول : هو الرجل أي الكامل في الرجولية وكقوله : هم القوم كل

١٣٦

القوم يا أم خالد. وأن يكون الكتاب صفة ومعناه هو ذلك الكتاب الموعود ، وأن يكون «الم» خبر مبتدأ محذوف أي هذه «الم» ، ويكون «ذلك» خبرا ثانيا أو بدلا على أن الكتاب صفة ، وأن يكون هذه «الم» جملة ، «ذلك الكتاب» جملة أخرى ، وفقد العاطف لأن الثانية بيان للأولى. وإن جعلت «الم» بمنزلة الصوت كان «ذلك» مبتدأ خبره «الكتاب» أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل ، أو «الكتاب» صفة والخبر ما بعده ، أو قدر مبتدأ محذوف أي هو يعني المؤلف من هذه الحروف «ذلك الكتاب». وفي قراءة عبد الله بن مسعود «الم تنزيل الكتاب».

البحث الثالث في قوله «لا ريب فيه» الريب مصدر رابني وحقيقته قلق النفس. روى الحسن بن علي عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (١) فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة أي كون الأمر مشكوكا فيه مما تقلق له النفس ، وكونه صحيحا صادقا مما تطمئن له. ومنه ريب الزمان لنوائبه المقلقة ، وفي الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بظبي حاقف أي معوج مضطجع وهم محرمون فقال : لا يريبه أحد بشيء أي لا يزعجه. والحاصل أن الريب شك وزيادة ظن سوء ، فإن قلت : كيف نفي الريب على سبيل الاستغراق ، وكم من شقي مرتاب فيه؟ قلت : ما نفي أن أحدا لا يرتاب فيه وإنما المنفي كونه متعلقا للريب ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه ومثله (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] لم يقل «وإذا كنتم» مع وقوع الشك منهم في الواقع دلالة على أن الشك فيه مما لا ينبغي أن يوجد إلا على سبيل الفرض والتقدير ، ولو فرض فوجه إزالته أن يجردوا أنفسهم ويبرزوا قواهم في البلاغة هل تتم للمعارضة أم تتضاءل دونها. فإن قلت : فهلا قدم الظرف على الريب كما قدم على الغول في قوله تعالى (لا فِيها غَوْلٌ) [الصافات : ٤٧] قلنا : لأن المقصود منها ليس إلا نفي الريب عنه وإثبات أنه حق وصدق ، ولو عكس لأفاد ذلك مع ما ليس بمراد ولا هو بصادق في نفس الأمر وهو التعريض بأن ريبا في غيره من الكتب كما أن في قوله : (لا فِيها غَوْلٌ) [الصافات : ٤٧] تعريضا بأن خمور الدنيا تغتال العقول. وقرأ أبو الشعثاء «لا ريب» فيه بالرفع. قيل : والفرق بينها وبين المشهورة ، أن المشهورة توجب الاستغراق ، وهذه تجوزه. ويمكن أن يقال : كلاهما يوجب الاستغراق إلا أن الأول بطريق نفي الماهية ، والثاني لأن قوله «لا ريب» جواب قول القائل هل ريب فيه ، وهذا يفيد ثبوت فرد واحد فنقيضه يكون سلب جميع الأفراد.

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب البيوع باب ٣. الترمذي في كتاب القيامة باب ٦٠. أحمد في مسنده (٣ / ١٥٣).

١٣٧

البحث الرابع في قوله «هدى للمتقين» وفيه مسائل :

الأولى : في حقيقة الهدى هو مصدر على فعل كالسرى وهو على الأصح عبارة عن الدلالة. وقيل : بشرط كونها موصلة إلى البغية بدليل وقوعه في مقابل الضلالة (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة : ١٦] ولأنه يقال مهدي في معرض المدح. فلو احتمل أن يقال هدى فلم يهتد لم يكن مدحا ، ولأن مطاوعه «اهتدى» فيلزمه. وأجيب بأن مقابل الضلالة الاهتداء لا الهدى. وبأن قولنا «مهدي» إنما أفاد المدح لأنه من المعلوم أن الوسيلة إذا لم تفض إلى المقصود كانت كالعدم ، وبالمنع من أن اهتدى لازم هدى لزوما كليا إذ يصح في العرف أن يقال : هديته فلم يهتد ، قال عز من قائل : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧] وقال بعضهم : الهدى الاهتداء ، فإن زعم مطلقا فخطأ لوقوع صفة للقرآن ، وإن زعم حينا فصحيح لوقوعه في مقابلة الضلالة.

الثانية : المتقي اسم فاعل من وقاه فاتقى. والوقاية فرط الصيانة ، وهذه الدابة تقي من وجئها إذا أصابها طلع من غلظ الأرض ورقة الحافر فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء. وهو في الشرع المؤتمر للمأمورات المجتنب عن المحظورات. واختلف في الصغائر أنه إذا لم يتقها فهل يستحق هذا الاسم؟ روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس» فحقيقة التقوى الخشية (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) [لقمان : ٣٣] وقد يراد بها الإيمان (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) [الفتح : ٢٦] أي التوحيد. وقد يراد التوبة (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا) [الأعراف : ٩٦] أي تابوا. وقد يراد الطاعة (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) [النحل : ٢] وقد يراد ترك المعصية (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ) [البقرة : ١٨٩] وقد يراد الإخلاص (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج : ٣٢] أي من إخلاصها والتقوى مقام شريف (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) [النحل : ١٢٨] (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) [البقرة : ١٩٧] (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣]. وعن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله ، ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده» وقال علي عليه‌السلام : التقوى ترك الإصرار على المعصية ، وترك الاغترار بالطاعة. وعن إبراهيم بن أدهم : أن لا يجد الخلق في لسانك عيبا ، ولا الملائكة المقربون في أفعالك عيبا ، ولا ملك العرش في سرك عيبا. الواقدي : أن تزين سرك للحق كما زينت ظهرك للخلق. ويقال : التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك. ولله در القائل : خل الذنوب صغيرها. وكبيرها فهو التقي.

١٣٨

كن مثل ماش في طري

ق الشوق يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة

إن الجبال من الحصى

وفي قوله «هدى للمتقين» ثم في موضع آخر (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ) [البقرة : ١٨٥] دليل على أن الناس محصورون في المتقين ، والباقون (كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف : ١٧٩].

الثالثة : لم اختص كون القرآن هدى للمتقين ، وأيضا المتقي مهتد فكيف يهتدي ثانيا؟ والجواب أن المتقين لما كانوا هم المنتفعين بالهداية خصوا بالذكر مدحا لهم كقوله تعالى (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥] (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) [يس : ١١] مع أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم منذر كل الناس. وأيضا قوله «هدى للمتقين» كقولك للعزيز المكرم «أعزك الله وأكرمك» تريد طلب الزيادة واستدامة ما هو ثابت فيه. وبوجه آخر سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين نحو «من قتل قتيلا فله سلبه» (١) فهذا مجاز من باب تسمية الشيء بما هو آيل إليه واللطف فيه أنه لو قال هدى للصائرين إلى التقوى بعد الضلال كان إطنابا في غير موضعه ، فإن تصدير السورة التي هي أولى الزهراوين وسنام القرآن وأول المثاني بذكر أولياء الله والمرتضين من عباده هو اللائق بالمقام ، فاختص الكلام بإجرائه على الطريقة التي ذكرنا. فإن قلت : كيف وصفت القرآن بأنه كله هدى وفيه مجمل ومتشابه لا يهتدي فيه إلى المقصود إلا بحكم العقل ، فيكون الهدى في ذلك للعقل لا للقرآن؟ ومما يؤكد ما قلنا ، ما نقل عن علي عليه‌السلام أنه قال لابن عباس حين بعثه رسولا إلى الخوارج : لا تحتج عليهم بالقرآن فإنه خصم ذو وجهين. ولهذا كان فرق الإسلام المحق منهم والمبطل يحتجون به ، قلنا : المتشابه لما لم ينفك عما يبين المراد معه على التعيين عقلا كان أو سمعا صار كله هدى. فإن قيل : كل ما يتوقف صحة كون القرآن هدى على صحته كمعرفة الله تعالى وصفاته وكمعرفة النبوة ، فالقرآن ليس هدى فيه فكيف جعل هدى على الإطلاق؟ قلنا : المراد كونه هدى في تعريف الشرائع والمطلق لا يقتضي العموم ، أو كونه هدى في تأكيد ما في العقول أيضا فيعم.

الرابعة : محل «هدى للمتقين» الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف ، أو خبر مع «لا ريب فيه» لذلك أو مبتدأ إذا جعل الظرف المقدم خبرا عنه ، ويجوز أن ينتصب على الحال والعامل فيه معنى الإشارة أو الظرف والذي هو أرسخ عرقا في البلاغة أنه يقال : «الم» جملة

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الخمس باب ١٨. مسلم في كتاب الجهاد حديث ٤٢. أبو داود في كتاب الجهاد باب ١٣٦. الترمذي في كتاب السير باب ١٣.

١٣٩

برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها ، و «ذلك الكتاب» جملة ثانية ، و «لا ريب فيه» ثالثة ، و «هدى للمتقين» رابعة. وفقد العاطف بينها لمجيئها متآخية آخذا بعضها بحجرة بعض ، لأنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدى به ، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقريرا لجهة التحدي ، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان تسجيلا بكماله ، فلا كمال أكمل مما للحق واليقين ، ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله ، ثم في كل من الجمل نكتة ذات جزالة. ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه كما مر في الوجه الثامن ، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة أي الكتاب الذي يستأهل أن يقال له الكتاب ، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف ، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر الذي هو هدى موضع هاد وإيراده منكرا والإيجاز في ذكر المتقين.

البحث الخامس في قوله تعالى (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ). الآية وفيه مسائل :

الأولى : «الذين يؤمنون» إما موصول بالمتقين صفة ، أو نصب على المدح ، أو رفع كذلك بتقدير أعني الذين ، أو هم الذين ، أو مرفوع بالابتداء مخبر عنه «بأولئك على هدى».

الثانية : «الذين يؤمنون» على تقدير كونه صفة يكون إما واردا بيانا وكشفا وذلك إذا فسر المتقي بأنه الذي يفعل الحسنات ويجتنب السيئات ، لأن الإيمان أساس الحسنات والصلاة أم العبادات البدنية قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصلاة عمادة الدين» (١) «وبين العبد وبين الكفر ترك الصلاة» (٢) والزكاة أفضل العبادات المالية قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الزكاة قنطرة الإسلام» فاختصر الكلام اختصارا بذكر ما هو كالعنوان لسائر الطاعات وكالأصول لبواقي الحسنات ويندرج فيها اجتناب الفواحش والمنكرات لقوله عز من قائل (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت : ٤٥] وإما مسرودة مع المتقين مفيدة غير فائدتها وذلك إذا فسر المتقي بالمجتنب عن المعاصي فقط. ثم إنه يكون قد وصف بالإيمان وهو فعل القلب وبأداء الصلاة والزكاة وهما من أفعال الجوارح ، وهذا ترتيب مناسب لأن لوح القلب يجب تخليته عن النقوش الفاسدة أولا ، ثم تحليته بالعقائد الحقة والأخلاق الحميدة ، وإما معدودة عدا على سبيل المدح والثناء وذلك إذا فرض المتقي موسوما بهذه السمات ، مشهورا بهذه

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الإيمان باب ٨. أحمد في مسنده (٥ / ٢٣١ ، ٢٣٧). بلفظ «.. .. وعموده الصلاة».

(٢) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث ١٣٤. أبو داود في كتاب السنّة باب ١٥. الترمذي في كتاب الإيمان باب ٩. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب ١٧.

١٤٠