رحلة الصَّفار إلى فرنسا

محمّد بن عبدالله الصفار الأندلسي التطواني

رحلة الصَّفار إلى فرنسا

المؤلف:

محمّد بن عبدالله الصفار الأندلسي التطواني


المحقق: د. سوزان ميللر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-9953-36-976-3
الصفحات: ٣٢٤

فرسخا من مبداه ، وعليه هنالك سواحل الشام. وعندما يخرج هذا البحر من الخليج المذكور ، ويذهب مشرقا فينفسح جنوبا وشمالا ، حتى يدخل من جهة الجنوب في الإقليم الثالث ، ومن جهة الشمال في الإقليم الخامس ، حسبما ذكر ذلك كله ابن خلدون (١). وعليه من جهة الجنوب طنجة ثم سبتة ثم تطوان ثم سواحل الريف ، وفيها مليلية وبادس وهما للإصبنيول (٢). ثم وهران والجزائر وسائر ما كان من عمالتها ، وهي الآن بيد الفرنسيس. ثم تونس وسفاقص وسوسة وسائر سواحل إفريقية (٣) ثم جربة على جون هناك ، ثم طرابلس ومسراته مدفن سيدي أحمد زروق (٤) نفعنا الله به. ثم جون يعرف بجون الكبريت (٥). ثم درنة وغيرها من بلاد

__________________

ثلاثة أميال عربية ، أو ثلاثة أميال ونصف إنجليزية. ٩٦ : ١Muqaddimah ابالإضافة إلى الهامش ١٩ من الصفحة نفسها. وفي المقدمة (طبعة بيروت ١٩٧٨) ، ص. ٤٥.

(١) اعتمد الصفار في كل هذا القسم على ما كتبه ابن خلدون في المقدمة ، وبالضبط على «المقدمة الثانية في قسط العمران من الأرض والإشارة الى بعض ما فيه من الأشجار والأقاليم» انظر :

Muqaddimah ١ : ٩٢١ ـ ٣٣١, ٩٣١ ـ ٣٤١.

(٢) احتل الإسبانيون مليلية في ١٤٩٧ ، وتنوزل عن باديس للإسبان في ١٥٦٤. انظر :

C. ـ A. Julien, History of North Africa : Tunisia, Algeria, Morocco) London, ٠٧٩١ (, pp. ٦٠٢, ٦٢٢, ٣٥٢.

(٣) وهي التسمية العربية لتونس في العصر الوسيط. زكريا بن محمد بن محمود القزويني ، آثار البلاد وأخبار العباد (بيروت ، دون تاريخ) ، ص. ١٤٨ ـ ١٤٩.

(٤) هو أبو العباس أحمد بن محمد بن عيسى البرنوسي الفاسي ، المعروف بزروق ، ولد سنة ٨٤٦ هجرية موافق ١٤٤٢ ميلادية. وهو من مشاهير الفقهاء والقضاة ، وكان يحظى بالكثير من التقدير والتبجيل في كل أرجاء بلدان الشمال الإفريقي. انظر : كتاب نشر المثاني للقادري ، ترجمة نورمان سيكار :

Al ـ Qadiri,) trans. Cigar (, Nashr, p. ٠٦١ and note ٣١; Le؟i ـ Provenc؟al, Les historiens, p. ٧٨١, note ٣.

(٥) الموضع الذي يتحدث عنه الصفار هنا هو خليج سرت ، غير أننا لم نعثر في أي من القواميس الجغرافية المعروفة على اسم لمكان يحمل كلمة «الكبريت» التي يستعملها هنا الصفار. هذا مع العلم أن مادة الكبريت لها أهميتها القصوى في صناعة البارود والأدوية ؛ وربما كانت المنطقة المذكورة مصدرا لها في فترة من الفترات. انظر مادة «كبريت» في : EI ٢ ,"Kibrit " ـ ـ

١٢١

برقة (١). ثم الإسكندرية ، ثم مر كذالك إلى سواحل الشام. وعليه من جهة الشمال طريفة ثم الجزيرة الخضراء وجبل طارق ، ثم مالقة ثم المرية وسائر سواحل الأندلس وهي الآن المعروفة باصبانية ، وهي كلها للإصبنيول إلا جبل طارق فإنه للانكليز. ثم بلاد فرانسا ، وأول مراسيها مما يلي الإصبنيول مرسى صغيرة يقال لها بور بندر (٢). ثم مرسيليا ، ثم طولون وسائر سواحل فرانسا. ثم يليها بلاد إيطاليا ، ومنها مدينة جنوة ، وهي للصردوا (٣) ، ثم مدينة الكرنة وهي للكرنيز (٤). ثم بعدها مدينة رومة العظمى ، وليست على الساحل بل في البر. ثم نابل وهي للنبليطان وهو جبل خارج في البحر ، وعند انتهائه جزيرة سيسليا فصل بينهما فاصل صغير يسمى بوغاز مسينا ، وهي للنبليطان أيضا. ثم دخل البحر في جون خلف نابل ، ويسمى ذالك الجون غلف فنسية ، وانتهى هنالك إلى بلاد النامسا ومنها فنسية (٥) المنسوب لها الغلف المذكور.

ثم على شاطئ هذا الجون مما يلي النامسا قبالة نابل ، بلاد الترك والغرناوط (٦). وهناك جزر كثيرة متزاحمة. ثم يلي بلاد الترك على هذا الساحل بلاد المورة (٧) ، وهي للكريك (٨). ثم دخل البحر في جون صغير خلف المورة ، ورجع إلى بلاد الترك. ثم انحصر في خليج متضايق يعرف ببوغاز شانة قلعة (٩) ، ثم انفسح يسير إلى مدينة

__________________

(١) وهو اسم كان يطلقه الجغرافيون العرب في العصر الوسيط على مدينة المرج والمنطقة المحيطة بها ، والواقعة في ما كان يعرف بقورينة الإغريقية القديمة ، وهي ليبيا اليوم ، انظر مادة «برقة» ، في : EI ٢," Barka".

(٢) واسمها بالفرنسية بور فاندر (Port ـ Vendres).

(٣) ويعنى بها السردينيين.

(٤) ويقصد بذلك ليفورنو (Livorno) ، وهي اليوم من المدن الإيطالية.

(٥) المعروفة اليوم بفنيزيا (Venezia) ، وهي من المدن الإيطالية.

(٦) يعنى بالغرناوط بلاد ألبانيا.

(٧) وهي موري (More؟e) ، وجاءت هذه التسمية نتيجة لانتشار شجرة التوت على أرضها انتشارا كبيرا (من اليونانيةmorea واللاتينية (morus ، وتسمى أيضا البيلوبونيز (Pe؟loponne؟se) (المعرب).

(٨) وهم الإغريق أو اليونان.

(٩) وأصلها من التركية (c؟anakkale) ، وهي مركبة من كلمة (c؟anak) التركية ومعناها القدرة ، ومن لفظة (kale) قلعة العربية بمعنى الحصن ، والمقصود بها هنا مضيق الدردنيل.

١٢٢

القسطنطينة العظمى وهي اسطانبول (١). ثم خرج في خليج أيضا يسمى خليج القسطنطينة ، وانفسح في بلاد الموسكوا (٢). وهذا البحر المنفسح في بلاد الموسكوا هو الذي يعرف عند العامة بالبحر الأكحل ، ويسمى عند الترك قاراداننر وهما كلمتان : فقار هو الأسود ، ودانير هو البحر باللغة التركية ، يعني البحر الأسود بتقديم الصفة كما هي قاعدة تركيب العجم. وهنالك انحصر هذا الداخل هنا ، ثم ذهب من بوغاز شانة قلعة على مدينة إزمير. ثم عليه هنالك وبعده أمم كثيرة من الروم والأتراك ، إلى أن وصل لبلاد الشام ، ودار إلى جهة الإسكندرية ، وهذا منتهاه.

وفي هذا البحر جزر كثيرة عامرة ؛ فمنها جزيرة يابسة (٣) وميورقة وماعون (٤) ، وكلها للإصبنيول قرب بلاده. ومنها جزيرة سردانية وهي للصردوا ، ومنها جزيرة كرسيكة وهي للفرنسيس ، ومنها جزيرة صقلية وهي للنبليطان ، وهي التي تسمى الآن سيسليا وتقدم ذكرها (٥). ومنها جزيرة مالطة المشهورة ، وهي في حكم الانكليز. ومنها جزيرة كريت قبالة المورة. ومنها جزيرة قبرس قبالة سواحل الشام. وفيه جزر أخرى صغيرة كثيرة خصوصا في بلاد الترك والمورة.

رجع إلى ما كنا فيه. فبعد مسيرنا أربعة أيام ونحن في أرغد عيش وأهنا مقام ،

__________________

(١) استعمل الرحالة المغاربة كلا التسميتين. في القرن الرابع عشر الميلادي ، أشار ابن بطوطة إلى أن «أحد الجزئين المكونين لمدينة القسطنطينية هو استنبول. وهو الواقع على الضفة الشرقية للنهر» IB ٢ :. ٥٠٨ أما في القرن السادس عشر ، فقد سماها التامكروتي بالقسطنطينية ، النفحة ، ص. ٤٣. ولمزيد من التفاصيل حول أصول تلك التسمية ، انظر :

D. J. Georgacas," The Names of Constantinople", Transactions of the American Philological association ٨٧) ٧٤٩١ (: ٦٦٣ ـ ٧٦; El ٢, s. v." Istanbul".

(٢) والمقصود بها روسيا القيصرية ، وترد في المراسلات المخزنية خلال القرن التاسع عشر هكذا : المسك ، أو «الموسك» أو الموسكوا ، انظر محفظات المغرب وروسيا بمديرية الوثائق الملكية في الرباط (المعرب).

(٣) وهى جزيرة إيبيزة (Ibiza).

(٤) وهي جزر مينورقة وما يورقة (Majorque) و (Minorque).

(٥) تمكن الأغالبة منذ القرن التاسع الميلادي من احتلال صقلية ، فظلت تحت السيطرة العربية لمدة قاربت المائتي سنة. القزويني ، آثار البلاد ، ص. ٢١٥ ـ ٢١٦ ؛ وكذلك :

P. Hitti, The Histoiry of the Arabs) New York, ٧٦٩١ (, pp. ٢٠٦ ـ ٦٠٦.

١٢٣

ترفعنا الأمواج طورا وتخفضنا أخرى مع سكون الرياح واعتدال الهواء. وبقرب المسافة تزاد البشرى ، وقد كنا على وجل من هوله المبين ، إذ كان ركوبنا فيه في شهر دجنبير (١). فسلمنا الله من كيده وإن أصاب بعضنا نصيب من ميده. وفي اليوم الخامس ، بدا منه بعض اضطراب يسير ، وقد أشرفنا على غلف ليون (٢) الذي مجازه في غالب الأوقات صعب عسير. وكان للمركب بشيء من الفحم حاجة ومسيس ، فاقتضى ذاك دخولنا لمرسى بور بندر التي هي أول مراسي الفرنسيس. فأرسينا فيها ظهر يوم الأربعاء (٣) ، فسكن الفؤاد وزال الدهش ، ورجع لكل واحد منا نشاطه وزال ميده وانتعش.

وهي مرسى صغيرة ، لاكنها لإتقانها وإحكام صنعتها وحسن مداخلها وبناء شواطئها تلحق أو تفوق الكبيرة. ليس فيها رياح ولا تمويج ، فيصير المركب في داخلها كأنه في وسط صهريج ، يبقى سائرا حتى يلتصق بالشاطئ ، ويربط حباله في أخراص (٤) غليظة من الحديد ، مسمرة في الحجارة العظيمة التي بني بها الشاطئ المذكور. وعلى باب هذه المرسى أبراج للمدافع وفنارات عظيمة عالية على جبال هنالك تضيء بالليل ليهتدى بها إلى المرسى. وعلى هذه المرسى قرية صغيرة تسمى بالاسم المتقدم ، وإليها تنسب المرسى. فيها ديار وحوانيت على الشاطئ ، يباع فيها

__________________

(١) يتميز التقويم القمري المعمول به عند المسلمين بعدم الاستقرار ، مما جعله غير صالح لضبط مواقيت الأعمال الفلاحية. وفي المغرب كانت الشهور معروفة بأسمائها اللاتينية منذ وقت باكر ، أي منذ السنوات السابقة للفترة ما قبل الاستعمارية. وكان المغاربة يستعملون الشهور الرومانية في كلامهم اليومي الدارج ، ويسمونها بالأشهر الفلاحية. بينما خصصوا التقويم الإسلامي لضبط تواريخ المراسلات المخزنية والأعياد الدينية ، انظر :

A. Joly," Un calendrier agricol marocain" AM ٣, ٢) ٥٠٩١ (: ١٠٣ ـ ٩١٣; Dozy ١ : ٥٢٤.

(٢) ويعنى بذلك خليج الأسود (Golfe de lions) ، ولا علاقة له بمدينة ليون المعروفة الواقعة كما هو معلوم في وسط فرنسا (المعرب).

(٣) «كان النقص الحاصل في الماء والفحم ، بالإضافة إلى الرياح الشديدة ، من الأسباب التى جعلت قائد ألمركب يقرر الدخول إلى المرسى المذكورة» ، روش إلى كيزو ، بور فاندر ، ١٧ دجنبر ١٨٤٥.

(٤) أخراص وخراص في اللغة هي جريدة النخل. أما المقصود بأخراص عند الصفار هنا فهي مأخوذة من مفردها خرص أو خرصة ، وهي الحلقة التي توضع في الأذن. ويعني بها الحلقات الحديدية الدائرية الشكل التي تشد بها حبال المراكب الراسية. ٣٦٢ : ١Dozy (المعرب).

١٢٤

المأكولات من خبز ولحم وفواكه وخضر وغير ذالك. وعليها كثير من بساتين العنب ، وهي من البوادي لا من الحواضر. ولم نر في مرساها من السلع إلا بوطات (١) ، الخمر ولعلها ببادية العنب.

فبتنا بها وأخذ المركب ما كان يحتاجه وأصبحنا بها ، وعند ارتفاع النهار قلعنا منها ودخلنا في غلف ليون وقد طمحت له العيون. فلقينا من هدوه وطيب المسير فيه ما كان نادرا من أمره. إلا في نحو ثلاث ساعات من آخر اليل اضطرب بنا شيئا ما ، فأصبحنا صباح يوم الجمعة في مرسى مرسيليا ، فحمدنا الله على السلامة وبلوغ الغاية وقطع المسافة. فكانت مدة سفرنا فيه بعد إسقاط الإقامة المذكورة خمسة أيام.

وبعد ارتفاع النهار جاءنا كبير البلد وطلع إلينا للمركب ، فسلم تسليم البشاشة وأبدى من وجهه طلاقة وهشاشة. وأنزلنا في إعزاز وإكرام وتوقير وفرح وإعظام. وعند نزولنا أطلقوا المدافع حتى ملأ خبر وصولنا من الأقصى والأدنى المسامع ، فدخلنا البلد فتلقونا بالبشر والألطاف والبرور والاسعاف. وصفف لنا كبيرهم العساكر خيلا ورجالا تعظيما لنا وإجلالا. وأركبونا في أكداش (٢) منتخبة تجرها خيل مزينة ، إلى أن أوصلونا إلى دار سنية ، فأقمنا بها في عيشة هنية (٣) بقية يوم النزول ، ويوم السبت بعده. وفي ضحوة يوم الأحد أزمعنا الرحيل منها قاصدين مدينة باريز ، إذ هي كرسي سلطنتهم وقرار مملكتهم.

__________________

(١) من الإسبانية (bota) ومعناها البرميل (المعرب).

(٢) يسمى المغاربة العربة التى تجرها الخيل «الكوتشي» أو «الكودشى» وجمعها «أكداش». وأصلها من الإسبانية (coche). والاسم معروف عند المغاربة منذ زمن ، حيث ورد ذكره عند الغساني في رحلته إلى إسبانيا خلال القرن السابع عشر افتكاك ، ص. ٩. وكتب شيني في هذا الصدد ، أن السلطان سيدي محمد بن عبد الله (١٧٥٧ ـ ١٧٩٠) «لم يكن يظهر أبدا أمام الناس إلا ممتطيا صهوة فرس أو راكبا في عربته ذات العجلتين» :

L. Chenier, The Present State of the Empire of Morocco, ٢ vols.) London, ٨٨٧١ (, ٢ : ٧٠٣ ـ ٨٠٣.

(٣) كانت إقامة أعضاء السفارة في فندق الشرق AAE / CPM ٥١ / ٥١٢ ـ ٦١٢. (Ho؟tel d\'Orient) بورسي (Pourcet) إلى كيزو ، ١٩ دجنبر ١٨٤٥. انظر أيضا رسالة أشعاش إلى السلطان مولاي عبد الرحمن ، ٢٠ ذي الحجة ١٢٦١ / ٢٠ دجنبر ١٨٤٥ ، وهي محفوظة بمديرية الوثائق الملكية تحت رقم ١٧٥٧٨.

١٢٥
١٢٦

الفصل الثاني

فصل في سفرنا في البر من مرسيلية لباريز

اعلم أن قانون السفر في هذه البلاد أن المسافر لا يحمل معه زادا ولا فراشا ولا خزانة ولا غير ذالك ، وإنما يحتفظ بدراهمه ورياله وذهبه ، فبذالك يبلغ المنى من كل آماله وبلوغ أربه (١). وذالك أن هذه الطريق كلها أو جلها عمران ، فلا يفارق المار عمارة حتى يدخل في أخرى. وكلما وصل عمارة وجد فيها أسواقا يباع فيها من كل شيء يحتاجه المسافر. وفيها دار أو ديار تسمى عندهم الأوكنضة ، وتسمى البوصاضة (٢).

__________________

(١) غالبا ما تحدث الأجانب عن المخاطر والمتاعب الكبيرة التي يطرحها السفر والتنقل عبر مختلف أرجاء المغرب. وحينما يكون السفر تحت إشراف المخزن وعنايته ، فإنه عادة ما كان الموظفون المخزنيون المحليون من عمال وقواد يزودون المسافرين بالمؤونة الضرورية ؛ ومع ذلك لم يكن حصولهم على تلك المؤونة مضمونا دائما مما كان يضطرهم فى الغالب إلى حمل زادهم أو إلى شرائه والحصول عليه بمختلف الطرق التي تسمح لهم بها الظروف ، ٧١.Hay ,Journal p أما حمل المسافرين للنقود ، فكان محفوفا دائما بالمخاطر لانتشار اللصوص في المسالك والطرق ، Laroui ,Origines ,p.٣٦

(٢) «الأوكنضة» ، أصلها من الإيطالية (locanda) ، وهي عبارة عن حانة صغيرة تتوفر في الوقت نفسه على مطعم للأكل وعلى عدد قليل من الغرف للإيواء. وقد وصفها الطهطاوي بأنها «مواضع معدة للطعام والشراب مشتملة على سائر أنواع المطعومات والمشروبات في غاية النظافة والظرافة وفيها محال للنوم» ، تلخيص ، ص. ١١٤ ؛ ١٤٨L\'or ,p. بينما يقول الصفار إنها مكان خاص للنوم ، ويمكن شراء المواد الغذائية من خارجها ، وفي ذلك شبه كبير بما هو معهود في المغرب. فقد قدم لنا جاكسن وصفا لفندق بمدينة فاس جاء فيه ، أنه «بناية من ثلاثة طوابق [...] تحتوي على ما بين الخمسين أو المائة من الغرف الصغيرة [...] حيث جرت العادة أن يحمل المسافر معه ما يمكنه

١٢٧

والفرق بينهما أنه إن كان فيها موضعا الثواء والطعام فهي الثانية ، وإن كان فيها موضع الثواء فقط وكل واحد يأتي بطعامه من السوق فهي الأولى. وهي دار كبيرة ذات بيوت كثيرة في فوقيها ، وكل البيوت لها طاقات كبار على قدر قامة الإنسان أو أكثر تشرف على ما تحتها من الشوارع والأسواق.

وكل بيت فيه فراش واحد أو أكثر للنوم بغطائه ووطائه وستوره ، والكل في غاية النظافة واللين. وقد تكون أرضه مفروشة بالزرابي الجيدة يطأها الداخل بنعله ، إذ ليس من عادتهم خلع النعال إلا إن دخل فراش النوم. وكل طاقات البيت عليها ستور من الحرير أو غيره مما يضاهيه. وفيه عدة من الشوالي (١) للجلوس عليها ، ولا يعرفون الجلوس بالأرض أصلا ، ولا تطاوعهم لبستهم له لضيق سراولهم. وفي وسطه طبلة من رفيع الخشب أو المرمر معدة للكتابة عليها ونشر الكتاب إن كان ، ونحو ذالك من وضع شيء عليها وغيره. وفيه خزانة من العود الجيد يشرق وكأنه المرءات ذات جوالق (٢) ، عديدة ليحفظ فيها ما يعز عليه من أمتعته وثيابه وغيرها ، وقد يكون فيه

__________________

اتخاذه فراشا للنوم ، لأن تلك الفنادق غير مجهزة بالأفرشة ، باستثناء حصير يسمح لك باستعماله إلى جانب ما تحمله معك من وسائل خاصة ؛ وإذا كنت في حاجة إلى وجبة أكل خفيفة ، فليس بإمكانك الحصول عليها داخل الفندق ، بل يجب شراؤها من دكان خارجي يبيع المأكولات أو من حانوت لأحد الجزارين».

J. G. Jackson, An Account of the Empire of Morocco and the District of Suse) Philadelphia, ٠١٨١ (, p. ٣٢١.

كان «الفندق» من الأماكن الخاصة بإيواء عامة الناس عند تنقلاتهم ، وخاصة منهم أهل البوادي ، في حين كانت تهيأ للشخصيات الهامة من مستوى محمد الصفار ، عند زيارتهم لمدن مغربية أخرى ، أماكن خاصة للإقامة. وهي عادة ما تكون من دور كبار الأعيان. أما «البوصاضة» ، فأصلها من الإسبانية (posada) ، وهي المكان المخصص لإيواء المسافرين ليلا ، بالإضافة إلى تمكينهم من إبدال خيولهم المرهقة بأخرى مستريحة.

(١) مفردها شلية ، وأصلها من الإسبانية (silla) ، وهي الكراسي ، ٧٨٣ : ١Dozy.

(٢) جاء في المعجم الوسيط ، ج ١ ، ص. ١٣١ عن الجوالق ، أنها تسمى أيضا «الغرارة» ، ومعناها كما هو وارد بالمعجم نفسه ، ص. ٦٥٤ : وعاء من الخيش ونحوه وهو أكبر من الجوالق. والمقصود بالجوالق عند الصفار أكياس تحفظ بها الملابس ، (المعرب) : وأشكر الأستاذ سعيد بن سعيد العلوي الذي مكنني من قراءة هذه الكلمة غير الواضحة في المخطوط ، ومن معناها كما أوردته أعلاه.

١٢٨

أكثر من واحدة. ومن لازم كل فراش خزانة صغيرة عند رجليه ، بداخلها إناء نظيف للبول. وفي غالب البيوت مكانة (١) كبيرة وثريات وحسك للشموع ، ومرءات كبيرة واحدة أو أكثر في غاية الصفا والمتونة مبنية في الحائط ، حتى أنه من شدة صفائها وطولها [تظهر] لغير المتأمل أنها طريق نافذة. ومن لازم كل بيت من بيوت هذه الدار غراريف (٢) مملوة بالماء ، كل واحد منزل في وسط إناء واسع ، ومعه فويطات صغار نقية مطوية للتنشف بها والتنظيف. وفي غالب البيوت تصاوير وتماثيل من البلدان والأشجار وأشخاص الحيوانات والسفن والبحار وغير ذالك. ولهم بها اعتناء كبير فلا يخلوا منها محل ، وإن كان شيئا قليلا. وقد يكون في هذا البيت غراريف من النوار المصنوعة من الكاغيد ونحوه ، يغطونه بزجاجة ليبقى لونه دائما محفوظا من التغيير. ويوجد في بعضها آلة السنتير (٣) الذي هو من جملة ملاهيهم وأنواع موسيقاتهم.

ومن لازم كل بيت كانون (٤) صغير مبني بالرخام ونحوه على شكل لطيف ، توقد فيه النار بالحطب زمن البرد والشتاء ، وعليه مدخنة نافذة للهواء ، فلا يتأثر البيت بالدخان أصلا لإحكام تلك المدخنة وليبس الحطب ونظافته ، وهذا ضروري لكل بيت رفيعا كان صاحبه أو وضيعا. ويكون في البيت أيضا الدواة والقلم ، وسائر

__________________

(١) جمعها مواكن ، وهي التسمية التي كان المغاربة ولا يزالون يطلقونها على مختلف أنواع الساعات. انظر : أحمد الصبيحي ، معجم إرجاع الدارج في المغرب إلى حظيرة أصله العربي ، تقديم محمد حجي (سلا ، ١٩٩٠) ، مادة «لمكانا» ، ص. ١٦٤ ـ ١٦٥. ويرى محمد ابن عزوز حكيم أن أصلها من الإسبانية (maquina) ، انظر كتابه :

Glosario de quientas voces espanolas usadas entre los marroquies en el arabe vulgar,) Madrid, ٣٥٩١ ((المعرب).

(٢) مفردها غراف ، والمقصود بها هنا أوان يغرف بها الماء ، انظر ٢٠٨ ـ ٢٠٧ : ٢Dozy (المعرب).

(٣) وهو آلة البيانو ، انظر مادة «سنطير» ، ٤٩٦ : ١Dozy.

(٤) وهو المعروف في المغرب بالمجمر أو النافخ حسب الجهات ، وهو من وسائل التدفئة خلال الفصل البارد ومن أدوات الطبخ التقليدية المستعملة لتحضير الطعام على اختلاف أشكاله. انظر :

Harrell, p. ٠٦; L. Brunot, Textes arabes de Rabat, ٢ vol.) Rabat, ٢٥٩١ (, ٢ M ٣٠٧.

أما الكانون الذي أشار إليه الصفار ، فهو المعروف عند الفرنسيين ب (chemine؟e) ، واستعماله مقصور على التدفئة كما هو معروف.

١٢٩

آلات الكتابة. وهذه الذي ذكر هو أثاث بيوتهم كلهم ، وإن اختلفت أوصافه بالجودة وضدها باعتبار الغنى والفقر.

وفي تلك الدار خدمة كثيرون ، رجالا ونساء وطباخون. وقشينة (١) الطبخ محتوية على آلات الطبخ كلها وسائر ما يطبخ. فإذا دخلها الداخل ، أطلعوه لبيت من بيوتها ، فإن كان غرضه الأكل فقط ، فيأمر الخادم يأتيه بما يريد منه من مطبوخات وفواكه وحلاوات وغير ذالك. فإذا فرغ من الأكل وأراد الخروج ، أتاه الخادم بورقة فيها ما يلزمه في ذالك من الثمن. وإن كان غرضه مع ذالك في البيات والإقامة ، يبقى هنالك ما شاء ويختار من البيوت ما أحب ، كل على قدره. وكل ما يريد ياتيه به الخادم ، ولا يحتاج في دعاء الخادم إلى كلفة ، بل ولا إلى تحرك من موضعه. وذالك لأنهم جعلوا داخل كل بيت خيط ولكل خيوط البيوت أو جملة منها اتصال ببعضها بعضا ، فإذا جبذ ذالك الخيط ، وصلت حركته إلى ناقوس ، فيتكلم الناقوس فيأتي الخادم سريعا ، ويعرف من أي بيت هو بعلامة لهم في ذالك.

وبهذا الذي ذكرنا ، يستغني المسافر في هذه البلاد عن حمل الزاد وما عطف عليه ، ومن قانون السفر في هذه البلاد ، أن المسافرين لا يركبون ظهور الدواب بسرج ولا بردعة ولا غير ذالك ، ولا يسافرون على أرجلهم ، إلا إن كان واحدا من العسكر الرجالة أو من الفقراء ، وإنما السفر هنا في الأكداش والكراريص (٢) والخيل تجرها ، وهي على أشكال وأنواع. فمنها شكل مربع يسع أربعة من الناس ، كل اثنين على منصبة متقابلين جالسين ، ويتمكن كل منهم أن يمد رجليه لكن تحت المنصبة المقابلة

__________________

(١) «قشينة» ، وتنطق بالكاف هكذا «كشينة» ، وإن وردت عند الصفار بالقاف ، وأصلها من الإسبانية (cocina) ، أي المطبخ. انظر : ٤٨١ : ٢Dozy.

(٢) مفردها كروصة ، وأصلها من الإسبانية (carroza). وهي عربة ذات عجلات أربع تجرها الخيول ، انظر : ٤٦٤. : ٢Dozy انتبه الرحالة الأربيون أثناء تنقلاتهم عبر أرجاء البلاد المغربية ، خلال القرن التاسع عشر ، إلى غياب وسائل النقل ذات العجلات. وذكر جون دارموندهاي في الصفحات ١٢١ ـ ١٢٢ من كتابه : Western Barbary : Its Wild Tribes and Savage Animals) London, (١٨٦١ أنه شاهد «على جانب الطريق عربة في حالة يرثى لها» ؛ وأضاف قائلا : «وكان شكلها أسوأ من أقدم العربات المصرية التي كنت قد رأيت نموذجا منها بعيد اكتشافها على ضفاف نهر النيل. وكانت تلك وسيلة النقل الوحيدة ذات العجلات التي صادفتها في المغرب».

١٣٠

له لأنه فارغ. وفي جوانبه طاقات بأبواب الزجاج الصافي ، يرى منها الطرق والدنيا والناس. وإن شاء فتحها إن لم يخف من حر ولا برد ولا غبار ونحوه ، وإن خاف من شيء من ذالك أغلقها ويبقى له الضوء والنظر. وعلى كل منصبة مضربة (١) صغيرة ليجلس عليها الجالس. وفيه محال لإنزال بعض الحوائج الخفيفة ، وكله من الخشب الجيد الصافي أرضه وجوانبه وسقفه. فهو في الحقيقة بيت من البيوت ، لا يخاف راكبه من ريح ولا مطر ولا شمس ولا حر ولا برد لأنه داخل بيته. وإن أراد أن يخفي نفسه ولا يعرفه أحد ، فيرخي من داخله على الطاقات ستورا معدة هنالك ، ويطلقها إذا تأذى بشعاع الشمس ونحوه.

وبخارجه من قدام موضع لجلوس الذي يسير الدواب التي تجره ، وبمؤخره خارجه أيضا موضع آخر يجلس فيه خادم معين للمسير أو خديم الراكب ، وارتفاعه من الأرض بمقدار ذراعين (٢) ، وهو مرفوع على كراريط (٣) لطاف تربط من مقدمها بالخيل التي تجر واحدا أو أكثر. وقد يكون ركوب المسير على واحد من الخيل التي تجر ، وبيده سوطه الذي يزجر به الدواب فتعدوا عدوا سريعا ، فيكون مشيه في غاية السرعة يضاهي إغارة الخيل.

ومنها شكل مستطيل يسع عددا كثيرا من الناس قد تكون وجهتهم واحدة ، وقد يكون غرض أحدهم في أثناء الطريق فينزله حيث أراد ، ويحمل غيره من هنالك إن كان. وغالب من يركبه جماعة متئالفون كالرجل وزوجته وأولاده وأقاربه أو هو وأصحاب له ليبقوا مجتمعين في محل واحد. وقد يكون هذا الشكل بطبقتين إحداهما فوق الأخرى ، وقد يكون بقطعات منفصلة من بعضها بعضا. وقد يجعل على ظهره من فوق حوائج المسافر وأمتعته مغطاة بما يكنها من المطر ونحوه. ومنها شكل آخر يسع اثنين فقط وفيها أشكال أخر.

__________________

(١) ويجب قراءتها هكذا «مضربة» بالراء المشددة وهي الفراش الذي قد يستعمله المغاربة للجلوس أو النوم أو لهما معا ، وقد تكون صغيرة أو متوسطة أو كبيرة الحجم حسب الحاجة. (المعرب) ، انظر :

Hans Wehr, p. ٠٤٥.

(٢) «الذراع» ، وحدة عربية للقياس ، وتبلغ حوالي نصف متر.

(٣) مفردها كريطة ، وأصلها من الإسبانية (carreta). وهي العربة الصغيرة ذات العجلتين ، انظر : ١٦٤ : ٢Dozy ، وكذا : الغساني ، افتكاك ، ص. ٣٩.

١٣١

ومنها أشكال أخر لحمل السلع والأثقال ولا سقف لها ، إلا أنهم يغطون السلعة بما يمنع وصول المطر لها بإحكام وإتقان ، بأن يجعلوا عليه أقواسا من رقيق الخشب ، ويمدون عليها ثوبا غليضا من ثياب القلاع ويحبذونه ويسمرونه ، فتصير السلعة في داخله كأنها في وسط الخيمة فلا يصيبها المطر أصلا. ويجعل المسير موضعه تحت هذا الساتر ، فلا يصيبه المطر أيضا. والحاصل أن المطر لا يمنع من السفر في هذه البلاد ، لأنه لا يصيب المسافر ولا أمتعته منه شيء ولا تتأثر به الطريق لما سيذكر.

ومنها ما هو معد لحمل ما ثقل من حجارة وحديد ونحو ذالك ، ويجره الكثير من الخيل المربوط بعضها في بعض ، فيعددون الخيل الجارة على مقدار ثقل المجرور. وليس عندهم في هذا كبير مشقة ولا تعب ، ولو كان المحمول بلغ الغاية في الثقل بحيث يزن القناطير العديدة ، فلا يكون معه إلا شخص واحد يربط الدواب بئالة الجر ويحلها. وأما المحمول فهو لازم لموضعه لا ينزل منه إلا عند منتهى السفر ، ونقله على الأرض تجره الكراريط المربوطة في الدواب. وبهذا يسهل عليهم حمل الأثقال العظيمة بغير كلفة ولا مشقة. ولا يحملون شيئا على ظهور الدواب ، وما تحمله الدابة الوحدة على ظهرها قد تجر أضعافه عشر مرات وحدها بشرط أن تكون الطريق على ما سيذكر.

ومن جملة علومهم التي يتعاطونها علم جر الأثقال ، ولهم فيه تأليف. ولا تسمع في طرقهم إلا دوي الجر وصوت السلاسل التي يربط بها ما ذكر. ومشي الأثقال يكون بالهوينا ، بخلاف مشي كراريص الركاب فإنها في غاية السرعة. والذي سهل لهم ذالك تسطيح الطرق وإصلاحها وتعاهدها ، لهم بها اعتناء كبير وهي عمدتهم في جل الأمور. فالطريق عندهم كأنها سطح بيت لا يوجد فيها خضخاض (١) ولا حفر ولا شوك ولا حجر ولا غير ذالك. ومهما انثلم شيء بادروا بإصلاحه ، فلا يغفلون عن تعاهدها. وفي طريقنا هذه ، ما مررنا على موضع منها إلا وجدنا بجانبي الطريق أكداسا من الحجر يمينا وشمالا أعدت هناك لإصلاحها. وغاية ما يفعلون في ذالك ، أنهم يعمدون إلى تلك الأحجار فيكسرونها حتى تصير ذات شناقيب (٢) ليستحكم

__________________

(١) من الخضخضة وهي تحريك الأشياء بطريقة عنيفة إلى حد ما ، والمقصود بها هنا ذلك التحريك المزعج الذي يحس به المسافر عند التنقل في طريق غير مستوية أو لوجود الحفر بها ، (المعرب).

(٢) جاءت عند دوزي بحرف الغين بدلا من القاف ، مفردها شنغوبة وجمعها شناغيب ، وتستعمل في الحديث عن النتوءات البارزة في الخشب أو الحجر. ٧٩٢ : ١Dozy (المعرب).

١٣٢

التحام بعضها ببعض مع التراب ، فإذا حصل الخلل في موضع منها فرشوا فيه تلك الحجارة وسووها والكراريط تدقها في حال مرورها عليها حتى تصير أصلب ما يكون. وإن كان بجانبها جرف ، بنوا بطرفها وسادة تدعمها. وجل حافتها في كثير من المواضع مغروس بالأشجار العظام تظلل الطريق. وليس لهم نهر ولا خندق ولا حفير ولا خليج إلا عليه قنطرة (١). فما رأينا في طريقنا هذه من يخوض نهرا قط برجله أو دابته. ولا تجد في الطريق شقا أصلا ، كلها مسطحة مستوية ، لا تعثر الدابة ولا الكروصة في شيء منها أصلا. ومن شدة اعتنائهم بها أنا وجدنا في مواضع منها أناسا بيدهم شطاطيب (٢) يسوون بها أثر مشي الكراريط ، ليلا يتتابع مشيها في محل واحد فيصير شقا أو حفرة تتأذى بها الطريق.

ومن اعتنائهم بها أيضا أنهم جعلوا في كل البلدان أو جلها موازين يزنون بها أثقال ما في الكراريص. وبيان كيفيتها أنها دفة غليظة من الخشب مركبة على شيء تحتها ، إذا أحست بالثقل نزلت بقدر ما يكون عليها من الثقل. ولهم رشوم (٣) في

__________________

(١) كانت القناطر نادرة في المغرب خلال أربعينيات القرن التاسع عشر ، وإن كانت تتوفر البلاد على نماذج منها. فقد أشار جون دارموندهاي إلى مروره ، وهو في طريقه إلى مراكش سنة ١٨٤٦ ، على قنطرتين ذوي بناء محكم متين ، تتكون إحداهما من خمسة أقواس وتقع على مقربة من منطقة الشاوية ، قيل إن أعمال بنائها أنجزت على يد أحد الإسبانيين. في حين تتكون الثانية من خمسة وعشرين قوسا ، وتقع قرب مراكش. غير أن عبور جل الوديان والمجاري المائية في المغرب كان لا بد من أن يتم بواسطة المراكب. وذكر دراموندهاي أن عبوره لواد سبو صحبة جماعة من مرافقيه ، قد استنفذ منه يوما كاملا ، إذ «بدأت عملية العبور مباشرة بنقل الخيول والأمتعة دفعة واحدة [...] على متن مركب قديم حالته مزرية جدا [...] وكان الواد عريضا سريع الجريان. ولم يكن يتوفر المركب إلا على مجدافين ، فاستغرقت كل من مراحل العبور أزيد من ساعتين ؛ وبالرغم من شروعنا في عبور الواد مع بداية النهار ، فإننا لم ننته من ذلك إلا مع غروب الشمس.» Hay ,Journal ,p.٠٢

(٢) مفردها شطابة بتشديد الطاء على وزن فعالة : أداة للتشطيب ، وهي المكنسة ، ٧٥٦ : ١Dozy ، (المعرب).

(٣) مفردها رشم ، ومعناها هنا أرقام لتعداد المسافات ، ٥٣٢ : ١Dozy ، (المعرب).

١٣٣

نزول القنطار (١) مثلا وءاخر للقنطارين وءاخر للعشرة مثلا ، وهكذا ، فكلما زاد الثقل زادت اللوحة في الهبوط. فإذا وصلت الكروصة إلى ذالك الموضع ألجئوها للمرور على تلك اللوحة ، فتخرج الخيل وتبقى كراريط الكروصة على تلك اللوحة فتنزل بمقدار الثقل ، فيعرفون كم فيها من وزن. ثم بعد ذالك ينظرون نواعير (٢) الكراريط هل يحمل مثلها ذالك الثقل أم لا. ولهم حد في عرض حاشيتها بقدر ما تحمل من الثقل ، فكلما كان أثقل كانت الحاشية أعرض. وإذا كانت حاشية الناعورة رقيقة والمحمول ثقيل ، أثرت أثرا قويا في الطريق ، فيصير أثرها شقا فيسري منه الفساد للطريق. ولهم في هذا الميزان غرض آخر ، وهو اختبار المحمول هل زاد أو نقص أو لم يزد ولم ينقص لأجل المكوس (٣) التي يؤدونها عند دخولهم البلدان بما يماكس عليه أو

__________________

(١) أصل الكلمة يوناني ، وهي وحدة للوزن تبلغ مائة وتسمى أيضا بالهندردوايت (وفي اللاتينية (centenarium ، وكان يساوي في المغرب ١٠٠ رطل ، أو حوالي ٥٠ كيلو كراما. غير أن وحدة القياس المعتمدة على أساس الرطل تختلف في المغرب من منطقة إلى أخرى ، وأيضا حسب السلعة الموزونة. وبصفة عامة ، عادة ما كان يساوي الرطل حوالي ٥٠٠ كرام ، انظر : Laroui ,Origines ,pp.٩٤ ـ ٠٥ ;Dozy ٢ : ١٢٤.

(٢) مفردها ناعورة ، وهي الأداة العربية المعروفة المستعملة في أعمال الري ، لكن الصفار يعني بها عجلات العربة. ولما كانت عربات النقل ذات العجلات نادرة جدا في المغرب أيام محمد الصفار فإن مصطلح العجلة أيضا كان مجهولا غير متداول ، وبالتالي فكلما دعت الضرورة إلى الحديث عن العجلة اقتصر في ذلك على استعمال لفظة الناعورة ، انظر :

G. S. Colin," La noria marocaine et les machines hydrauliques dans le monde arabe", Hesp. ٤١) ٢٣٩١ (: ٢٣ ـ ٩٤; Thomas Glick, Islamic and Christian Spain in Early Middle Ages) Princeton, ٩٧٩١ (, pp. ٦٣٢ ـ ٩٣٢.

(٣) مفردها مكس ، وهي من الكلف المخزنية المفروضة على السلع عند دخولها أو خروجها من أبواب المدن ، تدخل ضمن الضرائب غير الشرعية. ويقصد الصفار بالمكوس هنا رسوم الدخول المعروفة تحت اسم» l\'octroi «وهي من الواجبات الضريبية التي كان يسمح للبلديات بفرضها على رواج بعض السلع الاستهلاكية. وكانت المكوس المغربية شأنها في ذلك شأن رسوم الدخول الفرنسية مصدرا لكثير من مظاهر التوتر بين المخزن وسكان الحواضر بوجه خاص. المنوني ، مظاهر ١ : ٢٩٧ ـ ٣٠١ ؛ انظر «مكس» في : SEI ,S.V "Maks ". وكذا :

E. Michaux ـ Bellaire," L\'organisation des finances au Maroc", AM ١١) ٧٠٩١ (: ١٨١, ٩٨١, ٦٠٢ ـ ٧٠٢, ٣١٢ ـ ٦١٢.

١٣٤

عند خروجهم ، ليلا يحمل فيها خفية ما لم يدفع عليه مكسا.

ولهم وكلاء ونقباء على الطريق بخصوصها يتعاهدون إصلاحها ويقومون به ، لا شغل لهم إلا ذالك ، والغالب أن تكون دورهم على الطريق. ومن اعتنائهم أنه كلما افترق طريقان ، نصبوا في مفرقهما عمودا فيه لوح مكتوب فيه أين تخرج هذه وأين توصل هذه. وسهولة الطريق سبب في سهولة المقصد. ولهم في جوانبها رشوم بالغباري للأميال (١) ، فحيثما كان المسافر منها يعرف كم مضى له من محل خروجه ، وكم بقي له للمحل الذي يقصده.

ثم إن السفر يتيسر في هذه البلاد ليلا ونهارا من غير مشقة ولا تعب ، وذالك لما عندهم من الأمان التام (٢). فلا يخشى المسافر من لص ولا قاطع طريق ولا متعرض. ولأجل ذالك لا ترى فيهم من يحمل سلاحا قط ، وإنما يحمل السلاح العسكر فقط في حال احتياجه إليه. ولسهولة الطريق فيتمكن الإنسان من المشي فيها كل وقت من ليل أو نهار ، ولو كانت في وسط بلد ، لأن بلدانهم لا تغلق أبوابها اكتفاء بالحراس ، وغالبها لا سور لها ولا أبواب ، ففي أي وقت وصلتها تدخلها.

ولعدم إعياء الدواب وتعبها لأنها تتبدل هي وسائقها في كل ساعة ، ففي

__________________

(١) الميل ، من وحدات قياس المسافة المستعملة عند العرب والأوربيين على السواء. جاء عند ابن خلدون أن الميل يعادل أريعة ألف ذراع ، أي حوالي كيلومترين. ٩٦ : ١Muquaddimah ، ثم الهامش رقم ١٩ من الصفحة نفسها. أما رشوم الغبار ، فهي الأرقام العربية.

(٢) من العلامات الدالة على كفاءة الحكام ، النجاح في ضمان أمن الطرقات وسلامة المتنقلين عبر أرجاء البلاد ، ٢ : ٣Muqaddimah. وكان المسافرون ملزمين بالاعتماد على أحد ممثلي المخزن المحليين لحماية أنفسهم من مخاطر الطرق. وقد أشار جون دارموندهاي إلى أن البادية المغربية «مليئة باللصوص ، فأرغم السلطان قبيلتين أو ثلاثا على نصب الخيام قرب الطريق لحماية المسافرين من شرورهم». انظرJournal ,p.٥٢ ، لكن حينما ينتقل الموكب السلطاني في ما يسمى ب «الحركة» ، يصبح الأمر ممارسة سياسية الهدف منها إثبات وجود السلطة المخزنية : انظر :

J. Dakhlia," Dans la mouvance du prince : la symbolique du pouvoir itine؟rant au Maghreb", Annales : Economies, Socie؟te؟s, Civilisations ٣٤, ٣) mai ـ juin ٨٨٩١ (: ٥٣٧ ـ ٠٦٧.

١٣٥

الطريق إصطبلات (١) ، وتسمى بلغتهم البوسطة فيها خيل كثيرة. إذا وصلها الراكب ترك فيها ما عنده من الخيل وأخذ غيرها مستريحة ، ويذهب معها من هنالك من يسوقها إلى أن يمشي ساعة ونحوها فيجد بوسطة أخرى فتتبدل فيها الخيل وسائقها أيضا وهكذا ، فتبقى الخيل التي تجر دائما مستريحة ويبقى مشيها سريعا لا يتغير. وقد تبدل علينا في ذهابنا من مرسيليا لباريز ما يزيد على ثمانماية فرس ، وكنا بثلاثة أكداش يجرها أحد عشر فرسا ، ثلاثة وثلاثة وأربعة (٢).

ولأن المسافر لا يمنعه السير من النوم لتيسره في الكدش ، وإن لم يكن بأكمله لعدم تمكنه من الامتداد. والسفر قطعة من العذاب كيفما كان ، كما أفصح عنه الحديث الكريم ، فإنه يمنع كمال لذة النوم مع غيره. ولما جلس إمام الحرمين موضع أبيه سئل لم كان السفر قطعة من العذاب ، فأجاب على الفور : لأن فيه فراق الأحبة. ولا يعارض كونه قطعة من العذاب حديث ابن عباس وابن عمر (٣) مرفوعا : سافروا تغنموا ، وفي رواية ترزقوا ، وفي رواية تصحوا. لأنه لا يلزم من الصحة بالسفر لما فيه من الرياضة والغنيمة والرزق أن لا يكون قطعة من العذاب لما فيه من المشقة.

ومن واصل السفر في هذه الطريق ليلا ونهارا ، يصل من مرسيليا في نحو ثلاثة أيام. وبهذا السير تسير البراوات (٤) والمكاتيب من إحداهما للأخرى ، فتصل في ثلاثة أيام أو أقل ، مع أن المسافة بينهما لمن كان راكبا على ظهر الدابة ما يقرب من الشهر.

__________________

(١) مفردها إسطبل ، وأصلها من اللاتينية (stabulum) ، وبالإسبانية (Establo). ٢٦ : ١Dozy ؛ انظر مادة «إسطبل» في : EI ٢ S.V ,"Istabl ".

(٢) وربما أراد الصفار أن يقول هكذا : «تجرها أحد عشر فرسا ثلاثة وأربعة وأربعة» ، حتى يكتمل عدد الإحدى عشر فرسا (المعرب).

(٣) كان ابن عمر وابن عباس من الشخصيات البارزة في صدر الإسلام. وكان ابن عمر المتوفى سنة ٦٩٣ ميلادية هو الولد البكر للخليفة عمر بن الخطاب وأحد صحابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم المقربين. أما عبد الله ابن العباس المتوفى عام ٦٨٧ ميلادية فقد كان ابن عم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد اشتهر بمعرفته العميقة للحديث والشريعة. انظر مادتي «عبد الله بن العباس» و «عبد الله بن عمر بن الخطاب» في : SEI.

(٤) مفردها برية أو برا ، وقد تعني أصنافا متعددة من الوثائق ، كالعقد أو الوصل أو غيره ، لكنها تعني هنا الرسائل العادية التي يبعث بها الأفراد إلى بعضهم عبر البريد ، انظر : ٦٣ : ١Dozy (المعرب).

١٣٦

ومررنا في طريقنا هذه على مدن وقرى ، وأراضى وطاء وجبال وربى. واعلم أن هؤلاء القوم ليس عندهم في مساكنهم أخصاص (١) ، ولا خيم ولا نوايل (٢) ، وإنما يعرفون البناء لا غير. إلا أن بناء البوادي متميز عن بناء الحواضر ، فقراهم في الحقيقة من جملة المدن يوجد فيها ما يوجد في الحاضرة من الأسواق وما يباع فيها وغير ذالك. وقد رأينا في طريقنا هذه ما يشهد شهادة حق لأهل هذه البلاد بالاعتناء التام والتبصر العام بأمور دنياهم وإصلاح معاشهم وإتقان تدبيرهم. فهم جادون كل الجد في عمارة الأرض بالبناء والغرس وغيره ، لا يسلكون في ذالك طريق التساهل ولا يصحبهم فيه تغافل ولا تكاسل. فلا ترى عندهم شيئا من الأرض ضائعا أصلا ، ولا ترى عندهم خرابا ولا أرضا مواتا (٣) حتى أن الأرض التي ترابها رديء ينقلون لها التراب الجيد من أرض أخرى. ويعطون لكل نوع من الأرض ما يستحقه ، فما يصلح للحرث يحرث وما يصلح للغرس يغرس ، ويفرقون أيضا في الغرس بين ما يصلح في الأرض الحارة والباردة وهكذا ، وما يصلح لحفر تراب البناء والحجر يتركونه له وهكذا.

وأشجارهم كلها أو جلها مستنبتة ولو كانت في رؤوس الجبال أو بطون الأودية (٤) ، ولا يحاشون من ذالك موضعا. حتى أنهم يغرسون الأشجار في مجاري

__________________

(١) مفردها الخص ، وجمعها أخصاص وخصوص وخصاص ، وهي البيت المصنوع من القش أو القصب أو من أغصان الشجر. ٣٧٥ : ١Dozy (المعرب).

(٢) مفردها نوالة ، وفي الإسبانية (naguela) ، وهي مسكن من القش أو القصب غالبا ما يوجد في بوادي شمال المغرب. ٧٤٧ ـ ٧٤٦ : ٢Dozy (المعرب).

(٣) لاحظ جون دراموندهاي أثناء تنقلاته أن البادية الممتدة بين مدينتي طنجة والرباط «تكاد تكون خالية من السكان» ، وأضاف مشيرا إلى أن المناطق الممتدة مباشرة في اتجاه الجنوب تتوفر على «بادية ذات مجالات زراعية محروثة حرثا جيدا أفضل مما سبق أن رأيناه إلى ذلك الحين ، [...] حيث بدت لنا حقول ناظرة من القمح والشعير» :

Journal, p. ٤٥ ؛ وانظر أيضا : Laroui ,Origines ,٤٣ ـ ٨٣

(٤) كانت الغابات في المغرب معرضة للخطر بفعل استعمالها المكثف كمجال رعوي : «كان الماعز يبذل قصارى جهده لابتلاع البراعم والنباتات الجديدة ، بينما استمر سكان البلاد في ممارسة عادتهم القبيحة ، وهي تحطيم جذوع الأشجار لاستخدام خشبها في تحضير الفحم ، واستعمال الأغصان الشائكة لتزريب حقولهم» ، انظر : Aubin ,Morocco ,p.٢١.

١٣٧

الخنادق والسيول وحافات الأنهار ، ولا تتأثر بشيء من ذالك ولا يحملها السيل. وذالك لأنهم لا يغفلون عن تعاهدها ، يعالجونها كل وقت بما تستحقه من تنقية وغيرها. وليس اعتناؤهم قاصرا على الأشجار المثمرة ، بل هي عندهم بالنسبة لغيرها قليلة. فغالب أشجارهم لا ثمار لها ، وإنما فائدتها الظل والحطب والخشب. ومما عندهم من الأشجار المثمرة الزيتون بناحية مرسيليا وطولون (١) ، عندهم هناك منه كثير ، وشجره لا يتعاظم عندهم كما يكون بالمغرب (٢) ، بل غالبه يجنبه الإنسان من الأرض ، وهم يتعمدون ردعه فيبقى دائما صغيرا ليعظم حبه ويشتد غصنه. وزيتهم في غاية الحلاوة والصفا ، حتى أنه يضرب المثل بزيت فرانسا فيما ذكر ، ويجلب القليل منه للأقاليم لحلاوته.

وعندهم أيضا كثير من أشجار اللوز ، خصوصا ناحية مرسيليا وما يقرب منها حلوه ومره. واعتناؤهم بالمر كالحلو أو أكثر يستعملونه في حلاوات (٣) ، ويعقدون عليه الصابون وغير ذالك. وعندهم كثير من أشجار اللوز بل الجوز وتوت دود الحرير ، وذكره عندهم أكثر من الأنثى (٤). وعندهم كثير من أشجار التفاح والإجاص والبرقوق ، وحب الملوك والمشماش قليل فيما رأينا. وأما ثماره فلا ينقطع عندهم ، لكن بعد تيبيسه وترقيده بالسكار ، فلا تخطيه مائدة. وكذالك أشجار التين قليلة عندهم ، إنما رأينا منها شيئا يسيرا بناحية مرسيليا وطولون.

.

__________________

(١) ويعني بها مدينة تولون (Toulon).

(٢) ويعني الصفار بتلك التسمية بلاده المعروفة بالمغرب الأقصى وليس بلاد المغرب الكبير ، لأنه يشير إلى بقية بلدانه بأسمائها المعروفة ، وهي الجزائر وإفريقية التي كانت تطلق على تونس. وفيما يتعلق بمسألة شعور المغاربة بالحس الوطني أو بالهوية المغربية ، انظر :

Laroui, Origines, pp. ٧٥ ـ ٩٥.

(٣) يريد الصفار أن يقول الحلويات (المعرب).

(٤) والمقصود به هو شجر التوت. غير أن إشارة الصفار هنا إلى ذكره وأنثاه تظل غير واضحة. وبما أن هناك بعض أشجار التوت غير المثمرة ، فربما هي التي صنفها الصفار من قبيل الذكور ، انظر مادة «التوت» في : Encycloaedia Britannica, ٠٩٩١ ed., s. v." Mulberry".

.

١٣٨

وأشجار اللشين (١) كثيرة عندهم ، لكن يجعلونها في صناديق ونحوها. فإذا كانت أيام الصيف والحر أخرجوها للفضاء ، فإذا جاء البرد والثلج والشتا أدخلوها للبيوت لشدة البرد عندهم خوفا من يبسها. رأينا منها بباريز بيوتا كثيرة ، وهي منزلة فيها على أحسن ترتيب ، ولها طاقات وسقف من الزجاج. فإذا كان يوم مشمش فتحوها ليدخل لها الهواء ، وإذا كان يوم برد أغلقوها ، وتلك الصناديق كبار ، وكذالك الأشجار التي فيها رأينا تاريخ واحدة في صندوقها مر لها فيه ما يزيد على أربعماية سنة. ويدخلون تلك الصناديق ويخرجونها بجر وحركات على ما عهد من حيلهم في ذالك. ولم نر عندهم اللشين مغروسا بالأرض إلا يسيرا منه حوز طولون ، وأخبرونا أن لهم منه أيضا بجزيرة في البحر قبالة طولون (٢) ، وأشجار الرمان عندهم قليلة رأينا منها أيضا في البيوت.

وغالب أشجارهم الصفصاف ونحوه مما يعلوا ويعظم ، وفائدته عندهم الظل أيام الحر ، واستفاد ما يخرج منه من الحطب بالتنقية أو قطعه من أصله. وللحطب عندهم شأن وبال ، وتاجر الحطب عندهم كتاجر الذهب ، لما تقدم من إيقادهم النار في كل بيت دائما أيام البرد. فتجد عندهم ساحات كبار جدا فيها جبال من الحطب ، كله يابس نظيف مقطوع قطعا صغارا نحو الذراع ، ويباع عندهم بالوزن لا بالأحمال. وليس عندهم غابة مباحة للاحتطاب ، بل كل واحد يحتطب من ملكه ويغرس الأشجار في فدانه أو بستانه بقصد ذالك ، وإن كانت غابة فهي مملوكة لأربابها لا مباحة.

ولهم قوانين في قطع الأشجار. منها أن من له غابة يقسمها على مقدار ما تبلغ

__________________

(١) وقد تنطق أيضا بالتاء في بعض جهات المغرب ، هكذا : «اللتشين» ، وهو البرتقال ، من فصيلة الحوامض. وأشارد. هاي إلى كثرة ذلك المنتوج خلال القرن التاسع عشر في أحواز الرباط إلى درجة أن «غلته قد بيعت أحيانا قبل جنيها بما يقارب ١ شلنغ عن كل ألف برتقالة» Journal ,p.٣٤. أما جاكسن ، فذكر أن أحواز مدينة «تطوان كانت تنتج ألذ أصناف البرتقال في العالم على الإطلاق ، هذا فضلا عن التين والعنب والبطيخ والمشمش والبرقوق والتوت والتفاح والإجاص والرمان والأترج والليم» ، انظر : Jackson ,Account ,p.١١.

(٢) ويتعلق الأمر بالجزر الصغيرة المعروفة إما تحت اسم (Iles d\'Hye؟res) أو (Iles d\'or) ، وتقع أمام مرسى تولون مباشرة.

١٣٩

فيه أشجارها ، فإن كانت تبلغ على عشر سنين ، فيقسمها على عشرة أجزاء ، كل عام يقطع جزءا ، أو على ثلاثين فثلاثين وهكذا. بحيث إذا قطع الأخير منها وجد ما كان قطعه أولا بلغ بعد خلفه. ومنها أنه لا يقطع شجرة حتى يوقف عليها من له النظر في ذالك ، فإن كانت تصلح للبيلك (١) للمراكب أو نحوها طبعها بطابعه ، ومتى شاء أخذها لاكن بعد دفع الثمن ، وإن لم تكن تصلح له أباح لربها قطعها بعد أن يؤدي عليها خراجا (٢) معلوما عندهم على الأشجار. والأشجار في أرضهم كثيرة جدا ، لا ترى عن يمينك وشمالك إلا هي. ومع كثرتها لا تجد شيئا من الحطب مجانا حتى السقوط ، بل يحافظون على كبيره وصغيره ولا يضيعون منه شيئا ، ولا يخرجونه من أيديهم إلا بالثمن. ولا يقدر أحد أن يأخذه من تلك غيره بغير إذنه.

ومن جملة قوانينهم التي أسسوها وجعلوها شريعة (٣) من شرائعهم ، أن أرض

__________________

(١) استعمل الصفار هنا لفظة «البيلك» التركية ، ويعني بها الدولة المعروفة في المغرب بتسمية «المخزن» المشهورة. وربما أوحى إليه باستعمالها التراجمة المرافقون لأعضاء البعثة السفارية أثناء وجودها في فرنسا ، والذين سبق لهم أن قضوا مد معينة في الجزائر ؛ كما استعمل مصطلح «البيلك» للإشارة إلى دويلة الأمير عبد القادر المعلن عن قيامها في وهران ، انظر :

Azan, L\'e؟mir Abd el Kader, p. ٣٣١.

(٢) كانت تفرض ضريبة الخراج على الأراضي. وكانت في الأصل من الضرائب المفروضة على غير المسلمين ، لكنها أصبحت تعم المسلمين أيضا. وحسب المذهبي المالكي ، فإن الخراج لم يكن ضريبة بل نوعا من «واجب للكراء» يؤديه الفرد مقابل استغلاله للأرض التي كانت ملكا للجماعة. وبدأ العمل بالخراج في المغرب منذ حوالي القرن الثالث عشر الميلادي ، فأصبح يؤدى منذ ذلك الحين بنوع من الانتظام. لكنه غالبا ما كان يحمل اسم «النائبة». انظر ما كتبه ميشوبلير في المقالتين التاليتين :

" l؟impo؟t de la nai؟ba et la loi musulmane au Maroc", RMM ١١) ٠١٩١ (: ٦٩٣ ـ ٤٠٤. ، وكذا : E Michaux ـ Bellaire," le droit de proprie؟te؟au Maroc", RMM ٧) ٩٠٩١ (: ٥٦٣ ـ ٨٧٣.

(٣) «الشريعة» هي مجمل التعاليم الإسلامية التي نزلت على الرسول عن طريق الوحي. واستعمل الصفار المصطلح نفسه ، شأنه في ذلك شأن الطهطاوي ، للإشارة إلى القوانين الوضعية الفرنسية ، انظر : L\'or ,p.٣٣١ ؛ تلخيص ، ص. ٩٤. كما يستعمل الصفار أيضا مصطلح «قانون» ، ويعني به تقنينات وتنظيمات مختلفة تطبق إلى جانب القوانين الوضعية. ويفرق فقهاء المسلمين بين

١٤٠