الوجيز

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ

الوجيز

المؤلف:

أبي علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ


المحقق: الدكتور دريد حسن أحمد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

سبيل الله ، فتحملوا الأذى لأجل الدين (وَقاتَلُوا) في سبيل الله (وَقُتِلُوا) فيها (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) يعني لأمحونها عنهم ، ولأتفضلن عليهم بعفوي ومغفرتي ورحمتي (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت ابنيتها وأشجارها (ثَواباً) أي جزاء لهم (مِنْ عِنْدِ اللهِ) على أعمالهم (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) أي عنده من حسن الجزاء على الأعمال ما لا يبلغه وصف واصف ، ولا يدركه نعت ناعت ، مما لا رأت عين ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

١٩٦ ـ ١٩٨ ـ (لا يَغُرَّنَّكَ) معناه : لا يغرنك أيها الإنسان أو أيها السامع (تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي تصرفهم (فِي الْبِلادِ) سالمين غانمين غير مؤاخذين باجرامهم ، أعلم الله تعالى أن ذلك مما لا ينبغي أن يغبطوا به لأن مأواهم ومصيرهم إلى النار بكفرهم ، ولا خير بخير بعده النار وقوله : (مَتاعٌ قَلِيلٌ) معناه : تصرفهم في البلاد والنعم متاع قليل ، أي يتنعمون بذلك قليلا ثم يزول ، وسماه متاعا لأنهم متعوا به في الدنيا (ثُمَّ مَأْواهُمْ) أي مصيرهم ومرجعهم (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي ساء المستقر هي. ثم أعلم تعالى أن من أراد الله واتقاه فله الجنة فقال : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) لكن للإستدراك فيكون بخلاف المعنى المتقدم ، فمعناه : ليس للكفار عاقبة خير ، إنما هي للمؤمنين المتقين الذين اتقوا ربهم بفعل الطاعات ، وترك المعاصي (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) بين سبحانه ما يصيرون إليه من النعيم المقيم في دار القرار المعدة للأبرار ، والنزل : ما يعد للضيف من الكرامة والبر والطعام والشراب (وَما عِنْدَ اللهِ) من الثواب والكرامة (خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) مما يتقلب فيه الذين كفروا لأن ذلك عن قريب سيزول ، وما عند الله دائم لا يزول.

١٩٩ ـ لما ذمّ تعالى أهل الكتاب فيما تقدم ، وصف طائفة منهم بالإيمان وإظهار الحق والصدق فقال : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي من اليهود والنصارى (لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) أي يصدق بالله ، ويقر بوحدانيته (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) أيها المؤمنون وهو القرآن (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) وهو التوراة والإنجيل (خاشِعِينَ لِلَّهِ) أي خاضعين له ، مستكينين له بالطاعة ، متذللين بها (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي لا يأخذون عوضا يسيرا على تحريف الكتاب ، وكتمان الحق من الرشى والمأكل كما فعله غيرهم ممن وصفهم تعالى في قوله : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ، ولكن ينقادون إلى الحق يعملون بما أمرهم الله به ، وينتهون عما نهاهم عنه ثم قال : (أُولئِكَ) يعني هؤلاء الذين وصفناهم (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) معناه : لهم ثواب أعمالهم ، وأجر طاعاتهم عند الله مذخور ، حتى يوفيهم الله يوم القيامة (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) وصف الحساب بالسرعة لأنه تعالى لا يؤخر الجزاء عمن يستحقه بطول الحساب ، لأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ، فلا حاجة به إلى إحصاء عدد.

٢٠٠ ـ لما حكى الله تعالى أحوال المؤمنين والكافرين فيما تقدم حث بعد ذلك على الصبر على الطاعة ، ولزوم الدين في الجهاد في سبيل الله فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا الله ورسوله (اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا) معناه : اصبروا على طاعة الله وعن معاصيه وقاتلوا العدو واصبروا على قتالهم في الحق كما يصبرون على قتالكم في الباطل (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) معناه : اتقوا عذاب الله بلزوم أمره ، واجتناب نهيه ، لكي تظفروا وتفوزوا بنيل المنية ، ودرك البغية ، والوصول إلى النجح في الطلبة.

١٠١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النساء مدنية

عدد آياتها مائة وست وسبعون آية

١ ـ ابتدأ الله سبحانه هذه السورة بالموعظة والأمر بالتقوى فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) وهو خطاب للمكلفين من جميع البشر (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) معناه : اتقوا مخالفة ربكم بترك ما أمر به ، وارتكاب ما نهى عنه. وقوله : (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) المراد بالنفس هنا آدم عند جميع المفسرين (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) يعني حواء عليها‌السلام. روي عن أبي جعفر الباقر (ع): أن الله تعالى خلق حواء من فضل الطينة التي خلق منها آدم (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً) أي نشر وفرّق من هاتين النفسين على وجه التناسل رجالا (وَنِساءً) وإنما منّ علينا تعالى بأن خلقنا من نفس واحدة لأنه أقرب إلى أن يعطف بعضنا على بعض ، ويرحم بعضنا بعضا لرجوعنا جميعا إلى أصل واحد ، ولأن ذلك أبلغ في القدرة ، وأدلّ على العلم والحكمة (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) تطلبون حقوقكم وحوائجكم فيما بينكم به (وَالْأَرْحامَ) معناه : واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، وهذا يدل على وجوب صلة الرحم (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) أي حافظا ، وعالما بما صدر منهم لم يعزب عنه من ذلك شيء.

٢ ـ لمّا أمر الله سبحانه بالتقوى وصلة الأرحام عقّبه بباب آخر من التقوى وهو توفير حقوق اليتامى فقال : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) وهذا خطاب لأوصياء اليتامى ، أي اعطوهم أموالهم بالإنفاق عليهم في حال الصغر ، وبالتسليم إليهم عند البلوغ إذا أونس منهم الرشد (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) معناه : لا تستبدلوا ما حرّمه الله تعالى عليكم من أموال اليتامى بما أحلّه الله لكم من أموالكم ، واختلف في صفة التبديل فقيل : كان أوصياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتيم ، والرفيع منه ، ويجعلون مكانه الخسيس والرديء (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) أي مع أموالكم ومعناه : ولا تضيفوا أموالهم إلى أموالكم فتأكلوهما جميعا (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) أي اثما عظيما.

٣ ـ ٤ ـ (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا) أي لا تنصفوا ولا تعدلوا يا معاشر أولياء اليتامى (فِي الْيَتامى) نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليّها فيرغب في مالها وجمالها ، ويريد أن ينكحها بدون صداق مثلها ، فنهوا أن ينكحوهن إلّا أن يقسطوا لهن في إكمال مهور أمثالهن (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) أي ما حلّ لكم (مِنَ النِّساءِ) أي الحلال منهن ، أي من اللاتي يحلّ نكاحهن دون المحرمات اللاتي ذكرن في قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) الآية ، ويكون تقديره : إن خفتم أن لا تعدلوا في نكاح اليتامى ان نكحتموهن فانكحوا البوالغ من النساء ، وذلك أنه إن وقع حيف في حق البوالغ أمكن طلب المخلص منهن بتطييب نفوسهن ، والتماس تحليلهن ، لأنهن من أهل التحليل وإسقاط الحقوق ، بخلاف اليتامى فإنه إن وقع حيف في حقهن لم يمكن المخلص منه لأنهن لسن من أهل التحليل ، ولا من أهل إسقاط الحقوق ، قوله : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) معناها : اثنتين اثنتين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا ، قال الصادق (ع): لا يحل لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) بين الأربع أو الثلاث في القسم أو النفقة وسائر وجوه التسوية (فَواحِدَةً) أي فتزوجوا واحدة (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي واقتصروا على الاماء حتى لا تحتاجوا إلى القسم بينهن لأنهن لا حق لهن في القسم (ذلِكَ) إشارة إلى العقد على الواحدة مع الخوف من الجور فيما زاد عليها

١٠٢

(أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) أي أقرب أن لا تميلوا أو تجوروا وقيل : كان الرجل قبل نزول هذه الآية يتزوج بما شاء من النساء وقوله : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) معناه : واعطوا النساء مهورهن عطية من الله ، وذلك أن الله تعالى جعل الإستمتاع مشتركا بين الزوجين ، ثم أوجب لها بإزاء الاستمتاع مهرا على زوجها فذلك عطية من الله للنساء وقيل : أراد بنحلة : فريضة مسماة (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) خطاب للأزواج معناه : فإن طابت نفوسهن بهبة شيء من الصداق (فَكُلُوهُ) أي كلوا الموهوب لكم (هَنِيئاً مَرِيئاً) فالهنيء الطيب المساغ الذي لا ينقصه شيء ، والمريء : المحمود العاقبة ، التام الهضم ، الذي لا يضر ولا يؤذي.

٥ ـ لمّا أمر تعالى فيما تقدّم بدفع مال الأيتام إليهم عقّبه بذكر من لا يجوز الدفع إليه منهم وقال : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ) أي لا تعطوا السفهاء (أَمْوالَكُمُ) إنها عام في كل سفيه من صبي أو مجنون أو محجور عليه للتبذير (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) أي أموالكم التي جعلها الله قواما لمعاشكم ومعادكم ، تقيمكم فتقومون بها قياما (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) يريد لا تؤتوهم أموالكم التي تملكونها ولكن ارزقوهم منها إن كانوا ممن يلزمكم نفقته واكسوهم (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) أي تلطفوا لهم في القول.

٦ ـ (وَابْتَلُوا الْيَتامى) هذا خطاب لأولياء اليتامى ، أمرهم الله أن يختبروا عقول اليتامى في افهامهم ، وصلاحهم في أديانهم ، واصلاحهم في أموالهم (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) معناه : حتى يبلغوا الحدّ الذي يقدرون معه على المواقعة وينزلون (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) معناه : فإن وجدتم منهم رشدا أو عرفتموه ، واختلف في معنى قوله : رشدا فقيل : عقلا ودينا وصلاحا (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) خطاب لأولياء اليتيم ، وهو تعليق لجواز الدفع بالشرطين : البلوغ وإيناس الرشد ، فلا يجوز الدفع قبلهما (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً) أي بغير ما أباحه الله لكم (وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) أي ومبادرة لكبرهم معناه : لا تبادروا بأكل مالهم حذرا أن يبلغوا فيلزمكم تسليم المال إليهم (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) أي من كان غنيا من الأولياء فليستعفف بماله عن أكل مال اليتيم (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) ومعناه : من كان فقيرا فليأخذ من مال اليتيم قدر الحاجة والكفاية على جهة القرض وقيل معناه : يأخذ قدر ما يسدّ به جوعته ، ويستر عورته لا على جهة القرض (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) وهذا خطاب أيضا لأولياء اليتيم ، إي إذا دفعتم إلى اليتامى أموالهم بعد البلوغ فاحتاطوا لأنفسكم بالإشهاد عليهم كي لا يقع منهم جحود ، وتكونوا أبعد من التهمة ، فانظر إلى حسن نظر الله لليتامى وللأوصياء ، وكمال لطفه بهم ورحمته لهم ، وإنعامه عليهم ، وكذلك نظره ولطفه بجميع عباده في أمور معاشهم ومعادهم (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) أي شاهدا على دفع المال إليهم ، وكفى بعلمه وثيقة.

٧ ـ (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) أي حظ وسهم (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) أي من تركة الوالدين والأقربين (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) أي وللنساء من قرابة الميت حصة ، وسهم من تركته (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) أي من قليل التركة وكثيرها (نَصِيباً مَفْرُوضاً) أي حظا فرض الله تسليمه إلى مستحقيه لا محالة.

٨ ـ (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) معناه : إذا شهد قسمة الميراث (أُولُوا الْقُرْبى) أي فقراء قرابة الميت (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ) أي ويتاماهم ومساكينهم يرجون أن تعودوا عليهم (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) أي اعطوهم من التركة قبل القسمة شيئا ، واختلف في المخاطبين بقوله : فارزقوهم على قولين

١٠٣

(احدهما) أن المخاطب بذلك الورثة ، أمروا بأن يرزقوا المذكورين إذا كانوا لا سهم لهم في الميراث والآخر : أن المخاطب بذلك من حضرته الوفاة وأراد الوصية ، فقد أمر بأن يوصي لمن لا يرثه من المذكورين بشيء من ماله (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) أي حسنا غير خشن. والقول المعروف أن يدعو لهم بالرزق والغنى وما أشبه ذلك.

٩ ـ ١٠ ـ (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً) الأمر في الآية لولي مال اليتيم يأمره بأداء الأمانة فيه ، والقيام بحفظه كما لو خاف على مخلفيه إذا كانوا ضعافا ، وأحب أن يفعل بهم فيكون معناه : من كان في حجره يتيم فليفعل به ما يحبّ أن يفعل بذريته من بعده (خافُوا عَلَيْهِمْ) معناه : خافوا من جفاء يلحقهم ، أو ظلم يصيبهم ، أو غضاضة أو ضعة (فَلْيَتَّقُوا اللهَ) أي فليتق كل واحد من هؤلاء في يتامى غيره أن يجفوهم ويظلمهم ، وليعاملهم بما يحب أن يعامل به يتاماه بعد موته (وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) أي مصيبا عدلا موافقا للشرع والحق. ثم أوعد الله آكلي مال اليتيم نار جهنم وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) أي ينتفعون بأموال اليتامى ويأخذونها ظلما بغير حق ، وفائدة تخصيص الأكل بالذكر أنه معظم منافع المال المقصودة ، وفائدة تخصيص الأكل بالذكر أنه معظم منافع المال المقصودة ، فذكره الله تنبيها على ما في معناه من وجوه الإنتفاع ، وقوله : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) قيل : ان النار ستلتهب من أفواههم وأسماعهم وآنافهم يوم القيامة ليعلم أهل الموقف أنهم أكلة أموال اليتامى ، وروي عن الباقر أنه قال : قال رسول الله (ص) يبعث ناس من قبورهم يوم القيامة تأجّج أفواههم نارا فقيل له : يا رسول الله من هؤلاء؟ فقرأ هذه الآية (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) أي سيلزمون النار المسعّرة للإحراق ، وإنما ذكر البطون تأكيدا كما يقال : نظرت بعيني ، وقلت بلساني ، وأخذت بيدي ، ومشيت برجلي.

١١ ـ (يُوصِيكُمُ اللهُ) أي يامركم ويفرض عليكم ، لأن الوصية منه تعالى أمر وفرض يدل على ذلك قوله : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) ، وهذا من الفرض المحكم علينا (فِي أَوْلادِكُمْ) أي في ميراث أولادكم ثم بيّن ما أوصى به فقال (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) أي للابن من الميراث مثل نصيب البنتين ، ثم ذكر نصيب الإناث من الأولاد فقال : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) أي فإن كانت المتروكات أو الأولاد نساء فوق اثنتين (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) من الميراث. (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) مما ترك الميّت ثم ذكر ميراث الوالدين فقال : (وَلِأَبَوَيْهِ) يعني بالأبوين الأب والأم (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) فللأب السدس مع الولد ، وكذلك الأم لها السدس معه ذكرا كان أو أنثى ، واحدا كان أو أكثر (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ) يعني للميت (وَلَدٌ) أي ابن ولا بنت ولا أولادهما ، لأن اسم الولد يعم الجميع (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) وظاهر هذا يدل على أن الباقي للأب وفيه إجماع ، فإن كان في الفريضة زوج فإن له النصف ، وللأم الثلث ، والباقي للأب ، وهو مذهب ابن عباس وأئمتنا (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) قال أصحابنا : إنما يكون لها السدس إذا كان هناك أب ، ويدل عليه ما تقدمه من قوله : وورثه أبواه (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) أي تقسم التركة على ما ذكرنا بعد قضاء الديون ، وإقرار الوصية ، ولا خلاف في أن الدين مقدم على الوصية والميراث وإن أحاط بالمال ، فأما الوصية فقد قيل : إنها مقدمة على الميراث وقيل : بل الموصى له شريك الوارث له الثلث ولهم الثلثان (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ

١٠٤

أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) معناه : لا تدرون أي هؤلاء أنفع لكم في الدنيا فتعطونه من الميراث ما يستحق ، ولكن الله قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أي فرض الله ذلك فريضة (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) أي لم يزل عليما بمصالحكم ، حكيما فيما يحكم به عليكم في هذه الأموال.

١٢ ـ ثم خاطب الله الأزواج فقال : (وَلَكُمْ) أيها الأزواج (نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) أي زوجاتكم (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) لا ذكر ولا أنثى ولا ولد ولد (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ) أي من ميراثهن (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) قد مرّ تفسيره (وَلَهُنَ) أي ولزوجاتكم (الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) من الميراث (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ) واحدة كانت الزوجة أو اثنتين أو ثلاثا أو أربعا ، لم يكن لهن أكثر من ذلك (فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ) ذكر أو أنثى أو ولد ولد (فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) من الميراث واحدة ، كانت الزوجة أو أكثر من ذلك (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها) أيها الأزواج (أَوْ دَيْنٍ) وقد مرّ في ما مضى بيان ميراث الأزواج (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) هو من عدا الوالد والولد ، والكلالة الإخوة والأخوات ، والمذكور في هذه الآية من كان من قبل الأم منهم ، والمذكور في آخر السورة من كان منهم من قبل الأب والأم ، أو من قبل الآباء (أَوِ امْرَأَةٌ) معناه : وإن كان رجل كلالة يورث ماله ، أو امرأة كلالة تورث مالها ، فالكلالة في النسب : من أحاط بالميت وتكلله من الاخوة والأخوات ، والولد والوالد ليسا بكلالة لأنهما أصل النسب الذي ينتهي إلى الميت ، ومن سواهما خارج عنهما ، قوله : (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) يعني الأخ أو الأخت من الأم (فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) جعل الذكر والأنثى ها هنا سواء ، ولا خلاف بين الأمة أن الاخوة والأخوات من قبل الأم متساوون في الميراث (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ) مرّ بيانه (غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) منع الله من الضرار في الوصية ، أي غير موص وصية تضر بالورثة ، وقيل أراد غير مضار في الميراث ، كره سبحانه الضرار في الحياة وبعد الممات وتقديره : لا يضار بعض الورثة بعضا وقيل : هو أن يوصي بدين ليس عليه يريد بذلك ضرر الورثة ، فالضرار في الوصية راجع إلى الميراث ، وهو أن يضرّ في وصيته بماله أو بعضه لأجنبي ، أو يقر بدين لا حقيقة له دفعا للميراث عن وارثه ، أو يقر باستيفاء دين له في مرضه ، أو ببيع ماله في مرضه واستيفاء ثمنه لئلا يصل إلى وارثه ، وجاء في الحديث ان الضرار في الوصية من الكبائر (وَاللهُ عَلِيمٌ) بمصالح عباده ، يحكم بما توجب الحكمة في قسمة الميراث والوصايا وغيرها (حَلِيمٌ) لا يعاجل العصاة بالعقوبة ، ويمن عليهم بالإنتظار والمهلة.

١٣ ـ ١٤ ـ لما فرض الله فرائض المواريث عقّبها بذكر الوعد في الإئتمار لها ، والوعيد على التعدي لحدودها فقال : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي هذه التي بينت في أمر الفرائض وأمر اليتامى حدود الله ، أي الأمكنة التي لا ينبغي أن تتجاوز (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما أمر به من الأحكام ، وقيل : فيما فرض له من فرائض المواريث (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي من تحت أشجارها وأبنيتها (الْأَنْهارُ) أي ماء الأنهار (خالِدِينَ فِيها) أي دائمين فيها (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي الفلاح العظيم ، وصفه بالعظيم ولم يبين بالإضافة إلى ماذا ، والمراد أنه عظيم بالإضافة إلى منفعة الحيازة في التركة من حيث كان أمر الدنيا حقيرا بالإضافة إلى أمر الآخرة (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما بيّنه من الفرائض وغيرها (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) أي

١٠٥

ويتجاوز ما حدّ له من الطاعات (يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً) أي دائما (فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) سماه مهينا لأن الله يفعله على وجه الإهانة ، كما أنه يثيب المؤمن على وجه الكرامة.

١٥ ـ ١٦ لمّا بين سبحانه حكم الرجال والنساء في باب النكاح والميراث ، بين حكم الحدود فيهن إذا ارتكبن الحرام فقال : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) أي يفعلن الزنا (مِنْ نِسائِكُمْ) الحرائر فالمعنى : اللاتي يزنين (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) أي من المسلمين ، يخاطب الحكام والأئمة ويأمرهم بطلب أربعة من الشهود في ذلك عند عدم الإقرار وقيل : هو خطاب للأزواج في نسائهم ، أي فاشهدوا عليهن أربعة منكم (فَإِنْ شَهِدُوا) يعني الأربعة (فَأَمْسِكُوهُنَ) أي فاحبسوهن (فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) أي يدركهن الموت فيمتن في البيوت ، وكان في مبدأ الإسلام إذا فجرت المرأة وقام عليها أربعة شهود حبست في البيت أبدا حتى تموت ، ثم نسخ ذلك بالرجم في المحصنين ، والجلد في البكرين (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) قالوا : لما نزل قوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، قال النبي (ص): خذوا عني خذوا عني ، قد جعل الله لهنّ سبيلا ، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) أي يأتيان الفاحشة (فَآذُوهُما) انه التعيير والتوبيخ (فَإِنْ تابا) رجعا عن الفاحشة (وَأَصْلَحا) العمل فيما بعده (فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) أي اصفحوا عنهما ، وكفوا عن أذاهما (إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) يقبل التوبة عن عباده ويرحمهم.

١٧ ـ ١٨ ـ لمّا وصف تعالى نفسه بالتّواب الرحيم بيّن عقيبه شرائط التوبة فقال : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ) معناه : لا توبة مقبولة (عَلَى اللهِ) أي عند الله إلا (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) ان كل معصية يفعلها العبد جهالة وان كان على سبيل العمد ، لأنه يدعو إليها الجهل ويزينها للعبد وهو المروي عن أبي عبد الله فإنه قال : كل ذنب عمله العبد وإن كان عالما فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربه ، فقد حكى الله تعالى قول يوسف لاخوته : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) ، فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله ومعنى يتوبون من قريب : أي يتوبون قبل الموت ، لأن ما بين الإنسان وبين الموت قريب فالتوبة مقبولة قبل اليقين بالموت والقريب ما لم يعاين الموت (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بمصالح العباد (حَكِيماً) فيما يعاملهم به (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ) التوبة المقبولة التي ينتفع بها صاحبها (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أي المعاصي ويصرون عليها ، ويسوّفون التوبة (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) أي أسباب الموت من معاينة ملك الموت ، وانقطاع الرجاء عن الحياة ، وهو حال اليأس التي لا يعلمها أحد غير المحتضر (قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) أي فليس عند ذلك اليأس التوبة ، واجمع أهل التأويل على أن هذه قد تناولت عصاة أهل الإسلام (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) ومعناه : وليست التوبة أيضا للذين يموتون على الكفر ثم يندمون بعد الموت (أُولئِكَ أَعْتَدْنا) أي هيأنا (لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي موجعا.

١٩ ـ لما نهى الله فيما تقدم عن عادات أهل الجاهلية في أمر اليتامى والأموال ، عقبّه بالنهي عن الإستنان بسنتهم في النساء فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي يا أيها المؤمنون (لا يَحِلُّ لَكُمْ) لا يسعكم في دينكم (أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ) أي نكاح النساء (كَرْهاً) أي على كره منهن وقيل : ليس لكم ان تحبسوهن على كره منهن طمعا في ميراثهن وقيل : ليس لكم أن تسيئوا صحبتهن ليفتدين بما لهن ، أو بما سقتم اليهن من مهورهن ، أو ليمتن فترثوهن (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) أي وان لا تحبسوهن وقيل : ولا تمنعوهنّ عن النكاح (لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) انه الزوج أمره الله

١٠٦

بتخلية سبيلها إذا لم يكن له فيها حاجة ، وأن لا يمسكها اضرارا بها حتى تفتدي ببعض مالها (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي ظاهرة ، وقيل فيه قولان : (أحدهما) انه يعني إلّا أن يزنين (والآخر) أن الفاحشة النشوز (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي خالطوهن بما أمركم الله به من اداء حقوقهن التي هي النصفة في القسم ، والنفقة وقيل : المعروف : أن لا يضر بها ، ولا يسيء القول فيها ، ويكون منبسط الوجه معها (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ) أي كرهتم صحبتهن وامساكهن (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ) أي في ذلك الشيء وهو امساكهن على كره منكم (خَيْراً كَثِيراً) من ولد يرزقكم ، أو عطف لكم عليهن بعد الكراهة ، فعلى هذا يكون المعنى : ان كرهتموهن فلا تعجلوا طلاقهن لعل الله يجعل فيهنّ خيرا كثيرا ..

٢٠ ـ ٢١ ـ (وَإِنْ أَرَدْتُمُ) أيها الأزواج (اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ) أي اقامة امرأة مقام امرأة (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَ) أي أعطيتم المطلقة التي تستبدلون بها غيرها (قِنْطاراً) أي مالا كثيرا على ما قيل فيه من انه ملء مسك ثور ذهبا (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ) أي من المؤتى ، أي المعطى (شَيْئاً) أي لا ترجعوا فيما اعطيتموهن من المهر إذا كرهتموهن وأردتم طلاقهن (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) هذا استفهام انكاري ، أي ظاهرا لا شك فيه والمعنى : إن أردتم تخلية المرأة سواء استبدلتم مكانها أخرى أم لم تستبدلوا فلا تأخذوا مما آتيتموها شيئا (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ) وهذا تعجيب من الله تعالى وتعظيم ، أي عجبا من فعلكم كيف تأخذون ذلك منهن؟ (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) وهو كناية عن الجماع (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) الميثاق الغليظ هو العهد المأخوذ على الزوج حالة العقد من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.

٢٢ ـ لما تقدم ذكر شرائط النكاح عقّبه تعالى بذكر من تحل له من النساء ومن لا تحل فقال : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) أي لا تتزوجوا ما تزوج آباؤكم (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) فاجتنبوه ودعوه (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) أي زنا (وَمَقْتاً) أي بغضا ، يعني يورث بغض الله (وَساءَ سَبِيلاً) أي بئس الطريق ذلك النكاح الفاسد.

٢٣ ـ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) التقدير : حرّم عليكم نكاح أمهاتكم وكل امرأة رجع نسبك إليها بالولادة من جهة أبيك ، أو من جهة أمك (وَبَناتُكُمْ) أي ونكاح بناتكم ، وكل امرأة رجع نسبها إليك بالولادة فهي بنتك (وَأَخَواتُكُمْ) هي جمع الأخت وكل أنثى ولدها شخص ولدك (وَعَمَّاتُكُمْ) هي جمع العمة ، وكل ذكر رجع نسبك إليه فأخته عمتك (وَخالاتُكُمْ) وهي جمع الخالة ، وكل أنثى رجع نسبك إليها بالولادة فأختها خالتك (وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ) فهذا أيضا كالتحديد في بنات الصلب ، وهؤلاء السبع هنّ المحرمات بالنسب ثم ذكر سبحانه المحرمات بالسبب فقال : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) سماهن أمهات للحرمة ، وكل أنثى انتسبت إليها باللبن فهي أمك (وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) يعني بنات المرضعة كل من تحرم بالنسب من اللاتي مضى ذكرهن تحرم أمثالهن بالرضاع (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) أي حرم عليكم نكاحهن وهذا يتضمن تحريم نكاح أمهات الزوجات وجداتهن (وَرَبائِبُكُمُ) يعني بنات نسائكم من غيركم (اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) وهو جمع حجر الإنسان والمعنى : في ضمانكم وتربيتكم ، ولا خلاف بين العلماء ان كونهن في حجره ليس بشرط في التحريم وإنما ذلك لأن الغالب انها تكون كذلك ، وهذا يقتضي تحريم بنت المرأة من غير زوجها على زوجها ، وتحريم بنت إبنها ، وبنت بنتها ، قربت أم بعدت لوقوع إسم الربيبة عليهن (مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) وهذه نعت لأمهات الربائب لا غير ، لحصول الإجماع على أن

١٠٧

الربيبة تحل اذا لم يدخل بأمها. قال المبرد : واللاتي دخلتم بهن نعت للنساء اللواتي هن أمهات الربائب لا غير ، والدليل على ذلك إجماع الناس على أن الربيبة تحل إذا لم يدخل بأمها ، ومن أجاز أن يكون قوله : (مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) ، هو لأمهات نسائكم فيكون المعنى : وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ، ويخرج أن يكون اللاتي دخلتم بهن لأمهات الربائب. قال الزجاج : والدليل على صحة ذلك : ان الخبرين إذا اختلفا لم يكن نعتهما واحدا ، لا يجيز النحويون مررت بنسائك ، وهربت من نساء زيد الظريفات ، على أن تكون الظريفات نعتا لهؤلاء النساء وهؤلاء النساء. واختلف في معنى الدخول على قولين (أحدهما) ان المراد به الجماع (والآخر) انه الجماع وما يجري مجراه من المسيس والتجريد (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَ) يعني بأم الربيبة (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أي لا اثم عليكم في نكاح بناتهن إذا طلقتموهن أو متن (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) أي وحرّم عليكم نكاح أزواج أبنائكم (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) أي وحرّم عليكم الجمع بين الأختين (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) معناه : لكن ما قد سلف لا يؤاخذكم الله به ، وليس المراد به أن ما قد سلف حال النهي يجوز استدامته بلا خلاف ، والمراد : لا يؤاخذكم الله بحكم ما قد سلف من هذه الأنكحة قبل نزول التحريم قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً) يغفر الذنوب (رَحِيماً) يرحم العباد المؤمنين.

٢٤ ـ (وَالْمُحْصَناتُ) أي وحرمت عليكم اللاتي أحصن (مِنَ النِّساءِ) المراد به ذوات الأزواج (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) من سبي من كان لها زوج (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) يعني كتب الله تحريم ما حرم ، وتحليل ما حلل عليكم كتابا فلا تخالفوه وتمسكوا به ، وقوله : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) معناه أحل لكم ما وراء ذات المحارم من أقاربكم (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) أي متزوجين غير زانين (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) المراد به نكاح المتعة ، وهو النكاح المنعقد بمهر معين ، إلى أجل معلوم (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) قال السدي : معناه : لا جناح عليكم فيما تراضيتم به من إستئناف عقد آخر بعد انقضاء مدة الأجل المضروب في عقد المتعة (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بما يصلح أمر الخلق (حَكِيماً) فيما فرض لهم.

٢٥ ـ ثم بيّن تعالى نكاح الإماء فقال : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) أي لم يجد منكم غنى (أَنْ يَنْكِحَ) أي يتزوج (الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) أي الحرائر المؤمنات أي لا يقدر على شيء مما يصلح لنكاح الحرائر من المهر والنفقة (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي فلينكح مما ملكت ايمانكم (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) أي امائكم فإن مهور الإماء أقل ، ومؤنتهن أخف في العادة (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) أراد بهذا بيان انه لم يؤخذ علينا إلا بأن نأخذ بالظاهر في هذا الحكم ، إذ لا سبيل لنا إلى الوقوف على حقيقة الإيمان ، والله هو المنفرد بعلم ذلك ولا يطلع عليه غيره (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) المراد به : كلكم ولد آدم فلا تستنكفوا من نكاح الإماء فإنهن من جنسكم كالحرائر (فَانْكِحُوهُنَ) يعني الفتيات المؤمنات ، أي تزوجوهن (بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) أي بأمر سادتهن ومواليهن (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي أعطوا مالكهن مهورهن (بِالْمَعْرُوفِ) أي بما لا ينكر في الشرع ، وهو ما تراضى عليه الأهلون ووقع عليه العقد (مُحْصَناتٍ) أي عفائف ، يريد تزوجوهن عفائف (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) أي غير زوان (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) أي اخلاء في السر ، لأن الرجل منهم كان

١٠٨

يتخذ صديقة فيزني بها (فَإِذا أُحْصِنَ) معناه : فإذا زوجن فاحصنهن أزواجهن ، وهو بمعنى تزوجن (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ) أي زنين (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) أي نصف ما على الحرائر من حد الزنا ، وهو خمسون جلدة ، نصف حد الحرة و (ذلِكَ) إشارة إلى نكاح الأمة عند عدم الطول (لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) يعني الزنا ، وهو أن يخاف أن تحمله شدة الشبق على الزنا فيلقى الحد في الدنيا ، والعذاب في الآخرة (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) معناه : وصبركم عن نكاح الإماء وعن الزنا خير لكم (وَاللهُ غَفُورٌ) لذنوب عباده (رَحِيمٌ) بهم.

٢٦ ـ ٢٨ ـ ثم بيّن تعالى بعد التحليل والتحريم انه يريد بذلك مصالحنا ومنافعنا ، فقال الله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) أحكام دينكم ودنياكم ، وأمور معاشكم ومعادكم (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يهديكم إلى طريق الذين كانوا من قبلكم من أهل الحق والباطل لتكونوا مقتدين بهم ، متبعين آثارهم لما لكم فيه من المصلحة (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) أي يريد التوبة عليكم بالدعاء إليها والحثّ عليها (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) مرّ تفسيره (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) يريد أن يوفقكم للتوبة ، ويقوي دواعيكم إليها (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ) المعني بذلك جميع المبطلين فإن كل مبطل متبع شهوة نفسه في باطله (أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) أي تعدلوا عن الإستقامة عدولا بينا بالإستكثار من المعصية ، وذلك أن الإستقامة هي المؤدية إلى الثواب والفوز من العقاب ، والميل عنها يؤدي إلى الهلاك واستحقاق العذاب وإنما قال تعالى : (مَيْلاً عَظِيماً) ، لأن العاصي يأنس بالعاصي كما يأنس المطيع بالمطيع ويسكن الشكل إلى الشكل ويألف به ، ولأن العاصي يريد مشاركة الناس إياه في المعصية ليسلم عن ذمهم وتوبيخهم ، ونظيره قوله تعالى : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) ، ودوا لو تكفرون كما كفروا وعلى هذا جبلت القلوب (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) يعني في التكليف في أمر النساء ، والنكاح باباحة نكاح الإماء (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) يستميله هواه وشهواته ويستشيطه خوفه وحزنه.

٢٩ ـ ٣٠ ـ لما بيّن سبحانه تحريم النساء على غير الوجوه المشروعة ، عقبّه بتحريم الأموال في الوجوه الباطلة فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدّقوا الله ورسوله (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ) ذكر الأكل وأراد سائر التصرفات وإنما خصّ الأكل لأنه معظم المنافع (بِالْباطِلِ) إنه الربا والقمار والبخس والظلم (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً) أي مبايعة ، ثم وصف التجارة فقال : (عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) أي يرضى كل واحد منكما بذلك (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) فيه عدة أقوال «احدها» ان معناه : لا يقتل بعضكم بعضا لأنكم أهل دين واحد ، وأنتم كنفس واحدة كقوله : سلّموا على أنفسكم (وثانيها) انه نهى الإنسان عن قتل نفسه في حال غضب أو ضجر (وثالثها) ان معناه : لا تقتلوا أنفسكم بأن تهلكوها بارتكاب الآثام (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) أي لم يزل بكم رحيما ، وكان من رحمته أن حرّم عليكم قتل الأنفس ، وافساد الأموال (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) إشارة إلى أكل الأموال بالباطل ، وقتل النفس بغير حق (عُدْواناً وَظُلْماً) العدوان : تجاوز ما أمر الله به ، والظلم : أن يأخذه على غير وجه الإستحقاق (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) أي نجعله صلي نار ونحرقه بها (وَكانَ ذلِكَ) أي إدخاله النار وتعذيبه فيها (عَلَى اللهِ) سبحانه (يَسِيراً) هيّنا لا يمنعه منه مانع ، ولا يدفعه عنه دافع ، ولا يشفع عنده إلّا بإذنه شافع.

١٠٩

٣١ ـ لمّا قدّم ذكر السيئات عقّبه بالترغيب في اجتنابها فقال : (إِنْ تَجْتَنِبُوا) أي تتركوا جانبا (كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) المعاصي كلها كبيرة من حيث كانت قبائح لكن بعضها أكبر من بعض ، وليس في الذنوب صغيرة وإنما يكون صغيرا بالإضافة إلى ما هو أكبر منه ، ويستحق العقاب عليه أكثر (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) أي مكانا طيبا حسنا لا ينغصه شيء.

٣٢ ـ (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) أي لا يقل : أحدكم : ليت ما أعطي فلان من المال والنعمة ، والمرأة الحسناء كان لي ، فإن ذلك يكون حسدا ، ولكن يجوز أن يقول : اللهم اعطني مثله (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) ان لكل فريق من الرجال والنساء نصيبا مما اكتسب من نعيم الدنيا بالتجارات والزراعات ، وغير ذلك من أنواع المكاسب فينبغي أن يقنع كل منهم ويرضى بما قسم الله له (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) معناه : إن احتجتم إلى ما لغيركم ، وأعجبكم أن يكون لكم مثل ما له فاسألوا الله أن يعطيكم مثل ذلك من فضله ، بشرط أن لا يكون فيه مفسدة لكم ولا لغيركم ، لأن المسألة لا تحسن إلّا كذلك (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) معناه : أنّه عليم بكل شيء ولم يزل كذلك ، فيعلم ما تظهرونه وما تضمرونه من الحسد ، ويقسم الأرزاق بين العباد على ما يعلم فيه من الصلاح والرشاد ، فلا يتمنى أحدكم ما قسم لغيره فإنه لا يحصل من تمنيه إلّا الغم والإثم.

٣٣ ـ ثم عاد سبحانه إلى ذكر المواريث فقال : (وَلِكُلٍ) واحد من الرجال والنساء (جَعَلْنا مَوالِيَ) أي ورثة هم أولى بميراثه (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ) أي يرثون أو يعطون مما ترك الوالدان (وَالْأَقْرَبُونَ) الموروثون (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) أي ويرثون مما ترك الذين عقدت ايمانكم لأن لهم ورثة أولى بميراثهم (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) أي فآتوا كلا نصيبه (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) أي لم يزل عالما بجميع الأشياء ، مطلعا عليها ، جليها وخفيها.

٣٤ ـ لمّا بيّن تعالى فضل الرجال على النساء ذكر عقيبه فضلهم في القيام بأمر النساء فقال : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) أي قيّمون على النساء ، مسلطون عليهن في التدبير والتأديب والرياضة والتعليم (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) هذا بيان سبب تولية الرجال عليهن ، أي إنما ولا هم الله أمرهن لما لهم من زيادة الفضل عليهن بالعلم والعقل ، وحسن الرأي والعزم (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) عليهن من المهر والنفقة ، كل ذلك بيان علة تقويمهم عليهن ، وتوليتهم أمرهن (فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ) أي مطيعات لله ولأزواجهن (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) يعني لأنفسهن وفروجهن في حال غيبة أزواجهن (بِما حَفِظَ اللهُ) بحفظ الله لهن وعصمته ، ولولا ان حفظهنّ الله وعصمهنّ لما حفظن أزواجهن بالغيب (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) معناه : فالشاء اللاتي تخافون نشوزهن بظهور أسبابه وإماراته ، ونشوز المرأة : عصيانها لزوجها ، واستيلاؤها عليه ، ومخالفتها إياه (فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَ) وعني به الجماع إلا انه ذكر المضاجع لاختصاص الجماع بها (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) أي رجعن إلى طاعتكم في الائتمار لأمركم (فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) أي لا تطلبوا عليهن عللا بالباطل (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) أي متعاليا عن أن يكلف إلّا الحق (مقدار الطاقة). والعلو والكبرياء من صفات الله ، وفائدة ذكرهما هنا بيان انتصاره لهن ، وقوته على الانتصار

١١٠

إن هن ضعفن عنه.

٣٥ ـ لمّا قدّم الله الحكم عند مخالفة أحد الزوجين صاحبه عقّبه بذكر الحكم عند التباس الأمر في المخالفة فقال : (وَإِنْ خِفْتُمْ) أي خشيتم (شِقاقَ بَيْنِهِما) أي مخالفة وعداوة بين الزوجين (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) أي وجهوا حكما من قوم الزوج ، وحكما من قوم الزوجة لينظرا فيما بينهما ، والحكم القيّم بما يسند إليه. والمخاطب بانفاذ الحكمين هو السلطان الذي يترافع الزوجان إليه وهو الظاهر في الأخبار عن الصادقين (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً) يعني الحكمين (يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) حتى يحكما بما فيه الصلاح ، والضمير في بينهما عائد إلى الحكمين (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بما يريد الحكمان من الإصلاح والإفساد (خَبِيراً) بما فيه مصالحكم ومنافعكم.

٣٦ ـ (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) أي وحّدوه وعظّموه ولا تشركوا في عبادته غيره ، فإن العبادة لا تجوز لغيره لأنها لا تستحق إلا بفعل أصول النعم ، ولا يقدر عليها سواه تعالى (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي فاستوصوا بهما برا وإنعاما وإحسانا وإكراما (وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) معناه : احسنوا بالوالدين خاصة ، وبالقرابات عامة ، واحسنوا إلى اليتامى بحفظ أموالهم والقيام عليها وغيرها من وجوه الإحسان ، وأحسنوا إلى المساكين فلا تضيعوهم ، وأعطوهم ما يحتاجون إليه من الطعام والكسوة وسائر ما لا بدّ منه لهم (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ) قيل معناه : الجار القريب في النسب ، والجار الأجنبي الذي ليس بينك وبينه قرابة (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) في معناه أربعة أقوال (أحدها) انه الرفيق في السفر والإحسان إليه بالمواساة وحسن العشرة (وثانيها) انه الزوجة (وثالثها) انه المنقطع إليك يرجو نفعك (ورابعها) انه الخادم الذي يخدمك ، والأولى حمله على الجميع (وَابْنِ السَّبِيلِ) معناه : صاحب الطريق (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يعني به المماليك من العبيد والإماء أي وأحسنوا إلى عبيدكم وإمائكم بالنفقة والسكنى ، ولا تحملوهم من الأعمال ما لا يطيقونه ، أمر الله عباده بالإحسان إلى هؤلاء أجمع (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُ) أي لا يرتضي (مَنْ كانَ مُخْتالاً) في مشيته (فَخُوراً) على الناس بكثرة المال تكبرا ، وإنما ذكرهما لأنهما يأنفان من أقاربهم وجيرانهم إذا كانوا فقراء لا يحسنان عشرتهم. وهذه آية جامعة تضمنت بيان أركان الإسلام ، والتنبيه على مكارم الأخلاق ، ومن تدبرها حق التدبر ، وتذكرها حق التذكر أغنته عن كثير من مواعظ البلغاء ، وهدته إلى جم غفير من علوم العلماء.

٣٧ ـ (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) أي يمنعون ما أوجب الله عليهم من الزكوات وغيرها (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) ويأمرون الناس بالبخل ويأمرون غيرهم بذلك وقيل : يأمرون الأنصار بترك الانفاق على رسول الله وعلى أصحابه (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي ويجحدون ما آتاهم الله من اليسار والثروة اعتذارا لهم في البخل وقد ورد في الحديث : إذا أنعم الله تعالى على عبد نعمة أحب أن يرى أثرها عليه (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) أعددنا للجاحدين ما أنعم الله عليهم عذابا يهانون فيه ويذلون.

٣٨ ـ ٣٩ ـ ثم عطف على ما تقدم بذكر المنافقين فقال : (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ) أي مراءاة الناس (وَلا يُؤْمِنُونَ) أي ولا يصدقون (بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) الذي فيه الثواب والعقاب. جمع الله سبحانه في الذم والوعيد بين من ينفق ماله بالرياء والسمعة ، ومن لم ينفق أصلا (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ

١١١

لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً) أي بئس القرين لأنه يدعوه إلى المعصية المؤدية إلى النار (وَما ذا عَلَيْهِمْ) أي أيّ شيء عليهم (لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ) قطع الله سبحانه بهذا عذر الكفار في العدول عن الإيمان (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) يجازيهم بما يسرون : ان خيرا فخيرا ، وإن شرا فشرا فلا ينفعهم ما ينفقون على وجه الرياء.

٤٠ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ) أحدا قطّ (مِثْقالَ ذَرَّةٍ) أي زنة ذرة ، وهي النملة الحمراء الصغيرة التي لا تكاد ترى وإنما خصّها بالذكر لأنها أقل شيء مما يدخل في وهم البشر (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) ومعناه : وان تك زنة الذرة حسنة يقبلها ويجعلها أضعافا كثيرة وكلتا الآيتين غاية في الحث على الطاعة ، والنهي عن المعصية وقوله : (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ) أي يعط من عنده (أَجْراً عَظِيماً) أي جزاء عظيما ، وهو ثواب الجنة.

٤١ ـ ٤٢ ـ لمّا ذكر اليوم الآخر وصف حال المنكرين له فقال : (فَكَيْفَ) أي فكيف حال الأمم وكيف يصنعون (إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم (بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ) يا محمد (عَلى هؤُلاءِ) يعني قومه (شَهِيداً) وهذا كما تقول العرب للرجل في الأمر الهائل يتوقعه : كيف بك إذا كان كذا؟ يريد بذلك تعظيم الأمر وتهويله وتحذيره وانذاره به ، وحثّه على الاستعداد له ، ومعنى الآية : ان الله يستشهد يوم القيامة كل نبي على أمته فيشهد لهم وعليهم ، ويستشهد نبينا على أمته وفي هذه الآية مبالغة في الحث على الطاعة واجتناب المعصية ، والزجر عن كل ما يستحى منه على رؤوس الأشهاد ، لأنه يشهد للإنسان وعليه يوم القيامة شهود عدول لا يتوقف في الحكم ، بشهادتهم ولا يتوقع القدح فيهم ، وهم الأنبياء والمعصومون ، والكرام الكاتبون ، والجوارح ، والمكان والزمان كما قال : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) وقال : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) معناه : لو يجعلون والأرض سواء كما قال تعالى : ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) أي أنهم لا يكتمون الله شيئا من أمور دنياهم وكفرهم ، بل يعترفون به فيدخلون النار باعترافهم ، وإنما لا يكتمون لعلمهم بأنه لا ينفعهم الكتمان.

٤٣ ـ لمّا أمر سبحانه في الآية المتقدمة بالعبادة ذكر عقيبها ما هو من أكبر العبادات وهو الصلاة فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ) أي لا تصلوا وأنتم سكارى (وَأَنْتُمْ سُكارى) أي نشاوى ، والمراد به سكر الشراب (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) أي حتى تميزوا ما تقولون (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) معناه لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إلّا ان تكونوا مسافرين فيجوز لكم أداؤها بالتيمم (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) قيل : نزلت في رجل من الأنصار كان مريضا ولم يستطع أن يقوم فيتوضأ ، فالمرض الذي يجوز معه التيمم مرض الجراح والكسر والقروح اذا خاف أصحابها من مسّ الماء (أَوْ عَلى سَفَرٍ) معناه : أو كنتم مسافرين (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) وهو كناية عن قضاء الحاجة (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) المراد به الجماع عن علي (ع) وقوله : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) راجع إلى المرضى والمسافرين جميعا : أي مسافر لا يجد الماء ، ومريض لا يجد من يوضؤه ، أو يخاف الضرر من استعمال الماء (فَتَيَمَّمُوا) أي تعمدوا وتحروا واقصدوا (صَعِيداً) الصعيد وجه الأرض (طَيِّباً) أي طاهرا (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) هذا هو التيمم بالصعيد الطيب (إِنَّ اللهَ

١١٢

كانَ عَفُوًّا) كثير الصفح والتجاوز (غَفُوراً) كثير الستر لذنوب عباده.

٤٤ ـ ٤٥ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) ألم ينته علمك إلى الذين أعطوا حظا من علم الكتاب (يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ) أي يستبدلون الضلالة بالهدى ، ويكذبون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وكانت اليهود تعطي احبارها كثيرا من أموالهم على ما كانوا يضعونه لهم ، فجعل ذلك اشتراء منهم (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) أي يريد هؤلاء اليهود أن تزلوا أيها المؤمنون عن طريق الحق وهو الدين والإسلام (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ) أيها المؤمنون فانتهوا إلى إطاعتي فيما نهيتكم عنه من استنصاحهم في دينكم ، فإني أعلم بباطنهم منكم وما هم عليه من الغش والحسد والعداوة لكم (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) معناه : ان ولاية الله لكم ، ونصرته إياكم تغنيكم عن نصرة هؤلاء اليهود ومن جرى مجراهم ممن تطمعون في نصرته.

٤٦ ـ ثمّ بيّن صفة من تقدم ذكرهم فقال : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) أي ألم ترى إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من اليهود (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) أي يبدلون كلمات الله وأحكامه عن مواضعها (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا) معناه : سمعنا قولك ، وعصينا أمرك (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) أي ويقول هؤلاء اليهود للنبي : اسمع منا غير مسمع ، تأويله : اسمع غير مجاب لك ، ولا مقبول منك (وَراعِنا) قد ذكرنا معناه في سورة البقرة : انهم كانوا يقولونه على وجه التجبر (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) أي تحريكا منهم لألسنتهم بتحريف منهم لمعناه إلى المكروه (وَطَعْناً فِي الدِّينِ) أي وقيعة فيه (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا) قولك (وَأَطَعْنا) أمرك ، وقبلنا ما جئتنا به (وَاسْمَعْ) منا (وَانْظُرْنا) أي انتظرنا نفهم عنك ما تقول لنا (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) يعني أنفع لهم عاجلا وآجلا (وَأَقْوَمَ) أي أعدل وأصوب في الكلام من الطعن والكفر في الدين (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أي طردهم عن ثوابه ورحمته لسبب كفرهم. ثم أخبر الله عنهم فقال : (فَلا يُؤْمِنُونَ) في المستقبل (إِلَّا قَلِيلاً) منهم ، فخرج مخبره على وفق خبره فلم يؤمن منهم إلّا نفر قليل.

٤٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي اعطوا علم الكتاب (آمِنُوا) أي صدقوا (بِما نَزَّلْنا) يعني بما نزلناه على محمد (ص) من القرآن وغيره من أحكام الدين (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) من التوراة والإنجيل اللذين تضمنتا صفة نبينا (ص) وصحة ما جاء به (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) معناه : من قبل ان نمحو آثار وجوهكم حتى تصير كالأقفية ، ونجعل عيونها في أقفيتها فتمشي القهقرى (أَوْ نَلْعَنَهُمْ) أي نخزيهم ونعذبهم عاجلا وقيل معناه : نمسخهم قردة (كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) يعني الذين اعتدوا في السبت (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) ان كل أمر من أمور الله سبحانه من وعد أو وعيد أو خبر فإنه يكون على ما أخبر به.

٤٨ ـ ثم انه تعالى آيس الكفار من رحمته فقال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) معناه : ان الله لا يغفر ان يشرك به أحد ، ولا يغفر ذنب الشرك لأحد. (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) انه يغفر ما دون الشرك من الذنوب بغير توبة لمن يشاء من المذنبين غير الكافرين (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى) أي فقد كذب بقوله : ان العبادة يستحقها غير الله واثم (إِثْماً عَظِيماً) أي غير مغفور.

٤٩ ـ ٥٠ ـ (أَلَمْ تَرَ) معناه : ألم تعلم وهو سؤال على وجه الإعلام وتأويله : اعلم قصتهم (إِلَى) هؤلاء (الَّذِينَ يُزَكُّونَ

١١٣

أَنْفُسَهُمْ) أي يمدحونها ويصفونها بالزكاة والطهارة بأن يقولوا نحن أزكياء (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) ردّ الله ذلك عليهم وبيّن أن التزكية إليه يزكي من يشاء ، أي يطهّر من الذنب من يشاء. (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) معناه : لا يظلمون في تعذيبهم قوله (انْظُرْ) يا محمد (كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في تحريفهم كتابه (وَكَفى بِهِ) أي كفى هو (إِثْماً مُبِيناً) أي وزرا بيّنّا.

٥١ ـ ٥٢ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) فالمعني بذلك كعب بن الأشرف وجماعة من اليهود الذين كانوا معه ، بين الله أفعالهم القبيحة وضمّها إلى ما عدده فيما تقدم فقال : (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) يعني بهما الصنمين اللذين كانا لقريش وسجد لهما كعب بن الأشرف (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أبي سفيان وأصحابه (هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) محمد وأصحابه (سَبِيلاً) أي دينا ، عن عكرمة وجماعة من المفسرين ، وقيل : ان المعني بالآية حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ، وسلام بن أبي الحقيق ، في جماعة من علماء اليهود ، والجبت : الأصنام ، والطاغوت : تراجمة الأصنام الذين كانوا يتكلمون بالتكذيب عنها ، عن إبن عباس ، وقيل : الجبت : الساحر ، والطاغوت : الشيطان ، عن ابن زيد ، وقيل : الجبت : السحر عن مجاهد والشعبي ، وقيل : الجبت : الساحر ، والطاغوت الكاهن : عن أبي العالية وسعيد بن جبير وقيل : الجبت ابليس ، والطاغوت أولياؤه ، وقيل : هما كل ما عبد من دون الله من حجر أو صورة أو شيطان (أُولئِكَ) إشارة إلى الذين تقدم ذكرهم (الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) أي ومن يلعنه الله (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) أي معينا يدفع عنه عقاب الله تعالى الذي أعدّه له.

٥٣ ـ ٥٥ ـ لما بيّن حكم اليهود بأن المشركين أهدى من النبي (ص) وأصحابه ، بيّن الله سبحانه أن الحكم ليس إليهم إذ الملك ليس لهم فقال : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ) وهذا استفهام معناه الإنكار ، أي ليس لهم ذلك (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) أي لو أعطوا الدنيا وملكها لما أعطوا الناس من الحقوق قليلا ولا كثيرا (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) معناه : بل يحسدون الناس أراد به النبي (ص) حسدوه (عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من النبوة فبيّن الله سبحانه ان النبوة ليست ببدع في آل ابراهيم (ع) وفي تفسير العياشي بإسناده عن أبي الصباح الكناني قال : قال أبو عبد الله (ع) يا أبا الصباح نحن قوم فرض الله طاعتنا لنا الأنفال ، ولنا صفو المال ، ونحن الراسخون في العلم ، ونحن المحسودون الذي قال الله في كتابه أم يحسدون الناس الآية (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) يعني النبوة فلا معنى لحسدهم محمدا على هذا وهو من أولاد إبراهيم (ع) (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) المراد بالملك العظيم النبوة (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) فمن أهل الكتاب من آمن بمحمد (ص) (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) أي أعرض عنه ولم يؤمن به (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) أي كفى هؤلاء المعرضين عنه عذاب جهنم نارا موقدة ايقادا شديدا.

٥٦ ـ ٥٧ ـ لما تقدّم ذكر المؤمن والكافر عقبه بذكر الوعد والوعيد على الإيمان والكفر فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) أي جحدوا حججنا ، وكذّبوا أنبياءنا ، ودفعوا الآيات الدالة على توحيدنا ، وصدق نبينا (سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً) أي نلزمهم نارا نحرقهم فيها ، ونعذبهم بها (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) إن الله يجدد لهم جلودا غير الجلود التي احترقت عن قتادة (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) معناه : ليجدوا ألم العذاب ، وإنما قال ذلك ليبين أنهم كالمبتدأ عليهم العذاب في كل حالة فيحسون في كل حالة ألما (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً)

١١٤

معناه : انه قادر لا يمتنع عليه انجاز ما توعد به أو وعده (حَكِيماً) في تدبيره وتقديره ، وفي تعذيب من يعذبه (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بكل ما يجب الإيمان به (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الطاعات الصالحة الخالصة (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت أشجارها وقصورها الأنهار (خالِدِينَ فِيها) أي دائمين فيها (أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) طهرن من الحيض والنفاس ، ومن جميع المعائب والأدناس والأخلاق الدنية ، والطبائع الردية ، لا يفعلن ما يوحش أزواجهن ، ولا يوجد فيهن ما ينفر عنهن (وَنُدْخِلُهُمْ) في ذلك (ظِلًّا ظَلِيلاً) أي كنينا ليس فيه حر ولا برد بخلاف ظل الدنيا.

٥٨ ـ ثم أمر سبحانه باداء الأمانة فقال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) المعنى : انها في كل من اؤتمن أمانة من الأمانات ، وأمانات الله أوامره ونواهيه ، وأمانات عباده فيما يأتمن بعضهم بعضا من المال وغيره (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) أمر الله الولاة والحكام أن يحكموا بالعدل والنصفة (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) من الأمر برد الأمانة ، والنهي عن الخيانة ، والحكم بالعدل ، ومعنى الوعظ : الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر (إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً) بجميع المسموعات و (بَصِيراً) بجميع المبصرات.

٥٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ) أي الزموا طاعة الله سبحانه فيما أمركم به ونهاكم عنه (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أي والزموا طاعة رسوله (ص) أيضا (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) عن الباقر والصادق (ع): ان أولي الأمر هم الأئمة من آل محمد أوجب الله طاعتهم بالاطلاق ، كما أوجب طاعته وطاعة رسوله ، ولا يجوز أن يوجب الله طاعة أحد على الإطلاق إلا من ثبتت عصمته ، وعلم أن باطنه كظاهره ، وأمن منه الغلط والأمر بالقبيح ، وليس ذلك بحاصل في الأمراء ولا العلماء ، جلّ الله عن أن يأمر بطاعة من يعصيه ، أو بالانقياد للمختلفين في القول والفعل ، لأنه محال أن يطاع المختلفون ، كما انه محال أن يجتمع ما اختلفوا فيه ، ومما يدل على ذلك أيضا ان الله تعالى لم يقرن طاعة أولي الأمر بطاعة رسوله كما قرن طاعة رسوله بطاعته إلا وأولو الأمر فوق الخلق جميعا ، كما ان الرسول فوق أولي الأمر وفوق سائر الخلق ، وهذه صفة أئمة الهدى من آل محمد (ص) الذين ثبتت إمامتهم وعصمتهم ، واتفقت الأمة على علو رتبتهم وعدالتهم (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) معناه : فإن اختلفتم في شيء من أمور دينكم فردوا التنازع فيه إلى كتاب الله وسنة الرسول ، ثم أكدّ سبحانه ذلك وعظمّه بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فما أبين هذا وأوضحه (ذلِكَ) إشارة إلى طاعة الله وطاعة رسوله وأولي الأمر ، والرد إلى الله والرسول (خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي أحمد عاقبة وقيل : خير لكم في الدنيا ، وأحسن عاقبة في الآخرة.

٦٠ ـ ٦١ ـ (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تعلم (إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من التوراة والإنجيل (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) يعني كعب بن الأشرف (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) يعني به قوله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها) (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ) بما زين لهم (أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) عن الحق. نسب اضلالهم إلى الشيطان (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي المنافقين (تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) في القرآن من الأحكام (وَإِلَى الرَّسُولِ) في حكمه

١١٥

(رَأَيْتَ) يا محمد (الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) أي يعرضون عنك.

٦٢ ـ ٦٣ ـ (فَكَيْفَ) صنيع هؤلاء (إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) نالتهم من الله عقوبة (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بما كسبت أيديهم من النفاق (ثُمَّ جاؤُكَ) يا محمد (يَحْلِفُونَ بِاللهِ) يقسمون (إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً) أي ما أردنا بالتحاكم إلى غيرك إلّا التخفيف عنك ، فإنا نحتشمك برفع الصوت في مجلسك ، ونقتصر على من يتوسط لنا برضاء الخصمين دون الحكم المورث للضغائن (وَتَوْفِيقاً) بينهم بالتماس التوسعة دون الحمل على مرّ الحكم ، وأراد بالتوفيق : الجمع والتأليف (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الشرك والنفاق والخيانة (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي لا تعاقبهم (وَعِظْهُمْ) بلسانك (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) معناه : فاعرض عن قبول الإعتذار منهم ، وعظهم مع ذلك ، وخوفهم بمكاره تنزل بهم في أنفسهم إن عادوا لمثل ما فعلوه.

٦٤ ـ ثمّ لامهم سبحانه على ردهم أمره ، وذكر ان غرضه من البعثة الطاعة فقال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ) أي لم نرسل رسولا من رسلنا (إِلَّا لِيُطاعَ) عني به ان الغرض من الارسال أن يطاع الرسول ، ويمتثل بما يأمر به ، وإنما اقتضى ذكر طاعة الرسول هنا ان هؤلاء المنافقين الذين يتحاكمون إلى الطاغوت زعموا انهم يؤمنون به واعرضوا عن طاعته ، فبين الله انه لم يرسل رسولا إلا ليطاع وقوله (بِإِذْنِ اللهِ) أي بأمر الله الذي دل به على وجوب طاعتهم (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أي بخسوها حقّها بإدخال الضرر عليها بفعل المعصية من استحقاق العقاب ، وتفويت الثواب بفعل الطاعة (جاؤُكَ) تائبين مقبلين عليك ، مؤمنين بك (فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) لذنوبهم ، ونزعوا عما هم عليه (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) أي سألت الله ان يغفر لهم ذنوبهم (لَوَجَدُوا اللهَ) لوجدوا مغفرة الله لذنوبهم ، ورحمته إياهم (تَوَّاباً) أي قابلا لتوبتهم (رَحِيماً) بهم في التجاوز عما قد سلف منهم. وفي الآية دلالة على أن مرتكب الكبيرة يجب عليه الاستغفار ، فإن الله سيتوب عليه بأن يقبل توبته ، ويدل أيضا على أن مجرد الإستغفار لهم الرسول ما لم مصرا على المعصية ، لأنه لم يكن ليستغفر لهم الرسول ما لم يتوبوا ، بل ينبغي أن يتوب ويندم على ما فعله ، ويعزم في القلب على ان لا يعود أبدا إلى مثله ، ثم يستغفر الله باللسان ليتوب الله عليه.

٦٥ ـ ثمّ بيّن الله ان الإيمان إنما هو بالتزام حكم رسول الله ، والرضاء به فقال : (فَلا) أي ليس كما تزعمون انهم يؤمنون مع محاكمتهم إلى الطاغوت (وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) أقسم الله ان هؤلاء المنافقين لا يكونون مؤمنين ، ولا يدخلون في الإيمان (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) أي حتى يجعلوك حكما أو حاكما (فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) أي فيما وقع بينهم من الخصومة ، والتبس عليهم من أحكام الشريعة (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أي في قلوبهم (حَرَجاً) ضيقا بشك أو إثم (مِمَّا قَضَيْتَ) أي حكمت (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) أي ينقادوا لحكمك إذعانا لك ، وخضوعا لأمرك.

٦٦ ـ ٦٨ ـ ثم أخبر سبحانه عن سرائر القوم فقال : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا) أي أوجبنا (عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء الذين تقدّم ذكرهم (أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) كما أوجبنا على قوم موسى والزمناهم ذلك فقتلوا أنفسهم ، وخرجوا إلى التيه (ما فَعَلُوهُ) أي ما فعله هؤلاء للمشقة التي لا يتحملها إلا المخلصون (إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) المراد بالآية جماعة من أصحاب رسول الله قالوا : والله لو أمرنا لفعلنا ، فالحمد لله الذي عافانا ، ومنهم عبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر فقال النبي : ان من أمتي لرجالا الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي

١١٦

(وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) أي ما يؤمرون به (لَكانَ) ذلك (خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) أي بصيرة في أمر الدين (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ) أي لأعطيناهم (مِنْ لَدُنَّا) أي من عندنا (أَجْراً عَظِيماً) لا يبلغ أحد كنهه ، ولا يعرف منتهاه ، ولا يدرك قصواه ، وإنما ذكر من لدنا تأكيدا بأنه لا يقدر عليه غيره (وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي ولثبتناهم مع ذلك على الطريق المستقيم.

٦٩ ـ ٧٠ ـ ثم بيّن سبحانه حال المطيعين فقال : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ) بالانقياد لأمره ونهيه (وَالرَّسُولَ) باتباع شريعته ، والرضا بحكمه (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) في الجنة. ثم بيّن المنعم عليهم فقال : (مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ) يريد انه يستمتع برؤية النبيين والصديقين وزيارتهم ، والحضور معهم (وَالشُّهَداءِ) يعني المقتولين في الجهاد ، وانما سمي الشهيد شهيدا لقيامه بشهادة الحق على جهة الإخلاص ، واقراره به ، ودعائه إليه حتى قتل (وَالصَّالِحِينَ) معناه : صلحاء المؤمنين الذين لم تبلغ درجتهم درجة النبيين والصديقين والشهداء ، والصالح : الفاعل للصلاح ، الملازم له ، المتمسك به (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) معناه : من يكن هؤلاء رفقاء له فأحسن بهم من رفيق (ذلِكَ) اشارة إلى أن الكون مع النبيين والصديقين (الْفَضْلُ مِنَ اللهِ) تفضّل به على من أطاعه (وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) بالعصاة والمطيعين ، والمنافقين والمخلصين ، ومن يصلح لمرافقة هؤلاء ومن لا يصلح ، لأنه يعلم خائنة الأعين.

٧١ ـ ثم أمر الله سبحانه المؤمنين بمجاهدة الكفار ، والتأهب لقتالهم فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) قيل فيه قولان (أحدهما) ان معناه : احذروا عدوكم بأخذ السلاح كما يقال للإنسان : خذ حذرك ، أي احذر (الثاني) معناه : خذوا أسلحتكم ، سمى الأسلحة حذرا لأنها الآلة التي بها يتقي الحذر ، وهو المروي عن أبي جعفر (فَانْفِرُوا) إلى قتال عدوكم ، أي اخرجوا إلى الجهاد (ثُباتٍ) ومعناه : اخرجوا فرقة بعد فرقة ، فرقة في جهة ، وفرقة أخرى في جهة أخرى (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) أي مجتمعين في جهة واحدة إذا أوجب الرأي ذلك ، وروي عن أبي جعفر (ع): ان المراد بالثبات السرايا ، وبالجميع العسكر.

٧٢ ـ ٧٣ ـ لمّا حثّ الله على الجهاد بيّن حال المتخلفين عنه فقال : (وَإِنَّ مِنْكُمْ) خاطب المؤمنين ، ثم أضاف المنافقين إليهم فقال : (لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) أي هم منكم في الحال الظاهرة أو في حكم الشريعة من حقن الدم والمناكحة والموارثة ويبطىء أي من يتأخر عن الخروج مع النبي (ص) (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) فيه من قتل أو هزيمة قال قول الشامت المسرور بتخلفه (قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) أي شاهدا حاضرا في القتال ، فكان يصيبني ما أصابهم (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ) أي فتح أو غنيمة (لَيَقُولَنَ) يتحسر ويقول : يا ليتني كنت معهم (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) أي لا يعاضدكم على قتال عدوكم ، ولا يراعي الذمام الذي بينكم (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ) من الغنيمة (فَوْزاً عَظِيماً) أي أصيب غنيمة عظيمة وآخذ حظا وافرا منها.

٧٤ ـ لما أخبر الله سبحانه في الآية الأولى أن قوما يتأخرون عن القتال أو يبطّئون المؤمنين عنه حثّ في هذه الآية على القتال فقال : (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) هذا أمر من الله وظاهر أمره يقتضي الوجوب ، أي فليجاهد في سبيل الله ، أي في طريق دين الله (الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) أي

١١٧

الذين يبيعون الحياة الفانية بالحياة الباقية ، ويجوز : يبيعون الحياة الدنيا بنعيم الآخرة أي يبذلون أنفسهم وأموالهم في سبيل الله بتوطين أنفسهم على الجهاد في طاعة الله ، وبيعهم إياها بالآخرة هو استبدالهم إياها بالآخرة (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي يجاهد في طريق دين الله بأن يبذل ماله ونفسه ابتغاء مرضاته (فَيُقْتَلْ) أي يستشهد (أَوْ يَغْلِبْ) أي يظفر بالعدو ، وفيه حث على الجهاد فكأنه قال : هو فائز بإحدى الحسنيين : ان غلب أو غلب (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) أي نعطيه أغلى أثمان العمل ، وقيل : ثوابا دائما لا تنغيص فيه.

٧٥ ـ ثم حث سبحانه على تخليص المستضعفين فقال : (وَما لَكُمْ) أيها المؤمنون (لا تُقاتِلُونَ) أي أيّ عذر لكم في ترك القتال مع اجتماع الأسباب الموجبة للقتال (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعة الله (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) أي وفي المستضعفين ، أو في سبيل المستضعفين ، أي نصرة المستضعفين ، وقيل : في اعزاز المستضعفين ، وفي الذب عن المستضعفين (مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) قيل : يريد بذلك قوما من المسلمين بقوا بمكة ولم يستطيعوا الهجرة منهم : سلمة بن هشام ، والوليد بن الوليد ، وعيّاش بن أبي ربيعة ، وأبو جندل بن سهيل ، جماعة كانوا يدعون الله ان يخلصهم من أيدي المشركين ويخرجهم من مكة ، وهم (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) أي يقولون في دعائهم : ربنا سهّل لنا الخروج من هذه القرية يعني مكة الظالم أهلها : أي التي ظلم أهلها بافتتان المؤمنين عن دينهم ، ومنعهم عن الهجرة (وَاجْعَلْ لَنا) بالطافك وتأييدك (مِنْ لَدُنْكَ) أي من عندك (وَلِيًّا) يلي أمرنا بالكفاية حتى ينقذنا من أيدي الظلمة (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) ينصرنا على من ظلمنا. فاستجاب الله تعالى دعاءهم فلما فتح رسول الله مكة (ص) جعل الله نبيه لهم وليا ، فاستعمل على مكة عتاب بن أسيد ، فجعله الله لهم نصيرا ، فكان ينصف الضعيف من الشديد ، فاغاثهم الله فكانوا أعزبها من الظلمة قبل ذلك.

٧٦ ـ ثم شجّع المجاهدين ورغّبهم في الجهاد بقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعة الله ، وفي نصرة دينه وإعلاء كلمته ، وابتغاء مرضاته ، بلا عجب ولا طمع في غنيمة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) وطاعته (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) يعني جميع الكفار (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) دخلت كان ها هنا مؤكدة لتدل على ان الضعف لكيد الشيطان لازم في جميع الأحوال والأوقات ، ما مضى منها وما يستقبل.

٧٧ ـ ثم عاد سبحانه إلى ذكر القتال ومن كرهه فقال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ) وهم بمكة (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) أي امسكوا عن قتال الكفار فإني لم اؤمر بقتالهم (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ) أي فرض (عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) وهم بالمدينة (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي جماعة منهم (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ) أي يخافون القتل من الناس كما يخافون الموت من الله (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) أي وأشد (وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ) قال الحسن : لم يقولوا ذلك كراهية لأمر الله ولكن لدخول الخوف عليهم بذلك على ما يكون من طبع البشر ، ويحتمل أن يكونوا قالوا ذلك استفهاما لا إنكارا (لَوْ لا أَخَّرْتَنا) أي هلا أخرتنا (إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) وهو إلى ان نموت بآجالنا ، ثم أعلم الله تعالى أن الدنيا بما فيها من وجوه المنافع قليل فقال : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء (مَتاعُ الدُّنْيا) أي ما يستمتع به من منافع الدنيا (قَلِيلٌ) لا يبقى (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أي ولا تبخسون هذا القدر فكيف ما زاد عليه ، والفتيل ما في شق النواة لأنه كالخيط المفتول.

١١٨

٧٨ ـ ثمّ خاطبهم تعالى فقال : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) أي أينما كنتم من المواضع والأماكن ينزل بكم الموت ويلحقكم (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) يعني بالبروج القصور والمشيدة : المجصصة (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) اختلف في من حكى عنهم هذه المقالة فقيل : هم اليهود قالوا : ما زلنا نعرف النقص في أثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل ، فعلى هذا يكون معناه : وان أصابهم خصب ومطر قالوا هذا من عند الله ، وان أصابهم قحط وجدب قالوا هذا من شؤم محمد وقيل : هم المنافقون عبد الله بن أبي وأصحابه الذين تخلفوا عن القتال يوم احد وقالوا للذين قتلوا في الجهاد : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، فعلى هذا يكون معناه : ان يصبهم ظفر وغنيمة قالوا هذا من عند الله ، وإن يصبهم مكروه وهزيمة قالوا هذه من عندك يا محمد (قُلْ) يا محمد (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي جميع ما مضى ذكره من الموت والحياة ، والخصب والجدب من عند الله وبقضائه وقدره ، لا يقدر أحد عل ردّه ودفعه (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ) أي ما شأن هؤلاء المنافقين (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) أي لا يعلمون حقيقة ما يخبرهم به انه من عند الله من السراء والضراء.

٧٩ ـ (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) خطاب للإنسان ، أي ما أصابك أيها الإنسان وعني بقوله : من نعمة في الدين والدنيا فإنها من الله (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) أي من المعاصي (فَمِنْ نَفْسِكَ) معناه : فبذنبك قال النبي (ص): ما من خدش بعود ، ولا اختلاج عرق ، ولا عثرة قدم إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) إنما أنت رسول ، طاعتك طاعة الله ، ومعصيتك معصية الله ، لا يطيّر بك بل الخير كله فيك (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) معناه : حسبك الله شاهدا لك على رسالتك.

٨٠ ـ ٨١ ـ ثم رغب تعالى في طاعة الرسول فقال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) بيّن أن طاعته طاعة الله ، وإنما كانت كذلك لأنها وإن كانت طاعة النبي من حيث وافقت ارادته المستدعية للفعل ، فإنها طاعة الله أيضا على الحقيقة إذ كانت بأمره وإرادته (وَمَنْ تَوَلَّى) أي ومن أعرض ولم يطع (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) معناه : ما أرسلناك حافظا لأعمالهم التي يقع الجزاء عليها فتخاف ان لا تقوم بها لأنا نحن نجازيهم عليها ، ثم بيّن ان المنافقين أظهروا طاعته واضمروا خلافه بقوله : (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ) يعني به المنافقين عن الحسن والسدي والضحاك.

يقولون : أمرك طاعة كأنهم قالوا : قابلنا أمرك بالطاعة (فَإِذا بَرَزُوا) أي خرجوا (مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أي قدّر جماعة منهم ليلا (غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) أي غير ما تقولون على جهة التكذيب وقيل معناه : غيّروا بالليل وبدلوا ما قالوه ، بأن اضمروا الخلاف عليك فيما امرتهم به ونهيتهم عنه وقيل : دبروا ليلا غير ما أعطوك نهارا (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) في اللوح المحفوظ ليجازيهم به وقيل : يكتبه بأن ينزله اليك في الكتاب عن الزجاج (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أمر الله نبيه بالإعراض عنهم ، وان لا يسميهم بأعيانهم ابقاء عليهم ، وسترا لأمورهم إلى ان يستقر أمر الإسلام (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي فوض أمرك إليه وثق به (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي حفيظا لما تفوضه إليه من التدبير.

٨٢ ـ ٨٣ ـ (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) أي أفلا يتفكر اليهود والمنافقون في القرآن إذ ليس فيه خلل ولا تناقض ليعلموا انه حجة وقيل : ليعلموا انهم لا يقدرون على مثله فيعرفوا انه ليس بكلام أحد من الخلق (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ) أي كلام غير الله (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) تناقضا كثيرا ، وذلك ان

١١٩

كلام البشر إذا طال لم يخل من التناقض في المعاني ، والإختلاف في اللفظ ، وكل هذه المعاني منفي عن كلام الله كما قال : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) ثم عاد تعالى إلى ذكر حالتهم فقال : (وَإِذا جاءَهُمْ) يعني هؤلاء الذين سبق ذكرهم من المنافقين (أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ) يريد ما كان يرجف به من الأخبار في المدينة ، أما من قبل عدو يقصدهم وهو الخوف أو من ظهور المؤمنين على عدوهم وهو الأمن (أَذاعُوا بِهِ) أي تحدثوا به وافشوه من غير أن يعلموا صحته ، كره الله ذلك لأن من فعل هذا فلا يخلو كلامه من كذب ، ولما يدخل على المؤمنين به من الخوف. ثم قال : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ) المعنى : ولو سكتوا إلى ان يظهره الرسول (وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) قال : أبو جعفر (ع) هم الأئمة المعصومون (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ) أي لعلم ذلك الخبر الذين يستخرجونه عن الزجاج ، وقيل : يتحسسونه عن ابن عباس وأبي العالية ، وقيل : يبغونه ويطلبون علم ذلك عن الضحاك ، وقيل : يسألون عنه عن عكرمة ، قال : استنباطهم سؤالهم الرسول عنه (مِنْهُمْ) ان الضمير في منهم يعود إلى أولي الأمر (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) أي لولا إيصال مواد الألطاف من جهة الله (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) ان المراد : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلّا قليلا منكم ، وهذا كما اتبع الشيطان من كان قبل بعثة النبي إلّا قليلا منهم لم يتبعوه ، واهتدوا بعقولهم لترك عبادة الأوثان.

٨٤ ـ ثم عاد تعالى إلى الأمر بالقتال فقال : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) الخطاب للنبي (ص) خاصة ، أمره الله ان يقاتل في سبيل الله وحده بنفسه وقوله : (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) معناه : لا تكلف إلا فعل نفسك فإنه لا ضرر عليك في فعل غيرك ، فلا تهتمّ بتخلف المنافقين عن الجهاد فإن ضرر ذلك عليهم (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) على القتال أي حثهم عليه (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يمنع شدة الكفار ، قال الحسن : عسى من الله واجب ، ووجه ذلك ان اطماع الكريم انجاز (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً) أي أشد نكاية في الأعداء منكم (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) أي عقوبة.

٨٥ ـ (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً) معناه : من يصلح بين اثنين (يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) أي يكن له أجر منها (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً) أي يمشي بالنميمة (يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) أي إثم منها (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) أي يجازي على كل شيء من الحسنات والسيئات.

٨٦ ـ (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها) أمر الله المسلمين برد السلام على المسلم بأحسن مما سلم إن كان مؤمنا وإلا فليقل : وعليكم لا يزيد على ذلك فقوله : (بِأَحْسَنَ مِنْها) للمسلمين خاصة وقوله : (أَوْ رُدُّوها) لأهل الكتاب ، عن ابن عباس (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) أي حفيظا وقيل : كافيا ، وقيل : مجازيا وفي هذه الآية دلالة على وجوب رد السلام ، لأن ظاهر الأمر يقتضي الوجوب.

٨٧ ـ (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) قد مرّ تفسيره (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي ليبعثنكم من بعد مماتكم ، ويحشرنكم جميعا إلى موقف الحساب الذي يقضي فيه بين أهل الطاعة والمعصية (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك في هذا القول ، وانما سمي يوم القيامة لأن الناس يقومون فيه من قبورهم وفي التنزيل : يوم يقوم الناس لرب العالمين (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) أي موعدا لا خلف لوعده.

٨٨ ـ ثم عاد الكلام إلى ذكر المنافقين فقال تعالى : (فَما

١٢٠