علم البيان

الدكتور عبدالعزيز عتيق

علم البيان

المؤلف:

الدكتور عبدالعزيز عتيق


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٠

المبحث الأوّل

فن التشبيه

حد التشبيه :

التشبيه لغة : التمثيل ، وهو مصدر مشتق من الفعل «شبّه» بتضعيف الباء ، يقال : شبّهت هذا بهذا تشبيها ، أي مثّلته به.

والتشبيه في اصطلاح البلاغيين له أكثر من تعريف ، وهذه التعاريف وإن اختلفت لفظا فإنها متفقة معنى.

فابن رشيق مثلا يعرفه بقوله : «التشبيه : صفة الشيء بما قاربه وشاكله من جهة واحدة أو جهات كثيرة ، لا من جميع جهاته ، لأنه لو ناسبه مناسبة كلية لكان إياه. ألا ترى أن قولهم «خدّ كالورد» إنما أرادوا حمرة أوراق الورد وطراوتها ، لا ما سوى ذلك من صفرة وسطه وخضرة كمائمه» (١).

__________________

(١) العمدة ج ١ ص ٢٥٦.

٦١

وأبو هلال العسكري يعرفّه بقوله : «التشبيه : الوصف بأن أحد الموصوفين ينوب مناب الآخر بأداة التشبيه ، ناب منابه أو لم ينب ، وقد جاء في الشعر وسائر الكلام بغير أداة التشبيه ، وذلك قولك : «زيد شديد كالأسد» ، فهذا القول هو الصواب في العرف وداخل في محمود المبالغة ، وإن لم يكن زيد في شدته كالأسد على حقيقته» (١).

ويعرّفه الخطيب القزويني بقوله : «التشبيه : هو الدلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى» (٢).

ويعرّفه التنوخي بقوله : «التشبيه : هو الإخبار بالشبه ، وهو اشتراك الشيئين في صفة أو أكثر ولا يستوعب جميع الصفات» (٣).

وللتشبيه تعريفات أخرى كثيرة لا تخرج في جوهرها ومضمونها عما أوردناه منها آنفا ، ومن مجموع هذه التعريفات نستطيع أن نخرج للتشبيه بالتعريف التالي :

التشبيه : بيان أن شيئا أو أشياء شاركت غيرها في صفة أو أكثر ، بأداة هي الكاف أو نحوها ملفوظة أو مقدرة ، تقرّب بين المشبه والمشبه به في وجه الشبه.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن «التمثيل» نوع من أنواع التشبيه ، وهذا رأي عبد القاهر الجرجاني الذي يقول : «والتمثيل ضرب من ضروب التشبيه ، والتشبيه عام والتمثيل أخص منه ، فكل تمثيل تشبيه ، وليس كل تشبيه تمثيلا» (٤).

__________________

(١) كتاب الصناعتين ص ٢٣٩.

(٢) انظر متن التلخيص في «مجموع المتون الكبرى» ص ٤٧٣.

(٣) كتاب الأقصى القريب للتنوخي ص ٤١.

(٤) كتاب أسرار البلاغة ص ٧٥.

٦٢

ويوضح عبد القاهر رأيه هذا في موضع آخر من كتابه بقوله : «واعلم أن الشيئين إذا شبّه أحدهما بالآخر كان ذلك على ضربين أحدهما : أن يكون من جهة أمر بيّن لا يحتاج فيه إلى تأويل ، والآخر : أن يكون الشبه محصّلا بضرب من التأويل» (١).

ثم يروح يشرح قوله هذا في إسهاب مفاده أن التشبيه العام هو ما كان وجه الشبه فيه مفردا ، أي صفة أو صفات اشتركت بين شيئين ليس غير ، وأن تشبيه التمثيل هو ما كان وجه الشبه فيه صورة مأخوذة أو منتزعة من أشياء عدة.

فقول البحتري في ممدوحه مثلا :

هو بحر السماح والجود فازدد

منه قربا تزدد من الفقر بعدا

هذا التشبيه على رأي عبد القاهر تشبيه عام لأن البحتري فيه يشبه ممدوحه بالبحر في الجود والسماح ، فوجه الشبه هنا مفرد وهو اشتراك الممدوح والبحر في صفة الجود.

وقول المتنبي في ممدوحه سيف الدولة :

يهز الجيش حولك جانبيه

كما نفضت جناحيها العقاب (٢)

هو عند عبد القاهر تشبيه تمثيل ، لأن المتنبي يشبه صورة جانبي الجيش ، أي صورة ميمنة الجيش وميسرته وسيف الدولة بينهما وما فيهما من حركة واضطراب بصورة عقاب تنفض جناحيها وتحركهما. ووجه الشبه هنا

__________________

(١) نفس المرجع ص ٧٠ ـ ٧١.

(٢) العقاب بضم العين : من الطيور الكاسرة ، وهي طائر خفيف الجناح سريع الطيران ، وبها يضرب المثل في العزة والمنعة ، فيقال : «أمنع من عقاب الجو».

٦٣

ليس صفة مفردة ، ولكنه صورة منتزعة من متعدد ، وهي وجود جانبين لشيء في حالة حركة وتموج.

عبد القاهر إذن يفرق بين التشبيه العام وتشبيه التمثيل على النحو الذي بسطناه ، ويرى أن بين الاثنين عموما وخصوصا مطلقا ، فكل تمثيل عنده تشبيه وليس كل تشبيه تمثيلا.

ولكنّ كثيرا من البلاغيين ينظرون إلى المعنى اللغوي للتشبيه ، وهو التمثيل ، فيجعلون التشبيه والتمثيل مترادفين ، ومن هؤلاء البلاغيين ضياء الدين بن الأثير الذي يقول : «وجدت علماء البيان قد فرّقوا بين التشبيه والتمثيل ، وجعلوا لهذا بابا ولهذا بابا مفردا ، وهما شيء واحد لا فرق بينهما في أصل الوضع ، يقال شبّهت هذا الشيء بهذا الشيء ، كما يقال مثلته به. وما أعلم كيف خفي ذلك على أولئك العلماء مع ظهوره ووضوحه» (١).

أركان التشبيه

أركان التشبيه أربعة هي :

١ ـ المشبّه.

٢ ـ المشبه به. ويسميان «طرفي التشبيه».

٣ ـ أداة التشبيه ، وهي الكاف أو نحوها ملفوظة أو مقدرة.

٤ ـ وجه الشبه ، وهو الصفة أو الصفات التي تجمع بين الطرفين.

__________________

(١) كتاب المثل السائر ص ١٥٣.

٦٤

طرفا التشبيه

طرفا التشبيه هما المشبه والمشبه به ، وهما ركناه الأساسيان ، وبدونهما لا يكون تشبيه.

ولعل قدامة بين جعفر هو أول من بحث التشبيه بحثا أقرب إلى المنهاج العلمي ، فأساس التشبيه عنده أن يقع بين شيئين بينهما اشتراك في معان تعمّهما ويوصفان بها ، وافتراق في أشياء ينفرد كل واحد منهما بصفتها.

وهو يبني قوله هذا على أساس أن الشيء لا يشبّه بنفسه ولا بغيره من كل الجهات ، لأن الشيئين إذا تشابها من جميع الوجوه ، ولم يقع بينهما تغاير البتة اتّحدا ، فصار الاثنان واحدا. وإذا كان الأمر كذلك ، فأحسن التشبيه عنده هو ما وقع بين الشيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما فيها ، حتى يدنى بهما إلى حال الاتحاد (١).

وقد تابع أبو هلال العسكري قدامة في رأيه القائل بأن الشيئين إذا تشابها من جميع الوجوه ، ولم يقع بينهما تغاير البتة اتحدا ، فصار الاثنان واحدا ، وذلك إذ يقول : «ويصح تشبيه الشيء بالشيء جملة ، وإن شابهه من وجه واحد ، مثل قولك : وجهك مثل الشمس ، ومثل البدر ، وإن لم يكن مثلهما في ضيائهما ولا عظمهما ، وإنما شبّه بهما لمعنى يجمعهما وإياه وهو الحسن. وعلى هذا قول الله عزوجل : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ ،) إنما شبّه المراكب بالجبال من جهة عظمها لا من جهة

__________________

(١) انظر نقد الشعر لقدامة ص ٧٧ ـ ٧٨.

٦٥

صلابتها ورسوخها ورزانتها ، ولو أشبه الشيء الشيء من جميع جهاته لكان هو هو» (١).

وما من شك في أن ابن رشيق كان ينظر أيضا إلى قول قدامة الآنف الذكر عند ما قال في كتابه العمدة ما معناه : إن المشبه لو ناسب المشبه به مناسبة كلية لكان إياه ، كقولهم «فلان كالبحر» ، إنما يريدون كالبحر سماحة وعلما وليس يريدون ملوحة البحر وزعوقته (٢).

ومما يجري مجرى الكلام السابق بالنسبة لطرفي التشبيه قول السكاكي : «لا يخفى عليك أن التشبيه مستدع طرفين مشبّها ومشبّها به ، واشتراكا بينهما من وجه وافتراقا من آخر ، مثل أن يشتركا في الحقيقة ويختلفا في الصفة أو بالعكس. فالأول كالإنسانين إذا اختلفا طولا وقصرا ، والثاني كالطولين إذا اختلفا حقيقة : إنسانا وفرسا ، وإلا فأنت خبير بأن ارتفاع الاختلاف من جميع الوجوه حتى التعيّن يأبى التعدد ، فيبطل التشبيه ، لأن تشبيه الشيء لا يكون إلا وصفا له بمشاركته المشبّه به في أمر ، والشيء لا يتصف بنفسه. كما أن عدم الاشتراك بين الشيئين في وجه من الوجوه يمنعك محاولة التشبيه بينهما ، لرجوعه إلى طلب الوصف حيث لا وصف» (٣).

وطرفا التشبيه : إما :

١ ـ حسيّان : والمراد بالحسيّ ما يدرك هو أو مادته بإحدى الحواس الخمس الظاهرة ؛ ومعنى هذا أنهما قد يكونان من المبصرات ، أو

__________________

(١) كتاب الصناعتين ص ٢٣٩.

(٢) كتاب العمدة ج ١ ص ٢٥٦.

(٣) كتاب مفتاح العلوم للسكاكي ص ١٧٧.

٦٦

المسموعات ، أو في المذوقات ، أو المشمومات ، أو الملموسات :

أ ـ فيكونان من المبصرات ، أي مما يدرك بالبصر من الألوان والأشكال والمقادير والحركات وما يتصل بها ، كقوله تعالى : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) فالجامع البياض والحمرة. وكقول الشاعر :

أنت نجم في رفعة وضياء

تجتليك العيون شرقا وغربا

فالمخاطب الممدوح هنا شبّه بالنجم في الرفعة والضياء.

ونحو تشبيه الخد بالورد في البياض المشرب بحمرة ، وتشبيه الوجه الحسن بالشمس والقمر في الضياء والبهاء ، والشعر بالليل في السواد.

ب ـ ويكونان من المسموعات ، أي مما يدرك بالسمع من الأصوات الضعيفة والقوية والتي بين بين ، نحو تشبيهك صوت بعض الأشياء بصوت غيره ، كتشبيه صوت المرأة الجميل بصوت البلبل ، وصوت الغاضب الهائج بنباح الكلاب ، وكقول امرىء القيس :

يغط غطيط البكر شد خناقه

ليقتلني والمرء ليس بقتّال

فامرؤ القيس يصور هنا غضب رجل أظهرت امرأته ميلا نحو الشاعر ، فيشبه غطيط أو صوت هذا الزوج المغيظ المحنق بغطيط البكر وهو الفتيّ من الإبل الذي يشد حبل في خناقه لترويضه وتذليله.

ج ـ ويكونان في المذوقات ، أي مما يدرك بالذوق من المطعوم ، كتشبيه بعض الفواكه الحلوة بالعسل والسكر ، والريق بالشهد أو الخمر ، وكقول الشاعر :

كأن المدام وصوب الغمام

وريح الخزامى وذوب العسل

يعل به برد أنيابها ..

إذا النجم وسط السماء اعتدل

٦٧

د ـ ويكونان في المشمومات ، أي مما يدرك بحاسة الشم من الروائح ، وهذا نحو تشبيه رائحة بعض الرياحين برائحة الكافور والمسك ، وتشبيه النّكهة بالعنبر ، وتشبيه أنفاس الطفل بعطر الزهر ، وتشبيه رائحة فم المرأة وأعطافها بعد النوم بالمسك.

ه ـ ويكونان في الملموسات ، أي في كل ما يدرك باللمس من الحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، والخشونة والملاسة ، واللين والصلابة ، والخفة والثقل وما يتصل بها ؛ كتشبيه اللين الناعم بالخز ، والجسم بالحرير ، وكقول الشاعر :

لها بشر مثل الحرير ومنطق

رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر

٢ ـ أو عقليان : والمراد بالطرفين العقليين أنهما لا يدركان بالحس بل بالعقل ، وذلك كتشبيه العلم بالحياة ، والجهل بالموت ، فقد شبه هنا معقول بمعقول ، أي أن كلا منهما لا يدرك إلا بالعقل.

٣ ـ أو مختلفان : وذلك بأن يكون أحدهما عقليا والآخر حسيّا ، كتشبيه المنيّة بالسبع ، والمعقول هو المشبه ، والمحسوس هو المشبه به ، وكتشبيه العطر بالخلق الكريم ، فالمشبه وهو العطر محسوس بالشم ، والمشبه به وهو الخلق عقليّ.

والتشبيه الحسي الذي يدرك هو أو مادته بإحدى الحواس الخمس يدخل فيه أو يلحق به التشبيه «الخيالي». والتشبيه الخيالي هو المركب من أمور كل واحد منها موجود يدرك بالحسّ ، لكن هيئته التركيبية ليس لها وجود حقيقي في عالم الواقع ، وإنما لها وجود متخيّل أو خيالي.

ولكن لأن أجزاء التشبيه الخيالي موجودة تدرك بالحس ألحق بالتشبيه

٦٨

الحسي ، لاشتراك الحس والخيال في أن المدرك بهما صورة لا معنى ، وذلك كقول الشاعر :

وكأنّ محمرّ الشقي

ق إذا تصوّب أو تصعّد

أعلام ياقوت نشر

ن على رماح من زبرجد (١)

فالهيئة التركيبية التي قصد التشبيه بها هنا ، وهي نشر أعلام مخلوقة من الياقوت على رماح مخلوقة من الزبرجد لم تشاهد قط لعدم وجودها في عالم الحس والواقع ، ولكن العناصر التي تألفت منها هذه الصورة المتخيلة ، من الأعلام والياقوت والرماح والزبرجد موجودة في عالم الواقع وتدرك بالحس.

ويدخل البلاغيون في التشبيه العقلي ما يسمونه بالتشبيه «الوهميّ» ، وهو ما ليس مدركا بإحدى الحواس الخمس الظاهرة ، ولكنه لو وجد فأدرك ، لكان مدركا بها ، كما في قوله تعالى في شجرة الزقوم التي تخرج في أصل الجحيم : (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) ، وكقول امرىء القيس :

أيقتلني والمشرفي مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أعوال؟

فالشياطين (٢) والغول وأنيابها مما لا يدرك بإحدى الحواس الخمس الظاهرة ، ولكنها لو وجدت فأدركت لكان إدراكها عن طريق حاسة البصر.

__________________

(١) الشقيق : ورد أحمر في وسطه سواد ينبت في الجبال ، وتصوب : مال إلى أسفل ، وتصعد : مال إلى أعلى.

(٢) من عادة العرب أن يشبهوا كل قبيح الصورة بالشيطان لأن له صورة بشعة في توهمهم ، وأن يشبهوا حسن الصورة بالملك بفتح اللام ، لحسن صورته في توهمهم.

٦٩

ويدخل في العقلي أيضا ما يدرك بالوجدان ، كاللذة والألم ، والشّبع والجوع ، والفرح والغضب. وما يدرك بالوجدان يعني ما يدرك بالقوى الباطنية مثل القوة التي يدرك بها الشّبع ، والتي يدرك بها الجوع ، وكالقوة الغضبية التي يدرك بها الغضب ، وكذلك القوة التي يدرك بها الفرح والخوف وغير ذلك من الغرائر.

فمثل هذه المعاني توجد بفعل قوى باطنية تدركها النفس بها ، وتسمى تلك القوى وجدانا ، والمدركات بها وجدانيات. وقد سميت عقلية لخفائها وعدم إدراكها بالحواس الظاهرة ، كالألوان المدركة بالعين ، والطعم المدرك بالذوق.

أجود التشبيه عند أبي هلال :

وعند أبي هلال العسكري أن أجود التشبيه وأبلغه ما يقع على أربعة (١) أوجه :

أحدها : إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه ، وهو قول الله عزوجل : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ)(٢) يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً ، فأخرج ما لا يحس إلى ما يحس ، والمعنى الذي يجمعهما بطلان المتوهم مع شدة الحاجة وعظم الفاقة ولو قال : «يحسبه الرائي ماء» لم يقع موقع قوله : «الظمآن» ؛ لأن الظمآن أشد فاقة إلى الماء ، وأعظم حرصا عليه.

وهكذا قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ

__________________

(١) كتاب الصناعتين ص ٢٤٠.

(٢) القيعة بكسر القاف والقاع : المستوي من الأرض الذي لا ينبت.

٧٠

بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ.) والمعنى الجامع بينهما بعد التلاقي ، وعدم الانتفاع.

وكذلك قوله تعالى في حال من كذب بآياته ورفض الإيمان في كل حال «فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث» ، أخرج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه من لهث الكلب. والمعنى أن الكلب لا يطيعك في ترك اللهث على حال ، وكذلك الكافر لا يجيبك إلى الإيمان في رفق ولا عنف.

ومثله قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ ،) فالمعنى الذي يجمع بينهما الحاجة إلى المنفعة ، والحسرة لما يفوت من درك الحاجة.

والوجه الآخر :

ما لم تجر به العادة إلى ما جرت به العادة ، كقوله تعالى : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ ،)(١) والمعنى الجامع بين المشبه والمشبه به الانتفاع بالصورة.

ومن هذا قوله تعالى : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ ، حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ ، وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً ، كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ،)(٢) هو بيان ما جرت به العادة

__________________

(١) النتق : الزعزعة والنقض والرفع ، ومعنى «نتقنا الجبل» زعزعناه ورفعناه ، والظلة : الغمامة ، والمراد بالجبل : جبل الطور.

(٢) سورة يونس ٢٤ ، اختلط به نبات الأرض : اختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء وجودة الأرض ، أخذت الأرض زخرفها : صار منظرها بهيجا ، وازينت : أي بأشكال ـ النبات وألوانه ، قادرون عليها : قادرون على التمتع بها ، أتاها أمرنا : نزل بها ما أمرنا به من إهلاكها ، جعلناها حصيدا : جعلنا ما على الأرض كالمحصود ، أي هالكا ، كأن لم تغن بالأمس : كأن لم يكن نباتها موجودا بالأمس.

٧١

إلى ما لم تجر به ، والمعنى الذي يجمع الأمرين الزينة والبهجة ، ثم الهلاك ، وفيه العبرة لمن اعتبر والموعظة لمن تذكر.

ومنه قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ، تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ،) فاجتمع الأمران في قلع الريح لهما وإهلاكهما ، والتخوف من تعجيل العقوبة.

ومنه قوله تعالى : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ ،)(١) والجامع للمعنيين الحمرة ولين الجوهر ، وفيه الدلالة على عظم الشأن ، ونفوذ السلطان.

ومنه قوله تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً ،) والجامع بين الأمرين الإعجاب ، ثم سرعة الانقلاب ، وفيه الاحتقار ، للدنيا ، والتحذير من الاغترار بها.

والوجه الثالث :

إخراج ما لا يعرف بالبديهة إلى ما يعرف بها ، فمن هذا قوله عزوجل : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ،) فقد أخرج ما لا يعلم بالبديهة وهو عرض الجنة إلى ما يعلم

__________________

(١) وردة : كوردة ، كالدهان : أصله ما يدهن به ، والمراد كالزيت الذي يغلى ، فهو تشبيه آخر قصد به أن وجه الشبه هو الذوبان والحرارة.

٧٢

بها ، والجامع بين الأمرين العظم ، والفائدة فيه التشويق إلى الجنة بحسن الصفة.

ومثله قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها ، كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) والجامع بين الأمرين الجهل بالمحمول ، والفائدة فيه الترغيب في تحفظ العلوم ، وترك الاتكال على الرواية دون الدراية.

ومنه قوله تعالى : (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ،)(١) والجامع بين الأمرين خلو الأجساد من الأرواح ، والفائدة الحث على احتقار ما يؤول به الحال.

وهكذا قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ،) فالجامع بين الأمرين ضعف المعتمد ، والفائدة التحذير من حمل النفس على التغرير بالعمل على غير أس.

والوجه الرابع :

إخراج ما لا قوة له في الصفة على ما له قوة فيها ، كقوله عزوجل : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ ،) والجامع بين الأمرين العظم ، والفائدة البيان عن القدرة في تسخير الأجسام العظام في أعظم ما

__________________

(١) ريح صرصر : أي شديدة الصوت مزعجة ، عاتية : بالغة منتهى الشدة في التدمير ، حسوما : جمع حاسم ، أي قاطع بوزن شهود وشاهد ، والمراد قاطعات لدابرهم ، صرعى : جمع صريع أي هالك ، أعجاز نخل خاوية : أي جذوع نخل خالية تناثر كل ما في جوفها.

٧٣

يكون من الماء. وعلى هذا الوجه يجري أكثر تشبيهات القرآن ، وهي الغاية في الجودة ، والنهاية في الحسن.

وقد جاء في أشعار المحدثين تشبيه ما يرى بالعيان بما ينال بالفكر ، وهو رديء ، وإن كان بعض الناس يستحسنه لما فيه من اللطافة والدقة ، وهو مثل قول الشاعر :

وندمان سقيت الراح صرفا

وأفق الليل مرتفع السّجوف

صفت وصفت زجاجتها عليها

كمعنى دقّ في ذهن لطيف

فأخرج ما تقع عليه الحاسة إلى ما لا تقع عليه ، وما يعرف بالعيان إلى ما يعرف بالفكر. ومثله كثير في أشعارهم.

أقسام التشبيه عند المبرد :

والمبرد من أوائل العلماء الذين درسوا فن التشبيه ، وهو يقسمه إلى أربعة أضرب :

١ ـ التشبيه المفرط : وهو التشبيه المبالغ فيه ، أو المبالغ في الصفة التي تجمع بين المشبه والمشبه به ، كقول الخنساء في أخيها صخر :

وإن صخرا لتأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

فجعلت المهتدي يأتم به ، وجعلته كأنه نار في رأس علم ، والعلم الجبل.

ومن هذا النوع في شعر المحدثين قول بشار :

كأن فؤاده كرة تنزّي

حذار البين إن نفع الحذار

وقول أبي نواس الحسن بن هانىء في صفة الخمر :

٧٤

فإذا ما اجتليتها فهباء

تمنع الكفّ ما تبيح العيونا (١)

أكل الدهر ما تجسّم منها

وتبقّى لبابها المكنونا

فهي بكر كأنها كل شيء

يتمنى مخيّر أن يكونا

في كؤوس كأنهن نجوم

جاريات بروجها أيدينا

طالعات من السّقاة علينا

فإذا ما غربن يغربن فينا

فهذا تشبيه مفرط يصفه المبرد بأنه غاية على سخف كلام المحدثين!.

٢ ـ التشبيه المصيب : ويفهم من الأمثلة التي أوردها المبرد أنه يعني به ما خلا من المبالغة وأخرج الأغمض إلى الأوضح ، كقول امرىء القيس في طول الليل :

كأن الثريا علّقت في مصامها

بأمراس كتان إلى صمّ جندل (٢)

فهذا التشبيه في ثبات الليل ، لأنه يخيل إليه من طوله كأن نجومه مشدودة بحبال من الكتان إلى صخور صلبة ، وإنما استطال الليل لمعاناته الهموم ومقاساته الأحزان فيه. وكقوله في ثبات الليل :

فيا لك من ليل كأن نجومه

بكل مغار الفتل شدت بيذبل (٣)

__________________

(١) الهباء : الذرات المنبثة التي ترى في ضوء الشمس ، وتجسم : صار جسما ، أي لم يبق من الخمر إلا روحها ، لأن الخمر إذا عتقت صفت ورقت وكاد يخفى جسمها.

(٢) الثريا : من الكواكب ، وسميت بذلك لكثرة كواكبها مع صغر مرآتها ، في مصامها : في مكانها الذي لا تبرح منه كمصام الفرس ، وهو مربطه ، والأمراس : جمع مرس وهو الحبل ، وصم : جمع أصم ، وهو الصلب ، والجندل : الصخرة ، والجمع جنادل.

(٣) مغار الفتل : شديد الفتل ، ويذبل : اسم جبل.

٧٥

فهو هنا يشبه نجوم الليل في ثباتها وعدم تحركها كما لو كانت قد شدت بشيء مفتول قوي إلى جانب هذا الجبل.

وقد ذكر ابن رشيق أمثلة للتشبيه المصيب منها قول النابغة في وصف المتجردة :

نظرت إليك بحاجة لم تقضها

نظر السقيم إلى وجوه العوّد

وقول عدي بن الرقاع العاملي :

وكأنها وسط النساء أعارها

عينيه أحور من جآذر جاسم

وسنان أقصده النعاس فرنّقت

في عينه سنة وليس بنائم

وقول صريع الغواني :

فغطت بأيديها ثمار نحورها

كأيدي الأسارى أثقلتها الجوامع (١)

٣ ـ التشبيه المقارب : كقول ذي الرمة :

ورمل كأوراك العذارى قطعته

وقد جللته المظلمات الحنادس

وهذا من نوع التشبيه المقلوب الذي يجعل فيه المشبه مشبها به فالعادة أن أعجاز النساء أو أوراك العذارى تشبه بكثبان الرمال ولكن الشاعر هنا قلب التشبيه طلبا للمبالغة.

ومن المقارب الحسن قول الشماخ :

كأن المتن والشرخين منه

خلاف النصل سيط به مشيج

__________________

(١) كتاب العمدة ج ١ ص ٢٧٠ ، والجوامع : الأكبال.

٧٦

يريد سهما رمى به فأنفذ الرميّة وقد اتصل به دمها ، والمتن متن السهم ، وشرخ كل شيء حده ، فأراد شرخي الفوق (١) وهما حرفاه ، والمشيج المختلط.

٤ ـ التشبيه البعيد : وهو الذي يحتاج إلى تفسير ، وعند المبرد أن هذا النوع هو أخشن الكلام ، كقول الشاعر :

بل لو رأتني أخت جيراننا

إذ أنا في الدار كأني حمار

فإن الشاعر أراد الصحة ، وهذا بعيد ، لأن السامع إنما يستدل عليه بغيره. وقال الله عزوجل ـ وهو من البين الواضح ـ : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) في أنهم قد تعاموا عن التوراة وأضربوا عن حدودها وأمرها ونهيها حتى صاروا كالحمار الذي يحمل الكتب ولا يعلم ما فيها.

ويلاحظ على هذا التقسيم الذي أورده المبرد للتشبيه أمور منها : أن هذه الأنواع الأربعة هي صفات لبعض التشبيهات ، وأنه لم يضع حدودا تميز كل نوع عما عداه. وترك هذا لحدس القارىء وتخمينه ، وأنه قد حكم على بعض الأمثلة التي أوردها بالحسن أو القبح دون أن يعلل لما استحسنه أو استقبحه. ولكنه في عصره المبكر وفي المراحل الأولى للبلاغة والنقد لم يكن ينتظر منه أن يتوسع في دراسة التشبيه بأكثر مما فعل.

أداة التشبيه

وأداة التشبيه كل لفظ يدل على المماثلة والاشتراك ، وهي حرفان وأسماء ، وأفعال ، وكلها تفيد قرب المشبه من المشبه به في صفته. والحرفان هما :

__________________

(١) الفوق بضم الفاء : فوق السهم ، وهو موضع الوتر.

٧٧

١ ـ الكاف : وهي الأصل لبساطتها ، والأصل فيها أن يليها المشبه به ، كقول الشاعر :

أنا كالماء ـ إن رضيت ـ صفاء

وإذا ما سخطت كنت لهيبا

وقول آخر :

أنت كالليث في الشجاعة والإقدام

والسيف في قراع الخطوب (١)

وقد يليها مفرد لا يتأتى التشبيه به ، وذلك إذا كان المشبه به مركبا ، كقوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ) إذ ليس المراد تشبيه حال الدنيا بالماء ، ولا بمفرد آخر يتعمل ويتمحل لتقديره ، بل المراد تشبيه حالها في نضارتها وبهجتها وما يعقبها من الهلاك والفناء ، بحال النبات يكون أخضر وارفا ثم يهيج فتطيّره الرياح كأن لم يكن. ونحو قول لبيد :

وما الناس إلا كالديار وأهلها

بها يوم حلّوها وبعد بلاقع

فلبيد لم يشبه الناس بالديار ، وإنما شبه وجودهم في الدنيا وسرعة زوالهم وفنائهم بحلول أهل الديار فيها وسرعة نهوضهم عنها وتركها خالية.

٢ ـ كأن : وتدخل على المشبه أو يليها المشبه ، كقول الشاعر :

كأن أخلاقك في لطفها

ورقة فيها نسيم الصباح

وقول آخر :

وكأنّ الشمس المنيرة دينا

رجلته حدائد الضّرّاب (٢)

__________________

(١) قراع الخطوب : مصارعة الشدائد والتغلب عليها.

(٢) جلته : صقلته. والضراب : الذي يطبع النقود.

٧٨

و «كأن» حرف مركب عند أكثر علماء اللغة من الكاف وإن. قالوا : والأصل في «كأن زيدا أسد» «إن زيدا كأسد» ثم قدم حرف التشبيه اهتماما به ، ففتحت همزة «إن» لدخول الجار ، وما بعد الكاف جرّ بها.

و «كأن» للتشبيه على الإطلاق ، وهذا هو استعمالها الغالب والمتفق عليه من جمهور النحاة ، وزعم جماعة من النحاة أنها لا تكون للتشبيه إلا إذا كان خبرها اسما جامدا ، نحو : كأن زيدا أسد. بخلاف كأن زيدا قائم ، أو في الدار ، أو عندك ، أو يقوم ، فإنها في ذلك كله للظن والشك. أي بمنزلة ظننت وتوهمت. ومعنى هذا أنه إذا كان خبرها وصفا أو جملة أو شبه جملة فهي فيهن للظن ، ولا تكون للتشبيه إلا إذا كان الخبر مما يتمثل به. فإن قلت : كأن زيدا قائم ، لا يكون تشبيها لأن الشيء لا يشبه نفسه. ولكن جمهور النحاة على الرأي الأول القائل بأنها للتشبيه على الإطلاق ، وعلى هذا يقولون : إن معنى كأن زيدا قائم ، تشبيه حالته غير قائم بحالته قائما.

٣ ـ مثل : ومن أدوات التشبيه مثل وما في معنى مثل كلفظة «نحو» ، وما يشتق من لفظة مثل وشبه ، نحو مماثل ومشابه وما رادفهما. وأما أدوات التشبيه الفعلية فنحو : يشبه ويشابه ويماثل ويضارع ويحاكي ويضاهي.

وقد يذكر فعل ينبىء عن التشبيه كالفعل «علم» في قولك : علمت زيدا أسدا ونحوه ، هذا إذا قرب التشبيه بمعنى أن يكون وجه الشبه قريب الإدراك ، فيحقق بأدنى التفات إليه. وذلك لأن العلم معناه التحقق ، وذلك مما يناسب الأمور الظاهرة البعيدة عن الخفاء.

أما إن بعد التشبيه أدنى تبعيد قيل : خلته وحسبته ونحوهما لبعد الوجه عن التحقق ، وخفائه عن الإدراك العلمي ، وذلك لأن الحسبان

٧٩

ليس فيه الرجحان ، ومن شأن البعيد عن الإدراك أن يكون إدراكه كذلك دون التحقق المشعر بالظهور وقرب الإدراك.

التشبيه باعتبار الأداة :

والبلاغيون يقسمون التشبيه باعتبار الأداة إلى مرسل ومؤكد :

١ ـ فالتشبيه المرسل : هو ما ذكرت فيه أداة التشبيه ، نحو :

خلق كالمدام أو كرضا ال

مسك أو كالعبير أو كالملاب

وقول الشاعر :

العمر مثل الضيف أو

كالطيف ليس له إقامة

وقول المتنبي في هجاء إبراهيم بن إسحاق الأعور بن كيغلغ :

وإذا أشار محدثا فكأنه

قرد يقهقه أو عجوز تلطم

٢ ـ والتشبيه المؤكد : هو ما حذفت منه أداة التشبيه ، وتأكيد التشبيه حاصل من ادعاء أن المشبه عين المشبه به ، وذلك نحو قوله تعالى تصويرا لبعض ما يرى يوم القيامة : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً ، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) أي أن الجبال ترى يوم ينفخ في الصور تمر كمر السحاب ، أي تسير في الهواء كسير السحاب الذي تسوقه الرياح.

ومنه شعرا قول المتنبي مادحا :

أين أزمعت أيهذا الهمام

نحن نبت الرّبا وأنت الغمام (١)

كل عيش ما لم تطبه حمام

كل شمس ما لم تكنها ظلام (٢)

__________________

(١) أزمعت : وطدت عزمك ، والربا جمع ربوة : الأراضي العالية.

(٢) المعنى : كل عيش لم تطبه وتؤنسه هو كالحمام أي الموت ، وكل شمس إذا لم تكن أنت إياها كالظلام.

٨٠