علم البيان

الدكتور عبدالعزيز عتيق

علم البيان

المؤلف:

الدكتور عبدالعزيز عتيق


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٠

١
٢

٣
٤

مقدّمة

هذا الكتاب يضم بين دفتيه محاضرات في «علم البيان» ألقيتها على طلبة الصف الثاني في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة بيروت العربية.

والقسم الأول من هذه المحاضرات يعالج تاريخ علم البيان ويتابع نشأته وتطوره في العصور المختلفة ، أي منذ بدأت مباحثه في صورة ملاحظات بلاغية حتى صارت علما واضح المعالم قائما بذاته على يد عبد القاهر الجرجاني والزمخشري والسكاكي ومن بعدهم من رجال البلاغة.

وقد حرصنا في هذا العرض التاريخي على التعريف بعلماء البلاغة وأعمالهم ، مسلطين الضوء بوجه خاص على ما ورد في كتبهم متصلا بفنون علم البيان موضوع بحننا. كذلك حرصنا على بيان منهاج كل منهم في بحثة ومدى تأثره بمن قبله وتأثيره فيمن بعده ، مع الإشارة إلى من أدّت مساهمته منهم في هذا الميدان إلى نهضة البلاغة العربية أو جمودها.

أما القسم الثاني من المحاضرات فدراسة مفصلة تحليلية تعززها النماذج والشواهد لفنون علم البيان من التشبيه ، والحقيقة والمجاز بأنواعه ، والكناية.

والله أسأل أن ينفع بهذه المحاضرات بمقدار الجهد الذي بذل فيها.

المؤلف

٥
٦

نشأة علم البيان وتطوّره

ـ ١ ـ ترتبط «البلاغة العربية» في الأذهان عند ذكرها بعلومها الثلاثة المعروفة لنا اليوم وهي : علم المعاني ، وعلم البيان ، وعلم البديع.

وقد يتبادر إلى بعض الأذهان أنّ هذه العلوم الثلاثة البلاغية قد نشأ كل واحد منها مستقلا عن الآخر بمباحثه ونظرياته ، ولكن الواقع غير ذلك.

فالواقع أنّ البلاغة العربية قد مرّت بتاريخ طويل من التطور حتى انتهت إلى ما انتهت إليه ، وكانت مباحث علومها مختلطا بعضها ببعض منذ نشأة الكلام عنها في كتب السابقين الأولين من علماء العربية ، وكانوا يطلقون عليها «البيان».

وقد أخذت الملاحظات البيانات تنشأ عند العرب منذ العصر الجاهلي ، ثمّ مضت هذه الملاحظات تنمو بعد ظهور الإسلام لأسباب شتّى ، منها تحضر العرب ، واستقرارهم في المدن والأقطار المفتوحة ، ونهضتهم العقلية ، ثمّ الجدل الشديد الذي قام بين الفرق الدينية المختلفة

٧

في شؤون العقيدة والسياسة. فكان طبيعيا لذلك كله أن تكثر الملاحظات البيانية والنقدية تلك التي نلتقي بها في تراجم بعض الشعراء الجاهليين والإسلاميين في كتاب مثل كتاب الأغاني.

وإذا انتقلنا إلى العصر العباسي فإننا نجد بالإضافة إلى نمو الملاحظات البلاغية محاولات أولية لتدوين هذه الملاحظات وتسجيلها ، كما هو الشأن في كتب الجاحظ ، وبخاصة كتاب «البيان والتبيين». وقد أدّى إلى هذه النقلة الجديدة عوامل منها تطور الشعر والنثر بتأثير الحضارة العباسية ، ورقي الحياة العقلية فيها ، ومنها ظهور طائفتين من العلماء المعلمين عنيتا بشؤون اللغة والبيان ، إحداهما طائفة محافظة هي طائفة اللغويين ، وهؤلاء كانوا يعلمون رواية الأدب وأصوله اللغوية والنحوية ، وكان اهتمامهم بالشعر الجاهلي والإسلامي أكثر من اهتمامهم بالشعر العباسي ، وقد هداهم البحث في أساليب الشعر القديم من ناحيتيها اللغوية والنحوية إلى استنباط بعض الخصائص الأسلوبية على نحو ما نجد في كتاب سيبويه من مثل كلامه عن التقديم والتأخير ، والحذف والذكر ، والتعريف والتنكير ، ونحو ذلك.

كذلك نلتقي بكتاب «معاني القرآن» للفرّاء «٢٠٧ ه‍» ، والذي يعنى فيه بالتأويل وتصوير خصائص بعض التراكيب ، والإشارة إلى ما في آي الذكر الحكيم من الصور البيانية.

ثمّ نلتقي بكتاب «مجاز القرآن» لأبي عبيدة معمر بن المثنى «٢١١ ه‍» الذي كان معاصرا للفراء ، وهذا الكتاب لا يبحث في مجاز القرآن من الجانب البلاغي ، وإنّما هو بحث في تأويل بعض الآيات القرآنية ، وأبو عبيدة هذا هو أوّل من تكلم بلفظ المجاز ، كما ذكر ابن تيمية في كتابه «الإيمان» ولكنه لم يتكلّم عن المجاز الذي هو قسيم الحقيقة ، وإنّما المجاز

٨

عنده يعني بيان المعنى. ومع هذا فقد وردت في كتابه «مجاز القرآن» إشارات إلى بعض الأساليب البيانية كالتشبيه والاستعارة والكناية ، وبعض خصائص التعبير النحوية التي لها دلالات معنوية من مثل الذكر والحذف والالتفات والتقديم والتأخير.

ومع ما اهتدى إليه كل من الفراء وأبي عبيدة من السمات والخصائص البيانية فإنّ مدلولاتها البلاغية لم تتبلور وتحدد في ذهن أي منهما أو أي من اللغويين والنحاة المعاصرين لهما.

أما طائفة العلماء المعلمين الأخرى التي ظهرت في العصر العباسي فهي طائفة علماء الكلام وفي طليعتهم المعتزلة الذين كانوا يدربون تلاميذهم على فنون الخطابة والجدل والبحث والمناظرة في الموضوعات المتصلة بفكرهم الاعتزالي. وكان هذا التدريب يعمق ويمتد حتى يشمل الكلام وصناعته وقيمته البلاغية والجمالية.

وقد حفظ لنا كتاب البيان والتبيين للجاحظ قدرا كبيرا من ملاحظات المعتزلة المتصلة بالبلاغة العربية ، وهذه قد استقوها من مصدرين هما : التقاليد العربية ، والثقافات الأجنبية التي شاعت في عصرهم واطلعوا عليها. فالثقافات الأجنبية التي أخذوا أنفسهم بدراستها وتعمّقوا في فلسفتها ومنطقها قد عادت عليهم بفائدتين لهما أثرهما في شؤون البلاغة : فائدة عقلية بحتة مصدرها دراسة الفلسفة الإغريقية التي نظمت عقولهم تنظيما دقيقا أعانهم على استنباط القضايا البلاغية ، وفائدة أخرى ترجع إلى طلبهم معرفة ما في ثقافات الأمم الأخرى التي وصلت إليهم من قواعد البلاغة والبيان.

ويتضح ذلك حين نجد الجاحظ المعتزلي يورد في كتابه البيان والتبيين تعاريف اليونان والفرس والهند للبلاغة وهذا يعني أنّ المعتزلة

٩

أخذوا يضيفون إلى ملاحظات العرب الخاصة في البلاغة ملاحظات الأمم الأجنبية وخاصة اليونان ، ومضوا من خلال ذلك ينفذون إلى وضع المقدمات الأولى لقواعد البلاغة العربية.

وأوّل معتزلي خطا خطوة ملحوظة في هذا السبيل هو رئيس المعتزلة ببغداد بشر بن المعتمر المتوفى سنة ٢١٠ للهجرة ، فعنه نقل الجاحظ صفحات نثر فيها بشر ملاحظات دقيقة في البلاغة ، تلقفها من جاء بعده من العلماء ، واستعانوا بها على بلورة بعض أصول البلاغة وقواعدها.

ولعلّ أكبر معتزلي جاء بعد بشر بن المعتمر وأولى البلاغة العربية عناية فائقة هو أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ المتوفى سنة ٢٥٥ للهجرة. فقد ألّف في البلاغة كتابه «البيان والتبيين» في أربعة مجلدات ضخام جمع فيها معظم ما انتهى إلى عصره من ملاحظات بلاغية ، سواء ما اهتدى إليه علماء العربية بأنفسهم أو ما جاء إليهم منقولا عن آداب الفرس والهند واليونان وغيرهم أو عن طريق ما قاله بشر (١) بن المعتمر وكان به سابقا لعصره في ميدان البلاغة. هذا بالإضافة إلى آراء الجاحظ وملاحظاته الخاصة في القضايا البلاغية ، ولا سيما ما يتصل بالتشبيهات والاستعارات والمجازات التي هي موضوع «علم البيان».

وقد خطا الجاحظ خطوة غير مسبوقة في ملاحظاته البلاغية ، وذلك بالكلام عن التشبيه والاستعارة عن طريق النماذج ، مع التفريق بينهما ، كما استعمل «المثل» مرادفا للمجاز ، وجعله مقابلا للحقيقة ، وذلك إذ يقول عند حديثه عن «نار الحرب» (٢) : «ويذكرون نارا أخرى ، وهي على طريق

__________________

(١) كتاب البيان والتبيين ج : ١ ص : ١٣٥.

(٢) أي غير النار الحقيقية ، وهي التي كان يوقدها العرب ليلا على جبل إذا توقعوا جيشا عظيما في حرب وأرادوا الاجتماع لإبلاغ الخبر إلى أصحابهم.

١٠

المثل لا على طريق الحقيقة. قال ابن ميادة :

يداه يد تنهلّ بالخير والندى

وأخرى شديد بالأعادي ضريرها

وناراه : نار نار كل مدفّع

وأخرى يصيب المجرمين سعيرها» (١)

فالمثل المرادف عنده للمجاز قد استعمله مقابلا للحقيقة ، وبهذا كان أوّل من فطن إلى تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز. ولا شك أنّ هذا ينفي ما زعمه ابن تيمية في كتابه «الإيمان» (٢) من أنّ تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز تقسيم حادث بعد القرن الثالث الهجري.

ولعلّ خير من أفاد من ملاحظات الجاحظ البلاغية وبنى عليها وطورها هو ضياء الدين بن الأثير المتوفى سنة ٦٣٧ للهجرة ، في كتابه «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر» ، كما سنرى فيما بعد.

ومجمل القول في الجاحظ من جهة البلاغة أنّه ألّم في كتبه بالأساليب البيانية من تشبيه واستعارة وكناية وحقيقة ومجاز ، ولكنه لم يوردها في تعريفات اصطلاحية ، وإنّما جاء تعريفه لها والدلالة عليها عن طريق الأمثلة والنماذج لا عن طريق القواعد البلاغية.

والمقارنة بينه وبين من تقدموه في هذا الميدان تظهر أنّه كان بلا شك أقدرهم على إدراك أسرار البلاغة ، وأكثرهم اهتداء عن طريق النماذج إلى شتى العناصر أو الأساليب البيانية التي عرفت وحدّدت فيما بعد ، وأصبحت تؤلف مباحث البلاغة وموضوعاتها. ولهذا فهو يعدّ بحق مؤسس

__________________

(١) كتاب الحيوان للجاحظ ج : ٥. ص ١٣٣ الضرير : الشدة والبأس. الكل بفتح الكاف : من يعوله غيره ، أو اليتيم. المدفع بفتح الدال وتشديد الفاء : الفقير الذليل.

(٢) الإيمان. ص ٣٤.

١١

البلاغة العربية الأول ، ومعبّد الطريق أمام من أتى بعده من رجالها.

ثمّ جاء من بعده متأثرا خطاه وإن لم يكن معتزليا (١) مثله ابن قتيبة الدينوري «٢٧٦ ه‍» ففي كتابه «تأويل مشكل القرآن» يتحدّث أولا عن إعجاز القرآن كرد على الطاعنين في أسلوبه ، جهلا منهم بأساليب البيان العربي ، ثمّ ينتقل من ذلك إلى الحديث المبوب عن موضوعات «علم البيان» من حقيقة ومجاز وتشبيه واستعارة وكناية.

وبعد ابن قتيبة يأتي معاصره أبو العباس المبرد «٢٨٥ ه‍» بكتابه «الكامل» الذي يجمع بين الشعر والنثر ، ويعدّ من كتب اللغة الممهدة للمعاجم بما تضمنه من تفسير كل ما يقع في نصوصه من كلام غريب أو معنى مغلق.

ومع أنّ «الكامل» في الأصل كتاب لغة فإنّ المبرد تعرض فيه عند شرح النصوص الأدبية لبعض موضوعات البيان مثل المجاز والاستعارة والكناية والتشبيه الذي توسع في بحثه وقسمه إلى أربعة أقسام : تشبيه مفرط ، وتشبيه مصيب ، وتشبيه مقارب ، وتشبيه بعيد. وقد استوحى هذا التقسيم مما كتبه الجاحظ عن التشبيه دون أن يضيف هو إليه جديدا من عنده.

* * *

وأوّل كتاب يلقانا من كتب علماء الكلام الذين اهتموا بالمباحث البلاغية من أجل تفسير الإعجاز البلاغي للقرآن هو كتاب «النكت في

__________________

(١) هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الكوفي المولد ، وسمي الدينوري لأنّه كان قاضي الدينور. وكان لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة ، فإنّه خطيب أهل السنة ، كما كان الحاحظ خطيب المعتزلة.

١٢

إعجاز القرآن» للرماني المعتزلي «٣٨٦ ه‍».

وقد تحدّث الرماني فيه عن البلاغة وجعلها في عشرة أبواب يعنينا منها هنا اثنان من أبواب «علم البيان» ، هما التشبيه والاستعارة. أمّا التشبيه فقد قسّمه إلى حسي وعقلي ، ثمّ فصّل القول في العقلي منه تفصيلا أفاد منه فيما بعد عبد القاهر الجرجاني في كتاب «أسرار البلاغة». وكذلك توسع في الكلام عن الاستعارة مبينا قيمتها البيانية ، وأنّها أبلغ في الدلالة على المعنى من الحقيقة. وكل ما قاله الرماني عن الاستعارة كان رصيدا جديدا انتفع به أيضا فيما بعد عبد القاهر وغيره من البلاغيين إلى حد كبير.

وكتاب «النكت في إعجاز القرآن» بمشتملاته ومضمونه والجديد فيه له أثر واضح في تاريخ البلاغة العربية ، فقد عرّف فيه بعض ألوانها تعريفا نهائيا ، وميّز أقسامها وأفاض في شرحها.

* * *

تلك نبذة عن مسائل «علم البيان» التي وردت في كتب بعض المتكلمين ممن عنوا بدراسة بلاغة القرآن وأسرار إعجازه. وبالإضافة إلى ذلك ظهرت في القرن الرابع الهجري دراسات نقدية على أسس بلاغية تعرّض فيها أصحابها إلى مباحث من علم البيان.

كتاب الموازنة :

من هذه الدراسات النقدية على أسس بلاغية كتاب «الموازنة بين أبي تمام والبحتري» لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي البصري المتوفى سنة ٣٧٠ للهجرة.

والكتاب كما يدل عليه اسمه موازنة بين شعر شاعرين ، أو موازنة

١٣

بين مذهبين في الشعر متقابلين من حيث صنع الشعر ونقده. والمذهب الأول هو مذهب أبي عبادة البحتري ودعاة البلاغة العربية «ممن يفضلون سهل الكلام وقريبه ، ويؤثرون صحة السبك ، وحسن العبارة ، وحلو اللفظ ، وكثرة الماء والرونق» (١). والمذهب الثاني هو مذهب أبي تمام وأصحابه ممن «يميلون إلى الصنعة ، والمعاني الغامضة التي تستخرج بالغوص والفكرة ، ولا تلوي على غير ذلك» (٢).

ومنهاج الآمدي في الموازنة ألا يفصح بتفضيل أحد الشاعرين على الآخر ، وإنّما يعرض بالنقد لحجج المتعصبين لكل منهما ، ثمّ يقارن بين قصيدتين من شعرهما إذا اتّفقتا في الوزن والقافية وإعراب القافية ، وبين معنى ومعنى ، مع بيان أيهما أشعر في تلك القصيدة ، وفي ذلك المعنى ، ثمّ بترك الحكم حينئذ للقارىء على جملة ما لكل واحد منهما ، إذا أحاط علما بالجيد والرديء (٣). فالموازنة في الواقع دراسة تطبيقية للصورة والمحسنات في شعر الشاعرين.

وليس يعنينا من الموازنة هنا إلّا ما جاء فيها متصلا بعلم البيان ، وهو الباب الذي عقده الآمدي لما عيب من الاستعارة عند أبي تمام ، فهو في هذا الباب يذكر القبيح من استعارات أبي تمام ، ومصدر هذا القبح في نظره هو غلوّ أبي تمام وإغراقه في استعاراته ، ويقول : «إنّ للاستعارة حدا تصلح فيه ، فإذا جاوزته فسدت وقبحت». ثمّ يشير إلى الاستعارة إشارات عامة من غير تحديد لها كقوله : «وإنّما استعارت العرب المعنى لما ليس له إذا

__________________

(١) الموازنة : ص ٤ ـ ٥.

(٢) نفس المرجع ص : ٥.

(٣) الموازنة ص : ٥.

١٤

كان يقاربه أو يدانيه أو يشبهه في بعض أحواله ، أو كان سببا من أسبابه ، فتكون اللفظة المستعارة حينئذ لائقة بالشيء الذي استعيرت له وملائمة لمعناه».

وكان يعنينا من الموازنة أيضا باب آخر متصل بعلم البيان ذكره الآمدي في منهاج بحثه ، ولكنه مفقود من الكتاب ، وأعني به الباب الذي أفرده لما وقع في شعر أبي تمام والبحتري من التشبيه والمفاضلة بينهما فيه.

وإذا كان هدفنا الأول من وراء هذا التمهيد هو تتبع فنون علم البيان منذ نشأتها حتى أصبحت علما مستقلا بذاته ، فإنّ ذلك لا يمنع من التعليق على رأي الآمدي في الاستعارة بأنّ التمييز بين الاستعارة الجيدة والاستعارة القبيحة أمر يرجع إلى الذوق المكتسب بالمران والنظر في أقوال الشعراء المجيدين أكثر مما يرجع إلى القواعد التي وضعها لذلك علماء البيان.

كتاب الوساطة :

ومن كتب الدراسات النقدية على أسس بلاغية كتاب «الوساطة بين المتنبي وخصومه» لأبي الحسن علي بن عبد العزيز الشهير بالقاضي الجرجاني ، المتوفى سنة ٣٦٦ للهجرة.

ومع أنّ الوساطة كتاب نقد أكثر منه كتاب بلاغة ، فإنّ الجرجاني قد عالج فيه الاستعارة بتوسع ، مفرقا بينها وبين التشبيه البليغ. وفي حديثه عن الاستعارة يقول : «فأمّا الاستعارة فهي أحد أعمدة الكلام ، وعليها المعول في التوسع والتصرف ، وبها يتوصل إلى تزيين اللفظ ، وتحسين النظم والنثر ، وقد قدمنا عند ذكرنا البديع نبذا منها مثلنا بها المستحسن والمستقبح ، وفصلنا بين المقتصد والمفرط. وقد كانت الشعراء تجري على

١٥

نهج منها قريب من الاقتصاد ، حتى استرسل فيها أبو تمام ومال إلى الرخصة فأخرجه إلى التعدي ، وتبعه أكثر المحدثين بعده ، فوقفوا عند مراتبهم من الإحسان والإساءة ، والتقصير والإصابة. وأكثر هذا الصنف من الباب الذي قدمت لك القول فيه ، وأقمت لك الشواهد عليه ، وأعلمتك أنّه مما يميز بقبول النفس ونفورها ، وينتقد بسكون القلب ونبوه ، وربما تمكنت الحجج من إظهار بعضه ، واهتدت إلى الكشف عن صوابه أو غلطه» (١).

ولعلّنا ندرك من هذا القول أنّ مردّ الحكم على جودة الاستعارة أو قبحها عند الجرجاني هو «قبول النفس أو نفورها» وأنّ ذلك أكثر من الحجج الدالة على جودة الاستعارة أو قبحها ، فقد يجد الناقد حججا يستدل بها على جودة الاستعارة ، ومع ذلك تنفر منها النفس ، أو يجد حججا يستدل بها على قبح الاستعارة ، ومع ذلك تقبل عليها النفس.

ولا ريب أنّه في ذلك يلتقي مع الآمدي في أنّ الحكم على جودة الاستعارة أو رداءتها يرجع أكثر ما يرجع إلى الذوق الذي هو وليد المران والدربة وإطالة النظر والتأمل في أقوال الشعراء المجيدين.

كتاب العمدة :

وفي القرن الخامس الهجري نلتقي بأبي علي الحسن بن رشيق القيرواني «٤٥٦ ه‍» في كتابه «العمدة» الذي يعدّ أيضا من الدراسات النقدية على أسس بلاغية.

ويحدّثنا ابن رشيق في مقدمة كتابه العمدة عن الدافع الذي حفزه

__________________

(١) الوساطة بين المتنبي وخصومه ص : ٣١٩ ـ ٣٢٠.

١٦

على تصنيفه فيقول : «.... فقد وجدت الشعر أكبر علوم العرب ، وأوفر حظوظ الأدب ، وأحرى أن تقبل شهادته ، وتتمثل إرادته ، لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ من الشعر لحكما» وروي «لحكمة» ، وقول عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه : «نعم ما تعلمته العرب الأبيات من الشعر يقدمها الرجل أمام حاجته ، فيستنزل بها الكريم ويستعطف بها اللئيم» ، مع ما للشعر من عظم المزية ، وشرف الأبية ، وعز الأنفة ، وسلطان القدرة».

«وجدت الناس مختلفين فيه ، متخلفين عن كثير منه : يقدمون ويؤخرون ، ويقلون ويكثرون ، قد بوّبوه أبوابا مبهمة ، ولقبوه ألقابا متهمة (١) ، وكل واحد منهم قد ضرب في جهة ، وانتحل مذهبا هو فيه إمام نفسه ، وشاهد دعواه ، فجمعت أحسن ما قاله كل واحد منهم في كتابه ، ليكون «العمدة في محاسن الشعر وآدابه» «إن شاء الله تعالى».

«وعولت في أكثره على قريحة نفسي ونتيجة خاطري خوف التكرار ورجاء الاختصار ، إلّا ما تعلق بالخبر ، وضبطته الرواية ، فإنّه لا سبيل إلى تغيير شيء من لفظه ولا معناه ، ليؤتى بالأمر على وجهه».

«فكل ما لم أسنده إلى رجل معروف باسمه ، ولا أحلت فيه على كتاب بعينه ، فهو من ذلك ، إلّا أن يكون متداولا بين العلماء ، لا يختص به واحد منهم دون الآخر ، وربما نحلته أحد العرب ، وبعض أهل الأدب ، تسترا بينهم ، ووقوعا دونهم ، بعد أن قرنت كل شكل بشكله ورددت كل فرع إلى أصله ، وبينت للناشىء المبتدىء وجه الصواب فيه ، وكشفت عنه لبس الارتياب به ، حتى أعرّف باطله من حقه وأميز كذبه من صدقه» (٢).

__________________

(١) متهمة بفتح الهاء : مشكوك فيها.

(٢) كتاب العمدة : ج ١ ص ٤ ـ ٥.

١٧

تلك نبذة من مقدمة كتاب «العمدة في محاسن الشعر وآدابه» توضح غرض ابن رشيق من وراء تصنيفه ، والمنهاج الذي رسمه لنفسه في إخراجه ، مع بيان مقدار ما له وما لغيره فيه.

وما دمنا نتحدث عن نشأة علم البيان والجهود التي أسهمت في تطويره من ملاحظات بيانية متناثرة هنا وهناك إلى علم بلاغي قائم بذاته ، فإنّ موضع اهتمامنا من كتاب العمدة معلّق بالأبواب التي عرض فيها بشيء من التفصيل لفنون علم البيان ، من مجاز واستعارة وتشبيه وكناية.

حقا إنّه جمع تحت كل باب من هذه الأبواب أقوال السابقين فيه وعرضها عرضا حسنا ييسرها للطالبين ، وليس هذا الجهد في حد ذاته بقليل. ولكن من الحق أيضا أنّ له إضافات جديدة في هذه الأبواب تدل على غزارة علمه ، ودقّة فهمه ، وسلامة ذوقه الأدبي.

كتاب الصناعتين :

ومن كتب الدراسات النقدية التي قامت على أسس بلاغية ، وإن كانت أكثر تخصصا من سابقتها كتاب «الصناعتين ـ الكتابة والشعر» لأبي هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري المتوفى سنة ٣٩٥ للهجرة.

فأبو هلال في كتاب الصناعتين يدرس البلاغة دراسة دقيقة هي مزيج من علمه الخاص بها وعلم من سبقوه إليها ، مع الإكثار من الأمثلة والشواهد.

وهو يعني بالصناعتين الكتابة والشعر ، فالكتاب ينبىء من عنوانه عن موضوعه الذي يبحث بحثا مستفيضا في أصول هاتين الصناعتين وأدواتهما التي تتضافر على صنع الكاتب والشاعر.

والكتاب يشتمل على عشرة أبواب : باب في الإبانة عن موضوع

١٨

البلاغة وحدودها ، وباب في تمييز جيد الكلام من رديئه ، وباب في معرفة صنعة الكلام وترتيب الألفاظ ، وباب في البيان عن حسن النظم وجودة الرصف ، وباب في ذكر الإيجاز والإطناب ، وباب في حسن الأخذ وحل المنظوم ، وباب في التشبيه ، وباب في ذكر الاسجاع والازدواج ، وباب في شرح البديع ، وباب في ذكر مبادىء الكلام ومقاطعه. ويندرج تحت كل باب من هذه الأبواب فصول تتراوح من فصل إلى خمسة وثلاثين فصلا.

وفي الباب الأول الذي عقده أبو هلال للإبانة عن موضوع البلاغة وحدودها ينوّه بشأن البلاغة ، ويقرر أنّ العلم بها ضروري لمعرفة إعجاز القرآن الكريم ، ولتربية الذوق الأدبي ، والتمييز بين جيّد الكلام ورديئه.

وأبو هلال لا يخفي تأثره بالجاحظ وإعجابه بكتابه البيان والتبيين ، واقتباسه الكثير منه ، ولكنه مع ذلك يشير إلى ما يأخذه على منهجه التأليفي بقوله : «إنّ الإبانة عن حدود البلاغة ، وأقسام البيان والفصاحة مبثوثة في تضاعيفه ، ومنتشرة في أثنائه ، فهي ضالة بين الأمثلة لا توجد إلّا بالتأمل الطويل والتصفح الكثير ، فرأيت أن أعمل كتابي هذا مشتملا على جميع ما يحتاج إليه في صنعة الكلام نثره ونظمه» (١).

فهذا المأخذ على منهاج الجاحظ التأليفي ورغبته في تلافيه وعلاجه كان أحد الأسباب التي دفعت أبا هلال على تأليف كتاب الصناعتين ، أمّا الأسباب الأخرى فهي معرفته بقيمة علم صناعة الكلام ، وشعوره بشدّة الحاجة إليه ، وتخبط العلماء وتخليطهم فيما راموا منه ، ثمّ قلّة الكتب المصنفة فيه ، والتي كان أكبرها وأشهرها كتاب البيان والتبيين لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.

__________________

(١) كتاب الصناعتين ص : ٥.

١٩

وقد صرّح بأنّه لم يؤلف كتابه على طريقة المتكلمين ، وإنّما ألّفه على طريقة صنّاع الكلام من الشعراء والكتاب.

والمتصفح لكتاب الصناعتين يرى أنّ المؤلف قد ألّم فيه تقريبا بكل مباحث علوم البلاغة الثلاثة : المعاني والبيان والبديع ، ولكن مباحث كل علم لا تأتي في موضع معين من الكتاب ، وإنّما تأتي في ثناياه وتضاعيفه على حسب مقتضيات المنهاج الذي رسمه أبو هلال لنفسه في تأليفه.

ولما كنا نعرض هنا بإيجاز لتاريخ البيان وتطوره حتى صار علما قائما بذاته ، فإنّ ما يعنينا من كتاب الصناعتين هو معرفة ما ورد فيه من موضوعات علم البيان وطريقة المؤلف في معالجتها ، وهذه الموضوعات هي التشبيه ، والاستعارة ، والكناية.

وقد عقد أبو هلال للتشبيه في كتابه بابا (١) من فصلين ، تحدّث في أولهما عن حد التشبيه ، ووجوه التشبيه المختلفة ، وأدوات التشبيه ، والطريقة المسلوكة في التشبيه ، وإخراج ما لا يعرف بالبديهة إلى ما يعرف بها ، وإخراج ما لا قوّة له إلى ما له قوة ، وتشبيه ما يرى بالعيان بما ينال بالفكر ، وغريب التشبيه وبديعه ومليحه ، وشرف التشبيه وموقعه من البلاغة.

وفي الفصل الثاني تحدّث عن قبح التشبيه وعيوبه ، مثل خطأ التشبيه ، والتشبيه الكريه ، والتشبيه الرديء اللفظ ، وبعيد التشبيه ، والتشبيه المتنافر.

أمّا الاستعارة فعقد لها فصلا (٢) تكلّم فيه عن : الاستعارة والمجاز ،

__________________

(١) كتاب الصناعتين : ص : ٢٣٨ ـ ٢٥٩.

(٢) كتاب الصناعتين : ص ٢٦٨ ـ ٢٨٨.

٢٠