علم البيان

الدكتور عبدالعزيز عتيق

علم البيان

المؤلف:

الدكتور عبدالعزيز عتيق


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٠

فكل من «الأفلاك» و «الدهر» قد تحوّل بالاستعارة إلى كائن حي حساس. فهاتان الاستعارتان قد أعانتا الشاعر على أن يرينا صورة الأجرام السماوية حية حساسة ترتعد خوفا وفزعا ، وصورة الدهر إنسانا يلتفت عجبا وذهولا كلما استلّ سيد من قبيل الشاعر المشهود لهم بالشجاعة والفروسية سيفه من غمده!

هذه الصورة التي تموج بالحركة والاضطراب والحيوية والمشاعر المختلفة من فزع وخوف ودهشة هي وليدة الاستعارة التي بالغ الشاعر في استخدامها إلى حد يجعل المتملي لها يتولاه الذهول من هول المنظر الذي يراه ماثلا أمام عينيه!

* * *

وبعد ... فليس من قصدنا أن نعرض لكل صور الاستعارة وخصائصها وأغراضها ، فهذا أمر يطول شرحه ويضيق المقام عنه هنا.

وحسبنا ما ذكرنا من خصائصها للإبانة عن مكانتها في البلاغة. ولعلّ في هذا القدر ما يشوق الدارس ويستحثه للكشف بنفسه عن خصائصها الأخرى ، والدور الذي تؤديه في صناعة الكلام وأثرها فيه.

٢٠١
٢٠٢

المبحث الرّابع

الكناية

الكناية في اللغة مصدر كنيت بكذا عن كذا إذا تركت التصريح به. والكناية في اصطلاح أهل البلاغة : لفظ أطلق وأريد به لازم معناه ، مع جواز إرادة ذلك المعنى.

ومثال ذلك لفظ «طويل النجاد» المراد به طول القامة مع جواز أن يراد حقيقة طول النجاد أيضا. فالنجاد حمائل السيف ، وطول النجاد يستلزم طول القامة ، فإذا قيل : فلان طويل النجاد ، فالمراد أنّه طويل القامة ، فقد استعمل اللفظ في لازم معناه ، مع جواز أن يراد بذلك الكلام الإخبار بأنّه طويل حمائل السيف وطويل القامة ، أي يراد بطويل النجاد معناه الحقيقي واللازمي.

وإذا تتبعنا تاريخ «الكناية» بقصد التعرف على مفهومها لدى علماء العربية والبلاغيين على تعاقب الأجيال والعصور فإننا نجد أبا عبيدة معمر ابن المثنى «٢٠٩ ه‍» أول من عرض لها في كتابه «مجاز القرآن».

٢٠٣

فهو يمثل للكناية في كتابه هذا بأمثلة من نحو قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ،) وقوله : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ ،) وقوله : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) ثمّ يعقب عليها بأنّ الله سبحانه كنّى بالضمير في الأول عن الأرض ، وفي الثانية عن الشمس. وفي الثالثة عن الروح.

فهو يستعمل الكناية استعمال اللغويين والنحاة بمعنى «الضمير» ، ومعنى هذا أنّ الكناية عنده هي كل ما فهم من سياق الكلام من غير أن يذكر اسمه صريحا في العبارة.

ثمّ نلتقي بعد أبي عبيدة بالجاحظ «٢٥٥ ه‍» فقد وردت الكناية عنده بمعناها العام وهو التعبير عن المعنى تلميحا لا تصريحا وإفصاحا كلما اقتضى الحال ذلك.

يفهم ذلك من قوله : «رب كناية تربى على إفصاح» كما تفهم من إيراده لتعريف البلاغة عند بعض الهنود وذلك إذ يقول : «وقال بعض الهنود : جماع البلاغة البصر بالحجة والمعرفة بمواضع الفرصة. ومن البصر بالحجة والمعرفة بمواضع الفرصة أن تدع الإفصاح بها إلى الكناية ، إذا كان الإفصاح أوعر طريقة» (١). من ذلك يتضح أنّ الكناية عنده تقابل الإفصاح والتصريح إذا اقتضى الحال ذلك.

وفي حديثه عن بلاغة الخطابة والخطب يسلك الكناية مع بعض الأساليب البلاغية التي يقتضيها الحال أحيانا من إطناب وإيجاز يأتي كالوحي والإشارة ، وفي ذلك يقول في معرض الحديث عن تناسب الألفاظ مع الأغراض : «ولكل ضرب من الحديث ضرب من اللفظ ، ولكل نوع من المعاني نوع من الأسماء : فالسخيف للسخيف ، والخفيف للخفيف ،

__________________

(١) كتاب البيان والتبيين ج ١ ص ٨٨.

٢٠٤

والجزل للجزل ، والإفصاح في موضع الإفصاح ، والكناية في موضع الكناية ، والاسترسال في موضع الاسترسال» (١).

فالكناية عند الجاحظ كما نرى هنا معدودة من الأساليب البلاغية التي قد يتطلبها المعنى للتعبير عنه ولا يجوز إلّا فيها ، وأنّ العدول عنها إلى صريح اللفظ في المواطن التي تتطلبها أمر مخل بالبلاغة.

والذي يتتبع الجاحظ فيما قاله عن الكناية وفيما أورده من أمثلة لها يرى أنّه استعملها استعمالا عاما يشمل جميع أضرب المجاز والتشبيه والاستعارة والتعريض دون أن يفرق بينها وبين هذه الأساليب.

ومن علماء العربية الذين جاءوا بعد الجاحظ وبحثوا في «الكناية» تلميذه محمد بن يزيد المبرد «٢٨٥ ه‍» ، فقد عرض لها في الجزء الثاني من كتابه «الكامل» ذاكرا أنّها تأتي على ثلاثة أوجه ، فهي : إمّا للتعمية والتغطية ، كقول النابغة الجعدي :

أكني بغير اسمها وقد علم الل

ه خفيات كل مكتتم

وإما للرغبة عن اللفظ الخسيس المفحش إلى ما يدل على معناه من غيره : كقوله تعالى في قصة سيدنا عيسى وأمه عليهما‌السلام :

(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ.) كناية عما لا بدّ لآكل الطعام منه (٢).

وأمّا للتفخيم والتعظيم والتبجيل كقولهم : «أبو فلان» صيانة لاسمه عن الابتذال ، ومن هذا الوجه اشتقت الكنية.

__________________

(١) كتاب الحيوان ج ٣ ص ٣٩.

(٢) كتاب الكامل للمبرد ص ٢٩٠ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.

٢٠٥

فالمبرد كما نرى لم يعرّف الكناية وإنما التفت إلى ما تؤديه بعض صورها من فائدة في صناعة الكلام ، وكأنّه بذلك يوحي بأنّ هذا الاتجاه هو الأهم في دراسة الأساليب البلاغية ، وأنّه ينبغي التركيز عليه أكثر من التركيز على القواعد.

وابن المعتز «٢٩٦ ه‍» قد عدّ الكناية والتعريض من محاسن البديع ومثل لهما من منظوم الكلام ومنثوره ، ومن الأمثلة التي أوردها : «كان عروة بن الزبير إذا أسرع إليه إنسان بسوء لم يجبه ، ويقول : إني لأتركك رفعا لنفسي عنك. ثمّ جرى بينه وبين علي بن عبد الله بن عباس كلام ، فأسرع إليه عروة بسوء ، فقال علي بن عبد الله : إني لأتركك لما تترك الناس له. فاشتد ذلك على عروة (١).

وقدامة بن جعفر «٣٣٧ ه‍» عرض لها في «باب المعاني الدال عليها الشعر» من كتابه نقد الشعر ، وعدّها نوعا من أنواع ائتلاف اللفظ والمعنى ، وأطلق عليها اسم «الإرداف» وعرفه بقوله : «الإرداف أن يريد الشاعر دلالة على معنى من المعاني فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى بل بلفظ يدل على معنى هو ردفه وتابع له ، فإذا دلّ على التابع أبان عن المتبوع بمنزلة قول الشاعر :

بعيدة مهوى القرط إمّا لنوفل

أبوها وإمّا عبد شمس وهاشم» (٢)

ثمّ أورد بعض أمثلة أخرى عليها. والكناية أو الإرداف على رأي قدامة هو في «بعيدة مهوى القرط» وهذا كناية عن طول العنق ، فمهوى

__________________

(١) كتاب البديع ص ٦٤.

(٢) كتاب نقد الشعر لقدامة ص ١١٣.

٢٠٦

القرط هو المسافة من شحمة الأذن إلى الكتف ، وإذا كانت هذه المسافة بعيدة لزم أن يكون العنق طويلا.

* * *

كذلك عرض للكناية أبو الحسين أحمد بن فارس «٣٩٥ ه‍» في كتابه «الصاحبي» ، وعقد لها بابا خاصا تكلم فيه أولا عن صورتين من صورها ، إحداهما كناية التغطية ، وذلك بأن يكنّى عن الشيء فيذكر بغير اسمه تحسينا للفظ أو إكراما للمذكور ، والثانية كناية التبجيل نحو قولهم : «أبو فلان» صيانة لاسمه عن الابتذال ، وأنّ الكنى مما كان للعرب خصوصا ثمّ تشبه غيرهم بهم في ذلك. ولا ريب أنّه في ذلك متأثر برأي المبرد السابق.

ثمّ تكلّم ثانيا عن الكناية بمفهومها عند النحاة فقال : «الاسم يكون ظاهرا مثل : زيد وعمرو ، ويكون مكنيا ، وبعض النحويين يسميه «مضمرا» وذلك مثل : هو وهي وهما وهن.

وزعم بعض أهل العربية أنّ أوّل أحوال الاسم الكناية ثمّ يكون ظاهرا ، قال : وذلك أنّ أول حال المتكلم أن يخبر عن نفسه أو مخاطبه فيقول : أنا وأنت ، وهذان لا ظاهر لهما ، وسائر الأسماء تظهر مرة ويكنى عنها مرة.

والكناية متصلة ومنفصلة ومستجنّة ، فالمتصلة كالتاء في «حملت وقمت» ، والمنفصلة كقولنا : إياه أردت ، والمستجنة قولنا «قام زيد» فإذا كنينا عنه فقلنا : «قام» فتستر الاسم في الفعل».

ثمّ يستطرد فيقول : «وربما كنّي عن الشيء لم يجر له ذكر ، في مثل قوله جلّ ثناؤه : (يُؤْفَكُ عَنْهُ) أي يؤفك عن الدين أو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال أهل العلم وإنّما جاز هذا لأنّه قد جرى الذكر في القرآن. وقال حاتم :

٢٠٧

أماويّ لا يغني الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

ويقولون : إذا أغبر أفق وهبت شمالا. أضمر الريح ولم يجر لها ذكر» (١).

فابن فارس يشير بهذا إلى قول النحاة بأنّ ضمير الغائب إذا كان عائده غير لفظ فإن عائده هو «الغائب المعلوم». فالضمير في «هبت شمالا» يعود على الغائب المعلوم وهو الريح ، لأنّه معلوم أنّ التي تهب شمالا هي الريح. ولهذا فالضمير المستجن أو المستتر في «هبت» هو كناية عن ذلك الغائب المعلوم ومثل ذلك قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.) فالهاء في «أنزلناه» كناية عن الغائب المعلوم وهو «القرآن الكريم».

* * *

وأبو هلال العسكري يقرن الكناية بالتعريض كأنّما يعتبرهما أمرا واحدا ، ثمّ يعرفهما بقوله : «الكناية والتعريض أن يكنّى عن الشيء ويعرّض به ولا يصرّح ، على حسب ما عملوا بالتورية عن الشيء» ثمّ يورد أمثلة لهما ، وكذلك للتعريض الجيد والكناية المعيبة.

ومن الأمثلة التي أوردها أبو هلال قوله : ومن مليح ما جاء في هذا الباب قول أبي العيناء وقيل له : ما تقول في ابني وهب؟ قال : «وما يستوي البحران هذان عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج» سليمان أفضل. قيل : وكيف؟ قال : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.)(٢)

__________________

(١) كتاب الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها ص ٢٦٠ ـ ٢٦٣.

(٢) كتاب الصناعتين ص ٢٦٨.

٢٠٨

وأبو علي الحسن بن رشيق القيرواني «٤٥٦ ه‍» عقد في كتابه «العمدة» فصلا خاصا بالإشارة أشاد في مستهله بفضلها وأثرها في الكلام قائلا : «والإشارة من غرائب الشعر وملحه ، وهي بلاغة عجيبة تدل على بعد المرمى وفرط المقدرة ، وليس يأتي بها إلّا الشاعر المبرز والحاذق الماهر ، وهي في كل نوع من الكلام لمحة دالة ، واختصار وتلويح يعرف مجملا ، ومعناه بعيد من ظاهر لفظه».

ثمّ يستطرد إلى بيان أنواعها والتمثيل لها فيعد منها : الإيماء والتفخيم والتلويح والتمثيل والرمز والتعريض والكناية. وفي كلامه عن الكناية نراه متأثرا برأي المبرد السابق في أنّها تأتي على ثلاثة أوجه هي : كناية التعظيم والتفخيم ممثلة في الكنية ، وكناية الرغبة عن اللفظ الخسيس ، وكناية التغطية والتعمية.

وعن هذا الوجه الأخير من الكناية يقول : إنّه هو التورية في أشعار العرب حيث يكنون عن الشجر بالناس كقول المسيّب بن علس :

دعا شجر الأرض داعيهمو

لينصره السّدر والأثاب

فكنى بالشجر عن الناس ، وهم يقولون في الكلام المنثور : جاء فلان بالشوك والشجر ، إذا جاء بجيش عظيم.

كذلك يكنون عن المرأة بالشجرة والنخلة والسرحة والبيضة والناقة والمهرة والشاة والنعجة أو ما شاكل ذلك.

ثمّ أورد على ذلك بعض أمثلة منها قول حميد بن ثور الهلالي عند ما حظر عمر على الشعراء ذكر المرأة :

تجرّم أهلوها لأن كنت مشعرا

جنونا بها يا طول هذا التجرّم

ومالي من ذنب إليهم علمته

سوى أنني قد قلت يا سرحة اسلمي

٢٠٩

بلى فاسلمي ثمّ اسلمي ثمت اسلمي

ثلاث تحيات وإن لم تكلّمي

ومنها قول امرىء القيس :

وبيضة خدر لا يرام خباؤها

تمتعت من لهو بها غير معجّل

كناية بالبيضة عن المرأة.

وقول عنترة :

يا شاة ما قنص لمن حلّت له

حرمت عليّ وليتها لم تحرم

فبعثت جاريتي فقلت لها اذهبي

فتجسّسي أخبارها لي واعلمي

قالت رأيت من الأعادي غرّة

والشاة ممكنة لمن هو مرتم

فالشاة هنا كناية عن امرأة أبيه وكان يهواها ويتمنى لو لم يتزوجها أبوه حتى كان يحل له تزوجها.

ثمّ يقول وعلى هذا المتعارف في الكناية جاء قول الله عزوجل في إخباره عن خصم داود عليه‌السلام : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ ،) كناية بالنعجة عن المرأة (١).

* * *

وممن عرضوا للكناية غير هؤلاء ونظروا إليها من زوايا وجوانب مختلفة عبد القاهر الجرجاني وأبو يعقوب يوسف السكاكي وضياء الدين ابن الأثير والخطيب القزويني ويحيى بن حمزة صاحب كتاب الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز.

وقد سبق أن أتينا في المبحث الأول من هذا الكتاب والخاص «بنشأة

__________________

(١) كتاب العمدة ج ١ ص ٢٧١ ـ ٢٨٢.

٢١٠

علم البيان وتطوره» على ملخص آرائهم وأقوالهم في الكناية ، ولهذا فلا داعي لتكرارها هنا وليرجع إليها هناك.

أقسام الكناية

ذكرنا فيما سبق أنّ الكناية في عرف اللغة أن تتكلم بشيء وتريد غيره ، ويقال : كنيت بكذا عن كذا إذا تركت التصريح به. كما ذكرنا أنها في اصطلاح علماء البيان : لفظ أطلق وأريد به لازم معناه مع جواز إرادة ذلك المعنى ، أي المعنى الحقيقي للفظ الكناية (١).

وقد عبّر الإمام عبد القاهر الجرجاني عن هذا المعنى الاصطلاحي بصورة أخرى فقال : «الكناية أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة ، ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود فيومي إليه ويجعله دليلا عليه ، مثال ذلك قولهم : «هو طويل النجاد» يريدون طول القامة ، «وكثير رماد القدر» يعنون كثير القرى ، وفي المرأة «نؤوم الضحى» والمراد أنّها مترفة مخدومة لها من يكفيها أمرها. فقد أرادوا في هذا كله كما ترى معنى ثمّ لم يذكروه بلفظه الخاص به ، ولكنهم توصلوا إليه بذكر معنى آخر من شأنه أن يردفه في الوجود ، وأن يكون إذا كان. أفلا ترى أنّ القامة إذا طالت طال النجاد ، وإذا كثر القرى كثر رماد القدر ، وإذا كانت المرأة مترفة لها من يكفيها أمرها ردف ذلك أن تنام إلى الضحى؟ (٢).

كذلك عبر ابن الأثير عن معناها الاصطلاحي بصورة ثالثة ومثل لها

__________________

(١) كتاب التلخيص ص ٣٣٨.

(٢) كتاب دلائل الإعجاز ص ٤٤.

٢١١

فقال : «حدّ الكناية الجامع لها هو أنها كل لفظة دلّت على معنى يجوز حمله على جانب الحقيقة والمجاز بوصف جامع بين الحقيقة والمجاز ، نحو قوله تعالى : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ.) فقد كنّى بذلك ـ يقصد لفظة النعجة ـ عن النساء ، والوصف الجامع بينهما هو التأنيث. فالمعنى هنا يجوز حمله على الحقيقة كما يجوز حمله على المجاز (١).

وقد انتهى البحث في «الكناية» إلى السكاكي والقزويني ومدرستهما البلاغية فتوسعوا في بحثها وحددوا أقسامها على النحو الذي فصلته في مبحث «نشأة علم البيان وتطوره» ، ثمّ جاء البلاغيون من بعدهم فأخذوا بتقسيمهم الذي لا يزال متّبعا إلى اليوم في دراسة «الكناية».

* * *

وإذا عدنا إلى تقسيم السكاكي والقزويني وجدنا أنّ المطلوب بالكناية عندهم لا يخرج عن ثلاثة أقسام هي : طلب نفس الصفة ، وطلب نفس الموصوف ، وطلب النسبة.

ومعنى هذا أنّهم يقسمون الكناية باعتبار المكنى عنه ثلاثة أقسام تتمثل في أنّ المكنى عنه عندهم : قد يكون صفة ، وقد يكون موصوفا ، وقد يكون نسبة.

ولعلّ الأمثلة والتعقيب عليها بالشرح والتحليل خير وسيلة لتوضيح أقسام الكناية وبيان أثر صورها المختلفة في بلاغة الكلام.

كناية الصفة : وهي التي يطلب بها نفس الصفة ، والمراد بالصفة هنا الصفة المعنوية كالجود والكرم والشجاعة وأمثالها لا النعت.

__________________

(١) المثل السائر ص ٢٤٨.

٢١٢

١ ـ ومن أمثلة ذلك قول عمر بن أبي ربيعة في صاحبته هند :

نظرت إليها بالمحصّب من منى

ولي نظر لو لا التحرّج عارم

فقلت : أشمس أم مصابيح بيعة

بدت لك تحت السّجف أم أنت حالم؟

بعيدة مهوى القرط إمّا لنوفل

أبوها وإمّا عبدّ شمس وهاشمّ (١)

فالكناية هنا في البيت الثالث ، هي «بعيدة مهوى القرط» ، ومهوى القرط المسافة من شحمة الأذن إلى الكتف. فابن أبي ربيعة يصف صاحبته بأنها بعيدة مهوى القرط ، وهو بهذه الصفة يريد أن يدل على أن هندا صاحبته «طويلة الجيد». ولهذا عدل عن التصريح بهذه الصفة إلى الكناية عنها ، لأن بعد المسافة بين شحمة الأذن والكتف يستلزم طول الجيد.

٢ ـ وقال المتنبي في إيقاع سيف الدولة ببني كلاب :

فمساهم وبسطهمو حرير

وصبحهم وبسطهمو تراب

فالمتنبي هنا يصف بني كلاب الذين أوقع بهم سيف الدولة بأن بسطهم في المساء وقبل الإيقاع بهم كانت من الحرير ثم صارت في الصباح من التراب بسبب ما أصابهم من الأمير سيف الدولة.

وقصد الشاعر من وراء هذا التعبير في الواقع أن يصف بني كلاب بأنهم في المساء كانوا سادة أعزاء ثم صاروا في الصباح وبعد الإيقاع بهم فقراء أذلاء. وقد عدل الشاعر بتعبيره عن التصريح إلى أسلوب الرمز

__________________

(١) ديوان عمر بن أبي ربيعة ص ٢٠٧ ، ونظر عارم : خارج عن القصد ، والبيعة بكسر الباء : متعبد النصارى ، والسجف بكسر السين : الستر ، وبعيدة مهوى القرط : كناية عن طول عنقها ، ونظيره قول الحماسي :

أكلت دما إن لم أرعك بضرة

بعيدة مهوى القرط طيبة النشر

٢١٣

والكناية ، لأن بسط الحرير التي كانت لهم في المساء تستلزم السيادة والعزة ، وإن هذه البسط التي تحولت في الصباح إلى تراب تستلزم الفقر والحاجة والذلة. فالبيت كما نرى كناية عن صفة. هذا ويجوز حمل المعنى على جانب الحقيقة ، بمعنى أنه يصح هنا إرادة المعنى المفهوم من صريح اللفظ ، أي أنهم في المساء كانوا يجلسون على بسط من الحرير فعلا ثم صاروا في الصباح يجلسون على التراب حقيقة.

٣ ـ وقالت الخنساء في أخيها صخرا :

طويل النجاد رفيع العماد

كثير الرماد إذا ما شتا

فالخنساء في هذا البيت تصف أخاها صخرا بثلاث صفات هي : إنه طويل النجاد ، رفيع العماد ، كثير الرماد.

وهي بهذه الصفات تريد أن تدل على أن أخاها شجاع ، عظيم في قومه ، كريم. ولكنها عدلت عن التصريح بهذه الصفات إلى الكناية عنها ، لأنه يلزم من طول حمالة السيف طول صاحبه ، ويلزم من طول الجسم الشجاعة عادة ، ثم إنه يلزم من كونه رفيع العماد أن يكون سيدا عظيم القدر والمكانة في قومه وعشيرته ، كما أنه يلزم من كثرة الرماد كثرة إحراق الحطب تحت القدور ، ثم كثرة الضيفان ، ثم كثرة الكرم. وهنا أيضا يجوز حمل المعنى على جانب الحقيقة ، فمن الجائز بالإضافة إلى المعنى الكنائي أن يكون أخوها حقيقة طويل النجاد ، رفيع العماد ، كثير الرماد.

فتراكيب الكناية في الأمثلة السابقة هي «بعيدة مهوى القرط» و «كون بسطهم حريرا» و «كون بسطهم ترابا» و «طويل النجاد» و «رفيع العماد» و «كثير الرماد».

ولما كان كل تركيب من هذه التراكيب قد كني به عن صفة لازمة

٢١٤

لمعناه ، كان كل تركيب من هذه وما يشبهه «كناية عن صفة». وهذا هو القسم الأول من أقسام الكناية.

* * *

كناية الموصوف : وهي التي يطلب بها نفس الموصوف والشرط هنا أن تكون الكناية مختصة بالمكنيّ عنه لا تتعداه ، وذلك ليحصل الانتقال منها إليه.

١ ـ ومن أمثلة ذلك قول البحتري في قصيدته التي يذكر فيها قتله للذئب :

عوى ثم أقعى فارتجزت فهجته

فأقبل مثل البرق يتبعه الرعد

فأوجرته خرقاء تحسب ريشها

على كوكب ينقض والليل مسودّ (١)

فما ازداد إلا جرأة وصرامة

وأيقنت أن الأمر منه هو الجد

فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها

بحيث يكون اللب والرعب والحقد

ففي قول البحتري في البيت الأخير «بحيث يكون اللب والرعب والحقد» ثلاث كنايات لا كناية واحدة ، لاستقلال كل واحدة منها بإفادة المقصود.

فالبحتري يريد أن يخبرنا أنه طعن الذئب أولا برمحه طعنة خرقاء لم تزده إلا جرأة وصرامة ولهذا أتبع الطعنة الأولى طعنة أخرى استقر نصلها في قلب الذئب.

ولكنه بدل أن يعبر هذا التعبير الحقيقي الصريح نراه يعدل عنه إلى ما هو أبلغ وأشد تأثيرا في النفس ، وذلك بالكناية عن القلب ببعض

__________________

(١) أوجره الرمح : طعنه به في فيه أو صدره.

٢١٥

الصفات التي يكون هو موضعها ، وهي اللب والرعب والحقد. وهذا كناية عن «موصوف» هو القلب لأن القلب موضع هذه الصفات وغيرها.

٢ ـ وقال أبو نواس في وصف الخمر :

فلما شربناها ودب دبيبها

إلى موطن الأسرار قلت لها : قفي

مخافة أن يسطو عليّ شعاعها

فيطلع ندماني على سرّي الخفي

فالكناية في البيت الأول وهي «موطن الأسرار». يريد أبو نواس أن يقول : «فلما شربنا الخمر ودب دبيبها ، أي سرى مفعولها إلى القلب أو الدماغ قلت لها : قفي». ولكنه انصرف عن التعبير بالقلب أو الدماغ هذا التعبير الحقيقي الصريح إلى ما هو أملح وأوقع في النفس وهو «موطن الأسرار» ، لأن القلب أو الدماغ يفهم منه أنه مكان السر وغيره من الصفات. فالكناية «بموطن الأسرار» عن القلب أو الدماغ كناية عن «موصوف» ، لأن كليهما يوصف بأنه موطن الأسرار.

٣ ـ وقال شاعر في رثاء من مات بعلة في صدره :

ودبّت له في موطن الحلم علّة

لها كالصّلال الرقش شرّ دبيب (١)

فلفظ الكناية هنا هو «موطن الحلم» ، ومن عادة العرب أن ينسبوا الحلم إلى الصدر ، فيقولون : فلان فسيح الصدر ، أو فلان لا يتسع صدره لمثل هذا ، أي لا يحلم على مثل هذا.

ولو شاء الشاعر أن يعبر عن معناه هنا تعبيرا حقيقيا صريحا لقال : «ودبت له في الصدر علة» ، ولكنه لم يشأ ذلك وآثر التعبير عنه كنائيا

__________________

(١) الصلال بكسر الصاد : ضرب من الحيات صغير أسود لا نجاة من لدغته ، والرقش : جمع رقشاء ، وهي التي فيها نقط سوداء في بيضاء ، والحية الرقشاء من أشد الحيات أذى.

٢١٦

بقوله : «ودبت له في موطن الحلم علة» لما له من تأثير بليغ في النفس ، إذ الصدر موضع الحلم وغيره من الصفات. فالكناية «بموطن الحلم» عن الصدر كناية عن «موصوف» لأن الصدر يوصف بأنه موطن الحلم وغيره.

وإذا تأملنا تراكيب الكناية في هذه الأمثلة وهي «بحيث يكون اللب والرعب والحقد» و «موطن الأسرار» و «موطن الحلم» رأينا أن كل تركيب منها كني به عن ذات لازمة لمعناه ، لذلك كان كل منها «كناية عن موصوف» ، وكذلك كل تركيب يماثلها.

* * *

كناية النسبة : ويراد بها إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه ، أو بعبارة أخرى يطلب بها تخصيص الصفة بالموصوف.

١ ـ ومن أمثلة ذلك قول زياد الأعجم في مدح ابن الحشرج :

إن السماحة والمروءة والندى

في قبة ضربت على ابن الحشرج

فزياد بهذا البيت أراد ، كما لا يخفى ، أن يثبت هذه المعاني والأوصاف للممدوح واختصاصه بها. ولو شاء أن يعبر عنها بصريح اللفظ لقال : إن السماحة والمروءة والندى لمجموعة في الممدوح أو مقصورة عليه ، أو ما شاكل ذلك مما هو صريح في إثبات الأوصاف للمذكورين بها.

ولكنه عدل عن التصريح إلى ما ترى من الكناية والتلويح ، فجعل كونها في القبة المضروبة عليه عبارة عن كونها فيه ، فخرج كلامه إلى ما خرج إليه من الجزالة وظهر فيه ما أنت ترى من الفخامة. ولو أن الشاعر خطر له أن يعبر عن معناه هنا بصريح اللفظ ، لما كان له ذلك القدر من الجمال الذي تطالعنا به هذه الصورة المبهجة من خلال البيت.

٢١٧

٢ ـ ومن أمثلة كناية النسبة أيضا قول أبي نواس مادحا :

فما جازه جود ولا حل دونه

ولكن يسير الجود حيث يسير

فالشاعر هنا يريد أن ينسب إلى ممدوحه الكرم أو أن يثبت له هذه الصفة ، ولكنه بدل أن ينسب إليه الكرم بصريح اللفظ فيقول : «هو كريم» كنى عن نسبة الكرم إليه بقوله : «يسير الجود حيث يسير» ، لأنه يلزم من ذلك اتصافه به.

وشتان بين الصورتين في الجمال والتأثير : الصورة الصريحة التي نرى فيها الممدوح كريما وحسب ، والصورة المقنعة المدعاة التي يرينا فيها الشاعر الكرم إنسانا يرافق الممدوح ويلازمه ويسير معه حيث سار.

٣ ـ ومن أمثلتها كذلك قول الشاعر :

اليمن يتبع ظله

والمجد يمشي في ركابه

فالشاعر في هذا البيت بدل أن يصف الممدوح بأنه ميمون الطلعة ، قال إن اليمن يتبعه أينما سار ، واتباع اليمن ظله يستلزم نسبته إليه.

فكناية النسبة كما يتضح من الأمثلة السابقة تتمثل في العدول عن نسبة الصفة إلى الموصوف مباشرة ونسبتها إلى ما له اتصال به. وأظهر علامة لهذه الكناية أن يصرح فيها بالصفة كما رأينا في الأمثلة السابقة ، أو بما يستلزم الصفة كقول شاعر معاصر :

بين برديك يا صبية كنز

من نقاء معطر معشوق

وبعينيك يا صبية شجو

ساهم اللمح مستطار البريق

ففي قوله : «بين برديك يا صبية كنز من نقاء» كناية عن نسبة «الطهارة» للمخاطبة بما يستلزم هذه الصفة وهو «كنز من نقاء». أما

٢١٨

الكناية في البيت الثاني «بين عينيك يا صبية شجو» فهي من النوع الأول الذي عدل فيه عن نسبة صفة الشجو أي الحزن إلى الموصوف مباشرة ونسبتها إلى ما له اتصال به ، وهو هنا «العينان».

وإذا رجعنا إلى أمثلة الكناية السابقة في جميع أقسامها وأنواعها رأينا أن منها ما يدل على معنى يجوز حمله على الحقيقة والمجاز ، أو بعبارة أخرى رأينا أن منها ما يجوز فيه إرادة المعنى الحقيقي الذي يفهم من صريح اللفظ ، ومنها ما لا يجوز فيه ذلك.

بين الكناية والتعريض

لعل ضياء الدين ابن الأثير أوضح من بحث أسلوبي الكناية والتعريض وفرّق بينهما.

ففي مستهل حديثه عنهما في كتابه المثل السائر يقول : «هذا النوع مقصور على الميل مع المعنى وترك اللفظ جانبا. وقد تكلم علماء البيان فيه فوجدتهم قد خلطوا الكناية بالتعريض ولم يفرقوا بينهما ، ولا حدوا كلا منهما بحد يفصله عن صاحبه ، بل أوردوا لهما أمثلة من النثر والنظم وأدخلوا أحدهما في الآخر ، فذكروا للكناية أمثلة من التعريض وللتعريض أمثلة من الكناية ، فمن فعل ذلك الغانمي وابن سنان الخفاجي والعسكري».

وفي محاولة لتحديد مفهوم «الكناية» فرق ابن الأثير بينها وبين غيرها من أقسام المجاز بقوله : «إن الكناية إذا وردت تجاذبها جانبا حقيقة ومجاز ، وجاز حملها على الجانبين معا.

ألا ترى أن اللمس في قوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) يجوز حمله على الحقيقة والمجاز ، وكل منهما يصح به المعنى ولا يختل؟ ولهذا ذهب

٢١٩

الشافعي إلى أن اللمس هو مصافحة الجسد الجسد ، فأوجب الوضوء على الرجل إذا لمس المرأة ، وذلك هو الحقيقة في اللمس.

وذهب غيره إلى أن المراد باللمس هو الجماع ، وذلك مجاز فيه وهو الكناية ، وكل موضع ترد فيه الكناية فإنه يتجاذبه جانبا حقيقة ومجاز ، ويجوز حمله على كليهما معا.

أما التشبيه فليس كذلك ولا غيره من أقسام المجاز ، لأنه لا يجوز حمله إلا على جانب المجاز خاصة ، ولو حمل على جانب الحقيقة لاستحال المعنى. ألا ترى أنا إذا قلنا «زيد أسد» لا يصح إلا على جانب المجاز خاصة ، وذاك أنا شبهنا زيدا بالأسد في شجاعته ، ولو حملناه على جانب الحقيقة لاستحال المعنى ، لأن زيدا ليس ذلك الحيوان ذا الأربع والذنب والوبر والأنياب والمخالب.

وقد خلص من هذا النقاش إلى تعريف الكناية بقوله : «حد الكناية الجامع لها هو أنها كل لفظة دلت على معنى يجوز حمله على جانبي الحقيقة والمجاز بوصف جامع بين الحقيقة والمجاز» وطبقا لهذا التعريف فمثالها عنده قوله تعالى : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) فكنى بذلك عن النساء ، والوصف الجامع بين المعنى الحقيقي والمجازي هو التأنيث. ولو لا ذلك لقيل في هذا الموضع إن هذا أخي له تسع وتسعون كبشا ولي كبش واحد ، وقيل هذه كناية عن النساء. فالوصف الجامع بين الحقيقة والمجاز شرط في صحة تعريف الكناية عنده.

* * *

بعد ذلك انتقل ابن الأثير إلى بيان ما بين الكناية والاستعارة من صلة فقال : «أما الكناية فإنها جزء من الاستعارة ، ولا تأتي إلا على حكم

٢٢٠