علم البيان

الدكتور عبدالعزيز عتيق

علم البيان

المؤلف:

الدكتور عبدالعزيز عتيق


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٠

٥ ـ اعتبار ما كان : أي تسمية الشيء باسم ما كان عليه ، نحو قوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ،) أي الذين كانوا يتامى. وتفصيل ذلك أن اليتيم في اللغة هو الصغير الذي مات أبوه ، والأمر الوارد في الآية الكريمة ليس المراد به إعطاء اليتامى الصغار أموال آبائهم ، وإنما الواقع أن الله يأمر بإعطاء الأمول من وصلوا سن الرشد والبلوغ بعد أن كانوا يتامى. فكلمة «اليتامى» هنا مجاز مرسل استعملت وأريد بها الراشدون ممن كانوا يتامى. وعلاقة هذا المجاز «اعتبار ما كان».

ومنه قولك : «من الناس من يأكل القمح ومنهم من يأكل الذرة والشعير» وأنت تريد بالقمح والذرة والشعير «الخبز» الذي كان في الأصل قمحا أو ذرة أو شعيرا. فعلاقة المجاز المرسل هنا «اعتبار ما كان».

ومثله أيضا قولك : «شربت البن» تريد بذلك : شربت «قهوة» كان أصلها بنّا. فإطلاق البن على القهوة مجاز مرسل علاقته أيضا «اعتبار ما كان».

* * *

٦ ـ اعتبار ما يكون : وهو تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه. نحو قوله تعالى على لسان أحد الفتيين اللذين دخلا السجن مع يوسف عليه‌السلام : (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً.) فالمجاز هنا في كلمة «خمرا» ، والخمر لا تعصر لأنها سائل ، وإنما الذي يعصر هو «العنب» الذي يؤول ويتحول بالعصر إلى خمر. فإطلاق الخمر وإرادة العنب مجاز مرسل علاقته «اعتبار ما يكون».

ونحو قوله تعالى على لسان نوح عليه‌السلام : (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) ففي كلمتي «فاجرا وكفارا» من قوله تعالى : (وَلا يَلِدُوا

١٦١

إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) مجازان ، لأن المولود حينما يولد لا يكون فاجرا ولا كفارا ، ولكنه قد يكون كذلك بعد الطفولة ، أي بعد أن يتحول من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرجولة. ولهذا فإطلاق المولود الفاجر الكفار ، وإرادة الرجل الفاجر الكفار مجاز مرسل علاقته أيضا اعتبار «ما يكون» ، أي اعتبار ما يؤول ويتحول إليه في المستقبل.

ومنه كذلك : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ،) فالقصاص وهو المساواة في العقاب والجزاء لم يفرض فيمن قتل قبل نزول الآية الكريمة ، وإنما فرض فيمن سيقتل بعد نزولها. فالمجاز في كلمة «القتلى» أي الذين سيقتلون بعد نزول الآية. فإطلاق القتلى وإرادة من سيقتلون بعد نزول آية القصاص مجاز مرسل علاقته «اعتبار ما يكون».

* * *

٧ ـ المحلية : وذلك فيما إذا ذكر لفظ المحلّ وأريد الحالّ فيه ، نحو قوله تعالى في زجر أبي جهل الذي كان ينهى النبي عن الصلاة : (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ. ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ. فَلْيَدْعُ نادِيَهُ. سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ. كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ.) فالأمر في قوله تعالى : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) خرج إلى السخرية والاستخفاف بشأن أبي جهل ، والمجاز هو في كلمة «ناديه» ، فإننا نعرف أن النادي مكان الاجتماع ، ولكن المقصود به في الآية الكريمة من في هذا المكان من عشيرته وأنصاره ، فهو مجاز مرسل أطلق فيه المحلّ وأريد الحالّ ، فالعلاقة «المحلية».

ومنه قول الشاعر :

لا أركب البحر إني

أخاف منه المعاطب

طين أنا وهو ماء

والطين في الماء ذائب

١٦٢

فالمجاز في كلمة «البحر» حيث أراد بها الشاعر «السفن» التي تجري فيه ، فالبحر هو محل جريان السفن ، فإطلاق المحل «البحر» وإرادة الحال فيه «السفن» مجاز مرسل علاقته «المحلية». وفي كلمة «طين» في البيت الثاني مجاز مرسل علاقته «اعتبار ما كان».

ومنه قول الحجاج من خطبته المشهورة في أهل العراق : «وإن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه نثر كنانته بين يديه فعجم عيدانها فوجدني أمرّها عودا وأصلبها مكسرا فرماكم بي» ، فالمجاز هنا في كلمة «كنانته» والكنانة لغة وعاء توضع فيه السهام ، والوعاء لا ينثر ، وإنما ينثر ما حل فيه. فإطلاق المحل «الكنانة» وإرادة الحالّ فيها وهو «السهام» مجاز مرسل علاقته «المحلية».

* * *

٨ ـ الحالّية : وهي عكس العلاقة السابقة ، وذلك فيما إذ ذكر لفظ الحالّ وأريد المحل لما بينهما من ملازمة.

ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) فالمجاز في كلمة «نعيم» ، والنعيم لا يحل فيه الإنسان لأنه معنى من المعاني ، وإنما يحل الإنسان في مكانه. فاستعمال النعيم في مكانه مجاز مرسل أطلق فيه الحالّ وأريد المحل ، فعلاقته «الحالّية».

ومنه أيضا قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ،) فالمجاز في كلمة «رحمة» والرحمة لا يحل فيها الذين ابيضت وجوههم لأنها معنى من المعاني ، وإنما هم يحلون في مكان الرحمة الذي يراد به في الآية الجنة. فإطلاق الحالّ «الرحمة» وإرادة محلها «الجنة» مجاز مرسل علاقته «الحالّية».

١٦٣

ومن أمثلته شعرا قول شاعر يرثي معن بن زائدة :

ألّما على «معن» وقولا لقبره

سقتك الغوادي مربعا ثم مربعا (١)

فالمجاز في كلمة «معن» يراد به قبره ، فقد أطلق الشاعر الحالّ وهو «معن» وأراد المحل الذي حل فيه بعد وفاته وهو «القبر» بدليل قوله «وقولا لقبره». فالمجاز هنا مجاز مرسل علاقته «الحالّية».

* * *

٩ ـ الآلية : وذلك إذا ذكر اسم الآلة وأريد الأثر الذي ينتج عنها ، نحو قوله تعالى : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ.) فالمجاز في كلمة «لسان» ، والمراد واجعل لي قول صدق أي ذكرا حسنا ، فأطلق اللسان الذي هو آلة القول على القول نفسه وهو الأثر الذي ينتج عنه. فإطلاق «اللسان» آلة القول وأداته وإرادة الأثر الناتج عنه وهو «القول أو الكلام» مجاز مرسل علاقته «الآلية».

ونحو قوله تعالى أيضا : (فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ ،) أي على مرأى منهم ، والأعين هي آلة الرؤية. فالمجاز في كلمة «أعين» حيث أطلقت وأريد الأثر الناتج عنها وهو الرؤية. فهذا مجاز مرسل علاقته «الآلية».

* * *

١٠ ـ المجاورة : وذلك فيما إذا ذكر الشيء وأريد مجاوره.

ومن أمثلة ذلك قول عنترة :

__________________

(١) ألما عليه : أنزلا به ، والغوادي : جمع غادية وهي السحابة تنشأ غدوة أو مطرة الغداة ، والمربع : اسم مشتق من أربعة ، والمعنى : سقتك الغوادي أربعة أيام متوالية ثم أربعة أخرى متوالية : فهو دعاء بكثرة السقيا للقبر.

١٦٤

فشككت بالرمح الأصمّ «ثيابه»

ليس الكريم على القنا بمحرّم (١)

فالشاعر يعني بقوله : «شككت ثيابه» شككت قلبه : وأي مكان آخر من جسمه يصيب منه الرمح مقتلا. فالمجاز في كلمة «ثيابه» التي أطلقت وأريد بها ما يجاورها من القلب أو أي مكان آخر في الجسم يصيب الرمح منه مقتلا. فإطلاق الثياب وإرادة ما يجاورها من مقاتل الجسم بأي سلاح كان كالرمح مجاز مرسل علاقته «المجاورة».

__________________

(١) الرمح الأصم : الصلب الأصم ، والمراد بالثياب هنا القلب ، والشاعر يصف نفسه هنا بالإقدام قائلا : إن الكريم ليس بمحرم ولا عزيز على الرماح.

١٦٥
١٦٦

المبحث الثالث

الاستعارة

الاستعارة لغة رفع الشيء وتحويله من مكان إلى آخر ، يقال استعار فلان سهما من كنانته : رفعه وحوّله منها إلى يده.

وعلى هذا يصح أن يقال استعار إنسان من آخر شيئا ، بمعنى أن الشيء المستعار قد انتقل من يد المعير إلى المستعير للانتفاع به. ومن ذلك يفهم ضمنا أن عملية الاستعارة لا تتمّ إلا بين متعارفين تجمع بينهما صلة ما.

ويؤكد هذا المعنى ويوضحه قول ابن الأثير : «الأصل في الاستعارة المجازية مأخوذ من العارية الحقيقية التي هي ضرب من المعاملة : وهي أن يستعير بعض الناس من بعض شيئا من الأشياء ، ولا يقع ذلك إلا من شخصين بينهما سبب معرفة ما يقتضي استعارة أحدهما من الآخر شيئا ، وإذا لم يكن بينهما سبب معرفة بوجه من الوجوه فلا يستعير أحدهما من الآخر شيئا إذ لا يعرفه حتى يستعير منه. وهذا الحكم جار في استعارة

١٦٧

الألفاظ بعضهما من بعض ، فالمشاركة بين اللفظين في نقل المعنى من أحدهما إلى الآخر كالمعرفة بين الشخصين في نقل الشيء المستعار من أحدهما إلى الآخر» (١).

ولعلنا نلحظ من ذلك صلة بين المعنى اللغوي أو الحقيقي للاستعارة ومعناها المجازي ، إذ لا يستعار أحد اللفظين للآخر في واقع الأمر إلا إذا كان هناك صلة معنوية تجمع بينهما.

وإذا شئنا التعرف على تاريخ «الاستعارة» لدى البلاغيين فإننا نجد الجاحظ «٢٥٥ ه‍» من أوائل من التفتوا إليها وعرّفوها وسمّوها وأفاضوا بعض الشيء في الحديث عنها.

فالاستعارة عنده : «هي تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه» ، ورد ذلك التعريف في تعليقه على البيت الثالث من الأبيات التالية :

يا دار قد غيّرها بلاها

كأنما بقلم محاها ..

أخربها عمران من بناها

وكرّ ممسناها على مغناها

وطفقت سحابة تغشاها

تبكي على عراصها عيناها

فقد علق الجاحظ على البيت الثالث هنا بقوله : «وطفقت ، يعني ظلت. تبكي على عراصها عيناها ، عيناها ها هنا للسحاب ، وجعل المطر بكاء من السحاب على طريق الاستعارة ، وتسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه» (٢).

__________________

(١) المثل السائل ص ١٤٣.

(٢) كتاب البيان والتبيين ج ١ ص ١٥٣ ، والعراص : جمع عرصة بسكون الراء ، وهي كما يقول الجاحظ : كل جوبة منفتقة ليس فيها بناء ، والجوبة : فجوة ما بين البيوت.

١٦٨

وكثيرا ما يستعمل الجاحظ في تعليقاته على النصوص عبارات «على التشبيه» : «وعلى المثل» ، «وعلى الاشتقاق» وهو يعني بها الاستعارة أو المجاز بمعناه العام الذي تندرج تحته الاستعارة. وليس في ذلك من غرابة ، فالاستعارة مجاز علاقته المشابهة ، وكلمة التشبيه ترد عند تحليل الاستعارة أو إجرائها ، ثم هي في حقيقتها تشبيه حذف أحد طرفيه.

* * *

وجاء بعد الجاحظ ابن المعتز «٢٩٦ ه‍» فتحدث عن الاستعارة وعدها أول باب في كتابه «البديع» وأورد لها أمثلة من الكلام البديع من نحو قوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) وقوله تعالى أيضا : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ،) وقول الشاعر : «... والصبح بالكوكب الدريّ منحور».

وقد علق على هذا الكلام بقوله : «وإنما هو استعارة الكلمة لشيء لم يعرف بها من شيء قد عرف بها مثل أم الكتاب ، ومثل جناح الذل ، ومثل قول القائل «الفكرة مخ العمل» فلو كان قال «لب العمل» لم يكن بديعا» (١). ومن هذا التعليق يمكن استشفاف مفهوم ابن المعتز للاستعارة.

وكما أورد أمثلة شتى للاستعارة البديعة وعلق على بعضها بما يؤكد مفهومه السابق للاستعارة أورد كذلك أمثلة للاستعارة المعيبة في نظره من مثل قول أبي تمام :

كلوا الصبر غضا واشربوه فإنكم

أثرتم بعير الظلم والظلم بارك

__________________

(١) كتاب البديع ص ٢.

١٦٩

متى يأتك المقدار لا تك هالكا

ولكن زمان غال مثلك هالك (١)

* * *

ثم نلتقي بعد ابن المعتز بقدامة بن جعفر المتوفي سنة ٣٣٧ للهجرة ، فقد عقد قدامة في كتابه «نقد النثر» بابا للاستعارة تحدث فيه عن الحاجة إليها في كلام العرب ومفهومها عنده ، كما تحدث عن الاستعارة المكنية وإن لم يسمها الاسم الذي عرفت به فيما بعد.

فعن الأمرين الأولين يقول قدامة : «وأما الاستعارة فإنما احتيج إليها في كلام العرب لأن ألفاظهم أكثر من معانيهم ، وليس هذا في لسان غير لسانهم ، فهم يعبرون عن المعنى الواحد بعبارات كثيرة ربما كانت مفردة له ، وربما كانت مشتركة بينه وبين غيره ، وربما استعاروا بعض ذلك في موضع بعض على التوسع والمجاز ، فيقولون إذا سأل الرجل الرجل شيئا فبخل به عليه : «لقد بخّله فلان» ، وهو لم يسأله ليبخل وإنما سأله ليعطيه ؛ لكن البخل لمّا ظهر منه عند مسألته إياه ، جاز في توسعهم ومجاز قولهم أن ينسب ذلك إليه.

ومنه قول الشاعر : «... فللموت ما تلد الوالدة» ، والوالدة إنما تطلب الولد ليعيش لا ليموت ، لكن لما كان مصيره إلى الموت جاز أن يقال : للموت ولدته» (٢).

فالاستعارة في نظر قدامة تتمثل في استعارة بعض الألفاظ في موضع بعض على سبيل التوسع والمجاز.

وعن الاستعارة المكنية التي التفت إليها ولم يسمها باسمها

__________________

(١) كتاب البديع ص ٢٣.

(٢) كتاب نقد النثر لقدامة ص ٦٤.

١٧٠

الاصطلاحي المعروف يقول : «ومن الاستعارة ما قدمناه من إنطاق الربع وكل ما لا ينطق إذا ظهر من حاله ما يشاكل النطق. ومما جاء من هذا النوع في القرآن قوله : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ.) لما جاز أن تحتمل مزيدا من الكافرين حسن أن يقال : قالت وهل من مزيد؟ وكذلك قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ،) وذلك لما كانتا عن إرادته من غير استصعاب عليه ولا عصيان له ، جاز أن يقال إنهما قالتا أتينا طائعين.

وكذلك قوله : (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ ،) لما كانت الإرادة من أسباب الفعل وكان وقوع الفعل يتلوها ، جاز لما قد كاد أن يقع وقرب وقوعه ، أن يقال أراد أن يقع.

ومثل ذلك قول الشاعر : «... امتلأ الحوض وقال قطني» ، أي لما لم تكن فيه ـ الحوض ـ سعة لغير ما قد وقع فيه من الماء ، جاز على الاستعارة أن يقال : قد قال حسبي ، وهذا شائع في اللغة كثير» (١).

وإذا كانت الاستعارة المكنية هي ما حذف فيها المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه فإن في كل من «جهنم ، والسماء ، والأرض ، والحوض» الواردة في الأمثلة السابقة استعارة مكنية حذف في كل منها المشبه به وهو شخص أو إنسان ورمز إليه بشيء من لوازمه هو «النطق والقول».

ومن البلاغيين من يسمي هذا النوع من الاستعارة «التشخيص» حيث تمثل فيه المعاني والجمادات إلى أشخاص تكتسب كل صفات الكائنات الحية أيا كانت وتصدر عنها أفعالها.

__________________

(١) كتاب نقد النثر ص ٦٥ ـ ٦٦.

١٧١

وهم يعدون هذا النوع من أجمل الصور البيانية لما فيه من التشخيص والتجسيد وبث الحياة والحركة في الجمادات وتصوير المعنويات في صورة محسة حية.

وبعد فقد عرضنا في مستهل هذا الكتاب وعلى التحديد في مبحث «نشأة علم البيان وتطوره» لتاريخ الاستعارة مبينين كيف نشأ البحث فيها وتطور لدى رجال البلاغة في العصور المختلفة.

وليس من قصدنا أن نعيد هنا ما سبق أن ذكرناه عن الاستعارة ، فهذا أمر يمكن الرجوع إليه وتتبعه تاريخيا في مكانه من الكتاب. وإنما القصد أن نلقي مزيدا من الضوء على أوائل من فطنوا إلى الاستعارة وقاموا بالمحاولة الأولى في بحثها ، تلك المحاولة التي التقطها البلاغيون من بعدهم وتوسعوا في دراستها ، حتى وصلت الاستعارة بفضل جهودهم إلى ما وصلت إليه من التفريع والتقسيم.

ذلك هو القصد ، وقصد آخر هو أن نتخذ من ذلك مدخلا إلى دراسة الاستعارة دراسة موسعة تعززها الأمثلة والشواهد الكثيرة ، وذلك لأهميتها في باب البيان العربي ، تلك الأهمية التي جعلت إماما من أئمة البلاغة هو عبد القاهر الجرجاني ينظر إليها وإلى المجاز والتشبيه والكناية على أنها عمد الإعجاز وأركانه ، والأقطاب التي تدور البلاغة عليها ، وذلك إذ يقول : «ولم يتعاط أحد من الناس القول في الإعجاز إلا ذكرها ، وجعلها العمد والأركان فيما يوجب الفضل والمزية ، وخصوصا الاستعارة والمجاز ، فإنك تراهم يجعلونهما عنوان ما يذكرون وأول ما يوردون» (١).

__________________

(١) انظر دلائل الإعجاز ص ٣٢٩ ـ ٣٣٠.

١٧٢

تعريف الاستعارة

١ ـ عرّفها الجاحظ بقوله : «الاستعارة تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه».

٢ ـ وعرّفها ابن المعتز بقوله : «هي استعارة الكلمة لشيء لم يعرف بها من شيء قد عرف بها».

٣ ـ وعرّفها قدامة بن جعفر بقوله : «هي استعارة بعض الألفاظ في موضع بعض على التوسع والمجاز».

٤ ـ وعرّفها القاضي الجرجاني (١) بقوله : «فأما الاستعارة فهي أحد أعمدة الكلام ، وعليها المعول في التوسّع والتصرّف ، وبها يتوصّل إلى تزيين اللفظ ، وتحسين النظم والنثر». وعرّفها مرة أخرى بقوله : «ما اكتفي فيها بالاسم المستعار عن الأصلي ونقلت العبارة فجعلت في مكان غيرها ، وملاكها بقرب التشبيه ، ومناسبة المستعار للمستعار له ، وامتزاج اللفظ بالمعنى حتى لا يوجد بينهما منافرة ، ولا يتبين في أحدهما إعراض عن الآخر» (٢).

٥ ـ وعرّفها أبو الحسن الرماني (٣) بقوله : «الاستعارة استعمال العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة» ومثل لها بقول الحجاج : «إني أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها».

__________________

(١) هو أبو الحسن علي بن عبد العزيز الشهير بالقاضي الجرجاني «٣٦٦ ه‍» صاحب كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه.

(٢) العمدة ج ١ ص ٢٤٠.

(٣) كتاب العمدة لابن رشيق ج ١ ص ٢٤١ ، والرماني «٣٨٦ ه‍» صاحب كتاب «النكت في إعجاز القرآن».

١٧٣

٦ ـ وعرّفها الآمدي (١) بما معناه : «هي استعارة المعنى لما ليس له إذا كان يقاربه أو يدانيه أو يشبهه في بعض أحواله أو كان سببا من أسبابه».

٧ ـ وعرّفها أبو هلال العسكري بقوله : «الاستعارة نقل العبارة عن موضع استعمالها في أصل اللغة إلى غيره لغرض».

٨ ـ وعرّفها عبد القاهر الجرجاني بقوله : «الاستعارة في الجملة أن يكون لفظ الأصل في الوضع اللغوي معروفا تدلّ الشواهد على أنه اختصّ به حين وضع ، ثم يستعمله الشاعر أو غير الشاعر في غير ذلك الأصل ، وينقله إليه نقلا غير لازم فيكون هناك كالعارية (٢).

٩ ـ وعرّفها السكاكي بقوله : «الاستعارة أن تذكر أحد طرفي التشبيه وتريد به الطرف الآخر مدّعيا دخول المشبه في جنس المشبه به دالّا على ذلك بإثباتك للمشبه ما يخصّ المشبه به» (٣).

١٠ ـ وعرّفها ضياء الدين بن الأثير بقوله : «الاستعارة هي طيّ ذكر المستعار له الذي هو المنقول إليه ، والاكتفاء بذكر المستعار الذي هو المنقول» (٤).

وعرّفها ابن الأثير تعريفا آخر بقوله : «الاستعارة نقل المعنى من لفظ

__________________

(١) هو أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي «٣٧١ ه‍» صاحب كتاب الموازنة بين أبي تمام والبحتري.

(٢) أسرار البلاغة ص ٢٢.

(٣) الإيضاح للقزويني ص ٢٢٦.

(٤) المثل السائر ص ١٤٢.

١٧٤

إلى لفظ لمشاركة بينهما مع طيّ ذكر المنقول إليه (١).

١١ ـ وعرّفها الخطيب القزويني بقوله : «الاستعارة مجاز علاقته تشبيه معناه بما وضع له. وكثيرا ما تطلق الاستعارة على استعمال اسم المشبّه به في المشبّه ، فيسمى المشبه به مستعارا منه ، والمشبه مستعارا له ، واللفظ مستعارا» (٢).

* * *

تلك طائفة من تعريفات الاستعارة تبيّن مفهومها لدى كبار رجال البلاغة العربية في عصورها المختلفة ، وهي وإن اختلفت عباراتها فإنها تكاد تكون متفقة مضمونا.

ومن كل التعريفات السابقة تتجلى الحقائق التالية بالنسبة للاستعارة :

١ ـ الاستعارة ضرب من المجاز اللغوي علاقته المشابهة دائما بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي.

٢ ـ وهي في حقيقتها تشبيه حذف أحد طرفيه.

٣ ـ تطلق الاستعارة على استعمال اسم المشبّه به في المشبّه ، فيسمى المشبّه به مستعارا منه ، والمشبه مستعارا له ، واللفظ مستعارا.

٤ ـ وقرينة الاستعارة التي تمنع من إرادة المعنى الحقيقي قد تكون لفظية أو حالية.

__________________

(١) كتاب المثل السائر ص ١٤٥.

(٢) الإيضاح للقزويني ص ١٩٤ ـ ٢٠٠.

١٧٥

أقسام الاستعارة

١ ـ الاستعارة التصريحية والمكنية

يقسّم البلاغيون الاستعارة من حيث ذكر أحد طرفيها إلى : تصريحية ومكنية.

١ ـ فالاستعارة التصريحية : وهي ما صرّح فيها بلفظ المشبه به ، أو ما استعير فيها لفظ المشبه به للمشبه.

٢ ـ والاستعارة المكنية : هي ما حذف فيها المشبه به أو المستعار منه ، ورمز له بشيء من لوازمه.

ولبيان هذين النوعين من الاستعارة نورد فيما يلي طائفة من الأمثلة ثم نعقّب عليها بالشرح والتفصيل.

الأمثلة :

١ ـ قال المتنبي في وصف دخول رسول الروم على سيف الدولة :

وأقبل يمشي في البساط فما درى

إلى البحر يسعى أم إلى البدر يرتقي

في هذا البيت مجاز لغوي ، أي كلمة استعملت في غير معناها الحقيقي وهي «البحر» والمقصود بها سيف الدولة الممدوح ، والعلاقة المشابهة ، والقرينة التي تمنع من إرادة المعنى الحقيقي لفظية وهي «فأقبل يمشي في البساط».

وفي البيت مجاز لغوي آخر ، أي كلمة استعملت في غير معناها الحقيقي وهي «البدر» والمقصود بها أيضا سيف الدولة الممدوح ، والعلاقة بين البدر والممدوح المشابهة في الرفعة ، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي لفظية أيضا وهي «فأقبل يمشي في البساط».

١٧٦

٢ ـ وقال تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ.)

ففي الآية الكريمة مجازان لغويان في كلمتي «الظلمات والنور» قصد بالأولى «الضلال» وبالثانية «الهدى والإيمان». فقد استعير «الظلمات» للضلال ، لعلاقة المشابهة بينهما في عدم اهتداء صاحبهما. كذلك استعير «النور» للهدى والإيمان ، لعلاقة المشابهة بينهما في الهداية ، والقرينة التي تمنع من إرادة المعنى الحقيقي في كلا المجازين قرينة حالية تفهم من سياق الكلام.

٣ ـ وقال المتنبي في مدح سيف الدولة أيضا :

أما ترى ظفرا حلوا سوى الظفر

تصافحت فيه بيض الهند باللمم (١)؟

ففي البيت هنا مجاز لغوي في كلمة «تصافحت» يراد منها «تلاقت» لعلاقة المشابهة ، والقرينة لفظية هي «بيض الهند واللمم».

وإذا تأملنا المجاز اللغوي في كل هذه الأمثلة الثلاثة رأينا أنه تضمن تشبيها حذف منه لفظ المشبه واستعير بدله لفظ المشبه به ليقوم مقامه بادّعاء أن المشبه به هو عين المشبه مبالغة.

فكل مجاز من هذا النوع يسمى «استعارة» ، ولما كان المشبه به مصرّحا به في هذا المجاز سمي «استعارة تصريحية».

* * *

__________________

(١) بيض الهند : السيوف ، واللمم : جمع لمّة بكسر اللام وتشديد الميم ، وهي الشعر المجاور شحمة الأذن ، والمراد بها هنا الرؤوس ، والمعنى : لا ترى انتصارا حلوا لذيذا إلا بعد معركة تتلاقى فيها السيوف بالرؤوس.

١٧٧

٤ ـ قال الشاعر دعبل الخزاعي :

لا تعجبي يا سلم من رجل

ضحك «المشيب» برأسه فبكى

فالمجاز هنا في كلمة «المشيب» حيث شبّه بإنسان على تخيل أن المشيب قد تمثل في صورة إنسان ، ثم حذف المشبه به «الإنسان» ورمز له بشيء من لوازمه هو «ضحك» الذي هو القرينة.

٥ ـ قال الشاعر :

وإذا «العناية» لا حظتك عيونها

نم فالمخاوف كلهنّ أمان

المجاز اللغوي في كلمة «العناية» ، فالذي يفهم من البيت أن الشاعر يريد أن يشبّه «العناية» بإنسان ، وأصل الكلام : العناية كامرأة لاحظتك عيونها ، ثم حذف المشبه به «المرأة» فصار : العناية لاحظتك عيونها ، على تخيل أن العناية قد تمثلت في صورة امرأة ، ثم رمز للمشبه به المحذوف بشيء من لوازمه هو «لاحظتك عيونها» والذي هو القرينة التي تمنع من إرادة المعنى الحقيقي.

٦ ـ وقال الحجاج من خطبته في أهل العراق : «إني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها».

فالمجاز اللغوي هنا في كلمة «رؤوسا» ، وأصل الكلام على التشبيه «إني لأرى رؤوسا كالثمرات قد أينعت وحان قطافها» ثم حذف المشبه به وهو «الثمرات» ، فصار الكلام «إني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها» على تخيل أن الرؤوس قد تمثلت في صورة ثمار ، ثم رمز للمشبّه به المحذوف بشيء من لوازمه هو «قد أينعت وحان قطافها».

١٧٨

ولما كان المشبه به في هذا النوع من الاستعارة محتجبا سميت «استعارة مكنية».

من هذه الأمثلة وشرحها يتضح ما سبق أن ذكرناه من أن الاستعارة من حيث ذكر أحد طرفيها نوعان :

١ ـ الاستعارة التصريحية : وهي ما صرّح فيها بلفظ المشبّه به ، أو ما استعير فيها لفظ المشبه به للمشبه.

٢ ـ الاستعارة المكنية : وهي ما حذف فيها المشبه به أو المستعار منه ، ورمز له بشيء من لوازمه.

إجراء الاستعارة

يقصد بإجراء الاستعارة تحليلها إلى عناصرها الأساسية التي تتألف منها. وهذا التحليل يتطلب تعيين كلّ من المشبه والمشبه به في الاستعارة ، وعلاقة المشابهة أو الصفة التي تجمع بين طرفي التشبيه ، ونوع الاستعارة ، وكذلك نوع القرينة التي تمنع من إرادة المعنى الحقيقي ، والتي تكون أحيانا لفظية وأحيانا حالية تفهم من سياق الكلام.

وفيما يلي إجراء لبعض الاستعارات يحلّلها ويوضّح العناصر الرئيسية التي تتألف منها :

١ ـ قال ابن المعتز :

جمع الحق لنا في إمام

قتل البخل وأحيا السماحا

في البيت استعارتان الأولى منهما في «قتل البخل» حيث شبّه تجنب كل مظاهر البخل ، وهو المشبه ، بالقتل ، وهو المشبه به ، بجامع الزوال في كل ، والقرينة التي تمنع من إرادة المعنى الحقيقي هي لفظة «البخل». ولأن

١٧٩

المشبّه به وهو «القتل» مصرّح به تسمى هذه الاستعارة «تصريحية».

والاستعارة الثانية في البيت هي «أحيا السماحا» ، حيث شبّه تجديد وانبعاث ما اندثر من عادة الكرم ، وهو المشبه ، بالإحياء ، وهو المشبه به ، بجامع الإيجاد بعد العدم في كل ، والقرينة هنا لفظية وهي «السماحا». ولأن المشبه به «الإحياء» مصرّح به فالاستعارة «تصريحية».

٢ ـ وقال الشاعر في وصف مزين :

إذا لمع البرق في كفه

أفاض على الوجه ماء النعيم

في هذا البيت شبّه الموسى بالبرق بجامع اللمعان في كل ، واستعير اللفظ الدالّ على المشبه به وهو «البرق» للمشبه وهو «الموسى» ، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي لفظية وهي «في كفه». ولما كان المشبه به «البرق» مصرّحا به فالاستعارة تصريحية.

* * *

٣ ـ قال أبو خراش الهذلي :

وإذا المنية أنشبت أظفارها

أبصرت كل تميمة لا تنفع

في هذا البيت شبّهت «المنية» بحيوان مفترس بجامع إزهاق روح من يقع عليه كلاهما ، ثم حذف المشبه به «الحيوان المفترس» ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو «أنشبت أظفارها» ، والقرينة لفظية وهي إثبات الأظفار للمنيّة. والاستعارة هنا «مكنية» لأن المشبه به قد حذف ورمز إليه بشيء من لوازمه.

٤ ـ وقال أبو العتاهية يهنىء المهدي بالخلافة :

أتته الخلافة منقادة

إليه تجرّر أذيالها

١٨٠