علم البيان

الدكتور عبدالعزيز عتيق

علم البيان

المؤلف:

الدكتور عبدالعزيز عتيق


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٠

قبله. وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال يوم غزوة حنين : «الآن حمي الوطيس» ، وأراد بذلك شدّة الحرب ، فإنّ «الوطيس» في الوضع هو «التنور» (١) ، فنقل إلى الحرب استعارة ، ولم يسمع هذا اللفظ على هذا الوجه من غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وواضع اللغة ما ذكر شيئا من ذلك ، فعلمنا حينئذ أنّ من اللغة حقيقة بوضعه ومجازات بتوسعات أهل الخطابة والشعر. وفي زماننا هذا قد يخترعون أشياء من المجاز على حكم الاستعارة لم تكن من قبل ، ولو كان هذا موقوفا من جهة واضع اللغة لما اخترعه أحد من بعده ولا زيد فيه ولا نقص منه.

ثمّ يستطرد ابن الأثير إلى الكلام عمّا بين المجاز والحقيقة من عموم وخصوص وكذلك إلى الكلام عن قيمة المجاز البلاغية فيقول : «واعلم أنّ كل مجاز له حقيقة لأنّه لم يصح أن يطلق عليه اسم المجاز إلّا لنقله عن حقيقة موضوعة له ، إذ المجاز اسم للموضوع الذي ينتقل فيه من مكان إلى مكان ، فجعل ذلك لنقل الألفاظ من الحقيقة إلى غيرها ، وإذا كان كل مجاز لا بدّ له من حقيقة نقل عنها إلى حالته المجازية ، فكذلك ليس من ضرورة كل حقيقة أن يكون لها مجاز ، فإنّ من الأسماء ما لا مجاز له كأسماء الأعلام لأنّها وضعت للفرق بين الذوات لا للفرق بين الصفات.

__________________

وقد اغتدي والطير في وكناتها

بمنجرد «قيد الأوابد» هيكل

الأوابد : الوحوش ، والهيكل : العظيم الجرم والجسم. والمعنى : قد أباكر الصيد قبل نهوض الطير من أوكارها على فرس قليل الشعر عظيم الجسم ماض في السير يقيد الوحوش بسرعة لحاقه إياها. وقوله «قيد الأوابد» جعل الفرس لسرعة إدراكه الصيد كالقيد لها لأنها لا يمكنها الفوت منه ، كما أنّ المقيد غير متمكن من الفوت والهرب.

(١) التنور : نوع من الكوانين ، والتنور : كل ما يخبز فيه ، والتنور : نبع الماء كالقدر حين يفور ، قال تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ.)

١٤١

وكذلك فاعلم أنّ المجاز أولى بالاستعمال من الحقيقة في باب الفصاحة والبلاغة ، لأنّه لو لم يكن كذلك لكانت الحقيقة التي هي الأصل أولى منه حيث هو فرع عليها ، ولييس الأمر كذلك ، لأنّه قد ثبت وتحقق أنّ فائدة الكلام الخطابي هي إثبات الغرض المقصود في نفس السامع بالتخييل والتصور حتى يكاد ينظر إليه عيانا.

ألا ترى أنّ حقيقة قولنا : «زيد أسد» هي قولنا : «زيد شجاع» ، لكنّ هناك فرقا بين القولين في التصوير والتخييل وإثبات الغرض المقصود في نفس السامع ، لأنّ قولنا : «زيد شجاع» لا يتخيل منه السامع سوى رجل جريء مقدام ، فإذا قلنا : «زيد أسد» يخيل عند ذلك صورة الأسد وهيئته وما عنده من البطش والقوة ودق الفرائس ، وهذا لا نزاع فيه» (١).

فأعجب ما في العبارة المجازية عنده أنّها تنقل السامع عن خلقه الطبيعي في بعض الأحوال ، فإذا البخيل سمح جواد ، والجبان شجاع ، والطائش حكيم حتى إذا قطع عنه ذلك الكلام وأفاق من نشوته عاد إلى حالته الأولى ، وهذا هو فحوى السحر الحلال المستغني عن إلقاء العصا والحبال.

وأخيرا يشير ابن الأثير إلى ضرورة العدول عن المجاز إلى الحقيقة إن لم يكن فيه زيادة فائدة عليها ، وفي ذلك يقول : «واعلم أنّه إذا ورد عليك كلام يجوز أن يحمل معناه على طريق الحقيقة وعلى طريق المجاز باختلاف لفظه فانظر ، فإن كان لا مزية لمعناه في حمله على طريق المجاز ، فلا ينبغي أن يحمل إلّا على طريق الحقيقة لأنّها هي الأصل والمجاز هو الفرع ، ولا يعدل عن الأصل إلى الفرع إلّا لفائدة ... وهكذا كل ما يجيء من الكلام

__________________

(١) المثل السائر ص ٢٥ ـ ٢٦.

١٤٢

الجاري هذا المجرى ، فإنّه إن لم يكن في المجاز زيادة فائدة على الحقيقة لا يعدل إليه» (١).

وبعد فتلك نبذة عن آراء بعض العلماء في مفهوم الحقيقة والمجاز ، وقد كثر كلام رجال البلاغة في تحديد هذا المفهوم ، ولا يخرج كلامهم في الواقع عن معنى ما أسلفناه.

* * *

أقسام المجاز :

يقسم علماء البلاغة المجاز قسمين :

١ ـ المجاز العقلي : ويكون في الإسناد ، أي في إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له. ويسمى المجاز الحكمي ، والإسناد المجازي ، ولا يكون إلّا في التركيب.

٢ ـ المجاز اللغوي : ويكون في نقل الألفاظ من حقائقها اللغوية إلى معان أخرى بينها صلة ومناسبة. وهذا المجاز يكون في المفرد ، كما يكون في التركيب المستعمل في غير ما وضع له. وهذا المجاز اللغويّ نوعان :

أ ـ الاستعارة : وهي مجاز لغويّ تكون العلاقة فيه بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي المشابهة.

ب ـ المجاز المرسل : وهو مجاز تكون العلاقة فيه غير المشابهة.

وسمّي مرسلا لأنّه لم يقيّد بعلاقة المشابهة ، أو لأنّ له علاقات شتى.

المجاز العقلي

عرّف السكاكي المجاز العقليّ بأنّه الكلام المفاد به خلاف ما عند

__________________

(١) المثل السائر ص ٢٦.

١٤٣

المتكلم من الحكم فيه لضرب من التأويل إفادة للخلاف لا بواسطة وضع ، كقولك : أنبت الربيع البقل ، وشفى الطبيب المريض ، وكسا الخليفة الكعبة ، وهزم الأمير الجند ، وبنى الوزير القصر (١).

وعرف الخطيب القزويني هذا المجاز بقوله : «هو إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس له غير ما هو له بتأويل». وللفعل ملابسات شتى ، فهو يلابس الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والسبب ، فإسناد الفعل إلى الفاعل إذا كان مبنيا له حقيقة ، وكذا إسناده إلى المفعول إذا كان مبنيا له. أمّا إسناد الفعل إلى غيرهما لمشابهته لما هو له في ملابسة الفعل فمجاز ، كقولهم في المفعول به : عيشة راضية ، وماء دافق ، وكقولهم في عكسه : سيل مفعم ، وفي المصدر : شعر شاعر ، وفي الزمان : نهاره صائم وليله قائم ، وفي المكان : طريق سائر ، ونهر جار ، وفي السبب : بنى الأمير المدينة (٢).

أمّا عبد القاهر الجرجاني فيسمي هذا الضرب من المجاز «المجاز الحكمي». ويفهم من كلامه أنّه يقصد به المجاز الذي لا يكون في ذات الكلمة ونفس اللفظ ، ففي قولك : «نهارك صائم وليلك قائم» ليس المجاز في نفس «صائم وقائم» ولكن في إجرائهما خبرين على «النهار والليل». وكذلك في قوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) ليس المجاز في لفظة «ربحت» نفسها ولكن في إسنادها إلى «التجارة». فكل لفظة هنا أريد بها معناها الذي وضعت له على وجهه وحقيقته ـ فلم يرد بصائم غير الصوم ، ولا بقائم غير القيام ، ولا بربحت غير الربح (٣).

__________________

(١) مفتاح العلوم للسكاكي ص ٢٠٨.

(٢) الإيضاح لمختصر تلخيص المفتاح ص ٢٠.

(٣) دلائل الإعجاز ص ١٩٤.

١٤٤

ولما كان الكلام السابق مجملا فإنّا نورد فيما يلي طائفة من الأمثلة ثمّ نعقب عليها بالشرح والتحليل توضيحا لحقيقة هذا الضرب من المجاز.

الأمثلة :

١ ـ أعمير إنّ أباك غيّر رأسه

مرّ الليالي واختلاف الأعصر

٢ ـ بنى خوفو الهرم الأكبر.

٣ ـ ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا

ويأتيك بالأخبار من لم تزود

٤ ـ يغنّي كما صدحت أيكة

وقد نبّه الصبح أطيارها

٥ ـ قال تعالى : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً؟.)

٦ ـ قال تعالى : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا.)

٧ ـ تكاد عطاياه يجنّ جنونها

إذا لم يعوّذها برقية طالب

فإذا تأملنا المثال الأول رأينا أنّ المجاز العقلي هو قول الشاعر : «غيّر رأسه مرّ الليالي» ، ومعنى غير رأسه ، أي لوّن شعر رأسه فحوله من السواد إلى البياض ، وقد أسند تغيير لون الرأس إلى مرور الليالي وتواليها وهذا لا يشيب ، وإنّما الشيب يحدث عادة من ضعف في أصول الشعر ومواطن غذائه. ولكن لما كان مر الليالي وتعاقبها سببا في هذا الضعف أسند تغيير لون الشعر إلى مر الليالي. ففي الإسناد مجاز عقلي علاقته السببية.

كذلك إذا تأملنا المثال الثاني وجدنا أنّ الفعل «بنى» قد أسند إلى غير فاعله ، فإنّ خوفو لم يبن وإنما الذين بنوا هم عماله ، ولما كان خوفو سببا في البناء أسند الفعل إليه. ففي الإسناد هنا مجاز عقلي علاقته السببية أيضا.

وإذا نظرنا إلى المثال الثالث وجدنا الفعل «ستبدي» أسند إلى «الأيام» أي أسند إلى غير فاعله الحقيقي. لأنّ فاعله الحقيقي هو «حوادث

١٤٥

الأيام» ، والذي سوغ هذا الإسناد أنّ المسند إليه «الأيام» زمان الفعل. فإسناد الإبداء إلى الأيام مجاز عقلي علاقته الزمانية.

وفي المثال الرابع الأيكة الشجرة وهي لا تغني ولا تصدح ، فالفعل «صدحت» أسند إلى «الأيكة» أي إلى غير فاعله ، لأنّ فاعله الحقيقي هو «الطيور» التي تتخذ من الأيكة مكانا لها تصدح من فوقه. وعلى هذا فإسناد الصّدح إلى الأيكة مجاز عقلي علاقته «المكانية» لأنها مكان الطيور التي تصدح.

وفي المثال الخامس يقول الله تعالى : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً؟.) فالحرم لا يكون آمنا لأنّ الإحساس بالأمن صفة من صفات الأحياء وإنّما الحرم مأمون بمعنى يؤمن ، ولهذا أسند الوصف المبني للفاعل «آمن» إلى ضمير المفعول. وهذا مجاز عقلي علاقته «المفعولية».

وإذا تدبرنا المثال السادس وهو قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ،) نجد أنّ كلمة «مأتيا» جاءت بدل كلمة «آت» ، فاستعمل هنا اسم المفعول مكان اسم الفاعل ، أو بعبارة أخرى أسند الوصف المبني للمفعول إلى الفاعل ، وهذا مجاز عقلي علاقته «الفاعلية».

وفي المثال السابع والأخير نجد أنّ المجاز العقلي هو في قول الشاعر «يجنّ جنونها» فالفعل «يجنّ» أسند إلى مصدره ولم يسند إلى فاعله ، وإسناد الفعل إلى مصدره مجاز عقلي علاقته «المصدرية».

فمن معالجة هذه الأمثلة نرى أنّ أفعالا أو ما يشبهها لم تسند إلى فاعلها الحقيقي ، بل أسندت إلى سبب الفعل أو زمانه أو مكانه ، أو مصدره ، وأنّ صفات كان من حقها أن تسند إلى المفعول أسندت إلى الفاعل ، وأخرى كان يجب أن تسند إلى الفاعل أسندت إلى المفعول.

١٤٦

كذلك رأينا أنّ هذا النوع من الإسناد غير حقيقي ، لأنّ الإسناد الحقيقي هو إسناد الفعل إلى فاعله الحقيقي. فالإسناد إذن هنا إسناد مجازي ويسمى بالمجاز العقلي ، لأنّ المجاز ليس في اللفظ كالاستعارة والمجاز المرسل ، بل في الإسناد وهذا يدرك بالعقل.

* * *

على ضوء هذا الشرح نستطيع أن نستنبط القواعد التالية :

١ ـ المجاز العقلي : هو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة الإسناد الحقيقي.

٢ ـ الإسناد المجازي : يكون إلى سبب الفعل أو زمانه أو مكانه أو مصدره ، أو بإسناد المبني للفاعل إلى المفعول أو المبني للمفعول إلى الفاعل.

٣ ـ من القاعدة السابقة يتضح أنّ علاقات المجاز العقلي هي السببية أو الزمانية أو المكانية أو المصدرية أو المفعولية أو الفاعلية.

* * *

ولمزيد من الإيضاح نقدم طائفة أخرى من الأمثلة مع بيان المجاز العقلي في كل منها وعلاقته.

أ ـ أمثلة للمجاز العقلي والعلاقة السببية :

١ ـ قال تعالى : (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ.)

ففي إسناد بناء الصرح إلى هامان وزير فرعون مجاز عقلي علاقته السببية ، لأنّ هامان لم يبن الصرح بنفسه ، وإنّما بناه عماله ، ولكن لما كان

١٤٧

هامان سببا في البناء أسند الفعل إليه.

٢ ـ إنا لمن معشر أفنى أوائلهم

قيل الكماة ألا أين المحامونا؟ (١)

فإسناد الإفناء إلى قول الكماة مجاز عقلي علاقته السببية ، لأنّ قول الكماة : «ألا أين المحامون؟» سبب في هجوم هؤلاء المحامين وقتلهم.

٣ ـ يفعل المال ما تعجز عنه القوة.

فإسناد الفعل إلى المال إسناد غير حقيقي لأنّ المال لا يفعل وإنّما صاحبه هو الذي يفعل ، فهنا مجاز عقلي علاقته السببية ، لأنّ المال هو الذي يدفع صاحبه إلى الفعل.

٤ ـ لها وجه يصف الحسن.

فإسناد وصف الحسن إلى الوجه هو إسناد الفعل إلى غير فاعله الحقيقي لأنّ الذي يصف حسن الوجه إنّما هو من يراه ، ولما كان الوجه وما أودع فيه من جمال هو السبب في دفع الناس إلى وصفه أسند الوصف إليه. وهذا مجاز عقلي علاقته السببية.

٥ ـ قال المتنبي :

والهمّ يخترم الجسيم نحافة

ويشيب ناصية الصبيّ ويهرم (٢)

الفعل «يخترم» بمعنى يهلك وقد أسند «الهم» أي إلى غير فاعله

__________________

(١) الكماة : جمع كمي وهو الشجاع المتكمي في سلاحه أي المتغطي المتستر به ، والقيل : القول.

(٢) يخترم : يهلك ، والناصية : شعر مقدم الرأس : إنّ الهم إذا استولى على الجسم هزله حتى يهلك ، وقد يشيب به الصبي ويصير كالهرم من الضعف.

١٤٨

الحقيقي ، لأنّ الهم لا يهلك الجسم وإنّما الذي يهلكه هو المرض الذي سببه الهم ، وكذلك الفعل «يشيب» أسند إلى ضمير الهم ، أي إلى غير فاعله الحقيقي أيضا ، لأنّ الهم لا يشيب الرأس وإنّما الذي يشيبه هو الضعف في جذور الشعر الناشىء عن الهم. وعلى هذا فإسناد الاخترام والإشابة إلى الهم مجاز عقلي علاقته «السببية».

* * *

ب ـ أمثلة للمجاز العقلي والعلاقة الزمانية :

١ ـ نهار الزاهد صائم وليله قائم.

إذا تأملنا هذا المثال وجدنا أن «الصوم» أسند إلى ضمير «النهار» ، وأن «القيام» أسند إلى ضمير «الليل» ، مع أن النهار لا يصوم ، بل يصوم من فيه ، وأن الليل لا يقوم بل يقوم من فيه. وعلى هذا فكل من الوصفين «صائم وقائم» أسند إلى غير ما هو له ، والذي سوغ ذلك الإسناد أن المسند إليه زمان الفعل. وعلى هذا فإسناد الصوم إلى ضمير النهار وإسناد القيام إلى ضمير الليل مجاز عقلي علاقته «الزمانية».

٢ ـ ضرب الدهر بينهم وفرق شملهم.

في هذا المثال أسند الضرب والتفريق إلى الدهر مع أن الدهر في حقيقته لا يضرب ولا يفرق ، وعلى هذا فإسناد الضرب والتفريق إليه هو إسناد لكل من هذين الفعلين إلى غير فاعله الحقيقي ، لأن الذي ضرب بينهم وفرق شملهم هو الحوادث والمصائب التي حدثت في الدهر. فالمجاز هنا مجاز عقلي علاقته «الزمانية».

٣ ـ ضرّسهم الزمان وطحنتهم الأيام.

في إسناد فعل التضريس إلى الزمان وفعل الطحن إلى الأيام إسناد

١٤٩

إلى غير الفاعل الحقيقي لأن الذي يضرس ويطحن هو الحوادث والكوارث التي تقع في الزمان والأيام. فإسناد التضريس إلى الزمان والطحن إلى الأيام إذن مجاز عقلي علاقته «الزمانية».

٤ ـ قال المتنبي :

صحب الناس قبلنا ذا الزمانا

وعناهم من أمره ما عنانا

وتولوا بغصة كلهم من

ه وإن سر بعضهم أحيانا

ربما تحسن الصنيع ليالي

ه ولكن تكدر الإحسانا

كلما أنبت الزمان قناة

ركب المرء في القناة سنانا (١)

في البيت الثاني الفعل «سرّ» فاعله ضمير يعود على «الزمان» قبله ، وإسناد هذا الفعل إلى ضمير الزمان إسناد للفعل إلى غير فاعله الحقيقي ، لأن الزمان وهو الوقت لا يسر وإنما تسر الحوادث التي به. وإذن فإسناد السرور إلى الزمان مجاز عقلي علاقته «الزمانية». كذلك في كل من «تحسن الصنيع لياليه» وفي «تكدر الإحسانا» مجاز عقلي علاقته «الزمانية» ، فإسناد إحسان الصنيع وتكدير الإحسان إلى الليالي إسناد غير حقيقي ، لأن الذي يفعل ذلك هو الحوادث التي تقع في الليالي التي هي زمان. ومن أجل ذلك قلنا إن إسناد إحسان الصنيع وتكدير الإحسان إلى الليالي إسناد غير حقيقي ، لأن الذي يفعل ذلك هو الحوادث التي تقع في الليالي التي هي زمان. ومن أجل ذلك قلنا إن إسناد إحسان الصنيع وتكدير الإحسان إلى الليالي مجاز عقلي علاقته «الزمانية».

وفي البيت الأخير «كلما أنبت الزمان قناة» أسند إنبات القناة إلى الزمان أي إلى غير فاعله الأصلي ، لأن الزمان ليس في قدرته وطبيعته

__________________

(١) القناة : عود الرمح ، والسنان : نعله.

١٥٠

الإنبات ، وإنما الذي يفعل إنبات القناة حقيقة حوادث تجدّ في الزمان. وعلى هذا فإسناد إنبات القناة إلى الزمان مجاز عقلي علاقته «الزمانية».

* * *

ج ـ أمثلة للمجاز العقلي والعلاقة المكانية :

١ ـ قال الشاعر :

ملكنا فكان العفو منا سجية

فلما ملكتم سال بالدم أبطح (١)

في قول الشاعر : «سال بالدم أبطح» مجاز عقلي. وتفصيله أن سيلان الدم أسند إلى أبطح ، أي إلى غير فاعله ، لأن الأبطح مكان سيلان الدم ، وهو لا يسيل وإنما يسيل ما فيه وهو الدم. فإسناد سيل الدم إلى الأبطح مجاز عقلي علاقته «المكانية».

٢ ـ يجري النهر.

في هذا المثال أسند الجري إلى النهر ، أي إلى غير فاعله الحقيقي ، لأن النهر مكان جري الماء ، وهو لا يجري ، وإنما يجري ما فيه وهو الماء.

فإسناد الجري إلى النهر إسناد مجازي غير حقيقي ، وهو لهذا مجاز عقلي علاقته «المكانية».

٣ ـ ذهبنا إلى حديقة غناء.

ولفظة «غنّاء» مشتقة من الغنّ ، والحديقة التي هي مكان لا تغنّ ، وإنما الذي يغنّ عصافيرها أو ذبابها ، ففي الكلام مجاز عقلي علاقته «المكانية».

__________________

(١) الأبطح بفتح الطاء : مسيل واسع فيه دقاق الحصى.

١٥١

٤ ـ جلسنا إلى مشرب عذب.

«المشرب» وهو مكان الشرب لا يكون عذبا ، وإنما يعذب الماء الذي يكون فيه ، فإسناد العذوبة إلى مكان الشرب إسناد مجازي غير حقيقي ، وهو لهذا مجاز عقلي علاقته «المكانية».

* * *

د ـ أمثلة للمجاز العقلي والعلاقة المفعولية :

١ ـ كان المنزل «عامرا» وكانت حجره «مضيئة».

في هذا المثال المنزل لا يعمر غيره وإنما هو معمور بغيره ، والحجرة ليست مضيئة لأن الإضاءة لا تقع منها في حقيقة الأمر وإنما تقع عليها ، فهي لهذا مضاءة. وإذن ففي كل من «عامر» و «مضيئة» مجاز عقلي علاقته «المفعولية».

٢ ـ قال الشاعر :

لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى

ونمت وما ليل المطي بنائم (١)

فالمجاز هو في قول الشاعر : «وما ليل المطي بنائم» فإسناد النوم إلى ليل المطي مجازي غير حقيقي ، لأن ليل المطي لا يحدث منه النوم على الحقيقة ، وإنما يقع فيه الفعل ، أي ينام فيه. إذن الليل ليس بنائم وإنما هو منوم فيه ، وعلى هذا ففي كلمة «نائم» مجاز عقلي علاقته «المفعولية».

٣ ـ من أقوال العرب : «عجب عاجب».

فالعجب الأمر الذي يتعجّب منه لخفاء سببه ، وهو لهذا لا يمكن أن

__________________

(١) السرى : السير ليلا ، والمطي : جمع مطية وهي الدابة تمطو : أي تسرع في مشيها.

١٥٢

يعجب ، أي أن يسند إليه العجب على الحقيقة ، لأن العجب صفة من صفات العقلاء ، ولكن العجب يدعو إلى تعجب الناس ، فاستعمل اسم الفاعل «عاجب» هنا مكان اسم المفعول «متعجّب منه». وهذا مجاز عقلي علاقته «المفعولية».

٤ ـ قال النابغة الذبياني :

فبتّ كأني ساورتني ضئيلة

من الرّقش في أنيابها السم ناقع (١)

فالمجاز هو في قول الشاعر : «السم ناقع» وإسناد النقع إلى ضمير السم إسناد مجازي غير حقيقي. لأن السم لا يفعل النقع على الحقيقة ، وإنما هو الذي يفعل به النقع ، وبمعنى آخر أن السم لا يكون ناقعا وإنما يكون منقوعا في ماء أو نحوه. ففي كلمة «ناقع» مجاز عقلي علاقته «المفعولية».

* * *

ه ـ أمثلة للمجاز العقلي والعلاقة الفاعلية :

وذلك فيما بني للمفعول وأسند للفاعل الحقيقي ، نحو : سيل مفعم بضم الميم الأولى وفتح العين ، لأن السيل هو الذي يفعم أي يملأ ، وأصله أفعم السيل الوادي ، أي ملأه. فالفاعل الحقيقي الذي أسند إليه الإفعام هو السيل. فلو أريد الإسناد الحقيقي لقيل : سيل مفعم بكسر العين.

ولكن الذي حدث أنه جيء بالمسند مبنيا للمفعول «مفعم» بفتح العين ، ثم أسند إلى غير فاعله الحقيقي وقيل «سيل مفعم» بفتح العين. فالإسناد

__________________

(١) ساورتني : واثبتني ، والضئيلة : الحية الدقيقة الضعيفة ، والرقش : جمع رقشاء وهي الحية فيها نقط سوداء وبيضاء ، والسم الناقع : المنقوع ، وإذا نقع السم كان شديد التأثير.

١٥٣

هنا مجازي ، وهو مجاز عقلي علاقته «الفاعلية».

* * *

و ـ أمثلة للمجاز العقلي والعلاقة المصدرية.

١ ـ سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم

وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

فالمجاز في البيت هو في «جدّ جدّهم» حيث لم يسند الفعل «جدّ» إلى فاعله الحقيقي وإنما أسند إلى مصدره «جدهم» ، وذلك بجعل ما هو مصدر في المعنى فاعلا لفظيا على سبيل المجاز. ومن هذا يرى أن الفعل أسند إلى غير ما هو له لعلاقة مع قرينة مانعة من الإسناد الحقيقي. فهنا مجاز عقلي علاقته «المصدرية».

٢ ـ قال تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ.)

فالفعل «نفخ» المبني للمجهول لم يسند إلى نائب فاعله الحقيقي وإنما أسند إلى مصدره «نفخة» أي أسند إلى غير ما هو له لعلاقة المصدرية.

فهذا مجاز عقلي علاقته «المصدرية».

٣ ـ

قد عز عزّ الألى لا يبخلون على

أوطانهم بالدم الغالي إذا طلبا

فالفعل «عزّ» لم يسند إلى فاعله الحقيقي وإنما أسند إلى مصدره «عزّ» وذلك بجعل ما هو مصدر في المعنى فاعلا لفظيا على سبيل المجاز. فالفعل في البيت قد أسند إلى غير ما هو له لعلاقة المصدرية ، وهذا مجاز عقلي علاقته «المصدرية».

* * *

هذا وقد أشار عبد القاهر الجرجاني إلى نقطة جديرة بالنظر بالنسبة لهذا المجاز وذلك إذ يقول : «واعلم أنه ليس بواجب في هذا ـ أي المجاز

١٥٤

الحكمي أو العقلي ـ أن يكون للفعل فاعل في التقدير إذا أنت نقلت الفعل إليه عدت به إلى الحقيقة ، مثل إنك تقول في «ربحت تجارتهم» : ربحوا في تجارتهم ... فإن ذلك لا يتأتى في كل شيء.

ألا ترى أنه لا يمكنك أن تثبت للفعل في قولك : «أقدمني بلدك حقّ لي على إنسان» فاعلا سوى «الحق». وكذلك لا تستطيع في قوله :

وصيّرني هواك وبي

لحيني يضرب المثل

وفي قول أبي نواس :

يزيدك وجهه حسنا

إذا ما زدته نظرا

أن تزعم أن ل «صيرني» فاعلا قد نقل عنه الفعل فجعل للهوى كما فعل ذلك في «ربحت تجارتهم» ... ولا تستطيع كذلك أن تقدر ل «يزيد» في قولك : «يزيدك وجهه» فاعلا غير الوجه.

فالاعتبار إذن بأن يكون المعنى الذي يرجع إليه الفعل موجودا في الكلام على حقيقته. معنى ذلك أن «القدوم» في قولك : «أقدمني بلدك حقّ لي على إنسان» موجود على الحقيقة. وكذلك «الصيرورة» في قوله : «صيرني هواك» ، و «الزيادة» في قوله : «يزيدك وجهه» موجودتان على الحقيقة.

وإذا كان معنى اللفظ موجودا على الحقيقة لم يكن المجاز فيه نفسه ، وإذا لم يكن في نفس اللفظ كان لا محالة في الحكم. فاعرف هذه الجملة وأحسن ضبطها حتى تكون على بصيرة من الأمر» (١).

__________________

(١) كتاب دلائل الإعجاز ص ١٩٣ ـ ١٩٤.

١٥٥

المجاز المرسل

ذكرنا عند كلامنا على المجاز اللغوي أنه قسمان : مجاز استعاري ، وهو ما كانت علاقته المشابهة ، ومجاز مرسل وهو ما كانت علاقته غير المشابهة.

كما ذكرنا أن المجاز اللغوي بقسميه يأتي في المركب والمفرد على السواء ، وأن مجيئه في المركب يكون باستعمال التركيب في غير ما وضع له ، كقولك لمن يسيء إليك وينتظر منك حسن الجزاء : «إنك لا تجني من الشوك العنب».

أما مجيئه في اللفظ المفرد فيكون باستعمال الكلمة في غير ما وضعت له أصلا لعلاقة مع قرينة تمنع من إرادة المعنى الأصلي.

ويعرف البلاغيون «العلاقة» بأنها الأمر الذي يقع به الارتباط بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي فيصح الانتقال من الأول إلى الثاني. وهذه العلاقة التي تربط في المجاز بين المعنيين : الحقيقي والمجازي قد تكون «المشابهة» نحو : رأيت زهرة تحملها أمها ، تريد : طفلة كالزهرة في نضارتها وجمالها. وقد تكون العلاقة «غير المشابهة» كالجزئية في قوله تعالى : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) يريد : «وصلوا» لأن الركوع جزء من الصلاة ، فأطلق الجزء وأراد به الكل مجازا.

أما «القرينة» فعرفها البلاغيون أيضا بأنها الأمر الذي يصرف الذهن عن المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي ، وهي إما قرينة عقلية أي حالية نحو : «أقبل بحر» والسامع يرى رجلا ، وإما قرينة لفظية نحو : «رأيت بحرا يعظ الناس من فوق المنبر» فعبارة «يعظ الناس من فوق المنبر» قرينة لفظية ، تدل على أن لفظة «بحر» استعملت استعمالا مجازيا وتمنع في

١٥٦

الوقت ذاته من إرادة المعنى الحقيقي لهذه اللفظة.

* * *

والمجاز المرسل ، كما عرفه الخطيب القزويني ، هو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه وما وضع له ملابسة غير التشبيه ، وذلك مثل لفظة «اليد» إذا استعملت في معنى «النعمة» ، لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة ومنها تصل إلى المقصود بها (١). وقد سماه البلاغيون «مجازا مرسلا» لإرساله عن التقييد بعلاقة المشابهة.

وقد اشترط عبد القاهر الجرجاني في ذلك أن يكون في الكلام إشارة إلى مصدر تلك النعمة وإلى المولي لها ، فلا يقال : اتسعت «اليد» في البلد ، أو اقتنيت «يدا» ، كما يقال : اتسعت النعمة في البلد أو اقتنيت نعمة ، وإنما يقال : جلّت «يده» عندي ، وكثرت أياديه لديّ ونحو ذلك.

ونظير هذا «اليد» في معنى «القدرة» لأن أكثر ما يظهر سلطان القدرة في اليد ، وبها يكون البطش والضرب والقطع والأخذ والدفع والوضع والرفع ، إلى سائر الأفعال التي تنبىء عن وجوه القدرة ومكانها.

ونظير هذا أيضا قولهم في صفة راعي الإبل : «إن له عليها إصبعا» ، أرادوا أن يقولوا : له عليها أثر حذق ، فدلّوا عليها بالإصبع ، لأنه ما من حذق في عمل يد إلا وهو مستفاد من حسن تصريف الأصابع ، واللطف في رفعها ووضعها كما في الخط والنقش.

وعلى ذلك قيل في تفسير قوله تعالى : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ،) أي نجعلها كخفّ البعير ، فلا يتمكن من الأعمال اللطيفة ،

__________________

(١) كتاب التلخيص للقزويني ص ٢٩٥.

١٥٧

فأرادوا بالإصبع الأثر الحسن ، حيث يقصد الإشارة إلى حذق في الصنعة لا مطلقا ، حتى يقال رأيت أصابع الدار ، وله إصبع حسنة وإصبع قبيحة ، على معنى أثر حسن وأثر قبيح ونحو ذلك.

* * *

هذا وللمجاز المرسل علاقات شتى منها :

١ ـ السببية : وذلك بأن يطلق لفظ السبب ويراد المسبب ، نحو قولهم : «رعينا الغيث» أي المطر ، وهو لا يرعى ، وإنما يرعى «النبات» الذي كان المطر سبب ظهوره. ومن أجل ذلك سمى النبات غيثا ، لأن الغيث سبب وجود النبات وظهوره. فالعلاقة التي تمنع من إرادة المعنى الحقيقي في هذا المجاز المرسل هي «السببية».

ومنه قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ،) فالمجاز هنا في لفظة «الشهر» ، والشهر لا يشاهد ، وإنما الذي يشاهد هو «الهلال» الذي يظهر أول ليلة في الشهر ، والهلال سبب في وجود الشهر ، فإطلاق الشهر عليه مجاز مرسل علاقته «السببية».

ومنه كذلك قول السموأل :

تسيل على حد السيوف نفوسنا

وليست على غير السيوف تسيل

فالشاعر السموأل أراد بالنفوس الدماء ، لأنها هي التي تسيل على حدّ السيوف ، ووجود النفس في الجسم سبب في وجود الدم فيه ، فإطلاق النفوس على الدم التي هي سبب في وجوده مجاز مرسل علاقته «السببية».

* * *

٢ ـ المسببية : وذلك بأن يطلق لفظ المسبب ويراد السبب ، نحو : «أمطرت السماء نباتا» ، فذكر النبات وأريد الغيث ، والنبات مسبب عن

١٥٨

الغيث أي المطر. فهذا مجاز مرسل علاقته «المسبّبية».

ومن هذا النوع من المجاز قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً ،) فالمجاز هنا هو في كلمة «رزقا» ، والرزق لا ينزل من السماء ، ولكن الذي ينزل منها مطر ينشأ عنه النبات الذي منه طعامنا ورزقنا ، فالرزق مسبب عن المطر ، فهو مجاز مرسل علاقته «المسببية».

ومنه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً.) فالمجاز في الآية الكريمة هو في لفظة «نارا» أي : ما لا تتسبب عنه النار عقابا ، فهنا أطلق لفظ المسبب «النار» وأريد به السبب «المال» ، وهذا أيضا مجاز مرسل علاقته «المسببية».

* * *

٣ ـ الجزئية : وهي تسمية الشيء باسم جزئه ، وذلك بأن يطلق الجزء ويراد الكل ، نحو قوله تعالى في شأن موسى عليه‌السلام : (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها). وتقر عينها : أي تهدأ ، ولفظة المجاز هنا هي «عينها» ، والذي يهدأ هو النفس والجسم لا العين وحدها ، ولهذا أطلق الجزء وهو «العين» وأريد به الكلّ وهو النفس والجسم. وهذا مجاز مرسل علاقته «الجزئية».

ومنه قولهم : «الإسلام يحث على تحرير الرقاب» ، فالمقصود من «الرقاب» أشخاص العبيد لأرقابهم ليس غير ، ولكن لما كانت الرقاب عادة موضع وضع الأغلال في العبيد المأسورين أطلقت عليهم. ففي كلمة الرقاب مجاز مرسل علاقته «الجزئية».

ومنه استعمال «العين في الربيئة» ، والربيئة الشخص الذي يستطلع تحركات العدوّ في مكان عال ، فإطلاق العين عليه لأن العين هي المقصودة

١٥٩

في كون الرجل ربيئة ، إذ ما عداها من أعضاء الجسم لا يغني شيئا مع فقدها ، فصارت كأنها الشخص كله.

ومن أجل ذلك قال البلاغيون : «لا بد في الجزء المطلق على الكل من أن يكون له مزيد اختصاص بالمعنى الذي قصد بالكل ، فمثلا لا يجوز إطلاق اليد أو الإصبع على الربيئة وإن كان كل منهما جزءا منه» (١).

* * *

٤ ـ الكلية : وهذا يعني تسمية الشيء باسم كله ، وذلك فيما إذا ذكر الكل وأريد الجزء ، نحو قوله تعالى على لسان نوح عليه‌السلام : (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ ،) فالكلمة موضع المجاز في هذه الآية الكريمة هي «أصابعهم» فقد أطلقت وأريد أناملها أو أطرافها ، لأن الإنسان لا يستطيع أن يضع إصبعه كلها في أذنه. وكل مجاز من هذا النوع يطلق فيه الكل ويراد الجزء هو مجاز مرسل علاقته «الكلية». والغرض منه هنا هو المبالغة في الإصرار على عدم سماع الحق بدليل وضع أصابعهم في آذانهم.

ومنه قوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) فالإنسان لا يتكلم بفمه وإنما يتكلم بلسانه فإطلاق الأفواه على الألسنة مجاز مرسل علاقته «الكلية».

ومنه كذلك : أقام أبو الطيب المتنبي في مصر فترة من حياته. فالمراد أن المتنبي أقام في بعض بلاد مصر ولم يقم في القطر جميعه ، فإطلاق «مصر» وإرادة بعض بلادها مجاز مرسل علاقته «الكلية».

__________________

(١) كتاب التلخيص للقزويني ص ٢٩٨.

١٦٠