علم البيان

الدكتور عبدالعزيز عتيق

علم البيان

المؤلف:

الدكتور عبدالعزيز عتيق


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٠

فهنا أربعة تشبيهات ، كلّ واحد منها تشبيه صورة بصورة وحسن في معناه.

ومن تشبيه المركب بالمركب مع إضمار الأداة ، ما رواه معاذ بن جبل عن الرسول عند ما قال له : «أمسك عليك هذا» وأشار إلى لسانه ، فقال معاذ : «أو نحن مؤاخذون بما نتكلم»؟ فقال له الرسول : «ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكبّ الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم؟». فقوله : حصائد ألسنتهم ، من تشبيه المركب بالمركب ، فإنه شبّه الألسنة وما تمضي فيه من الأحاديث التي يؤاخذ بها بالمناجل التي تحصد النبات من الأرض. وهذا تشبيه بليغ عجيب لم يسمع إلا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومنه قول أبي تمام :

معشر أصبحوا حصون المعالي

ودروع الأحساب والأعراض

فقوله «حصون المعالي» من التشبيه المركب ، لأنه شبّه المعشر الممدوح في منعهم المعالي وحمايتها من أن ينالها أحد سواهم بالحصون في منعها من بها وحمايته.

وكذلك الشأن في تشبيههم بدروع الأحساب والأعراض.

ومن تشبيه المركب بالمركب مع إظهار الأداة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة (١) طعمها طيب وريحها طيب ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها ، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب ولا طعم له ،

__________________

(١) الأترجة بضم الهمزة وسكون التاء وضم الراء وتشديد الجيم : ثمرة ذهبية اللون طيبة الرائحة والطعم.

١٢١

ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مرّ».

فالرسول قد شبّه المؤمن القارىء وهو متّصف بصفتين هما الإيمان والقراءة بالأترجة وهي ذات وصفين هما الطعم والريح ، وشبّه المؤمن غير القارىء ، وهو متّصف بصفتين هما الإيمان وعدم القراءة بالتمرة ، وهي ذات وصفين هما الطعم وعدم الريح ، ووصف المنافق القارىء ، وهو متّصف بصفتين هما النفاق والقراءة بالريحانة وهي ذات وصفين هما الريح وعدم الطعم ، ووصف المنافق غير القارىء ، وهو متّصف بصفتين هما النفاق وعدم القراءة بالحنظلة ، وهي ذات وصفين هما عدم الريح ومرارة الطعم.

ومما ورد من هذا النوع شعرا قول البحتري :

خلق منهمو تردّد فيهم

وليته عصابة عن عصابة

كالحسام الجراز يبقى على الده

ر ، ويفنى في كل حين قرابه (١)

وقول ابن الرومي :

أدرك ثقاتك أنهم وقعوا

في نرجس معه ابنة العنب

فهمو بحال لو بصرت بها

سبّحت من عجب ومن عجب

ريحانهم ذهب على درر

وشرابهم درّ على ذهب (٢)

ويقارن ابن الأثير بين هذا التشبيه وسابقه مقررا أن تشبيه البحتري أصنع ، وذلك أن تشبيه ابن الرومي صدر عن صورة مشاهدة ، على حين

__________________

(١) الحسام الجراز : السيف الماضي النافذ المستأصل ، وقراب السيف : غمده.

(٢) أدرك ثقاتك : ألحق بمن تثق بهم فهم بين ريحان وراح ، والعجب بضم فسكون : الزهو ، والعجب بفتح العين والجيم : إنكار الشيء لأنه خلاف المألوف.

١٢٢

استنبط البحتري تشبيهه استنباطا من خاطره.

ثم يوضّح ابن الأثير رأيه بقوله : «وإذا شئت أن تفرّق بين صناعة التشبيه فانظر إلى ما أشرت إليه ههنا ، فإن كان أحد التشبيهين عن صورة مشاهدة والآخر عن صورة غير مشاهدة ، فاعلم أن الذي هو عن صورة غير مشاهدة أصنع. ولعمري أن التشبيهين كليهما لا بدّ فيهما من صورة تحكى ، لكن أحدهما شوهدت الصورة فيه فحكيت والآخر استنبطت له صورة لم تشاهد في تلك الحال وإنما الفكر استنبطها.

ألا ترى أن ابن الرومي نظر إلى النرجس وإلى الخمر فشبّه ، وأما البحتري فإنه مدح قوما بأن خلق السماح باق فيهم ينتقل عن الأول إلى الآخر ، ثم استنبط لذلك تشبيها فأدّاه فكره إلى السيف وقرابه الذي يفنى في كل حين وهو باق لا يفنى بفنائه. ومن أجل ذلك كان البحتري أصنع في تشبيهه» (١).

والأصل في حسن التشبيه أن يشبه الغائب الخفي غير المعتاد بالظاهر المعتاد ، وهذا يؤدي إلى إيضاح المعنى وبيان المراد ، وذلك كقول الرسول : «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» ففي هذا الحديث إرشاد إلى خفة الحال وعدم الارتباط والتعلّق الشديد بالدنيا ؛ فإن الغريب لا ارتباط له في بلاد الغربة ، وابن السبيل لا وجود له في مكان إلا بمقدار العبور وقطع المسافة. فهذا المعنى أظهره التشبيه نهاية الظهور.

ويؤكد أبو هلال العسكري هذا الأصل من أصول التشبيه الحسن بقوله : «والتشبيه يزيد المعنى وضوحا ويكسبه تأكيدا ، ولهذا أطبق جميع المتكلمين من العرب والعجم عليه ، ولم يستغن أحد منهم عنه. وقد جاء

__________________

(١) كتاب المثل السائر ص ١٥٩ ـ ١٦٠.

١٢٣

عن القدماء وأهل الجاهلية من كل جيل ما يستدل به على شرفه وفضله وموقعه من البلاغة بكل لسان. فمن ذلك ما قاله صاحب كليلة ودمنة : الدنيا كالماء الملح كلما ازددت منه شربا ازددت عطشا. وقال : لا يخفى فضل ذو العلم وإن أخفاه كالمسك يخبا ويستر ، ثم لا يمنع ذلك رائحته أن تفوح. وقال : الأدب يذهب عن العاقل السكر ويزيد الأحمق سكرا ، كالنهار يزيد البصير بصرا ويزيد الخفاش سوء بصر» (١).

ومن مقاصد التشبيه إفادة المبالغة ، ولهذا قلّما خلا تشبيه مصيب عن هذا القصد. ولكن ينبغي ألّا يؤدي الإغراق في المبالغة إلى البعد بين المشبه والمشبه به أو إلى عدم الملاءمة بينهما ، وإلّا ارتدّ التشبيه قبيحا.

ويعبّر عبد القاهر الجرجاني عن مدى أثر التشبيه في التعبير عن المعاني المختلفة بقوله (٢) : «فإن كان ـ التشبيه ـ مدحا كان أبهى وأفخم وأنبل في النفوس وأعظم ، وأهزّ للعطف وأسرع للإلف ، وأجلب للفرح وأغلب على الممتدح ... ، وأسير على الألسن وأذكر ، وأولى بأن تعلقه القلوب وأجدر.

وإن كان ذمّا كان مسه أوجع وميسمه (٣) ألذع ، ووقعه أشدّ وحدّه أحدّ. وإن كان حجاجا كان برهانه أنور ، وسلطانه أقهر ، وبيانه أبهر. وإن كان افتخارا كان شأوه (٤) أبعد ، وشرفه أجدّ ولسانه ألدّ. وإن كان اعتذارا

__________________

(١) كتاب الصناعتين ص ٢٤٣ ـ ٢٤٤.

(٢) أسرار البلاغة ص ٩٣ ـ ٩٦.

(٣) الميسم بكسر الميم : الآلة التي يكوى بها ويعلم.

(٤) الشأو : الأمد والغاية ، وشرفه أجد : أعظم ، والألد : الشديد الخصومة.

١٢٤

كان إلى القبول أقرب ، وللقلوب أخلب ، وللسخائم (١) أسلّ ، ولغرب (٢) الغضب أفلّ. وإن كان وعظا كان أشفى للصدر ، وأدعى للفكر ، وأبلغ في التنبيه والزجر ... وهكذا الحكم إذا استقصيت فنون القول وضروبه ...».

ويرجع عبد القاهر تأثير التشبيه في النفس إلى علل وأسباب. فأول ذلك وأظهره أن أنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفيّ إلى جليّ ، وتأتيها بصريح بعد مكني ، وأن تردّها في الشيء تعلمها إياه إلى شيء آخر هي بشأنه أعلم ، وثقتها به في المعرفة أحكم ، نحو أن تنقلها عن العقل إلى الإحساس ، وعمّا يعلم بالفكر إلى ما يعلم بالاضطرار والطبع ، لأن العلم المستفاد من طرق الحواس ... يفضّل المستفاد من جهة النظر والفكر ... ، كما قالوا : «ليس الخبر كالمعاينة ولا الظن كاليقين» ، فالانتقال في الشيء عن الصفة والخبر إلى العيان ورؤية البصر ليس له سبب سوى زوال الشك والريب.

فالمشاهدة لها أثرها في تحريك النفس وتمكين المعنى من القلب ، ولو لا أن الأمر كذلك لما كان هناك معنى لنحو قول أبي تمام :

وطول مقام المرء في الحي مخلق

لدياجتيه فاغترب تتجدد

فإني رأيت الشمس زيدت محبة

إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد

وذلك أن هذا التجدّد لا معنى له إن كانت الرؤية لا تفيد أنسا من

__________________

(١) السخائم : الضغائن ، وسل السخائم : نزعها واستخراجها.

(٢) غرب السيف : حدّه ، وفل السيف : ثلمه ، والمعنى أن الاعتذار يضعف من حدّة الغضب الذي يكون له وقع السيف على النفس.

١٢٥

حيث هي رؤية ، وكان الإنس لنفيها الشك والرّيب ، أو لوقوع العلم بأمر زائد لم يعلم من قبل.

ولو أن رجلا أراد أن يضرب لك مثلا في تنافي الشيئين فقال : هذا وذاك هل يجتمعان؟ وأشار إلى ماء ونار حاضرين ، وجدت لتمثيله من التأثير ما لا تجده إذا أخبرك بالقول فقال : هل يجتمع الماء والنار؟

وسبب آخر من أسباب بلاغة التشبيه وتأثيره في النفس عند عبد القاهر هو التماس شبه للشيء في غير جنسه وشكله ، لأن التشبيه لا يكون له موقع من السامعين ولا يهزّ ولا يحرّك حتى يكون الشبه مقررا بين شيئين مختلفين في الجنس ، كتشبيه العين بالنرجس وتشبيه الثريا بما شبّهت به من عنقود الكرم المنوّر.

وفي ذلك يقول : «وهكذا إذا استقريت التشبيهات وجدت التباعد بين الشيئين كلما كان أشدّ كانت إلى النفوس أعجب ، وكانت النفوس لها أطرب ، وكان مكانها إلى أن تحدث الأريحية أقرب».

«وذلك أن موضع الاستحسان ، ومكان الاستظراف ، والمثير للدفين من الارتياح ، والمتألف للنافر من المسرّة ، والمؤلف لأطراف البهجة ، أنك ترى بها ـ التشبيهات ـ الشيئين مثلين متباينين ، ومؤتلفين مختلفين ، وترى الصورة الواحدة في السماء والأرض ، وفي خلقة الإنسان وخلال الروض ...».

«ومبنى الطباع وموضوع الجبلة على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يعهد ظهوره منه ، وخرج من موضع ليس بمعدن له كانت صبابة النفوس به أكثر ، وكان الشغف منها أكثر وأجدر. فسواء في إثارة التعجب ، وإخراجك إلى روعة المستغرب وجودك الشيء في مكان ليس من أمكنته ،

١٢٦

ووجود شيء لم يوجد ولم يعرف من أصله في ذاته وصفته ...».

«وإذا ثبت هذا الأصل وهو أن تصوير الشبه بين المختلفين في الجنس مما يحرّك قوى الاستحسان ، ويثير الكامن من الاستظراف فإن التمثيل ـ أي التشبيه ـ أخصّ شيء بهذا الشأن».

فالتشبيه عنده «يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين حتى يختصر بعد ما بن المشرق والمغرب ، ويجمع ما بين المشئم والمعرق (١). وهو يريك للمعاني الممثلة بالأوهام شبها في الأشخاص الماثلة والأشباح القائمة ، وينطق لك الأخرى ، ويعطيك البيان من الأعجم ، ويريك الحياة في الجماد ويريك التئام عين الأضداد ، فيأتيك بالحياة والموت مجموعين ، والماء والنار مجتمعين. كما يقال في الممدوح هو حياة لأوليائه ، موت لأعدائه ، ويجعل الشيء من جهة ماء ومن أخرى نار ، كقول الشاعر :

أنا نار في مرتقى نظر الحا

سد ماء جار مع الإخوان

وكما يجعل الشيء حلوا مرّا ، وصابا عسلا ، وقبيحا حسنا ، وأسود أبيض في حال كقول الشاعر :

له منظر في العين أبيض ناصع

ولكنه في القلب أسود أسفع (٢)

ويجعل الشيء قريبا بعيدا معا ، كقول البحتري :

دان على أيدي العفاة وشاسع

عن كل ندّ في الندى وضريب

كالبدر أفرط في العلو وضوؤه

للعصبة السارين جدّ قريب

ويجعله حاضرا غائبا ، كقول الشاعر :

__________________

(١) المشئم : من أتى من الشام ، والمعرق : من أتى من العراق.

(٢) الأسفع : الأسود المشرب بحمرة ، والاسم السفعة بضم السين.

١٢٧

أيا غائبا حاضرا في الفؤاد

سلام على الحاضر الغائب (١)

ثم يخلص عبد القاهر من كل ذلك إلى القول بأن الشاعر الصنّاع يبلغ بتصرفه في التشبيه إلى غايات الابتداع ، فيقول : «وكفى دليلا على تصرفه باليد الصناع وإيفائه على غايات الابتداع أن يريك العدم وجودا والوجود عدما ، والميت حيّا والحيّ ميتا ، أعني جعلهم الرجل إذا بقي له ذكر جميل وثناء حسن بعد موته كأنه لم يمت ، وجعل الذكر حياة له ، كما قال : «ذكرة (٢) الفتى عمره الثاني» ، وحكمهم على الخامل الساقط القدر الجاهل الدنيء بالموت ... ولطيفة أخرى له وهي : جعل الموت نفسه حياة مستأنفة حتى يقال إنه بالموت استكمل الحياة في قولهم : «فلان عاش حين مات» يراد الرجل تحمله النفس الأبيّة والأنفة من العار أن يسخو بنفسه في الجود والبأس وقتال الأعداء ، حتى يكون له يوم لا يزال يذكر ، وحديث يعاد على مرّ الدهور ويشهر ، كما قال ابن نباتة :

بأبي وأمي كل ذي

نفس تعاف الضيم مرة

يرضى بأن يردّ الردى

فيميتها ويعيش ذكره» (٣)

* * *

عيوب التشبيه

لعلّ التشبيه من بين الأساليب البيانية أكثرها دلالة على قدرة البليغ وأصالته في فن القول. وذلك لأن التشبيه هو في الواقع ضرب من التصوير

__________________

(١) أسرار البلاغة ص ١٠٢ ـ ١١٤.

(٢) الذكرة بضم الذال : الصّيت.

(٣) أسرار البلاغة ص ١٠٢ ـ ١١٤.

١٢٨

لا تتأتى الإجادة أو الإبداع فيه إلا لمن توافرت له أدواته ، من لفظ ومعنى وصياغة ، ومن سموّ خيال ورهافة حسّ ، ومن براعة في تشكيل صور التشبيه على نحو يبثّ فيها الحركة ويمنحها الجمال والتأثير.

ومن أجل ذلك يقال : إن التشبيه بين ألوان البلاغة ممعن في الترف ، كثير الأناقة ، شديد الحساسية ، رقيق المزاج ، وأيّ تهاون فيه يعيبه ، ويخرجه من الحسن إلى القبح.

وهذا القبح أنواع كثيرة ، منها ما يرجع إلى اللفظ أو المعنى أو الصياغة أو الخيال أو الأصول البلاغية التي يبنى عليها التشبيه.

فمن الأصول البلاغية أن يشبّه الشيء بما هو أكبر وأقوى منه ، فيشبه الحسن مثلا بالأحسن ، والقبيح بالأقبح ، والبينّ الواضح بما هو أبين وأوضح منه ، وإلا كان التشبيه ناقصا.

وطبقا لذلك يقول ابن الأثير : «ومن ههنا غلط بعض الكتاب من أهل مصر في ذكر حصن من حصون الجبال مشبّها له فقال : هامة عليها من الغمامة عمامة ، وأنملة (١) خضبها الأصيل فكان الهلال منها قلامة. وهذا الكاتب حفظ شيئا وغابت عنه أشياء ، فإنه أخطأ في تشبيه الحصن بالأنملة ، أي مقدار للأنملة بالنسبة إلى تشبيه حصن على رأس جبل؟».

ثم يستطرد ابن الأثير : «فإن قيل إن هذا الكاتب تأسى فيما ذكره بكلام الله تعالى حيث قال : والقمر قدّرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. فمثل الهلال بأصل عذق النخلة. والجواب أنه شبّه الهلال في

__________________

(١) الأنملة بتثليث الهمزة مع تثليث الميم : مفصل الإصبع الذي فيه الظفر ، وقيل الأنامل : رؤوس الأصابع ، والقلامة : طرف الظفر المقلوم.

١٢٩

الآية بالعرجون القديم ، وذلك في هيئة نحوله واستدارته لا في مقداره ، فإن مقدار الهلال عظيم ولا نسبة للعرجون إليه ، لكنه في مرأى النظر كالعرجون هيئة لا مقدارا. وأما هذا الكاتب فإن تشبيهه ليس على هذا النسق ، لأنه شبّه صورة الحصن بأنملة في المقدار لا في الهيئة والشكل ، وهذا غير حسن ولا مناسب.

ومن بلاغة التشبيه أن يثبت للمشبّه حكم من أحكام المشبّه به ، فإذا لم يكن بهذه الصفة أو كان بين المشبه به بعد فإن ذلك مما يعيب التشبيه ويضع من قيمته البلاغية.

ومن أمثلة ذلك قول أبي تمام :

لا تسقني ماء الملام فإنني

صبّ قد استعذبت ماء بكائي

فالشاعر جعل للملام ماء ، وذلك تشبيه بعيد ، وسبب بعده أن الماء مستلذ والملام مستكره فحصل بينهما المخالفة والبعد من هذه الجهة.

ومنه قول المرّار :

وخال على خديك يبدو كأنّه

سنا البدر في دعجاء باد دجونها (١)

فالمتعارف عليه أنّ الخدود بيض والخال أسود ، ولكنّ الشاعر رغم ذلك يشبه الخال بضوء البدر والخدين بالليلة المظلمة. فالتشبيه هنا ليس بعيدا فحسب ، بل هو مناقض للعادة ، ومن أجل ذلك فهو تشبيه رديء.

ومن بعيد التشبيه أيضا قول الفرزدق :

__________________

(١) الدعجاء : السوداء ، وهي هنا صفة لموصوف محذوف ، والتقدير : ليلة دعجاء ، ودجونها : سوادها.

١٣٠

يمشون في حلق الحديد كما مشت

جرب الجمال بها الكحيل المشعل (١)

فالفرزدق شبّه الرجال في دروع الزرد بالجمال الجرب ، وهذا من التشبيه البعيد ؛ لأنّه إن أراد السواد فلا مقاربة بينهما في اللون لأنّ لون الحديد أبيض ، ومن أجل ذلك سميت السيوف بالبيض. ومع كون هذا التشبيه بعيدا فإنّه تشبيه سخيف.

ومنه كذلك قول أعرابي :

وما زلت ترجو نيل سلمى وودها

وتبعد حتى ابيض منك المسائح

ملا حاجبيك الشيب حتى كأنّه

ظباء جرت منها سنيح وبارح (٢)

فشبه شعرات بيضا في حاجبيه بظباء سوانح وبوارح تمر بين يديه يمينا وشمالا. فهذا كما ترى من بعيد التشبيه.

ومنه قول أبي نواس في الخمر :

وإذا ما الماء واقعها

أظهرت شكلا من الغزل

لؤلؤات ينحدرن بها

كانحدار الذرّ من جبل

فشبّه الجب في انحداره بنمل صغار ينحدر من جبل ، وهذا من

__________________

(١) الكحيل : النفط أو القطران يطلى به الإبل ، وأشعل إبله بالكحيل أو القطران طلاها به وكثره عليها.

(٢) ملا : ملأ ، وسهلت الهمزة لضرورة الشعر ، المسائح : جوانب الرأس أو الشعر ، جمع مسيحة ، والسنيح أو السانح من الظباء والطير خلاف البارح ، وهو ما يمر بين يديك من جهة يسارك إلى يمينك ، والعرب تتيمن به ، لأنّه أمكن للرمي والصيد ، والبارح من الظباء والطير : ما مر منها بين يديك من يمينك إلى يسارك ، والعرب تتطير به ، لأنّه لا يمكنك أن ترميه حتى تنحرف.

١٣١

البعيد ، كما يقول ابن الأثير ، على غاية لا يحتاج فيها إلى بيان وإيضاح.

* * *

وقد يكون التشبيه مصيبا ولكنّ وقع المشبه به على النفس صورة كان أو صفة أو حالا قد يثير فيها حالا من البشاعة أو الاستنكار ، وبهذا يفقد التشبيه روعته وسحره وتنتفي عنه صفة البلاغة ، ويضحى تشبيها قبيحا معيبا. ومن أمثلة ذلك قول شاعر يصف روضا :

كأنّ شقائق النعمان فيه

ثياب قد روين من الدماء

فتشبيه شقائق النعمان بالثياب المرتوية بالدماء قد يكون هذا تشبيها مصيبا ولكن فيه بشاعة ذكر الدماء ، ولو شبه الشقائق مثلا بالعصفر الأحمر اللون أو ما شاكله لكان أوقع في النفس وأقرب إلى الأنس.

وقول امرىء القيس :

وتعطو برخص غير شثن كأنّه

أساريع ظبي أو مساويك أسحل (١)

فامرؤ القيس يقول إنّ صاحبته تتناول الأشياء ببنان أو أصابع رخصة ليّنة ناعمة ، ثمّ يشبه تلك الأنامل بدود الرمل أو المساويك المتخذة من شجر الأسحل. فقد يكون تشبيه البنان بهذا الضرب من الدود مصيبا من جهة اللين والبياض والطول والاستواء والدقة ، ولكنه في الوقت ذاته يحضر إلى الذهن صورة الدود وفي ذلك ما فيه من نفور النفس واشمئزازها. ومن

__________________

(١) تعطو : تتناول ، برخص : أراد به بنانا أو أصابع رخصة لينة ، غير شثن : ليس بخشن ، الأساريع : دود يكون في الرمل تشبه أنامل النساء به ، الظبي : اسم رملة بعينها ، والأسحل : شجر تتخذ من أغصانه الدقيقة المستوية مساويك كالأراك ، وتشبه به الأصابع في الدقة والاستواء.

١٣٢

هنا يتطرق القبح إلى هذا التشبيه على إصابته. أمّا تشبيه البنان بمساويك الأسحل فجار مجرى غيره من تشبيهاتهم ، لأنّهم يصفونها بالأقلام والعنم وما أشبه ذلك. والبنان قريب الشبه من أعواد المساويك في القدر والاستواء ونعومة الملمس.

وقول العرجي في دبيب الهوى :

يدب هواها في عظامي وحبها

كما دب في الملسوع سم العقارب

فتشبيه دبيب الهوى في العظام بدبيب سم العقارب في الملسوع غاية في البشاعة.

ومنه قول أبي محجن الثقفي في وصف قينة :

وترفع الصوت أحيانا وتخفضه

كما يطن ذباب الروضة الغرد

فقد شبّه القينة وهي ترفع صوتها أحيانا وتخفضه بالغناء بطنين الذباب الغرد في الروضة. فهذا التشبيه وإن كان مصيبا لعين الشبه فإنّه غير طيب في النفس ولا مستقر على القلب. فأي قينة تحب أن تشبه بالذباب ، وأن يشبه غناؤها بطنين الذباب؟

ومع هذا فقد سرق أبو محجن هذا التشبيه ولم يحسن استخدامه فقلبه وأفسده. أجل لقد سرقه من قول عنترة العبسي يصف ذباب روضة :

وخلا الذباب بها فليس ببارح

غردا كفعل الشارب المترنم

وشتان بين تشبيه وتشبيه.

وأين قول أبي محجن من قول بشار في وصف قينة :

تصلى لها آذاننا وعيوننا

إذا ما التقينا والقلوب دواعي

١٣٣

إذا قلّدت أطرافها العود زلزلت

قلوبا دعاها للوساوس داعي

كأنّهم في جنة قد تلاحقت

محاسنها من روضة وبقاع

يروحون من تغريدها وحديثها

نشاوى وما تسقيهم بصواع (١)

وبعد فالجوانب التي تعيب التشبيه ويتطرق منها القبح إليه أكثر من أن تحصى أو تستقصى ؛ فمنها ما أوردناه ومثلنا له ، ومنها ما يتطرق إليه من جوانب أخرى كاللفظ أو المعنى أو رداءة الصياغة والنسج أو قلق القافية في الشعر ، وما أشبه ذلك.

وكما ذكرت آنفا أنّ التشبيه من أكثر الأساليب البيانية دلالة على مقدرة البليغ ومدى أصالته في فن القول. فالبلغاء كانوا ـ وما زالوا ـ في كل زمان ومكان يتنافسون في اصطياده ، ويلقون بشباك خيالهم في محيطه ، ثمّ ينزعونها وإذا بعضها ملؤه اللآلىء والدرر! وإذا بعضها الآخر ملؤه الحصى والحجر!.

__________________

(١) الصواع بضم الصاد : المكيال.

١٣٤

المبحث الثاني

الحقيقة والمجاز

إذا تتبعنا نشأة الكلام عن «الحقيقة والمجاز» فإننا نجد أنّ الجاحظ من أوائل من عرضوا لهذا الموضوع بالبحث.

والجاحظ إذ يتناول قضايا البيان العربي لا يهتم كثيرا بصبها في قوالب التعريفات والتحديدات على عادة رجال البلاغة من بعده. وإنّما نراه يسوق النماذج عليها من بليغ القول نثرا وشعرا ، مع شرح بعضها أحيانا أو التعليق عليه ، تاركا لمن يهمهم أن يعرفوا مفهومه لأي موضوع بلاغي طرقه أن يستنبطوه من خلال شرحه له.

ففي كلامه عن الحقيقة والمجاز يقول : «وإذا قالوا : أكله الأسد ، فإنّما يذهبون إلى الأكل المعروف ، وإذا قالوا : أكله الأسود ، فإنّما يعنون النهش واللدغ والعض فقط. وقد قال الله عزوجل (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ

١٣٥

يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً؟) ويقولون في باب آخر : فلان يأكل الناس ، وإن لم يكن يأكل من طعامهم شيئا ، وكذلك قول دهمان النهري :

سألتني عن أناس أكلوا

شرب الدهر عليهم وأكل

فهذا كله مختلف ، وهو كله مجاز» (١).

فالأكل في قوله : «أكله الأسد» حقيقي ، أمّا في الأمثلة الأخرى فالأكل على اختلاف أنواعه مجازي كما ذكر.

فمن هذه الأمثلة يتضح أنّ المجاز عند الجاحظ مقابل للحقيقة ، وأنّ الحقيقة في مفهومه تعني «استعمال اللفظ فيما وضع له أصلا» ، كما أنّ المجاز عنده هو «استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي».

ومن معاصري الجاحظ الذين عرضوا لذات الموضوع من زاوية خاصة أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري «٢٧٦ ه‍» ، فقد اهتمّ ابن قتيبة فقط بالرد على من أنكروا المجاز وزعموا أنّ الكلام كله حقيقة ولا مجاز فيه. وفي ذلك يقول : «لو كان المجاز كذبا لكان أكثر كلامنا باطلا ، لأنّا نقول : نبت البقل ، وطالت الشجرة ، وأينعت الثمرة ، وأقام الجبل ورخص السعر ... ، وتقول : كان الله ، وكان بمعنى حدث ، والله قبل كل شيء. وقال الله عزوجل : (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ ،) لو قلنا لمنكر هذا كيف تقول في جدار رأيته على شفا انهيار؟ لم يجد بدا من أن يقول : يهمّ أن ينقض ، أو يكاد أو يقارب ، فإن فعل فقد جعله فاعلا ، ولا أحسبه يصل إلى هذا المعنى في شيء من ألسنة

__________________

(١) كتاب الحيوان ج ٥ ص ٢٧ ـ ٢٨ ، والأسود هنا : نوع خبيث من الأفاعي.

١٣٦

العجم إلّا بمثل هده الألفاظ» (١).

وبعد ابن قتيبة جاء أبو الحسين أحمد بن فارس «٣٩٦ ه‍» فعرف الحقيقة والمجاز بقوله : «الحقيقة هي الكلام الموضوع موضعه الذي ليس باستعارة ولا تمثيل ولا تقديم ولا تأخير كقول القائل : الحمد لله على نعمه وإحسانه ، وهذا أكثر الكلام ، أي أنّ الكلام الحقيقي يمضي لسنته لا يعترض عليه. وقد يكون غيره ويجوز جوازه لقربه منه إلّا أنّ فيه من تشبيه واستعارة وكف ما ليس في الأول. كقولك : عطاء فلان مزن واكف ، فهذا التشبيه. وقد جاز مجاز قوله : عطاؤه كثير واف» (٢). فالمجاز عند ما كان قريبا من الحقيقة وفيه تشبيه أو استعارة.

وعند ابن رشيق القيرواني «٤٥٦ ه‍» أنّ «المجاز في كثير من الكلام أبلغ من الحقيقة ، وأحسن موقعا في القلوب والأسماع ، وما عدا الحقائق من جميع الألفاظ ثمّ لم يكن محالا محضا فهو مجاز ، لاحتماله وجوه التأويل ، فصار التشبيه والاستعارة وغيرهما من محاسن الكلام داخلة تحت المجاز ، إلّا أنّهم خصوا بالمجاز ، بابا بعينه ، وذلك أن يسمّى الشيء باسم ما قاربه أو كان منه بسبب ، كما قال جرير بن عطية :

إذا سقط السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

أراد المطر لقربه من السماء ، ويجوز أن تريد «بالسماء» السحاب ، لأنّ كل ما أظلّك سماء ، وقال «سقط» يريد سقوط المطر الذي فيه ، وقال

__________________

(١) كتاب العمدة ج ١ ص ٢٣٦.

(٢) كتاب الصاحبي لابن فارس ١٩٦ ـ ١٩٨.

١٣٧

«رعيناه» والمطر لا يرعى ، ولكنه أراد «النبت» الذي يكون عنه فهذا كله مجاز» (١).

كذلك أشار إلى ولع العرب بالمجاز فقال : «والعرب كثيرا ما تستعمل المجاز ، وتعده من مفاخر كلامها ، فإنّه دليل الفصاحة ، ورأس البلاغة ، وبه بانت لغتها عن سائر اللغات» (٢).

ويعرف عبد القاهر الجرجاني «٤٧١ ه‍» الحقيقة في المفرد بقوله : «كل كلمة أريد بها ما وقعت له في وضع واضع وقوعا لا يستند فيه إلى غيره. وهذه عبارة تنتظم الوضع الأول وما تأخر عنه كلغة تحدث في قبيلة أو في جميع العرب أو في جميع الناس مثلا أو تحدث اليوم. ويدخل فيها الأعلام منقولة كانت كزيد وعمرو أو مرتجلة كغطفان ، وكل كلمة استؤنف بها على الجملة مواضعة أو ادّعي الاستثناف فيها.

وإنّما اشترطت هذا كله لأنّ وصف اللفظة بأنّها حقيقة أو مجاز حكم فيها من حيث أنّ لها دلالة على الجملة لا من حيث هي عربية أو فارسية أو سابقة في الوضع أو محدثة مولدة».

ويعرف المجاز بقوله : «أمّا المجاز فكل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والأول. وإن شئت قلت : كل كلمة جزت بها ما وقعت له في وضع الواضع إلى ما لم توضع له ، من غير أن تستأنف فيها وضعا لملاحظة بين ما تجوّز بها إليه وبين أصلها الذي وضعت له في وضع واضعها فهي مجاز» (٣).

__________________

(١) كتاب العمدة لابن رشيق ج ١ ص ٢٣٦.

(٢) المرجع نفسه.

(٣) كتاب أسرار البلاغة ٣٠٢ ـ ٣٠٥.

١٣٨

كذلك عرض السكاكي «٦٢٦ ه‍» للحقيقة والمجاز وعرفهما بقوله : «الحقيقة اللغوية هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له ، والمجاز هو الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها مع قرينة مانعة من إرادة معناها في ذلك النوع» (١).

وممن توسع في موضوع «الحقيقة والمجاز» ضياء الدين الأثير «٦٣٧ ه‍» فقد عرفهما أولا بقوله : «الحقيقة اللغوية : هي حقيقة الألفاظ في دلالتها على المعاني ، وليست بالحقيقة التي هي ذات الشيء ، أي نفسه وعينه ، فالحقيقة اللفظية إذن هي دلالة اللفظ على المعنى الموضوع له في أصل اللغة ، والمجاز هو نقل المعنى عن اللفظ الموضوع له إلى لفظ آخر غيره.

وتقرير ذلك أنّ أقوال المخلوقات كلها تفتقر إلى أسماء يستدل بها عليها ليعرف كل منها باسمه من أجل التفاهم بين الناس وهذا يقع ضرورة لا بدّ منها.

فالاسم الموضوع بإزاء المسمى هو حقيقة له ، فإذا نقل إلى غيره صار مجازا. ومثال ذلك أنا إذا قلنا «شمس» أردنا به هذا الكوكب العظيم الكثير الضوء ، وهذا الاسم له حقيقة لأنّه وضع بإزائه. وكذلك إذا قلنا «بحر» أردنا به هذا الماء العظيم المجتمع الذي طعمه ملح ، وهذا الاسم له حقيقة لأنّه وضع بإزائه.

فإذا نقلنا «الشمس» إلى الوجه المليح استعارة كان ذلك له مجازا لا حقيقة ، وكذلك إذا نقلنا «البحر» إلى الرجل الجواد استعارة كان ذلك له مجازا لا حقيقة» (٢).

__________________

(١) كتاب التلخيص للقزويني ص ٣٢٨.

(٢) كتاب المثل السائر ص ٢٤.

١٣٩

ويوضح ابن الأثير كلامه هذا بما معناه أنّ إطلاق لفظ «الشمس» على الوجه المليح مجاز ، وإطلاق لفظ «البحر» على الرجل الجواد مجاز أيضا. ومن هذا يرى أنّ لفظ «الشمس» له دلالتان ، إحداهما حقيقية وهي هذا الكوكب العظيم الكثير الضوء ، والأخرى مجازية وهي الوجه المليح ، وأنّ لفظ «البحر» له دلالتان أيضا ، إحداهما هذا الماء العظيم الملح وهي حقيقية ، والأخرى هذا الرجل الجواد وهي مجازية.

ولا يمكن أن يقال إنّ هاتين الدلالتين سواء ، وإنّ الشمس حقيقية في الكواكب والوجه المليح ، وإنّ البحر حقيقية في الماء العظيم الملح والرجل الجواد. لأنّ ذلك لو قيل لكان اللفظ مشتركا بحيث إذا ورد أحد هذين اللفظين مطلقا بغير قرينة تخصصه لم يفهم المراد به ما هو من أحد المعنيين المشتركين المندرجين تحته ، على حين أنّ الأمر بخلاف ذلك ، لأننا إذا قلنا «شمس» أو «بحر» وأطلقنا القول لم يفهم من ذلك وجه مليح ولا رجل جواد ، وإنّما يفهم منه ذلك الكوكب المعلوم وذلك الماء المعلوم لا غير.

والمرجع في هذا وما يجري مجراه إلى أصل اللغة التي هي وضع الأسماء على المسميات ، ولم يوجد فيها أنّ الوجه المليح يسمى شمسا ولا أنّ الرجل الجواد يسمى بحرا ، وإنما أهل الخطابة والشعر هم الذين توسعوا في الأساليب المعنوية فنقلوا الحقيقة إلى المجاز ، ولم يكن ذلك من واضع اللغة في أصل الوضع ، ولهذا اختص كل منهم بشيء اخترعه في التوسعات المجازية.

هذا امرؤ القيس قد اخترع شيئا لم يكن قبله ، فمن ذلك أنّه أوّل من عبّر عن الفرس بقوله : «قيد الأوابد» (١) ولم يسمع ذلك لأحد من

__________________

(١) وردت هذه العبارة في بيت من معلقة امرىء القيس هو : ـ

١٤٠