علم البيان

الدكتور عبدالعزيز عتيق

علم البيان

المؤلف:

الدكتور عبدالعزيز عتيق


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٠

الأمر على خلاف ذلك فهو التشبيه المعكوس أو المقلوب طلبا للمبالغة بادّعاء أن وجه الشبه في المشبه أقوى منه في المشبه به.

وقد شاع ذلك ، كما يقول ابن الأثير ، في كلام العرب واتّسع حتى صار كأنه الأصل في التشبيه. والواقع أن هذا الضرب من التشبيه حسن الموقع لطيف المأخذ ، وهو مظهر من مظاهر الافتنان والإبداع في التعبير.

والشرط في استعمال التشبيه المقلوب ألّا يرد إلا فيما جرى عليه العرف والإلف لدى العرب ، وذلك حتى تظهر فيه بوضوح صورة القلب والانعكاس.

على هذا الأساس يحسن التشبيه المقلوب ويقبل ، أما إذا ورد في غير المعهود المألوف فإنه يكون معيبا لأن المبالغة فيه تصيبه بالغموض ، وتؤدي إلى التداخل بين طرفيه ، فلا يعرف أيّهما المشبّه ، وأيّهما المشبه به.

ويقرب من هذا النوع ما أطلق عليه «تشبيه التفضيل» ، وهو أن يشبّه شيء بشيء لفظا أو تقديرا ، ثم يعدل عن التشبيه لادّعاء أن المشبه أفضل من المشبه به. ومن ذلك قول الشاعر :

حسبت جماله بدرا منيرا

وأين البدر من ذاك الجمال؟

وقول شاعر آخر :

من قاس جدواك يوما

بالسحب أخطأ مدحك

السحّب تعطي وتبكي

وأنت تعطي وتضحك

التشبيه الضمني

التشبيه الضمني : تشبيه لا يوضع فيه المشبه والمشبه به في صورة من صور التشبيه المعروفة ، بل يلمحان في التركيب. وهذا الضرب من التشبيه

١٠١

يؤتى به ليفيد أن الحكم الذي أسند إلى المشبه ممكن.

وبيان ذلك أن الكاتب أو الشاعر قد يلجأ عند التعبير عن بعض أفكاره إلى أسلوب يوحي بالتشبيه من غير أن يصرّح به في صورة من صوره المعروفة.

ومن بواعث ذلك التفنّن في أساليب التعبير ، والنزوع إلى الابتكار والتجديد ، وإقامة البرهان على الحكم المراد إسناده إلى المشبه ، والرغبة في إخفاء معالم التشبيه ، لأنه كلما خفي ودقّ كان أبلغ في النفس.

ولنأخذ مثالا لذلك ، وهو قول أبي فراس الحمداني :

سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم

وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

فهو هنا يريد أن يقول : إن قومه سيذكرونه عند اشتداد الخطوب والأهوال عليهم ويطلبونه فلا يجدونه ، ولا عجب في ذلك لأن البدر يفتقد ويطلب عند اشتداد الظلام.

فهذا الكلام يوحي بأنه تضمن تشبيها غير مصرّح به ؛ فالشاعر يشبّه ضمنا حاله وقد ذكره قومه وطلبوه فلم يجدوه عند ما ألّمت بهم الخطوب بحال البدر يطلب عند اشتداد الظلام. فهو لم يصرّح بهذا التشبيه وإنما أورده في جملة مستقلة وضمنه هذا المعنى في صورة برهان.

ولنأخذ مثالا آخر وهو قول البحتري :

ضحوك إلى الأبطال وهو يروعهم

وللسيف حدّ حين يسطو ورونق

فممدوح البحتري يلقى الشجعان بوجه ضاحك وهو يروعهم ويفزعهم في الوقت ذاته ببأسه وسطوته ، وكذلك السيف له عند القتال والضرب رونق وفتك. وهذا كلام يشمّ منه رائحة التشبيه الضمني.

١٠٢

فالبحتري لم يأت بالتشبيه صريحا فيقول : إن حال الممدوح يضحك في غير مبالاة عند ملاقاة الشجعان ويفزعهم ببأسه وسطوته تشبه حال السيف عند الضرب له رونق وفتك ، ولكنه أتى بذلك ضمنا ، لباعث من البواعث السابقة.

ولنأخذ مثالا ثالثا وهو قول ابن الرومي :

قد يشيب الفتى وليس عجيبا

أن يرى النّور في القضيب الرطيب (١)

فابن الرومي يودّ أن يقول هنا : قد يعتري الفتى الشيب في ريعان شبابه ، وليس ذلك بالأمر العجيب لأن الغصن الغضّ الندي قد يظهر فيه الزهر الأبيض قبل أوانه.

فالأسلوب الذي عبّر به ابن الرومي عن فكرته هنا يتضمن تشبيها لم يصرّح به ، فإنه لم يقل مثلا : إن الفتى وقد شاب مبكرا كالغصن الغضّ الرطيب وقد أزهر قبل أوانه ، ولكنه أتى بالتشبيه ضمنا ، لإفادة أن الحكم الذي أسند للمشبّه أمر ممكن الوقوع.

ولنأخذ مثلا أخيرا وهو قول أبي تمام :

لا تنكري عطل الكريم من الغنى

السيل حرب للمكان العالي

يريد أبو تمام أن يقول لمن يخاطبها : لا تنكري خلوّ الرجل الكريم من الغني ، فإن ذلك ليس غريبا ، لأن قمم الجبال وهي أعلى الأماكن لا يستقر فيها ماء السيل.

فالكلام يوحي بتشبيه ضمني ، ولو صرّح به لقال مثلا : إن الرجل الكريم المحروم الغنى يشبه قمة الجبل وقد خلت من ماء السيل. ولكن

__________________

(١) النور : الزهر الأبيض. والقضيب الرطيب : الغصن الغضّ الندي.

١٠٣

الشاعر لم يقل ذلك صراحة ، وإنما أتى بجملة مستقلة وضمّنها هذا المعنى في صورة برهان على إمكان وقوع ما أسنده للمشبّه.

* * *

وفيما يلي طائفة من أمثلة التشبيه الضمنى :

١ ـ قال المتنبي :

وما أنا منهم بالعيش فيهم

ولكن معدن الذهب الرغام (١)

المشبه حال الشاعر لا يعدّ نفسه من أهل دهره وإن عاش بينهم ، والمشبه به حال الذهب يختلط بالتراب ، مع أنه ليس من جنسه.

٢ ـ وقال أيضا :

ومن الخير بطء سيبك عني

أسرع السحب في المسير الجهام (٢)

المشبه حال العطاء يتأخر وصوله ويكون ذلك دليلا على كثرته ، والمشبّه به حال السحب تبطىء في السير ويكون ذلك دليلا على غزارة مائها.

٣ ـ وقال أبو العتاهية :

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها؟

إن السفينة لا تجري على اليبس

المشبه حال من يرجو النجاة من عذاب الآخرة ولا يسلك مسالك النجاة ، والمشبه به حال السفينة التي تحاول الجري على الأرض اليابسة.

٤ ـ وقال ابن الرومي :

__________________

(١) الرغام : التراب.

(٢) السيب : العطاء ، والجهام : السحاب لا ماء فيه.

١٠٤

ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت

وقع السهام ونزعهنّ أليم

المشبه حال المحبوبة إذا نظرت وإذا أعرضت ، والمشبه به حال السهام تؤلم إذا وقعت وتؤلم إذا نزعت.

التشبيه البليغ : والتشبيه إذا ما حذفت منه الأداة ووجه الشبه فهو «التشبيه البليغ» وهو أعلى مراتب التشبيه في البلاغة وقوة المبالغة ، لما فيه من ادّعاء أن المشبّه هو عين المشبه به ، ولما فيه من الإيجاز الناشىء عن حذف الأداة والوجه معا ، هذا الإيجاز الذي يجعل نفس السامع تذهب كل مذهب ، ويوحي لها بصور شتى من وجوه التشبيه ، كقول أبي فراس :

إذا نلت منك الودّ فالكل هينّ

وكل الذي فوق التراب تراب

أغراض التشبيه

قد يلجأ الكاتب أو الشاعر في التعبير إلى أسلوب التشبيه لشعوره بأنه أكثر من غيره في إصابة الغرض ووضوح الدلالة على المعنى.

وأغراض التشبيه منوعة ، وهي تعود في الغالب إلى المشبّه ، وقد تعود إلى المشبّه به. وهذه الأغراض هي :

١ ـ بيان إمكان وجود المشبّه : وذلك حين يسند إلى المشبه أمر مستغرب لا تزول غرابته إلا بذكر شبيه له.

مثال ذلك قول المتنبي :

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإن المسك بعض دم الغزال

فالتشبيه هنا ضمني ، وفيه ادّعى الشاعر أن المشبّه وهو الممدوح مباين لأصله بصفات وخصائص جعلته حقيقة منفردة. ولما رأى غرابة دعواه وأن هناك من قد ينكر وجودها احتجّ على صحتها بتشبيه الممدوح

١٠٥

بالمسك الذي أصله دم الغزال.

ومن أمثلة ذلك أيضا قول البحتري :

دان إلى أيدي العفاة وشاسع

عن كل ندّ في الندى وضريب

كالبدر أفرط في العلو وضوؤه

للعصبة السارين جدّ قريب

ففي البيت الأول وصف الشاعر ممدوحه بأنه قريب للمحتاجين ، بعيد المنزلة ، بينه وبين نظرائه في الكرم والندى بون شاسع. ولكن الشاعر حينما أحسّ أنه وصف ممدوحه بوصفين متضادين ، هما القرب والبعد في وقت واحد ، أراد أن يبينّ أن ذلك ممكن ، وأن ليس في الأمر تناقض ، ولهذا شبّه الممدوح في البيت الثاني بالبدر الذي هو بعيد في السماء ، ولكن ضوءه قريب جدا للسارين بالليل. فالغرض من التشبيه في هذين المثالين هو بيان إمكان وجود المشبّه.

٢ ـ بيان حال المشبه : وذلك حينما يكون المشبه مجهول الصفة غير معروفها قبل التشبيه ، فيفيده التشبيه الوصف.

ومن أمثلة ذلك قول النابغة الذبياني :

فإنك شمس والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب

فالنابغة يشبه ممدوحه بالشمس ، ويشبّه غيره من الملوك بالكواكب ، لأن عظمة ممدوحه تغضّ من عظمة كل ملك كما تخفي الشمس الكواكب. ولما كانت حال الممدوح وغيره من الملوك ، وكلّ منهما مشبّه ، مجهولة غير معروفة ، فقد أتى بالمشبّه به لبيان أن حال الممدوح مع غيره من الملوك كحال الشمس مع الكواكب ، فإذا ظهر أخفاهم كما تخفي الشمس الكواكب بطلوعها.

ومن أمثلته أيضا قول ابن الرومي :

١٠٦

حبر أبي حفص لعاب الليل

يسيل للإخوان أيّ سيل

فالمشبّه هنا هو حبر أبي حفص أو مداده ، والمشبّه به هو لعاب الليل أي سواده. فالمشبه وهو الحبر مجهول الحال أو الصفة لأن للحبر أكثر من لون. ولذلك التمس ابن الرومي له مشبها به هو لعاب الليل الأسود لبيان حاله. فبيان حال المشبه إذن غرض من أغراض التشبيه.

٣ ـ بيان مقدار حال المشبه : أي مقدار حاله في القوة والضعف والزيادة والنقصان ، وذلك إذا كان المشبه معروف الصفة قبل التشبيه معرفة إجمالية ، ثم يأتي التشبيه لبيان مقدار هذه الصفة. وذلك نحو قول عنترة :

فيها اثنتان وأربعون حلوبة

سودا كخافية الغراب الأسود

فعنترة يخبر في هذا البيت بأن حمولة أهل محبوبته تتألف من اثنتين وأربعين ناقة تحلب ، ثم وصف هذه النوق بأنها سود ، والنوق السود هي أنفس الإبل وأعزّها عند العرب.

ولبيان مقدار سواد هذه النوق شبّهها بخافية الغراب الأسحم ، أي جناحه الأسود. فالغرض من التشبيه بيان مقدار حال المشبّه.

ومن قول المتنبي في وصف أسد :

ما قوبلت عيناه إلا ظنّنا

تحت الدجى نار الفريق حلولا

فالمتنبي يصف عينيّ الأسد في الليل بأنهما محمرّتان ، ولبيان مقدار احمرارهما لمن يراهما في الليل عن بعد يشبههما بنار لفريق من الناس حلول مقيمين. وقد اضطر المتنبي إلى التشبيه ليبينّ هذا الاحمرار وعظمه ، أي ليبينّ مقدار حال المشبه. وهذا غرض من أغراض التشبيه.

١٠٧

ومنه كذلك قول ابن شهيد (١) الأندلسي يصف برغوثا : «أسود زنجيّ. أهليّ وحشيّ ... كأنه جزء لا يتجزأ من ليل ، أو نقطة مداد ، أو سويداء فؤاد ...» فالغرض من التشبيهات الثلاثة هنا هو بيان مقدار حال المشبه ، لأنه لما وصف البرغوث بالسواد أراد أن يبيّن مقدار هذا السواد.

فالغرض من التشبيه عند عنترة والمتنبي وابن شهيد هو بيان مقدار حال المشبه ، أي بيان مقدار صفته المعروفة فيه قبل التشبيه معرفة إجمالية.

٤ ـ تقرير حال المشبه : أي تثبيت حاله في نفس السامع وتقوية شأنه لديه ، كما إذا كان ما أسند إلى المشبه يحتاج إلى التأكيد والإيضاح بالمثال ؛ وذلك نحو قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ.)

فالآية الكريمة تتحدث في شأن عبّاد الأوثان الذين يتخذون آلهة غير الله ، وتصفهم بأنهم إذا دعوا آلهتهم لا يستجيبون لهم ، ولا يعود عليهم دعاؤهم إياهم بفائدة. وقد أراد الله سبحانه أن يقرّر هذه الحال ويثبتها في الأذهان ، فشبّه هؤلاء الوثنيين بمن يبسط كفّيه إلى الماء ليشرب فلا يصل الماء إلى فمه بداهة ، لأنه يخرج من خلال أصابعه ما دامت كفّاه مبسوطتين. فالغرض من التشبيه هنا تقرير حال المشبه.

ومن أمثلة هذا الغرض أيضا قول الشاعر :

وأصبحت من ليلى الغداة كقابض

على الماء خانته فروج الأصابع

فحال الشاعر مع صاحبته ليلى هي حال من كلما دنا منها بعدت عنه ، أو حال من كلما أوشك أن يظفر بها أفلتت منه ، وقد أراد الشاعر أن

__________________

(١) من أدباء الأندلس وشعرائهم ، له شعر جيد ومؤلفات قيّمة. توفي سنة ٤٢٦ ه‍.

١٠٨

يقرر هذه الحالة ويوضّحها فشبّهها بحال القابض على الماء يحاول إمساكه والظفر به فيسيل ويخرج من بين أصابعه.

فالغرض من هذا التشبيه أيضا تقرير حال المشبه. ومما يلاحظ على هذا الغرض أنه لا يأتي إلا حينما يكون المشبه أمرا معنويا ، لأن النفس لا تسلّم بالمعنويات تسليمها بالحسيّات ، ومن أجل ذلك تكون في حاجة إلى الإقناع.

وأغراض التشبيه الأربعة السابقة ، وهي : بيان إمكان وجود المشبّه ، وبيان حاله ، وبيان مقداره ، وتقرير حاله ، تقتضي أن يكون وجه الشبه في المشبّه به أتم وهو به أشهر ؛ إذ على تمام وجه الشبه في المشبه به واشتهاره به يكون حظ التشبيه في تحقيق الغرض بالنسبة للمشبّه.

* * *

٥ ـ تزيين المشبّه : ويقصد به تحسين المشبّه والترغيب فيه عن طريق تشبيهه بشيء حسن الصورة أو المعنى.

ومن أمثلة ذلك قول الشريف الرضي :

أحبّك يا لون الشباب لأنني

رأيتكما في القلب والعين توأما (١)

سكنت سواد القلب إذ كنت شبهه

فلم أدر من عزّ من القلب منكما؟

فالشريف الرضي في قوله : «سكنت سواد القلب إذ كنت شبهه» يشبّه حبيبته بحبة القلب السوداء التي هي مناط الحياة في الإنسان. فالغرض من التشبيه هنا تزيين المشبه وبيان أن منزلته في نفس الشاعر منزلة المشبّه به.

__________________

(١) التوأم من جميع الحيوان : المولود مع غيره في بطن إلى ما زاد ، ذكرا كان أو أنثى ، أو ذكرا مع أنثى. ويقال : هما توأمان ، وهما توأم ، والمراد بالتوأم في هذا البيت النظيران.

١٠٩

ومن أمثلته أيضا قول أبي الحسن الأنباري (١) في رثاء مصلوب :

مددت يديك نحوهم احتفاء

كمدّهما إليهم بالهبات

فالأنباري يشبّه مدّ ذراعي المصلوب على الخشبة والناس حوله بمدّ ذراعيه بالعطاء للسائلين أيام حياته. فالمشبّه وهو هنا الصلب أمر قبيح تشمئز منه النفوس ، ولكن صورة المشبّه به وهي مدّ اليدين بالعطاء للسائلين قد أزالت قبحه وزينته.

فالغرض من التشبيه في هذين المثالين هو التزيين ، وأكثر ما يكون هذا الغرض في المدح والرثاء والفخر ووصف ما تميل إليه النفوس.

* * *

٦ ـ تقبيح المشبه : وذلك إذا كان المشبّه قبيحا قبحا حقيقيا أو اعتباريا فيؤتى له بمشبّه به أقبح منه يولّد في النفس صورة قبيحة عن المشبّه تدعو إلى التنفير عنه.

ومن أمثلة ذلك قول الشاعر المتنبي في الهجاء :

وإذا أشار محدّثا فكأنه

قرد يقهقه أو عجوز تلطم

فالمتنبي يشبّه المهجو عند ما يتحدث بالقرد يقهقه أو العجوز تلطم. والغرض من التشبيه تقبيح المشبّه لأن قهقهة القرد ولطم العجوز أمران مستكرهان تنفر منهما النفس.

__________________

(١) أحد الشعراء المجيدين ، عاش في بغداد ، وتوفي سنة ٣٢٨ ه‍. وقد اشتهر بمرثيته التي رثى بها أبا طاهر بن بقية ، وزير عزّ الدولة بن بويه ، لما قتل وصلب. والمرثية التي منها هذا البيت من أعظم المراثي ، ولم يسمع بمثلها في مصلوب. قيل إن عضد الدولة الذي أمر بصلبه لما سمعها تمنى لو كان هو المصلوب وقيلت فيه. انظر المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء ج ٤ ص ٨.

١١٠

وقول ابن الرومي في وصف لحية طويلة :

ولحية سائلة منصبّة

شهباء تحكي ذنب المذبّة

فابن الرومي يشبّه لحية طويلة شهباء يختلط فيها السواد بالبياض بذنب المذبة ، أي المنشة التي يذب بها الذباب ويطرد. والغرض هو تقبيح هذه اللحية والسخرية بصاحبها.

وقول أعرابي في ذم امرأته :

وتفتح ـ لا كانت ـ فما لو رأيته

توهمته بابا من النار يفتح

فالأعرابي الساخط على امرأته بعد أن يدعو عليها بالحرمان من الوجود يشبه فمها عند ما تفتحه بباب من أبواب جهنم. والغرض من هذا التشبيه هو التقبيح.

والتشبيه بغرض التقبيح أكثر ما يستعمل في الهجاء والسخرية والتهكم ووصف ما تنفر منه النفس.

وفيما يلي بعض أمثلة أخرى للتشبيه عند ما يكون الغرض منه التقبيح :

قال ابن الرومي في وصف لؤم شخص ذي لحية :

لا تكذبن فإن لؤمك ناصل

كنصول تلك اللمّة الشمطاء

شبّه لؤمه الظاهر بظهور اللحية المخضوبة حين يزول الخضاب عنها.

وقال السري الرفاء في وصف منزله :

لي منزل كوجار الكلب أنزله

ضنك تقارب قطراه فقد ضاقا

١١١

فهو يشبّه منزله الضيق الذي تقارب قطراه أي جانباه بوجار الكلب وجحره.

وقال ابن الرومي :

أبدئت صفحة قسوة وخشونة

من دون تافه نيلك المطلوب

فكأنك الينبوت في إبدائه

شوكا يذود به عن الخروب

يشبّه ابن الرومي هنا شخصا فظّا غليظ القلب حين يطلب منه أقل معروف بشجر الخروب الذي لا يعادل شوكه ما يجنى من ثمره الأسود المعوجّ الصلب.

وقال أيضا في وصف قينة :

غنّت فمسّ القلب كلّ كرب

واستوجبت منّا أليم الضرب

لها فم مثل اتساع الدّرب (١)

شبّه فم هذه القينة وهي تغني بالدرب أي الباب الواسع.

ومن فوائد التشبيه أنه يمكن عن طريقه تحسين الشيء وتقبيحه في وقت واحد كقول ابن الرومي في مدح العسل وذمّه :

تقول : هذا مجاج النحل تمدحه

وإن تعب قلت : ذا قيء الزنابير

فابن الرومي قد مدح وذمّ الشيء الواحد بتصريف التشبيه المجازي المضمر الأداة الذي خيّل به إلى السامع خيالا يحسّن الشيء عنده تارة

__________________

(١) الدرب : المدخل بين جبلين ، والعرب تستعمله في معنى الباب ، فيقال لباب السكة : درب ، وللمدخل الضيق درب ، لأنه كالباب لما يفضي إليه.

١١٢

ويقبّحه أخرى ، ولو لا التوصل بطريق التشبيه إلى هذا الوجه لما أمكنه ذلك.

* * *

وبعد فمن بحثنا السابق لأغراض التشبيه يتضح أن للتشبيه أغراضا شتى نلخص ما ذكرناه منها فيما يلي :

١ ـ بيان إمكان وجود المشبه : وذلك حين يسند إلى المشبّه أمر مستغرب لا تزول غرابته إلا بذكر شبيه له.

٢ ـ بيان حال المشبّه : وذلك حينما يكون المشبه مجهول الصفة قبل التشبيه ، فيفيده التشبيه الوصف.

٣ ـ بيان مقدار حال المشبه : وذلك إذا كان المشبّه معروف الصفة قبل التشبيه معرفة إجمالية ، ثم يأتي التشبيه لبيان مقدار هذه الصفة من جهة القوة والضعف والزيادة والنقصان.

٤ ـ تقرير حال المشبّه : وذلك بتثبيت حال المشبّه في نفس السامع وتقوية شأنه لديه ، كما إذا كان ما أسند إلى المشبّه يحتاج إلى التأكيد والإيضاح بالمثال. وأغراض التشبيه الأربعة السابقة تقتضي أن يكون وجه الشبه في المشبّه به أتمّ وهو به أشهر ، وذلك لكي تتحقق هذه الأغراض بالنسبة للمشبّه.

٥ ـ تزيين المشبّه : وذلك بأن يلتمس للمشبّه مشبّه به حسن الصورة أو حسن المعنى يرغب فيه. وأكثر ما يكون هذا الغرض في المدح والرثاء والفخر ووصف ما تميل إليه النفس.

٦ ـ تقبيح المشبّه : وذلك إذا كان المشبّه قبيحا حقيقيا أو اعتباريا ، فيؤتى له بمشبه أقبح منه للتنفير منه. وأكثر ما يكون هذا الغرض في الهجاء

١١٣

ووصف ما تنفر منه النفس.

وتجدر الإشارة أخيرا إلى أن جميع هذه الأغراض ترجع في الغالب إلى المشبّه ، وقد ترجع إلى المشبّه به وذلك في حالة التشبيه المقلوب.

* * *

غرائب التشبيه وبديعه

التشبيه أسلوب من الأساليب البيانية ، وهو ميدان واسع تتبارى فيه قرائح الشعراء والبلغاء. ولعلّه هو وأسلوب الاستعارة من أكثر أساليب البيان دلالة على عقل الأديب وقدرته على الخلق والإبداع.

والتشبيه الذي هو في الوقت ذاته أساس الاستعارة يدلّ فيما يدلّ على خصب الخيال وسموّه وسعته وعمقه ، كما يظهر كذلك مدى القدرة على تمثيل المعاني والتعبير عنها في صور رائعة خلّابة.

من أجل ذلك كله يفتنّ الشعراء والبلغاء في صور التشبيه وألوانه ، ويتنافس ذوو المواهب في طرق تناوله والإتيان فيه بكل غريب وبديع طريف.

ولما كان التشبيه على هذا الوضع يعدّ مقياسا يقاس به بلاغة البليغ وأصالته ، فإننا نرى من البلغاء من لا يقف في الدلالة على براعته في التشبيه عند حدّ إجادته ، وإنما يتجاوز ذلك إلى الإتيان بأكثر من تشبيه في بيت واحد.

فمنهم مثلا من شبّه شيئين بشيئين في بيت واحد ، كقول امرىء القيس :

كأن قلوب الطير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي

١١٤

فقد شبّه الرطب من قلوب الطير بالعناب ، واليابس منها بالحشف البالي ، فجاء تشبيهه في غاية الجودة.

وكقول الطرماح في وصف ثور وحشي :

يبدو وتضمره البلاد كأنه

سيف على شرف يسلّ ويغمد

فالثور الوحشي حين يظهر كأنه سيف يسلّ من غمده على مكان عال ، وهو حين يخفى كأنه سيف يغمد في غمده.

وكقول البحتري في وصف الندى تحمله شقائق النعمان :

شقائق يحملن الندى فكأنه

دموع التصابي في خدود الخرائد (١)

فقطرات الندى مشبهة بدموع التصابي ، وشقائق النعمان بخدود الحسان.

وكقول بشار بن برد :

كأن مثار النقع فوق رؤوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

شبّه مثار النقع والغبار فوق الرؤوس بظلمة الليل ، وشبّه السيوف بالكواكب وقد كثر تشبيههم شيئين بشيئين حتى لم يصر عجبا.

وكقول آخر :

بيضاء تسحب من قيام فرعها

وتغيب فيه وهو جثل أسحم

فكأنها فيه نهار ساطع

وكأنه ليل عليها مظلم

شبّه امرأة بيضاء في شعرها الأسود المسترسل إلى الأرض بالنهار الساطع وشبّه شعرها الكثيف الملتف على رأسها بالليل المظلم.

__________________

(١) الخرائد : جمع خريدة ، وهي من النساء البكر التي لم تمسّ قطّ.

١١٥

ومنهم من شبّه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء ، كقول البحتري أيضا :

وتراه في ظلم الوغى فتخاله

قمرا يكرّ على الرجال بكوكب

شبّه وغى الحرب وعجاجها وجلبة أصواتها بالظلم ، وشبّه الممدوح بالقمر ، والسنان بالكوكب.

وكقول شاعر آخر :

نشرت إليّ غدائرا من شعرها

حذر الكواشح والعدو المويق (١)

فكأنني وكأنها وكأنه

صبحان باتا تحت ليل مطبق

شبّه الشاعر نفسه وشبّه صاحبته بصبحين ، وشبّه شعر صاحبته الأسود بليل مطبق الظلام.

وكقول المرقش :

النشر مسك والوجوه دنا

نير وأطراف الأكفّ عنم (٢)

شبّه الرائحة بالمسك ، والوجوه بالدنانير ، وأطراف الأكفّ بالعنم.

وكقول ابن الرومي :

كأن تلك الدموع قطر ندى

يقطر من نرجس على ورد

شبّه الدموع بقطر الندى ، والعيون بالنرجس ، والخدود بالورد وكقول ابن المعتز :

__________________

(١) الكواشح : جمع كاشح وهو العدو الذي يضمر العداوة ويطوي عليها كشحه أي باطنه ، والكشح بفتح الكاف وسكون الشين : الخصر ، وسمي العدو كاشحا لأنه يخبىء العداوة في كشحه وفي كبده ، والكبد بيت العداوة والبغضاء ، ومنه قيل للعدو : أسود الكبد ، كأنّ العداوة أحرقت الكبد. والعدو الموبق : المهلك والمظهر العداوة.

(٢) العنم : شجر له ثمر أحمر يشبّه به البنان أو الأصابه المخضوبة.

١١٦

بدر وليل وغصن

وجه وشعر وقدّ

خمر ودرّ وورد

ريق وثغر وخدّ

في البيت الأول شبّه البدر بالوجه ، والليل بالشعر ، والغصن بالقد ، وفي البيت الثاني شبّه الخمر بالريق ، والدرّ بالثغر ، والورد بالخد. ويلاحظ في جميع هذه التشبيهات أنها من التشبيه المقلوب.

ومنهم من شبّه أربعة أشياء بأربعة أشياء كقول امرىء القيس :

له أيطلا ظبي وساقا نعامة

وإرخاء سرحان ، وتقريب تتفل

شبّه خاصرتي الفرس بخاصرتي الظبي ، وشبّه ساقيه بساقي النعامة ، وشبّه إرخاءه ، أي مدّ عنقه في استرسال عند السير بإرخاء السرحان أي الذئب ، وليس دابة بأحسن إرخاء منه ، وشبّه تقريبه ، أي جمع يديه ووثبه عند الجري بتقريب التتفل ، أي ولد الثعلب ، والمعنى يوحي بأنه أراد الثعلب بعينه مشبّها به.

وكقول المتنبي :

بدت قمرا ومالت خوط بان

وفاحت عنبرا ورنت غزالا (١)

شبّه المتغزّل فيها بالقمر حسنا ، وشبّه تمايلها وتثنيها في مشيتها بغصن البان ، وشبّه طيب رائحتها بالعنبر ، وشبّه سواد مقلتيها عند ما ترنو وتنظر بمقلتي الغزال.

ومثله قول شاعر آخر :

سفرن بدورا وانتقبن أهلّة

ومسن غصونا والتفتن جآذرا

وكقول ابن حاجب وزير القادر بالله :

__________________

(١) الخوط : الغصن الناعم ، ورنت : نظرت.

١١٧

ثغر وخد ونهد واختضاب يد

كالطلع والورد والرمان والبلح (١)

شبّه الثغر بالطلع ، والخد بالورد ، والنهد بالرمان ، واليد المخضوبة بالبلح.

وكقول ابن رشيق :

بفرع ووجه وقدّ وردف

كليل وبدر وغصن وحقف

شبّه الشعر الأسود بالليل ، والوجه بالبدر ، والقدّ أو القامة بالغصن ، والردف (٢) بالحقف وهو كثير الرمل.

ومنهم من شبّه خمسة أشياء بخمسة أشياء كقول أبي الفرج الوأواء الدمشقي :

قالت وقد فتكت فينا لواحظها

كم ذا أما لقتيل اللحظ من قود (٣)؟

وأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت

وردا وعضّت على العنّاب بالبرد

إنسانة لو بدت للشمس ما طلعت

من بعد رؤيتها يوما على أحد

كأنما بين غابات الجفون لها

أسد الحمام مقيمات على رصد

ففي البيت الثاني شبّه دموع هذه الإنسانة باللؤلؤ ، وعينيها بالنرجس ، وخدّيها بالورد ، والأنامل المخضوبة بالعناب ، وثناياها بالبرد.

ويقول أبو هلال العسكري : «ولا أعرف لهذا البيت ثانيا في

__________________

(١) الطلع ، ما يطلع من النخلة ثم يصير ثمرا إن كانت أنثى ، وإن كانت ذكرا لم يصر تمرا بل يؤكل طريا ، ويترك على النخلة أياما معلومة حتى يصير فيه شيء أبيض مثل الدقيق ، وله رائحة ذكيّة فيلقح به الأنثى.

(٢) ردف المرأة : عجزها.

(٣) القود بفتح القاف والواو : القصاص. وهو قتل القاتل بالقتيل.

١١٨

أشعارهم» ومعنى هذا أن أقصى ما وصل إليه الشعراء هو تشبيه خمسة أشياء بخمسة أشياء في بيت واحد ، وأن هذا النوع نادر في الشعر العربي.

وهكذا نرى أن بعض الشعراء قد أكثروا من التشبيهات في البيت الواحد ولكن الولع بهذا اللون من التشبيه ومحاولة إظهار البراعة والافتنان فيه من شأنه أن يؤدي إلى التكلّف الذي يذهب برونق التشبيه ونضارته وتأثيره كما يبدو على بعض هذه التشبيهات.

محاسن التشبيه

من بلاغة التشبيه أن يشبّه الشيء بما هو أكبر منه وأعظم ، لأن التشبيه لا يعمد إليه إلا لضرب من المبالغة ، فإما أن يكون مدحا أو ذمّا أو بيانا وإيضاحا ، ولا يخرج عن هذه المعاني الثلاثة.

وإذا كان الأمر كذلك فلا بدّ فيه من تقدير لفظة «أفعل» ، فإن لم تقدّر فيه لفظة «أفعل» فليس بتشبيه بليغ. ألا ترى أنّا نقول في التشبيه المضمر الأداة «زيد أسد» فقد شبّهنا زيدا بأسد الذي هو أشجع منه ، فإن لم يكن المشبّه به في هذا المقام أشجع من زيد الذي هو المشبّه كان التشبيه ناقصا إذ لا مبالغة.

ومن التشبيه المظهر للأداة قوله تعالى : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ ،) وهذا تشبيه كبير بما هو أكبر لأن السفن البحرية وإن كانت كبيرة فإن الجبال أكبر منها.

وكذلك إذا شبّه شيء حسن بشيء حسن ، فإنه إذا لم يشبه بما هو أحسن منه فليس بوارد على طريق البلاغة ، وإن شبّه قبيح بقبيح فينبغي أن يكون المشبّه به أقبح.

وإن قصد البيان والإيضاح فينبغي أن يكون المشبه به أبين وأوضح.

١١٩

ومن ذلك يرى أن تقدير لفظة «أفعل» لا بدّ منه فيما يقصد به بلاغة التشبيه وإلا كان التشبيه ناقصا.

وقد عرفنا مما سبق أن تشبيه الشيئين أحدهما بالآخر لا يخلو من أن يكون تشبيه معنى بمعنى ، أو تشبيه صورة بصورة ، أو تشبيه معنى بصورة ، أو تشبيه صورة بمعنى. وأبلغ هذه الأنواع تشبيه معنى بصورة ، كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) ووجه بلاغة هذا النوع تأتي من تمثيله للمعاني الموهومة بالصور المشاهدة.

ومن محاسن التشبيه المضمر الأداة قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) فشبّه الليل باللباس ، لأن الليل من شأنه أن يستر الناس بعضهم عن بعض لمن أراد هربا من عدو أو ثباتا لعدو أو إخفاء ما لا يجب الاطّلاع عليه من أمره. وهذا من التشبيهات التي لم يأت بها إلا القرآن الكريم ، فإن تشبيه الليل بلباس مما اختصّ به القرآن دون غيره من الكلام المنثور والمنظوم.

ومن هذا الأسلوب قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) فشبّه تبرّؤ الليل من النهار بانسلاخ الجلد عن الجسم المسلوخ ، وذلك أنه لما كانت هوادي الصبح وأوائله عند طلوعه ملتحمة بأعجاز الليل أجرى عليهما اسم السلخ ، وكان ذلك أولى من أن يقال : «يخرج» لأن السلخ أدلّ على الالتحام من الإخراج.

ومن محاسن التشبيه المضمر في الأمثال «الليل جنة الهارب» ، ومنه في الشعر قول المتنبي :

وإذا اهتزّ للندى كان بحرا

وإذا اهتز للوغى كان نصلا

وإذا الأرض أظلمت كان شمسا

وإذا الأرض أمحلت كان وبلا

١٢٠