شرح دعاء كميل - المقدمة

شرح دعاء كميل - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

كلمة قيمة حول الدعاء بقلم الشهيد مرتضى المطهري ( رحمه الله )

بسم الله الرحمن الرحيم

روحانية الدعاء

بغض النظر عن اجر الدعاء وثوابه ، أو الاستجابة التي ينشدها فإن الدعاء إذا تجاوز اللسان والألفاظ ، وتناغم القلب مع اللسان ، واهتزت روح الانسان مع هذا الدعاء ، فسوف يشعر الانسان بروحانية مقدسة هائلة ، كما لو رأى نفسه غريقاً في أمواج النور ، يحس في تلك اللحاظات بقداسة الطبيعة الانسانية ، ويدرك جيداً كيف كان منحطاً ، غبياً ، في اللحاظات الاخرى التي يشغل نفسه فيها بالأشياء ، والهموم الصغيرة ، والتافهة ، حيث يقلق من أجلها ويتألم ، ان الانسان يحس بالذل حين يطلب شيئاً من غير الله ، ولكن حين يطلبه من الله فسيشعر بالعزة لذلك كان الدعاء طلباً ومطلوباً ، وسيلة وغاية ، مقدمة ونتيجة ، وأولياء الله لا يتلذذون بشيء كالدعاء ، فإنهم يكشفون لدى محبوبهم الحقيقي كل طموحات وآمال قلوبهم ، ويهمهم الدعاء نفسه ، والطلب والاحتياج ، أكثر مما تهمهم مطالبهم ، وتحقيق آمالهم ، لا يشعرون بالملل والتعب أبداً في تلك اللحاظت كما يشير لذلك الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في خاطبه لكميل النخعي :

« هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ، وباشروا روح اليقين ، استلانوا ما استوعوه المترفون ، وآنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا

١

بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى » على العكس من القلوب الموحلة المنغلقة ، والمظلمة التي تباعدت عن ذلك المحل الأعلى.

طريق من القلب لله

في قلب كل أحد طريق لله ، وباب توصله إليه ، حتّى أكثر البشر شقاء وانحطاطاً وعصياناً ، فإنه في ساعات المحن والشدائد حين تضيق بوجهه الدنيا ، وتغلق جميع الابواب ، وتسد كل الدروب ، يهتز كل وجوده ثُمّ يلتجئ إلى الله ، وهذه الحالة من الميول الفطرية الطبيعية المودعة في كيان الانسان ، ولكن تسترها احياناً حجب المعاصي وركام الذنوب ، ولكن في المحن والازمات تتكشف هذه الحجب والستائر ، قليلاً ، ويتحرك ذلك الميل الفطري ويتدفق.

سئل الصادق ( عليه السلام ) عن الله تعالى ، فقال للسائل : « يا عبد الله هل ركبت سفينة قط ؟ قال : بلى ، قال : فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك ؟ قال : بلى ، قال : فهل تعلق قلبك هناك ان شيئاً من الاشياء قادر ان يخلصك من ورطتك؟ قال : بلى ، قال ( عليه السلام ) : فذلك الشيء هو الله القادر على الانجاء حيث لا منجٍ وعلى الاغاثة حيث لا مغيث ».

أجل لقد عرّفه الامام ( عليه السلام ) على الله تعالى بواسطة قلبه ( وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) هذا الميل والدافع الكامن في فطرة الانسان والذي يدفعه ، حين تغلق بوجهه أبواب الدنيا إلى تلك القدرة الغالية القاهرة ، التي

٢

هي فوق الاسباب والقوى الظاهرية ، دليل على وجود هذه القدرة ، واذا لم يكن لهذه القدرة وجود ، لم يكن لهذا الميل الفطري وجود أيضاً.

وبالطبع هناك فرق بين وجود هذا الميل في الانسان ، وبين تعرف الانسان على ذلك الميل ، واهدافه بصورة كاملة. فالميل والرغبة لشرب الحليب ، موجود في الطفل منذ ولادته ، وحين يجوع ، ويلح عليه هذا الاحتياج ، يتحرك هذا الميل ويهيج ، ويوجه الطفل إلى البحث عن الثدي الذي لم يشاهده ولم يعرفه ، ولم يأنس به ، وذلك الميل هو الذي يهديه ، ويدفعه ، ليفتح فمه ، ويفحص وإذا لم يعثر على ضالته ، فإنه يبكي ، والبكاء بنفسه يعني طلب المعونة من الأم ، تلك الأم لم يعرفها بعد ، ولكن الطفل هل يعرف هدف الميل هذا ، وهدف البكاء ، ولماذا وجد هذا الميل والدافع فيه ، لا يعلم بأنه يملك الجهاز الهضمي ، وبأن هذا الجهاز يطالب بمالمواد الغذائية. هو لا يريد لماذا يريد ويطالب ؟ ولا يعلم بأن فلسفة البكاء اخبار الام بحالته ، تلك الام التي لم يكن قد عرفها بعد ، والتي سيتعرف عليها بالتدريج ، ومن جملة ميولنا ونزعاتنا الانسانية السامية ، الرغبة في معرفة الله الميل للدعاء ، والالتجاء لله ، الذي لم نشاهده تماماً ، كذلك الطفل ، الذي خرج جديداً للحياة بالنسبة للثدي الذي لم يشاهده ولم يعرفه ، والأم التي لم يشاهدها ولم يعرفها.

وبطبيعة الحال ، لو لم يوجد الثدي والحليب الملائم لذلك الطفل. فأن الغريزة لا توجه الطفل باتجاه ذلك ، فهناك علاقة وثيقة بين ذلك الميل وبين الغذاء وكذلك الامر في سائر الميول البشرية ، فلم يودع أي ميل عبثاً في

٣

وجود الانسان ، بل ان كل الرغبات والميول خلقت ، وفق الحاجات ، ولأجل اشباع الحاجات.

الانقطاع الاضطراري والانقطاع الاختياري

يمكن للانسان ان يدعو الله في حالتين :

الأولى : حين تنقطع كل الاسباب ، وتغلق كل دروب الخلاص بوجهه ويصبح مضطراً للالتجاء لله.

الثانية : حين تتعالى وتسمو روحه ، فسوف ينتزع نفسه ، ويقطعها عن كل الاسباب والوسائل وبإراته ، لا أنه مضطر لذلك كالحالة الأولى.

وفي الحالة الاولى ، حالة الاضطرار وانقطاع الاسباب بنفسها ، يندفع الانسان لله ، مقهوراً ولا يحتاج لدعوة خاصة ، ومن الواضح ان هذه الحالة ، لا تعد كمالاً للنفس الانسانية ، ولكن الحالة الثانية كمال للنفس ، حيث يسموا الانسان بإختياره ، ويقطعها بإرادته عن كل الاسباب.

شروط الدعاء

١ ـ الشرط الأول : ان تتملك وجود الانسان الرغبة والطلب الجدي ، حيث تصبح كل شرائح وجوده وخلاياه معبرة عن طلبه ، ويتحول ما يريده ، ويرغب فيه ، إلى حاجة حقيقية ، كما لو تعرض موضع من البدن ، للإحتياج فإن جميع اعضاء البدن وجوارحه سوف تبدأ بالعمل ، وربما تزيد بعض الاعضاء من فعاليتها من أجل ان تشبع حاجة ذلك الموضع ، فلو شعر الانسان بالعطش ، فإن ملامح عطشه ستبدو عليه واضحة ، وتهتف اعظاؤه كلها طالبة

٤

الماء : الفم ، والكبد والمعدة والشفة واللسان ، وحتّى لو نام في تلك اللحظات فسوف يلوح الماء له في نومه ، لأن البدن يحتاج ويطالب بالماء جدياً ، وهذا تماماً كالإحتياج الروحي والمعنوي في الانسان ، الذي هو جزء من عالم الخليقة والتكوين ، الذي يشمل العالم كله ، ان الورح الانسانية جزء من عالم الوجود ، فلو افتقرت لشيء ما ، بصورة جدية وحقيقية فان جهاز الكون الكبير لا يهملها ولا يدعها لشأنها.

وهناك فرق كبير بين تلاوة الدعاء الحقيقي ، فإذا لم يواكب قلبه لسانه ، ولم ينسجم معه ، فلا يعد ما يدعو به ، دعاء حقيقياً وجدياً ، فلابد ان ينبثق الطلب والاحتياج ، ويتدفق من اعماق الإنسان ، بصورة جدية وحقيقية ، لابد ان يبدوا الاحتياج الحقيقي في كيان الانسان كله ...

( ان كل ما يظهر في الوجود ، يبحث هنا وهناك حول من يحتاجه ، حتّى يعثر علی الطالب له.

ان من يبحث عن شيء ، سيعثر عليه في النهاية ، وما يبذله الانسان ويتحمله في هذا السبيل ، وان كان مجهداً ومضنياً ، ولكنه رحمة في الواقع.

ان الجواب يتجه للمشكلات ، والماء يتجه للموضع المنخفض.

لا تبحث عن الماء ، بل دع نفسك تظمأ ، فحينئذ سيصل إليك الماء من كل جانب ).

( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ )

٢ ـ الثقة بالاستجابة

وتعني الإيمان واليقين ، الايمان بالرحمة اللامتناهية لذات الباري ،

٥

الايمان بأنه تعالى لا يمنع من فيضه ابداً ولا يبخل به على أحد ، الايمان بأن باب الرحمة الالهية لا تغلق على عبد أبداً ، وان النقص والقصور ـ إذا كان ـ فهو من جانب العبد نفسه ، وفي الحديث : « إذا دعودت فظن حاجتك بالباب » والامام علي بن الحسين زين العابدين ( عليه السلام ) في الدعاء المعروف بأبي حمزة الثمالي ، يخاطب الله تعالى :

« اللهم إني أجد سبل المطالب اليك مشرعة ، ومناهل الرجاء لديك مترعة ، والاستعانية بفضلك لمن امّلك مباحة ، وابواب الدعاء اليك للصارخين مفتوحة ، وأعلم انك للراجين بموضع اجابة ، وللملهوفين بمرصد اغائة وان في اللهف إلى جودك والرضا بقضائك عوضا عن منع الباخلين ، و مندوحة عما في أيدي المستأثرين ، وان الراحل اليك قريب المسافة وانك لا تحتجب عن خلقك إلا ان تحجبهم الآمال دونك.

يقول حافظ : الشاعر الفارسي :

( انما يمكنك النظر لسر الدنيا ، حين يمكنك ان تصنع من تراب الحانة كحلاً لبصرك.

انما يكشف مرادك النقاب عن وجهه الوردي ، حين يمكنك ان تخدمه كنسيم السحر.

ان الاستجداء على أبواب ؟؟؟ حفنة من الاكسير إذا مارسته ، سيمكنك ان تصنع من التراب ذهباً.

تقدم وامض إلى الأمام ، في طريق العشق والحب ، بكل عزيمة وثبات ، فإنك ستجني الكثير من الفوائد ، لو أمكنك هذا السفر.

٦

أنت ... الذي لا تخرج نفسك عن مدار الطبيعة ، فكيف يمكنك ان تطوي مراحل الطريقة وتجتازها.

ليس لجمال الحبيب نقاب ، ولكن حاول إزالة الغبار عن الطريق ليمكنك النظر.

تعال ... فلا سبيل لك للذوق والحضور ، ونظم الامور إلا إذا امكنك الاستفادة من فيوضات أهل النظر.

ولكن ... انت الذي تحلم بشفاه الحبيب ، وكأس الخمر ، لا تطمع بعمل آخر ، فإنه لا يمكنك ذلك ما دمت تحلم بهما.

أيها القلب ، لو تعرفت على نور الهداية ، فستكون كالشمع ، يضحك ولكنه يضحى برأسه ).

٣ ـ أن لا يخالف السنن التكوينية والتشريعية

ويشترط في الدعاء ان لا يكون مخالفاً لنظام التكوين والتشريع ، فالدعاء استمداد واستعانة ليتوصل من خلاله الداعي إلى الاهداف التي قررها له التكوين والوجود ، أو التشريع والقوانين السماوية الالهية ، المنسجمة في طبيعتها في طبيعتها مع التكوين ، فإذا كان الدعاء بهذه الصورة فسوف يتخذ لنفسه طابع الحاجة الطبيعية وسوف يندفع الوجود لتقديم المعونة له ، وإيصال الفيض والمدد لحاجاته ومتطلباته بحكم المحافظة على التوازن والتعادل الذي يتسم به نظام الوجود ، واما لو كان الطلب والاحتياج مخالفاً لاهداف التكوين والتشريع ، امثال المطالبة بالخلود في الدنيا ، أو بقطع الرحم ، فإن مثل هذا الدعاء لا يقبل الاستجابة ، أي ان هذه الادعية لا تكون

٧

تطبيقات حقيقية للدعاء.

٤ ـ مجانسة شؤون الداعي كلها مع الدعاء

ويشترط أيضاً ان تكون شؤون الداعي كلها ، وشتى مجالات حياته وأبعادها متناغمة مع الدعاء ومواكبة له ، فلابد ان تكون جميعاً متطابقة بدورها أيضاً مع أهداف التكوين والتشريع فالقلب لابد ان يكون نظيفاً وطاهراً ولم يسلك لمعيشته طرق الحرام ، ولا يحمل على عاقتة وزراً ومظلمة لأحد ، وفي حديث عن الامام الصادق ( عليه السلام ) :

« إذا أراد أحدكم ان يستجاب له فليطلب كسبه وليخرج من مظالم الناس وان الله لا يرفع إليه دعاء عبد وفي بطنه حرام أو عنده مظلمة لأحد من خلقه ».

٥ ـ ان لا يكون مطلوبة من آثار الذنوب

الشرط الخامس : ان لا تكن حالته الراهنة التي يحلم تغييرها إلى حياة أفضل بالدعاء قد حصلت نتيجة عصيانه وتهاونه في ممارسة وظائفه وتكاليفه فيجب ان لا تكون الحالة التي عليها الداعي ، والتي يدعوا من أجل تغييرها ، عقوبة في حقه ، ونتيجة منطقية لما اقترفه من ذنوب ، واستهانة بوظائفه ، فإن حالته حينئذ لا تغيير بالدعاء وحده ، بل لابد ان يتوب ، ويستغفر ، ويزيل كل أسباب الحالة الراهنة وعواملها.

فمثلاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات الشرعية وصلاح المجتمع ، أو فساده متوقف تماماً على تطبيق هذين الاصلين

٨

وعدمه ، والنتيجة المنطقية لعدم تطبيقهما هو توفير المناخ المساعد ، لسيطرة الاشرار على مقدارت المجتمع ، والعبث بما شاؤوا به ، واذا فرط المجتمع في ممارسة هذه المهمة المقدسة فسوف يتعرض للعقوبة وللنتيجة المنطقية الناجمة من تقصير هذا المجتمع وتفريطه بالوظائف الملقاة على عاتقه وطريق الخلاص من الواقع التعيس الذي يعيشونه يتحدد بالتوبة وممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بمدى ما يملكونه من امكانات وقدرات وبذلك فحسب ، سيتوصلون إلى الآمال التي يحلمون بها ( إِنَّ اللَّـهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) وهذه من السنن الالهية ، وفي رواية معتبرة : « لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعوا خياركم ثُمّ تدعون فلا يستجاب لكم » وفي الواقع ان مثل هذه الادعية على خلاف السنن التكوينية والتشريعية.

وهكذا الامر بالنسبة لمن يستسلم للبطالة والكسل ، فلا يعمل شيئاً ، بل كل ما يفعله هو الدعاء ، فإن هذه الحالة مخالفة للسنن التكوينية والتشريعية.

يقول الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر » فلابد أن يضم العمل للدعاء ، لانّ كل واحد منهما يكمل الآخر.

٦ ـ يلزم ان لا يحل الدعاء محل العمل

الشرط السادس للدعاء : ان يكون الانسان محتاجاً واقعاً ويتحقق ذلك في المجال الذي لا يمتلك فيه الانسان أي وسيلة وسبيل للوصول لمطلوبه ، حيث يكون عاجزاً عن التوصل إليه ، واما لو وضع الله تعالى في يده مفتاح

٩

حاجته ولكنه كفر بتلك النعمة الالهية وتجنب استخدام هذا المفتاح ثُمّ يطلب من الله ان يفتح له تلك الباب التي يمتلك مفتاحها ، حتّى لا يتحمل عناء استخدام المفتاح ، فمثل هذا الدعاء لا يقبل الاستجابة.

ومثل هذه الادعية يلزم عدها من الادعية المخالفة للسنن التكوينية ، ان الانسان يستهدف من الدعاء تحصيل القدرة ، والدعاء في مثل هذه الحالة التي تتوافر القدرة لدى الانسان من قبيل تحصيل الحاصل ، وقد اشير لهذ الفكرة في بعض الروايات التي وردت عن أئمة الدين ( عليهم السلام ).

فقد روى جعفر بن ابراهيم عن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) : قال : أربعة لا يستجاب لهم دعوة :

رجل جالس في بيته يقول : اللهم ارزقني ، فيقال له : ألمْ آمرك في الطلب ؟ ورجل كانت له امرأة فاجرة فدعا عليها ، فيقال له : ألم أجعل أمرها اليك ؟ ورجل كان له مال فأفسده ، فيقول : اللهم ارزقني ، فياقل له : ألم آمرك بالاصلاح [ بالاقتصاد ] ثُمّ قال والذين إذا انفقوا لم يسرفوا ، ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً. ورجل كان له مال فأدانه رجلاً ولم يشهد عليه فجحده ، فيقال له : ألم آمرك بالاشهاد » (١).

ومن الواضح ان عدم الاستجابة لا تختص بهذه الأربعة فانها قد ذكرت من باب المثال ، فاذا تمكن الانسان من التوصل لاهدافه بواسطة العمل والتدبير ولكنه قصر في ذلك ، ويرغب في ان يحل الدعاء محل

__________________

(١) عدة الداعي : ص ١٢٦.

١٠

عمله ، فأن ذلك لا يتحقق أبداً ، ان الدعاء لم يشرع حتّى يتخذ موقع العمل ، بل الدعاء مكمل للعمل ، ولا يحل محله.

تساؤلات حول الدعاء

قد طرحت حول الدعاء تساؤلات عديدة قديماً وحديثاً امثال ان الدعاء لا يتلاءم والاعتقاد بالقضاء والقدر ، فمع الاعتراف بأن كل شيء محدد وفق القضاء والقدر الالهي فما هو أثر الدعاء حينئذ؟ وهل يمكن له تغيير القضاء والقدر.

وقد يسأل بأن الدعاء لا يتلاءم والاعتقاد بأن الله حكيم ، وانه لا تجري الامور إلا وفق المصالح ، فهل نستهدف بالدعاء ان يغير ما يوافق الحكمة والمصلحة ، أو ما يخالفها ؟ فإذا كما نستهدف تغيير الموافق للحكمة فكما يلزم علينا ان لا نطلب من الله ما يخالف الحكمة ، وكذلك فان الله لا ستجيب لمثل هذا الدعاء واما إذا استهدفنا تغيير المخالف لها فذلك يستوجب الاعتراف ضمنياً بوجود ما يخالف الحكمة والمصلحة في هذا العالم ، الذي يجري وفق المشيئة الالهية الحكيمة.

وكذلك قد يسأل بأن الدعاء يخالف الرضا والتسليم ، وانه يلزم على الانسان ان يرضى بكل ما يحدث.

ولهذه الأسئلة وما يدور حولها من دراسات وبحوث تاريخ طويل ، وحتّى انها تشكل جانباً من ادبنا ولسنا في صدد البحث عنها ، وكل هذه الاعتراضات والشبهات ناتجة من هذه الفكرة وهي : ما يتوهم من ان الدعاء خارج عن نطاق القضاء والقدر الالهي وخارج عن حدود الحكمة الالهية

١١

مع ان الدعاء واستجابة الدعاء من مسائل القضاء والقدر الالهي ، ولا ينافي الدعاء الرضا بالقضاء والحكمة الالهية ، ولا مجال لنا للبحث اكثر حول هذا الموضوع.

ليالي القدر

لابد ان نحتذي في سلوكنا وحياتنا خطى قادة الدين ، ولابد من التزود من هذه الفرصة الثمينة وهي ليالي القدر ، والعشرة الاخيرة من شهر رمضان المبارك.

يقول القرآن الكريم : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) وقد ذكرت هذا الآية الشريفة خلال آيات الصوم ولعل في ذلك دليلاً على تميز هذا الشهر المبارك بالدعاء والاستغفار ، وكان أئمة الدين يهتمون كثيراً بليالي القدر ، والاحياء فيها.

وكان الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) لا يمد فراشه في العشرة الاخيرة من شهر رمضان المبارك ، وذلك لأنه كان يعتكف في المسجد ، ويتفرغ للعبادة والدعاء مع خالقه ، وكان الامام زين العابدين ( عليه السلام ) لا ينام أي ليلة من ليالي شهر رمضان ، ويقضي الليل اما بالدعاء أو الصلاة أو بإعانة الفقراء والضعفاء ، وفي السحر كان يتلو الدعاء الذي يعرف بدعاء أبي حمزة الثمالي.

١٢

لذة الدعاء والانقطاع

اولئك الذي عرفوا وذاقوا لذة الدعاء وحلاوة الانقطاع من الخلق للخالق ، لا يرجحون أي لذة عليها ، ان الدعاء في تلك اللحظات يسموا إلى ذروة عزته وعظمته ولذته ، ويغرق فيها الداعي بسعادة عامرة حيث سيرى اللطف والمدد الالهي الخاص وآثار الاستجابة لدعائه في نفسه « وأنلني حسن النظر في ما شكوت وأذقني حلاوة الصنع في ما سألت ».

وبقول العلماء هناك فرق بين علم اليقين وعين اليقين ، حق اليقين ، ويضربون لذلك مثالاً لنفرض انه كانت هناك نار في موضع ما ، فتارة ترى آثار النار من بعيد كالدخان الذي يتصاعد منها ، وبواسطته تكتشف وجود النار هناك ، وهذا يعبر عنه ( بعلم اليقين ) واخرى تقع عينك على النار نفسها عن كثب وهنا يعبر عنه ( بعين اليقين ) والمشاهد أسمى من المعلوم ، وثالثة ان تقترب إلى النار أكثر إلى الحد التي تصل فيه حرارتها إلى بدنك وتحتويك النار ، وهذا ما يسمى ( حق اليقين ).

فيمكن للانسان ان يعرف الله تماماً ويؤمن بوجوده المقدس ، ولكن لا يرى في حياته آثار لطفه ، وعناياته الخاصة التي تفاض احياناً لبعض عباده وهذه مرحلة ( علم اليقين ) وأحياناً يشاهد آثار التوحيد عملياً يدعو الله ، ويستجاب دعائه ، ويرى كل ذلك ، ويعتمد على الله ، ويتوكل عليه في كل اعماله ، ولا يعتمد على غيره ، ويرى آثار التوكل في حياته ، فيشاهد آثار التوحيد وهذه مرحلة ( عين اليقين ) وتشعر هذه الفئة باللذة والسعادة لإنها من أهل القلوب ، وأهل التوكل وتبتهج من هذه الحالة ، ولكن هناك مرحلة

١٣

اسمى ، ان يرى الداعي نفسه ، قد ارتبط بذات الله بصورة مباشرة ، بل لا يرى ( الانا ) ولا يبصر نفسه فالفعل فعله ، والصفة صفته ، ويراه في كل شيء.

حين يتعلم الانسان حرفة أو علماً ما ، ويصبح طبيباً أو مهندساً مثلاً ، وبعد سنين طويلة ، من المتاعب ، والمشاق والجهود المضنية حين يشاهد لأول مرة آثار صنعته أو عمله كما لو عالج مريضاً ويرى نصب عينيه ان المريض يبرأ من مرضه بسبب علاجه ، يغرق هذا الشخص بالسعادة ويتملكه الفرح ويشعر بلذة غامرة فمن أفضل اللذات ، ان يرى الانسان بعينيه نتائج علمه ، وصنعته.

فما هي حالة الانسان ، وما هو شعوره ، حين يشاهد آثار ايمانه ، أي يلمس المدد الالهي الخاص به ، فإنه سيشعر بالعزة نتيجة نجاحه في طريق التوحيد ، ويشعر ببهجة فائقة تغمر اعماقه ، اعذب وأسمى من اللذات جميعها ، ندعوه تعالى ان يجعلنا مؤهلين لمثل هذه الألطاف الخاصة.

١٤

شرح دعاء كميل ـ عبد الأعلى السبزواري

١٥

شرح دعاء كميل ـ عبد الأعلى السبزواري

١٦

شرح دعاء كميل ـ عبد الأعلى السبزواري

١٧