موسوعة قرى ومدن لبنان - ج ٩

طوني مفرّج

١
٢

٣
٤

الإصطلاحات أو الرموز المستعملة

في توضيح لفظ أسماء القرى والمدن

٥
٦

جونيه

حارة صخر. غادير

ساحل علما. صربا

الباطيّة. دير بقلوش

JUONIE

A RIT S R.DIR

S IL ALM.SARBA

AL ـ B IYI.DAIR BAQLUOSH

الموقع والخصائص

جونيه : مرفأ ومدينة شمالي بيروت ، هي اليوم مركز قضاء كسروان ، تضمّ أربع بلدات متجاورة تمتدّ بين شاطىء وارتفاع ٦٠٠ متر عن سطح البحر ، محتلّة جنوب وسط المنطقة الساحليّة من كسروان المحيطة بمرفأ جونيه وخليجها ، والبالغ مجموع مساحتها ٧٩٦ هكتارا مقسّمة على الوجه التالي : صربا ١٦٣ هكتارا ، غادير ٢٠٥ هكتارات ، حارة صخر ١٧٤ هكتارا ، ساحل علما ٢١٩ هكتارا ، يضاف إليها مساحة ٣٥ هكتارا تشكّل المنطقة الشمسيّة لدير بقلوش.

يحدّ المدينة مجتمعة ، شمالا غزير وشننعير ، شرقا درعون وحريصا وبطحا وزوق مكايل ، جنوبا زوق مكايل ، وغربا البحر. وتقع فيها بلدة صربا إلى أقصى منطقة الجنوب ممتدّة من زوق مكايل التي تحدّها من الجنوب

٧

 والشرق ، إلى غادير التي تليها من جهة الشمال ، والبحر الذي يحدّها من الغرب ؛ ثمّ تليها إلى جهة الشمال مباشرة بلدة غادير التي يحدّها جنوبا صربا ، وشرقا حريصا ودرعون وحارة صخر وساحل علما ، وشمالا حارة صخر وتمامها ساحل علما ، وغربا البحر ؛ تليها حارة صخر التي يحدها جنوبا غادير ، وشرقا ساحل علما وحريصا ، وشمالا ساحل علما وشننعير ، وغربا غادير والبحر ؛ ثمّ ساحل علما التي يحدّها جنوبا حارة صخر ، شرقا بطحا وحريصا ، شمالا شننعير وغزير ، وغربا جزء من حارة صخر ، والبحر ، وجزء من المعاملتين التابعة لغزير.

جغرافيّة المدينة مجوّفة ، يدخلها البحر الى عمق بشكل هلال ، يبلغ شعاعه في الوسط حوالى كيلومترين ، فيشكّل خليجا صغيرا جميلا هو الخليج الوحيد الواضح المعالم على الشاطىء الممتدّ بين غزّة إلى الجنوب ، والإسكندرونة عند حدود تركيا إلى الشمال ، يقوم في طرفه الجنوبي مرفأ سياحيّ شهير. هذا الخليج يبقى بمعزل عن الرياح الخطرة الشديدة الهبوب كريح الشمال والجنوب والصبا ، وهو إلى جهته الشماليّة عميق الغور ، حيث قام مجمّع سياحيّ عملاق. وبعد أن تنبسط الأرض الرمليّة مسافة قصيرة يتراوح عرضها بين الخمسماية والألف متر ، تنتفخ فجأة لتشكّل سورا طبيعيّا يتّخذ شكل الخليج نفسه ، يبدأ شمالا من تخوم طبرجا ، وينتهي جنوبا عند مصبّ نهر الكلب ، ويتوسّطه شرقا جبل يبدو من البحر مستطيلا شبه عمودي ، من أهمّ خصائصه التي جعلته أحد أروع المناظر اللبنانيّة ، أنّه شبه قائم الإرتفاع ومكسوّ كلّيّا بالأشجار البريّة وأهمّها الصنوبر ، فيبدو أبدا دائم الخضرة. وتدلّ بقايا الأسماك المتحجرّة في منطقة من ساحل علما واقعة على سفح هذا الجبل ، أنّه كان مغمورا بمياه البحر منذ حوالى ثمانين مليون سنة ،

٨

قبل أن تنتفخ الأرض نتيجة عوامل طبيعيّة متلاحقة لتأخذ شكلها الحالي. وعلى إحدى قمم هذا الجبل الصغير ، الذي يعرف بجبل حريصا ، يقوم تمثال سيّدة لبنان ، وبجانبه البازيليك الحديث ، بإشراف بديع على خليج المدينة ، وعلى قمّتين موازيتين لجهة الجنوب ، يقوم دير الآباء البولسيّنين بقببه الرائعة ، ويبرز بجلال بناء صرح سيّدة بكركي ، المقرّ الرئيس لكرسي البطريرك الماروني.

ما زال للزراعة في تخوم المدينة بعض الوجود بعد أن احتلّ العمران معظم حقولها ، وهي تتشكّل في معظمها من أنواع الخضار والحمضيّات. وترتوي أراضي البلدة الزراعيّة من موارد مائيّة عدّة ، فأراضي صربا ترتوي من مياه نهر الكلب التي جرّت اليها عبر قناة تسقي ساحل كسروان الواقع بين جونيه والنهر ؛ وأراضي غادير ترتوي من مياه نبع حراش المتفجّرة بجوار عينطورة وزوق مكايل ؛ بينما تفتقر حارة صخر للريّ الفعلي إذ يقتصر السقي فيها على مياه بعض الآبار الأرتوازيّة. وتروي أراضي ساحل علما مياه نبع بطحا المتدفّقة عند حدود البلدة الشرقيّة. وعلى العموم ، فإنّ البناء آخذ في اجتياح الزراعة بشكل سريع ، وبات عدد الوحدات السكنيّة اليوم في مجمل مناطق المدينة حوالي ٢٠٠ ، ١٤ وحدة : ٢٠٠ ، ٦ في صربا ، و ٥٠٠ ، ٣ في غادير ، و ٥٠٠ ، ٣ في حارة صخر ، و ٠٠٠ ، ١ في ساحل علما. وتتنوّع هندسة البناء في المدينة أشكالا تتراوح بين هندسة أوائل القرن الحالي والهندسة العصريّة التي باتت طاغية بوضوح ، وما زال بعض سقوف القرميد ظاهرا في مجمل الأحياء ، مانحا جونيه جمالا تبرّج به شاطئ خليجها الغنيّ بالشكل الحسن ، وبذلك حافظت المدينة على مظهر تراثيّ محبّب.

٩

كذلك يتنوّع شكل الشوارع الداخليّة وتقسيم المناطق التجاريّة والسكنيّة بين الشكلين القديم والحديث وما بينهما. ففي داخل جونيه ، وخاصّة في محاذاة الشاطئ ، سوق تجاريّة قديمة تمتدّ على طول ساحل المنطقة بشكل شبه مستقيم ، تقوم على جانبيها أبنية القرميد المتلاصقة التي تتشكّل غالبا من طبقتين ، سفليّة للحوانيت ، وعليا للسكن ، ويتخلّل بيوت هذا الطراز عدد من الأبنية الحديثة لم تبدّل على قلّتها الطابع التراثيّ للسوق. وتتفرّع من هذا الشارع الرئيسي أزقّة قديمة وشوارع عريضة حديثة ، وعلى جانبيها مزيج من الأبنية الحديثة والقديمة. وفي أحد هذه التفرّعات الذي يشكّل مخرجا من ساحة جونيه إلى مناطقها السكنيّة فإلى حريصا ـ درعون وما يليهما ، شارع رحب يذهب من الغرب الى الشرق ، ليتّصل بطرقات داخليّة عريضة حديثة قلّما تمتّعت بمثلها مدينة لبنانيّة ، هنا تقوم المدارس الكبرى والحوانيت الجديدة والمؤسّسات والمنازل ، وعلى مسافة قصيرة ، يعبر المدينة أوتوستراد بيروت ـ طرابلس الذي يشقّ مجمل بلدات جونيه ، والذي تتفرّع منه طرقات عدّة عبر الجسور والمفارق المهندسة لتصل بلدات جونيه الأربع بهذا الطريق الدوليّ السريع. أكثر عمقا في الداخل ، يصبح الطابع أقرب إلى الأحياء السكنيّة منه الى الأسواق التجاريّة والأحياء السياحيّة ، وفي هذا التقارب السريع بين المناطق السياحيّة والتجاريّة والسكنيّة داخل مدينة جونيه شيء من الندرة والجمال. ورغم أنّ عددا ضخما من الأبنية الحديثة قد طلع مؤخرا هنا ، فلا يزال طابع قديم متناثر يذكّر بطمأنينة الأيّام الخوالي.

كان للحرب الأهليّة التي عصفت بلبنان في منتصف سبعينات القرن العشرين ، تأثيرا مباشرا على مسار العمران والنموّ في مدينة جونيه ، كما في سائر المناطق الرئيسة من لبنان. تلك الأحداث حتّمت عمليّا نشوء لا مركزيّة

١٠

تجاريّة وسياحيّة بعد تهدّم وسط مدينة بيروت ، فكانت جونيه إحدى أهمّ المناطق المحيطة ببيروت التي نشأت فيها الأسواق والمجمّعات والمؤسّسات التجاريّة والماليّة والسياحيّة ، وكان لوجود المرفأ تأثير إنمائيّ كبير في هذا المجال بعد توقّف مرفأ بيروت عن العمل وتحويل أنشطة مرفأ جونيه إلى النقل والسفر. وعند ما حطّت الحرب أوزارها بداية التسعينات ، كان شاطئ جونيه ومحيطه قد تحوّل إلى منطقة سياحيّة بحريّة حديثة بالغة النموّ ، أنشئت فيها المجمّعات البحريّة الكبرى والفنادق والمطاعم والملاهي والمقاهي بشكل كثيف ؛ وكانت شوارعها الممتدّة بين الشاطئ والأوتوستراد قد استوعبت مئات المؤسّسات المصرفيّة والتجاريّة والسياحيّة على أنواعها ، خاصّة في منطقتي غادير وحارة صخر بمحاذاة محلّة الكسليك من صربا ، هذه المحلّة التي باتت تضمّ أحدث سوق تجاريّة في لبنان ، طغت شهرة مستواها الرّاقي على سائر الأسواق اللبنانيّة إطلاقا.

لم يكن تقدّم قطاع الإسكان أقلّ نموّ من القطاعين السياحي والتربويّ ، وبسرعة متناهية ، تحوّلت مناطق جونيه المحيطة بالأسواق ، إلى أحياء مكتظّة بالسكّان ، في أبنية ومجمّعات عصريّة تكاد تغطّي محيط الخليج بكامله امتدادا إلى عمق كيلومترين أو ما يزيد.

ورافق هذه الثورة العمرانيّة نشوء عدد كبير جديد من المدارس والمؤسّسات التربويّة ، وتوسيع وتجديد ما كان قائما منها في المدينة قبل الأحداث. وقد رافق كلّ ذلك نشوء عدد ملحوظ من الدوائر الرسميّة والإدارات ، فأضحت جونيه ، على مشارف الألف الثالث ، بمناطقها كافّة ، مدينة لبنانيّة كبرى متكاملة التجهيز ، متمتّعة بجميع المتطلّبات المدنيّة العمليّة العصريّة.

١١

عدد أهالي جونيه مجتمعة حوالى ٠٠٠ ، ٦١ نسمة موزّعين على : حارة صخر ٠٠٠ ، ١٧ نسمة ، ساحل علما ٠٠٠ ، ٥ ، غادير ٠٠٠ ، ١٢ ، وصربا ٠٠٠ ، ٢٧.

الإسم والآثار

إنّ ما بقي من شواهد أثريّة متناثرة هنا وهناك في محيط بلدات مدينة جونيه ، من شأنه أن يؤكّد على أنّ هذا الخليج كان منذ وطئت أقدام البشر هذه الأرض ، مسرح نشاط إنسانيّ متواصل على مرّ التاريخ. فإنّ الحفريات التي أجريت في مغاور نهر الكلب ، التي تشكّل التخوم الجنوبيّة الطبيعيّة لخور جونيه ، والتي تشبه في تكوينها خلايا قرص الشهد ، دلّت على أنّها كانت مساكن لإنسان العصر الحجري المتأخّر ، وكشفت عن وجود أدوات حجريّة كان يستعملها الإنسان الذي سكن هذه الأرض منذ ما يزيد على ثلاثين ألف سنة. ودلّت الأبحاث على وجود معامل للأدوات الظرّانيّة في محيط مدينة جونيه ، أحدها عند مصبّ نهر الكلب ، وثانيها عند الجسر الروماني في المعاملتين ، وثالثها في منطقة حارة صخر. ومن تلك العصور الغابرة إلى فجر التاريخ المدوّن ، عشرات ألوف السنين التي ليست لها آثار سوى المغاور والكهوف والنواويس ، وفي محيط بلدات مدينة جونيه منها الكثير. منها مغارة حارة صخر التي عليها اليوم دير قديم ، ومغارة الأسد في المعاملتين التي كانت تعرف بمغارة آدم ، وهي في محيط كازينو لبنان ، اكتشفها علماء آثار أجانب سنة ١٨٣٣ وصنّفوها في لائحة الأماكن الأثريّة العائدة إلى ما قبل التاريخ ، على أنّها واحدة من المحطّات الشاطئيّة العديدة العائدة إلى العصر الحجري ، وقد اعتبرها بعض العلماء عائدة إلى العصر النيوليتي الواقع ما بين

١٢

٥٠٠ ، ٥ و ٠٠٠ ، ٥ قبل الميلاد. ومثلها المغارة الواقعة بالقرب من الجسر الروماني.

يعجب المرء اليوم كيف أنّ خليجا يتمتّع بالمواصفات الطبيعيّة التي يتمتّع بها خليج جونيه ، الوحيد الواضح المعالم على الشاطىء الممتدّ بين غزّة إلى الجنوب ، والإسكندرونة عند حدود تركيا إلى الشمال ، لم يشهد نشاطا مرفئيّا مميّزا من قبل الفينيقيّين ، رغم أنّ شعوبا قديمة سكنت هذا المحيط من شاطئ شرقي البحر الأبيض المتوسّط منذ ستّة آلاف سنة ، بدءا بإنسان العرق المتوسّطي ، ومرورا بالفينيقيّين ومن عاصرهم وأعقبهم من شعوب. ولا بدّ للباحث من أن يتساءل عن سبب بقاء جونيه غائبة عن نادي المدن اللبنانيّة البحريّة الأثريّة من طرابلس حتّى صور مرورا بالبترون وجبيل وبيروت وصيدا. إنّ التفسير الوحيد لهذا اللغز ، هو في جغرافيّة المكان. ذلك أنّ السور الطبيعيّ الذي يحيط بخور جونيه من جهات البرّ من ناحية ، وقلّة موارد الجبل الذي يشكّل الإمتداد البرّي لها من جهة ثانية ، حرما جونيه من النشاط الذي عرفته جبيل المنفتحة طبيعتها الخلفيّة على جبال كانت مكسوّة بأشجار الأرز ، ومثلها صيدا وصور ، كذلك كان المحيط الرحب لبيروت نحو الداخل والجبل دون عوائق عاملا في ازدهار المدينة. وحدها جونيه ، من بين جميع تلك المدن ، كانت عاصية من جهات البرّ ، وهذا ما سوف يجعلها تعرف في ما بعد ، مع منطقتها الداخليّة ، ب" العاصية". وإذا كان لهذه المناعة الطبيعيّة حسناتها في بعض الظروف ، فإنّها كانت ، من جهة أخرى ، سببا في عدم اعتماد الفينيقيّين لمرفئها الطبيعي مرفأ حيويّا لأنشطتهم الملاحيّة والتجاريّة ، وقد اقتصر استعماله على جعله مربضا للسفن الجبيليّة في مأمن من الرياح والأعاصير التي يتعرّض لها مرفأ جبيل ، ومعملا لبناء السفن وإصلاحها.

١٣

غير أنّ جونيه لم تكن مهملة من نواح أخرى ، ولكنّ إزالة أكثر معالمها الأثريّة عبر السنين من خلال أعمال متواصلة لم يكن القصد منها أكثر من استعمال الحجارة والمواقع من أجل بناء الجلول والبيوت وما شابه ، قد طمست الكثير من ثروتها الحضاريّة القديمة. رغم هذا ، يبقى بمقدور الباحث أن يتصوّر الماضي الحقيقيّ لهذه المدينة التي لم يغب التواصل الحضاريّ عن أرضها طوال الأزمنة التي يمكن للعلم أن يطال أغوارها.

مع فجر التاريخ المدوّن ، يطلّ علينا اسم مدينة قديمة مندثرة المعالم كانت تقوم في هذه المنطقة ، تلك المدينة كان اسمهاPALAEBYBLOS ، باليبيبلوس ، أي جبيل القديمة. والأمر الذي يبدو جليّا للمنطق والذي ما فتئ الباحثون يتردّدون في حسمه ، هو أنّ جونيه هي المكان الذي كانت تقوم عليه باليبيبلوس ، فقد حدّد العالم الطبيعي بلينوس الأكبر (٢٣ ـ ٧٩ م.) موقعها بين نهري ليكوس ، (أي نهر الذئب ، وهي التسمية التي أطلقها الرومان على نهر الكلب) وأدونيس ، وهو المعروف اليوم بنهر إبراهيم ؛ وذكر الجغرافيّ اليونانيّ سترابون (٥٨ ق. م. ـ ٢٥ م.) أنّ باليبيبلوس تقع جنوب جبل كليماكس الواقع بدوره بين نهري ليكوس وأدونيس. وقد أصبح معروفا أنّ جبل كليماكس إنّما هو المرتفع الصخريّ الذي يفصل بين طبرجا وجونيه ، وهذا الإسم : كليماكس ، يونانيّ ، وهو يعني : الدرج والمرتقى. ذلك أنّ الداخل إلى جونيه من جهة الشمال ، أو الخارج منها باتّجاه الشمال ، كان عليه أن يرتقي مرتفعا متدرّجا ليعبر ، فسمّى الجغرافيّون اليونان هذا المعبر بلغتهم : الدرج.

وفي دراسة الأسماء التي تحملها مناطق مدينة جونيه ، نجد أنّ أكثرها مركّب من جذور ساميّة تتمّ عن القدم ، يعود بعضها الى العصور الفينيقيّة.

١٤

فإسم جونيه ، رغم أنّه يحتمل تفسيرا عربيّا له ارتباط بالجون ، أي الخليج ، وقد حاول البعض تأكيد هذا التفسير ، فإنّ اعتماد هذا الإستنتاج غير دقيق البتّة ، ذلك أنّ المنطق يفرض الإعتقاد بأنّه لو كان الإسم عربيّا لكان" جون" وليس" جونيه" ، فليس في العربيّة كلمة جونيه ، وبالتّالي وجب البحث في غير احتمال. علما بأنّ البحّاثين والرحّالة العرب القدماء الذين زاروا المكان في القرنين الثاني والثالث عشر ، قد ذكروا اسم المدينة كما هو اليوم.

إنّ اللفظ السامي القديم المطابق لاسم جونيه هو : GUONIE ومعناه : الزوايا ، وهو جمع للفظةGUON الساميّة الدخيلة من اليونانيّةGONIA التي تعني : زاوية ، كما ذكر فريحة ، ومنه جاء اللفظ العربي : جون. وإذا كان اسم جونيه لاحقا لدخول المشتقّات اليونانيّة إلى اللغات الساميّة القديمة ، فهذا لا يعني أنّه أقدم أسماء المدينة ، فالإسم الأقدم الباقي لها هو غادير ، وهو لفظ فينيقي ، G DIR وفي العبريّةGEDER.

ما هو بالغ الأهمّية في هذا المجال ، إضافة إلى أنّ الإسم حافظ على لفظه الأصيل : غادير ، فلم يحوّر إلى غدير مثلا ، هو معنى الإسم. فإنّ لفظ غاديرG DIR الفينيقي ، يعني : سورا ، وحائطا ، ومنه جاء لفظ" جدار" العربي. كلّ هذا ، يبطل الإدّعاء القائل بأنّ جونيه ليست قديمة العهد ، بحجّة أنّها ليست من المدن المسوّرة. فالسور باقية في اسمها ، وفي طبيعتها ، وإذا كان من سور قديم صغير لمرفئها ومراكز العبادة فيها ، فإنّ بعض حجارته بات مرصوفا اليوم في أساسات ومداميك أقبية الأبنية القديمة في المدينة ، كما هو الحال بالنسبة لحجارة قلعة صربا العملاقة الظاهرة للعيان في مداميك بناء دير المخلّص للروم الكاثوليك الذي يقوم على أنقاضها.

١٥

صربا ، SARBA اسم قديم آخر من أسماء بلدات جونيه ، هو أيضا فينيقيّ ويعني : البرج. وقد أطلق في الأساس على قلعة غارقة في القدم مشرفة على البحر كانت تقوم على قمّة المرتفع الصخريّ الذي يعلو شير الباطيّة ، وقد شيّد على أنقاضها دير المخلّص للآباء الباسيليّين ، وذكر باحثون أنّ أساسات هذا الدير مبنيّة من حجارة القلعة الضخمة الشبيهة بحجارة قلعة فقرا ، وبعضهم شبّهها بحجارة دير القلعة ، ويبلغ طول عدد من هذه الحجارة أربعة أمتار. ولا يزال بعض من القسم الأسفل من جدار القلعة ظاهرا للعيان في محيط الدير ، حيث تبلغ سماكة الجدار ستّة أمتار. وعلى عديد من الحجارة المستعملة في بناء جدران الدير نقوش مختلفة تمثّل رسوما للشمس مختلفة ، منها الفينيقيّ والإغريقيّ والرومانيّ ، ما يدلّ على تعاقب الشعوب التي مرّت عليها. وقد وجد البحّاثة إرنست رينان تمثالا لجوبيتير داخل أنقاض القلعة فنقله إلى متحف اللوفر الباريسي. وذكرت مدوّنات أنّه بخلال إجراء تصليحات في بناء الدير ، أغلق الرهبان نفقا يحتوي على درج منحوت في الصخر ينحدر في عمق الشير القائم عليه الدير والقلعة باتّجاه مغارة مار جرجس الباطيّة عند الشاطئ. وعند ما كانت أعمال مدّ خطّ القطار الحديدي جارية في موقع يفصل بين مكان القلعة وبين مغارة الباطيّة ، ظهر جزء من هذا النفق ، فتمّ إغلاقه بالأتربة والصخور. هذا النفق الذي كان يصل الحصن بالبحر يدلّ على مدى الأهمّية التي كانت لقلعة صربا في الأزمنة الغابرة ، وعلى عظمة شأن من كان يتحصّن فيها. وقد أكّد علماء على أنّ الفينيقيّين هم أوّل من شيّد تلك القلعة التي اتّخذوها للدفاع ، وجعلوها مقرّا لملك جبيل ومعاونيه القائمين على حركة الملاحة وبناء السفن. واكتشف الباحثون أن هذه القلعة كانت متّصلة بقلاع في داخليّة البلاد عبر" الطريق الشرقيّة" انطلاقا من صربا فمعراب مرورا بساحل علما ثمّ فيطرون ، فقلعة فقرا ، فهيكل

١٦

اليمّونة ، إلى قلعة بعلبك ، حيث الهيكل الأكبر لعبادة الشمس. وتدلّ الأبحاث على أنّ الفينيقيّين كانوا قد أقاموا داخل قلعة صربا هيكلا لعبادة الإلهة الشمس ، التي كانوا يعتبرونها شريكة للإله" أتون" ، إلى جانب عبادة الكواكب الأخرى التي كانت تنوب عنها عشتروت ملكة السماوات وربّة القمر وأمّ الطبيعة والحياة في اعتقادهم ، وأدونيس إله الشمس والخصب والجمال. وقد كشفت حفريّات كانت تجري لأعمال بناء بقرب موقع قلعة صربا عن فسيفساء بيزنطيّة زاهية الألوان ، لا يزال الجزء المرصوف المتبقّي منها بحالة تنمّ عن أصالة رفيعة الشأن. وقد دلّت الأبحاث على أنّ تلك الفسيفساء كانت على الغالب أرضيّة كنيسة بيزنطيّة ذات شأن. ورجّح مؤرّخون أن يكون قسطنطين الكبير ٢٧٤ ـ ٣٣٧ م. قد حوّل هيكلا فينيقيّا كان يقع بجانب قلعة صربا إلى كنيسة كما فعل في أفقا وأمكنة أخرى من لبنان. ولا نعلم لماذا ضرب المؤرّخون المحدثون صفحا عن هذا الأثر الذي ذكر أبرز المراجع التاريخيّة الكلاسيكيّة أنّه كان معبدا فينيقيّا لعبادة الزهرة مشابها تماما لهيكل أفقا ، أمر قسطنطين بهدمه مع توأمه الجبيلي لأنّهما كانا مدرسة للرذيلة والفجور. وقد وصف الرحّالة روبنسون ، في أواسط القرن التاسع عشر ، معبدي أفقا وصربا بأنّهما توأمين ، كان طول كلّ منهما لا يقلّ عن المائة قدم ، بعرض يتجاوز الخمسين ، وحجارتهما كلسيّة وأكثرها من القطع الكبير ، وبعضها منحوت بإتقان ومن حواليهما أعمدة من حجارة الغرانيت. وقد ظهرت فعلا أعمدة من الغرانيت بمحيط القلعة والمعبد ، قبل قرون ، عند ما قامت الدولة العثمانيّة بإجراء حفريّات هناك. وكلّما أجريت أعمال نقب وحفر بالمحيط لغايات البناء ، بانت دهاليز وعاديّات وآبار مطمورة تحت التراب. أمّا مغارة الباطيّة التي تتّصل بالقلعة عبر نفق كان طبيعيّا قبل أن تهذّبه أيدي البشر ليلائم غاية ذلك الإتّصال ، فهي المدخل الشماليّ الغربيّ لذلك النفق من

١٧

جهة البحر ، ويبدو أن تلك المغارة الرحبة عند مدخلها كانت بدورها تضمّ معبدا فينيقيّا بحسب باحثين درسوا المكان قبل حوالى القرن (لامنس) ، فوجدوا أنّ أمواج البحر قد هدمت الجدار الشماليّ المواجه لليمّ عبر السنين ، علما بأنّ البحر كان قديما أقرب إلى المغارة ممّا هو عليه اليوم. وأكّد هؤلاء على أنّ درجا كان يمتدّ من المغارة إلى الداخل صعدا هو من صنع أيدي البشر وليس من صنع الطبيعة. وقد حوّلت تلك المغارة منذ زمن بعيد لعبادة القدّيس جرجس الذي يرى فيه أخصّائيّون نسخة مسيحيّة عن الإله أدونيس ، وقد استمرّت أعمال العبادة في تلك المغارة دون انقطاع منذ آلاف السنين. ويعتبر كثيرون أنّ أسطورة القدّيس جرجس وقتله للتنّين إنّما نشأت هنا وليس في خليج بيروت ، غير أنّ هذا لا يرتكز على أساس تاريخيّ ثابت إذ إنّ هناك أماكن أخرى تدّعي بأنّ مار جرجس هو قدّيسها ووليّها وأنّه عاش فيها. ولهذا القدّيس اعتبار عند كافّة الطوائف المسيحيّة والإسلاميّة في لبنان والشرق ، والمسلمون يدعونه الخضر ، ويزور الناس من مختلف الإنتماءات الدينيّة في لبنان مغارة مار جرجس هذه المعروفة بمغارة الباطيّة للتبرّك وإيفاء النذور وطلب الشفاء. أمّا اسم الباطيّة ، فيؤكّد بما لا يقبل الشكّ على أنّ المعبد القديم الذي كان منشأ بداخلها إنّما كان مخصّصا لعبادة أدونيس ، ذلك أنّ الباطيّة تصحيف لمركّب ساميّ قديم : " بيت طوّاية"BET TAWW YE ومعناه : بيت المحزونين. ومعلوم أنّ شعائر الحزن كانت من أهمّ شعائر ديانة ذلك الإله الذي كان يبكيه عبّاده إلى حدّ النحيب في ذكرى موته. وكان هذا الهيكل مرتبطا بهيكل أفقا عبر" درب أدونيس" الذي يعبر غزير صعودا إلى الغينة للتبرّك بزيارة ضريح الإله هناك ، ثمّ يتّصل بالنهر المقدّس صعودا إلى أفقا. وقد بقيت عبادة أدونيس شائعة في فينيقيا حتّى العهد الروماني.

١٨

من مجمل تلك الدلائل ، استخلص باحثون ، من بينهم الأب لامنس ، درسوا آثار جونيه وصربا ، أنّ مدينة جونيه القديمة ، وهي نفسها غادير وصربا البحريّتان ، مبنيّة على أنقاض مدينة أقدم منها ، هي باليبيبلوس ، التي كان معظمها فوق صخور صربا المطلّة على البحر ، وكانت غادير ، وهي نفسها جونيه ، مرفأها في العصور الفينيقيّة الأولى.

أمّا ساحل علما ، فبدورها تحمل اسما فينيقيّا على خلاف ما يوحي به اسمها المتضمّن في جزئه الأوّل لفظا عربيّا : ساحل. فهذا الجزء مستحدث ، وهو لاحق للإسم الأوّل : علما. ويقول فريحة إنّ الجذر الأساسي للفظ علما ، ALM ، يفيد عن التغطية والظلمة ، وترجمته إلى العربيّة : الظليل ، أي المكان المغطّى بالظلال ، وهو وصف طبيعيّ لذلك الجبل المكسوّ بغابة برّيّة ، كان يطلق على المنطقة العالية من البلدة ، التي أطلق على شاطئها في وقت متأخّر اسم ساحل علما ، كما نقول اليوم ساحل كسروان وساحل المتن وما شابه. ولم نجد في المدوّنات ولا في الآثار ما من شأنه أن ينبئ عن نشاطات فينيقيّة أو عمرانيّة معاصرة للحقبة الفينيقيّة في ساحل علما ، ولكنّ المعروف عن الأمكنة التي كانت تحيط عصر ذاك بالمدن البحريّة أنّها كانت تستعمل لغايات زراعيّة ، وربّما كانت المواقع المرويّة من مياه نبع بطحا شرقي ساحل علما في الماضي السحيق مناطق زراعيّة لم تبق الأزمنة على أيّ أثر من عهودها. أمّا أراضي حارة صخر ، فبقيت أزمنة مديدة مهملة بسبب افتقارها إلى المياه.

لم تحفظ لنا الآثار المكتوبة ولا المنشأة ما من شأنه أن يدلّ بوضوح على ما شهدته أرض مناطق جونيه من قبل الشعوب الغازية ، غير أنّ النقوش الصامدة على صخور نهر الكلب ، تفيد عن أنّها شهدت العديد من الجحافل

١٩

التي لم يبق منها أيّ أثر باستثناء تلك النقوش. جلّ ما ذكره المؤرّخون عن مناطق جونيه تخصيصا في هذا المجال ، أنّ الأشوريّين لمّا احتلّوا الشاطئ في القرن التاسع قبل الميلاد ، ضربوا خيامهم في منطقة كفرياسين ، وعهدوا إلى البعض منهم زراعة السهول المحاذية للبحر بمعاونة المزارعين الفينيقيّين لسدّ حاجات جيوشهم ، وأنّ أحد قادتهم اتّخذ من قلعة صربا مقرّا له. ومن آثار تلك الواقعة التاريخيّة نقش أشعّة مجنّحة لقرص الشمس ، معبود الأشوريّين ، لا يزال ظاهرا على أحد أعمدة الهيكل المرصوف في أساسات دير المخلّص. ومن خليج جونيه وجبيل انطلقت السفن الفينيقيّة الموضوعة تحت تصرّف الغزاة مرارا بقيادة ملوك أشور في هجومات ضدّ أرواد ومصر. كذلك جعل قائد فارسيّ مقرّه في قلعة صربا عند احتلال داريوس للشاطئ نهاية القرن الخامس. واستفاد الفرس من مرفأ جونيه لتجديد أسطولهم وللتنقّل بحرا بين المدن في أعمال عسكريّة وتجاريّة ، كما تعاطوا صيد الأسماك في الخليج والزراعة في ضواحيه.

ومن الغزاة الكبار الذين يذكر التاريخ أنّهم نزلوا قلعة صربا ، الإسكندر المقدوني بعد أن سحق الفرس سنة ٣٣١ ق. م. ، ويذكر المؤرّخون اليونان أنّ الإسكندر كرّم الآلهة الفينيقيّة من خلال مهرجان دعا إليه واشترك فيه الفينيقيّون على مدى ثلاثة أيّام بدءا من صربا ووصولا حتّى قبر أدونيس في الغينة. وإنّنا نميل إلى الإعتقاد بأنّ اسم جونيه قد أطلق على المكان في ذلك التاريخ ، مثلما أطلقوا أسماء بيبلوس ، وتيروس ، وصيدون ، وبيريتوس ، وتاميروس وسواها.

إنّ أقدم أثر باق في جونيه من فجر تنصّر الشاطئ اللبناني هو بقايا الكنيسة البيزنطيّة التي قامت على أنقاض المعبد الفينيقي بجوار قلعة صربا ،

٢٠