القواعد النحويّة

السيد قاسم الحسيني الخراساني ومحمود الملكي الإصفهاني

القواعد النحويّة

المؤلف:

السيد قاسم الحسيني الخراساني ومحمود الملكي الإصفهاني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مديرية العامة للحوزة العلمية في قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٢

ويستفاد من كلامهم منع العمل عند تقدّم الخبر ولو كان ظرفا أو جارّا ومجرورا. وصرّح به ابن مالك في الكافية وشرحها مخالفا لابن عصفور.

الرابع : أن لا يتقدّم معمول الخبر على الاسم ، فلو تقدّم بطل عملها ، نحو : «ما طعامك زيد آكل» ، إلّا إذا كان المعمول ظرفا أو جارّا ومجرورا ، نحو : «ما عندك زيد مقيما» و «ما بي أنت معنيّا». (١)

أمّا «لا» فإعمالها عمل «ليس» قليل. ويشترط له الشروط السابقة ـ ما عدا الشرط الأوّل (٢) ـ وأن يكون المعمولان نكرتين. والغالب أن يكون خبرها محذوفا ، كقول الشاعر :

من صدّ عن نيرانها

فأنا بن قيس لا براح (٣)

وقد يكون مذكورا ، نحو :

تعزّ فلا شيء على الأرض باقيا

ولا وزر ممّا قضى الله واقيا (٤)

أمّا «لات» فمذهب الجمهور أنّها تعمل عمل ليس لكن اختصّت بأنّها لا يذكر معها الاسم والخبر معا بل إنّما يذكر معها أحدهما والكثير في لسان العرب حذف اسمها وبقاء خبرها ، كقوله تعالى : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) ، (٥) أي : ولات الحين حين مناص. (٦) وقرىء شذوذا : «ولات حين مناص» ، أي : «ولات حين مناص كائنا لهم». هذا مذهب الجمهور.

__________________

ولم يكن عونا له على عدوّه. «أخضع» : أذلّ. «هم هم» : أراد أنّهم الكاملون في الشجاعة والشهامة. والفاء في «فأخضع» سببيّة ولذلك نصب المضارع بعده بأن مقدّرة.

(١). قال ابن مالك :

إعمال ليس اعملت «ما» دون إن

مع بقا النّفي وترتيب زكن

وسبق حرف جرّ أو ظرف ك «ما

بي أنت معنيّا» أجاز العلما

ورفع معطوف ب «لكن» أو ب «بل»

من بعد منصوب ب «ما» الزم حيث حلّ

(٢). لأنّ «إن» لا تزاد بعد «لا» أصلا.

(٣). صدّ : أعرض. والنيران : جمع النار ، والضمير في «نيرانها» عائد إلى الحرب.

(٤). تعزّ : أمر من التّعزّي ، وهو من العزاء ، بمعنى الصبر والتّسلّي. والوزر : الملجأ. والواقي : الحافظ.

(٥). ص (٣٨) : ٣.

(٦). كذا قدّروه. قال الخضري : «ولا ينافي ذلك اشتراط تنكير معموليها ، لأنّ محلّه في الظاهر دون المقدّر».

٨١

وقال الأخفش : «إنّ لات لا تعمل شيئا ، فإن وليها مرفوع فمبتدأ حذف خبره أو منصوب فمفعول لفعل محذوف». والتقدير عنده ـ على قراءة النصب ـ «لا أرى حين مناص» وعلى قراءة الرفع ـ «لا حين مناص كائن لهم».

واختلف في معمولها ، فقال الفرّاء : «إنّها لا تعمل إلّا في لفظة حين» ، وهو ظاهر قول سيبويه. وذهب الفارسي وجماعة إلى أنّها تعمل في «حين» وما رادفه.

قال الزمخشري : «زيدت التاء على «لا» وخصّت بنفي الأحيان».

أمّا «إن» فمذهب الكوفيين ـ خلا الفرّاء ـ وجماعة من البصريّين أنّها تعمل عمل «ليس» ، كقول بعض أهل العالية (١) : «إن أحد خيرا من أحد إلّا بالعافية» و «إن ذلك نافعك ولا ضارّك».

ومذهب أكثر البصريين والفرّاء أنّها لا تعمل شيئا. (٢)

زيادة الباء في الخبر

تزاد الباء كثيرا في خبر «ليس» و «ما» ، كقوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ)(٣) و (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)(٤) وقليلا في خبر «لا» وفي خبر فعل ناسخ منفي ، نحو :

وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة

بمغن فتيلا عن سواد بن قارب (٥)

وإن مدّت الأيدي إلى الزّاد لم أكن

بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل (٦)

وقال ابن عصفور : «هو سماع فيهما». (٧)

__________________

(١). تطلق على ما فوق أرض نجد إلى تهامة وإلى ما وراء مكّة وما والاها.

(٢). قال ابن مالك :

في النّكرات اعملت كليس «لا»

وقد تلي «لات» و «إن» ذا العملا

وما ل «لات» في سوى حين عمل

وحذف ذي الرّفع فشا والعكس قل

(٣). الزّمر (٣٩) : ٣٦.

(٤). الأنعام (٦) : ١٣٢.

(٥). الفتيل : الخيط الذي يكون في شقّ النّواة.

(٦). الأجشع : من الجشع ، وهو شدّة الحرص على الأكل. و «أعجل» : قال في التصريح : هو بمعنى «عجل» لا للتفضيل.

(٧). قال ابن مالك :

وبعد «ما» و «ليس» جرّ البا الخبر

وبعد «لا» ونفي «كان» قد يجر

٨٢

(٣)

أفعال المقاربة

في تسميتها بذلك تغليب ، لأنّها على ثلاثة أقسام :

أحدها : ما دلّ على القرب وهو : كاد وكرب وأوشك.

الثاني : ما دلّ على الرجاء وهو : عسى (١) واخلولق وحرى.

الثالث : ما دلّ على الشروع وهو : أنشأ وطفق وأخذ وجعل وعلق.

وكلّها تعمل عمل «كان» لكنّ الخبر فيها لا يكون إلّا مضارعا ، نحو : «كاد زيد يقوم». وندر مجيئه اسما بعد «كاد» و «عسى» ، نحو :

فأبت إلى فهم وما كدت آئبا

وكم مثلها فارقتها وهي تصفر (٢)

ونحو :

أكثرت في العذل ملحّا دائما

لا تكثرن إنّي عسيت صائما (٣)

وهذه الأفعال من حيث اقتران خبرها ب «أن» وتجرّده منها ثلاثة أقسام :

١ ـ ما يجب اقتران الخبر بها وهو : «حرى» و «اخلولق» ، نحو : «حرى زيد أن يقوم» و «اخلولقت السماء أن تمطر».

__________________

(١). يجوز كسر سين «عسى» إذا اسندت إلى التاء أو النون أو «نا» ، نحو قوله تعالى : «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ». (محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤٧) : ٢٢). قرأ نافع بالكسر وغيره بالفتح.

قال ابن مالك :

والفتح والكسر أجز في السّين من

نحو عسيت وانتقا الفتح زكن

(٢). «ابت» : من آب يؤوب ، أي : رجعت. «فهم» : قبيلة. «آئبا» : راجعا. و «كم» : خبريّة بمعنى كثير. والضمير المؤنّث في «فارقتها» يرجع إلى «فهم». و «تصفر» : من الصفير وهو التصويت بالشفتين. والمراد تدعو.

(٣). «العذل» : الملامة. «ملحّا» : مصرّا.

٨٣

٢ ـ ما يجب تجرّد الخبر منها وهو أفعال الشروع ، نحو قوله تعالى : («وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ».(١)

٣ ـ ما يجوز فيه الوجهان وهو أفعال القرب وعسى.

لكن الغالب في خبر «عسى» و «أوشك» الاقتران بها ، نحو قوله تعالى : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) ، (٢) ونحو :

ولو سئل الناس التراب لأوشكوا

إذا قيل : «هاتوا» أن يملّوا ويمنعوا (٣)

والتجرّد قليل نحو :

عسى الكرب الذي أمسيت فيه

يكون وراءه فرج قريب (٤)

ونحو :

يوشك من فرّ من منيّته

في بعض غرّاته يوافقها (٥)

و «كاد» و «كرب» بالعكس ، فالكثير تجرّد الخبر من «أن» نحو قوله تعالى : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) ، (٦) ونحو :

كرب القلب من جواه يذوب

حين قال الوشاة هند غضوب (٧)

واتّصاله بها قليل ، نحو :

كادت النّفس أن تفيض عليه

إذ غدا حشو ريطة وبرود (٨)

ونحو :

__________________

(١). الأعراف (٧) : ٢٢.

(٢). الإسراء (١٧) : ٨.

(٣). أي : من طبع الناس الحرص ، حتّى أنّهم لو سئلوا في إعطاء التراب وقيل لهم : «هاتوه» ، لقاربوا الامتناع من ذلك والملل.

(٤). «الكرب» : الغمّ. و «أمسيت» : وقعت. روي بفتح التاء وضمّها.

(٥). المنيّة : الموت. الغرّات : جمع غرّة ، وهي الغفلة. «يوافقها» : يصيبها ويقع عليها.

(٦). البقرة (٢) : ٧١.

(٧). الجوى : شدّة الوجد ، و «الوشاة» : جمع الواشي ، من «وشى به» إذا نمّ عليه. و «غضوب» : فعول بمعنى الفاعل ، كصبور بمعنى الصابر. والمعنى : كاد القلب يزول ويضمحلّ من شدّة وجده وشوقه حين قال الوشاة : «محبوبتك هند غضوب عليك».

(٨). «تفيض» : من «فاض الرجل» إذا مات. و «غدا» بمعنى صار ، والحشو : فضل الشيء ومنه الحاشية بمعنى الناحية. والرّيطة : الملاءة إذا كانت قطعة واحدة. والبرود : نوع من الثياب. والمراد بهما الكفن.

٨٤

سقاها ذوو الأحلام سجلا على الظّما

وقد كربت أعناقها أن تقطّعا (١)

ثمّ إنّ هذه الأفعال ملازمة لصيغة الماضي إلّا «كاد» و «أوشك» فإنّه قد استعمل منهما المضارع ، نحو قوله تعالى : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ)(٢) وقول الشاعر :

يوشك من فرّ من منيّته

في بعض غرّاته يوافقها

وقد ورد أيضا استعمال اسم الفاعل منهما ، نحو :

أموت أسى يوم الرّجام وإنّني

يقينا لرهن بالّذي أنا كائد (٣)

ونحو :

فموشكة أرضنا أن تعود

خلاف الأنيس وحوشا يبابا (٤)

وحكى الكسائي مضارع «جعل» والأخفش مضارع «طفق» والمصدر منه ومن «كاد». (٥)

وحكى صاحب الإنصاف استعمال المضارع واسم الفاعل من «عسى». (٦)

وتختصّ «عسى» و «اخلولق» و «أوشك» بجواز إسنادهنّ إلى «أن يفعل» ، نحو

__________________

(١). السجل : الدلو إذا كان فيه ماء. «الظّما» : العطش. والضمير في «سقاها» راجع إلى العروق المذكورة في قوله : «مدحت عروقا ...».

قال ابن مالك :

ككان «كاد» و «عسى» لكن ندر

غير مضارع لهذين خبر

وكونه بدون أن بعد عسى

نزر وكاد الأمر فيه عكسا

وكعسى «حرى» ولكن جعلا

خبرها حتما ب «أن» متّصلا

وألزموا «اخلولق» أن مثل حرى

وبعد أوشك انتفا أن نزرا

ومثل كاد في الأصحّ كربا

وترك أن مع ذي الشّروع وجبا

كأنشأ السائق يحدو وطفق

كذا جعلت وأخذت وعلق

(٢). النّور (٢٤) : ٣٥.

(٣). الأسى : الحزن. «الرّجام» : اسم موضع. «رهن» بمعنى مرهون. «كائد» أي : كائد آتيه ، فالخبر محذوف.

(٤). «خلاف الأنيس» ، أي : بعد الأنيس. الوحوش : بضمّ الواو ، أي : ذات وحوش ، وبفتحها ، أي : متوحّشة. واليباب : الخراب.

(٥). حكى الأخفش «طفوقا» عمّن قال : «طفق» بالفتح و «طفقا» عمّن قال «طفق» بالكسر. وقالوا : «كاد كودا ومكادا ومكادة».

(٦). قال ابن مالك :

واستعملوا مضارعا لأوشكا

و «كاد» لا غير وزادوا موشكا

٨٥

قوله تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) ، (١) فيكون المصدر المؤوّل فاعلا أو سادّا مسدّ الجزئين ، على خلاف في ذلك.

ويبتني على جواز هذا الإسناد فرعان :

أحدهما : أنّه إذا تقدّم على إحداهنّ اسم هو المسند إليه في المعنى وتأخّر عنها «أن» والفعل ـ نحو : «زيد عسى أن يقوم» ـ جاز تقديرها خالية من ضمير ذلك الاسم فتكون مسندة إلى «أن» والفعل وجاز تقديرها مسندة إلى الضمير وتكون «أن» والفعل في موضع نصب على الخبر. ويظهر أثر التقديرين في التأنيث والتثنية والجمع ، فتقول على تقدير الإضمار : «هند عست أن تقوم» و «الزيدان عسيا أن يقوما» و «الزيدون عسوا أن يقوموا» و «الهندات عسين أن يقمن». وهذه لغة تميم. وتقول على تقدير الخلوّ من الضمير : «عسى» ، في الجميع. وهذه لغة الحجاز ، قال الله تعالى : «لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ».)(٢)

الثاني : أنّه إذا ولي إحداهنّ «أن» والفعل وتأخّر عنهما اسم هو المسند إليه في المعنى ـ نحو : «عسى أن يقوم زيد» ـ جاز في ذلك الفعل أن يقدّر خاليا من الضمير فيكون مسندا إلى ذلك الاسم و «عسى» مسندة إلى أن والفعل ، وأن يقدّر متحمّلا لضمير ذلك الاسم فيكون الاسم مرفوعا ب «عسى» وتكون «أن» والفعل في موضع نصب على الخبريّة.

ويظهر أثر الاحتمالين أيضا في التأنيث والتثنية والجمع ، فتقول على وجه الإضمار : «عسى أن يقوما الزّيدان» و «عسى أن يقوموا الزيدون» و «عسى أن يقمن الهندات» و «عسى أن تطلع الشّمس» وتقول على وجه الخلوّ من الضمير : «عسى أن يقوم الزيدان» و «عسى أن يقوم الزيدون» و «عسى أن تقوم الهندات» و «عسى أن تطلع ـ أو يطلع (٣) ـ الشمس». (٤)

__________________

(١). البقرة (٢) : ٢١٦.

(٢). الحجرات (٤٩) : ١١.

(٣). لأنّ الفعل حينئذ اسند إلى اسم ظاهر مجازي التأنيث ، فجاز إلحاق تاء التأنيث به وعدم إلحاقها.

(٤). قال ابن مالك :

بعد عسى اخلولق أوشك قد يرد

غنى ب «أن يفعل» عن ثان فقد

وجرّدن عسى أو ارفع مضمرا

بها إذا اسم قبلها قد ذكرا

والفتح والكسر أجز في السّين من

نحو عسيت وانتقا الفتح زكن

٨٦

(٤)

الحروف المشبّهة بالفعل (١)

وهي : إنّ ، أنّ ، كأنّ ، لكنّ ، ليت ، لعلّ.

وهذه الحروف تعمل عكس عمل «كان» فتنصب الاسم وترفع الخبر ، نحو : «إنّ زيدا قائم». هذا مذهب البصريّين وذهب الكوفيّون إلى أنّها لا عمل لها في الخبر وإنّما هو باق على رفعه الذي كان له قبل دخول هذه الحروف. (٢)

معنى هذه الحروف

إنّ وأنّ للتّوكيد.

كأنّ للتّشبيه ، قال ابن هشام في المغني : «هذا المعنى أطلقه الجمهور ل «كأنّ» وزعم جماعة أنّه لا يكون إلّا إذا كان خبرها اسما جامدا ، نحو : «كانّ زيدا أسد» بخلاف «كأنّ زيدا قائم أو في الدّار أو عندك أو يقوم» فإنّها في ذلك كلّه للظنّ».

لكنّ : للاستدراك. قال ابن هشام : «وفسّر بأن تنسب لما بعدها حكما مخالفا لما قبلها ولذلك لا بدّ أن يتقدّمها كلام مناقض لما بعدها ، نحو : «ما هذا ساكنا لكنّه متحرّك» أو ضدّ له ، نحو : «ما هذا أبيض لكنّه أسود» ، وقيل : «أو خلاف له ، نحو : ما زيد قائما لكنّه

__________________

(١). سمّيت بذلك ، لأنّها أشبهت الفعل في المعنى وفي كونها رافعة وناصبة وفي اختصاصها بالأسماء وفي دخولها على المبتدأ والخبر وفي بنائها على الفتح وفي كونها على ثلاثة أحرف أو أربعة أو خمسة كالأفعال.

(٢). قال ابن مالك :

ل «إنّ أنّ ليت لكنّ لعلّ

كانّ» عكس ما ل «كان» من عمل

ك «إنّ زيدا عالم بأنّي

كفو ولكنّ ابنه ذو ضغن»

٨٧

شاعر» ، وقيل : «لا يجوز ذلك». وهذا المعنى أطلقه الجمهور ل «لكنّ» ، وذهب جماعة إلى أنّها ترد تارة للاستدراك وتارة للتّوكيد وفسّروا الاستدراك بتعقيب الكلام بنفي ما يتوهّم ثبوته أو إثبات ما يتوهّم نفيه ، نحو : «زيد غنيّ لكنّه غير محسن» ، و «ما زيد غنيّا لكنّه جواد». ومثّلوا للتّوكيد بنحو : «لو جاءني زيد لأكرمته لكنّه لم يجىء».

فأكّدت ما أفادته «لو» من الامتناع.

ليت : للتّمنّي ويكون في الممكن ، نحو : «ليت لي مالا فأحجّ منه» وفي غير الممكن ، نحو : «ليت الشباب يعود».

لعلّ : للتّرجي في المحبوب ، (١) نحو قوله تعالى : «لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً».(٢) أو الإشفاق في المكروه ، (٣) كقوله تعالى : «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ».(٤) ولا تستعمل «لعلّ» إلّا في الممكن.

الكلام في تقديم الخبر ومعموله

لا يجوز تقديم خبر هذه الحروف عليها مطلقا ولا على أسمائها إلّا إذا كان الخبر ظرفا أو جارّا ومجرورا ، نحو : «إنّ عندنا زيدا» و «إنّ في الدار عمرا». وقد يجب تقديم الخبر على الاسم ، نحو : «إنّ في الدار صاحبها».

أمّا معمول الخبر فيجوز تقديمه على الخبر مطلقا ولا يجوز تقديمه على الاسم ، فلا يقال : «إنّ طعامك زيدا آكل» إلّا إذا كان المعمول ظرفا أو جارّا ومجرورا ، فأجازه بعضهم. (٥)

فتح همزة «انّ» وكسرها

لهمزة «انّ» ثلاثة أحوال : وجوب الكسر ووجوب الفتح وجواز الأمرين.

__________________

(١). أي : انتظار وقوع الأمر المحبوب.

(٢). الطلاق (٦٥) : ١.

(٣). أي : الخوف من وقوع الأمر المكروه.

(٤). الكهف (١٨) : ٦.

(٥). قال ابن مالك :

وراع ذا التّرتيب إلّا في الّذي

ك «ليت فيها أو هنا غير البذي»

٨٨

يجب الكسر حيث لا يجوز أن تووّل مع معموليها بمصدر ويجب الفتح حيث يجب ذلك ، ويجوز الوجهان إن صحّ الاعتباران.

فيجب الكسر في ما يلي :

١ ـ أن تقع «انّ» في الابتداء ، نحو قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)(١) و «أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ». (٢)

٢ ـ أن تقع تالية ل «حيث» أو «إذ» ، نحو : «اجلس حيث إنّ زيدا جالس» و «جئتك إذ إنّ زيدا قائم».

٣ ـ أن تقع في أوّل الصلة ، نحو قوله تعالى : «وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ».(٣) فإن لم تقع في الأوّل لم تكسر ، نحو : «جاءني الذي في ظنّي أنّه فاضل».

٤ ـ أن تقع جوابا للقسم وفي خبرها اللّام سواء أكانت جملة القسم اسميّة نحو : «لعمرك إنّ زيدا لقائم» أم كانت فعليّة فعلها مذكور ، نحو قوله تعالى : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ)(٤) أو غير مذكور ، نحو : «وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ». (٥) فإن لم تقع في خبرها اللام فقال جماعة من النحويين : «لم يجب الكسر إلّا إذا كانت جملة القسم فعليّة فعلها محذوف» ، (٦) نحو قوله تعالى : «حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ». (٧) ويستفاد من كلام بعضهم وجوب الكسر في جواب القسم مطلقا.

٥ ـ أن تقع محكيّة بالقول ، نحو قوله تعالى : «قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ». (٨)

٦ ـ أن تقع حالا أو صفة ، نحو قوله تعالى : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) ، (٩) و «مررت برجل إنّه فاضل».

٧ ـ أن تقع بعد فعل قلبيّ علّق باللّام ، نحو قوله تعالى : «وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ». (١٠)

٨ ـ أن تقع خبرا عن اسم ذات ، نحو قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ». (١١)

__________________

(١). القدر (٩٧) : ١.

(٢). يونس (١٠) : ٦٢.

(٣). القصص (٢٨) : ٧٦.

(٤). التوبة (٩) : ٥٦.

(٥). العصر (١٠٣) : ١ و ٢.

(٦). بل يجوز وجهان كما سيأتي.

(٧). الدّخان (٤٤) : ١ ـ ٣.

(٨). مريم (١٩) : ٣٠.

(٩). الأنفال (٨) : ٥.

(١٠). المنافقون (٦٣) : ١.

(١١). الحجّ (٢٢) : ١٧.

٨٩

ويجب فتح الهمزة في ما يأتي :

١ ـ أن تقع «إنّ» وما بعدها فاعلا ، نحو قوله تعالى : «أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ».(١)

٢ ـ أن تقع نائبا عن الفاعل نحو قوله تعالى : «قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ».(٢)

٣ ـ أن تقع مفعولا غير محكيّ بالقول ، كقوله تعالى : «وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ».(٣)

٤ ـ أن تقع مبتدأ ، كقوله تعالى : «وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً».(٤)

٥ ـ أن تقع خبرا عن اسم معنى غير قول ولا صادق عليه خبرها ، نحو : «اعتقادي أنّه فاضل» ، بخلاف : «قولي إنّه فاضل» و «اعتقاد زيد إنّه حقّ».

٦ ـ أن تقع مجرورة ، نحو قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ)(٥) و «إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ». (٦)

٧ ـ أن تقع معطوفة على شيء من ذلك ، نحو قوله تعالى : «اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ». (٧)

٨ ـ أن تقع مبدلة من شيء من ذلك ، نحو قوله تعالى : «وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ». (٨)

ويجوز فتح همزة «إنّ» وكسرها في ما يلي :

١ ـ أن تقع بعد «إذا» الفجائية ، نحو : «خرجت فإذا انّ زيدا قائم». فيجوز كسرها على أنّها واقعة موقع الجملة وفتحها على أنّها مؤوّلة بالمصدر ، والتقدير : «خرجت فإذا قيام زيد حاصل».

٢ ـ إذا وقعت بعد فعل قسم ، ولا لام في خبرها ، نحو : «حلفت انّ زيدا قائم» ، فالكسر على جعلها جوابا للقسم والفتح على جعلها مفعولا بواسطة نزع الخافض ، أي :

__________________

(١). العنكبوت (٢٩) : ٥١.

(٢). الجنّ (٧٢) : ١.

(٣). الأنعام (٦) : ٨١.

(٤). فصّلت (٤١) : ٣٩.

(٥). الحجّ (٢٢) : ٦٢.

(٦). الذّاريات (٥١) : ٢٣.

(٧). البقرة (٢) : ٤٧.

(٨). الأنفال (٨) : ٧.

٩٠

«حلفت على قيام زيد». (١)

هذا ما أفاده جماعة من الأدباء وذهب البصريّون إلى وجوب الكسر وقيل : «يجب الفتح».

٣ ـ أن تقع بعد فاء الجزاء ، نحو قوله تعالى : «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ». (٢)

قرىء بالكسر على معنى «فهو غفور رحيم» وبالفتح على معنى «فالغفران والرحمة» ، أي : حاصلان ، أو : «فالحاصل الغفران والرحمة».

٤ ـ أن تقع خبرا عن قول (٣) وخبرها قول وفاعل القولين واحد ، نحو : «قولي انّي أحمد الله» ، فالكسر على الإخبار بالجملة والفتح على تقدير : «قولي حمد الله».

٥ ـ أن تقع في موضع التعليل ، نحو قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)(٤) قرأ نافع والكسائي بالفتح على تقدير لام العلّة والباقون بالكسر على أنّه تعليل مستأنف.

٦ ـ أن تقع بعد واو مسبوقة بمفرد صالح للعطف عليه ، نحو قوله تعالى : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) ، (٥) قرأ نافع وأبو بكر بن عيّاش بالكسر ، إمّا على الاستئناف أو بالعطف على جملة «إنّ» الاولى ، والباقون بالفتح عطفا على «ألّا تجوع». (٦)

__________________

(١). قال الصبّان : «إنّ الجارّ والمجرور يقوم مقام الجواب ويؤدّي ما أدّاه».

(٢). الأنعام (٦) : ٥٤.

(٣). سواء كان من مادّة القول أو الكلام أو نحوهما ، وكذا في ما بعده.

(٤). الطور (٥٢) : ٢٨.

(٥). طه (٢٠) : ١١٨ و ١١٩.

(٦). قال ابن مالك :

وهمز إنّ افتح لسدّ مصدر

مسدّها وفي سوى ذاك اكسر

فاكسر في الابتدا وفي بدء صله

وحيث إنّ ليمين مكمله

أو حكيت بالقول أو حلّت محل

حال ك «زرته وإنّي ذو أمل»

وكسروا من بعد فعل علّقا

باللّام ك «اعلم إنّه لذو تقى»

بعد إذا فجاءة أو قسم

لا لام بعده بوجهين نمي

مع تلو فا الجزا وذا يطّرد

في نحو «خير القول إنّي أحمد»

٩١

دخول لام الابتداء (١) بعد «إنّ»

تدخل لام الابتداء بعد إنّ على أربعة أشياء :

أحدها : الخبر ، وذلك بأربعة شروط : كونه مؤخّرا ومثبتا وألّا يكون جملة شرط ولا فعلا ماضيا نحو قوله تعالى : (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ)(٢) و (إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ)(٣) و (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(٤) و (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ)(٥) بخلاف (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً)(٦) و (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً)(٧) وشذّ قول الشاعر :

وأعلم إنّ تسليما وتركا

للا متشابهان ولا سواء

وبخلاف «إنّ زيدا إن تكرمه يكرمك» ، لأنّ هذه اللّام لا تدخل على أداة الشرط.

وبخلاف قوله تعالى : «إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ».(٨) وأجاز الأخفش «إنّ زيدا لنعم الرّجل» ، لأنّ الفعل الجامد كالاسم. وأجاز الجمهور «إنّ زيدا لقد قام» لشبه الماضي المقرون ب «قد» بالمضارع ، لقرب زمانه من الحال ، وأجاز الكسائى وهشام دخول اللّام على الماضي المتصرّف بتقدير «قد».

الثاني : معمول الخبر ، وذلك بأربعة شروط أيضا : تقدّمه على الخبر وكونه غير حال وكون الخبر صالحا للّام وألّا يكون الخبر مشتملا عليها ، نحو : «إنّ زيدا لعمرا ضارب» ، بخلاف «إنّ زيدا جالس في الدار» و «إنّ زيدا راكبا منطلق» و «إنّ زيدا عمرا ضرب» ، وأجاز الأخفش دخول اللّام في الأخير. وبخلاف «إنّ زيدا عمرا لضارب».

الثالث : الاسم ، بشرط أن يتأخّر عن الخبر ، نحو قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً)(٩) أو عن معموله ، نحو : «إنّ في الدار لزيدا جالس».

الرابع : ضمير الفصل وذلك بلا شرط ، نحو قوله تعالى : «إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ».(١٠)

__________________

(١). معنى هذه اللّام توكيد مضمون الجملة وتخليص المضارع للحال.

(٢). إبراهيم (١٤) : ٣٩.

(٣). النّمل (٢٧) : ٧٤.

(٤). القلم (٦٨) : ٤.

(٥). الحجر (١٥) : ٢٣.

(٦). المزّمّل (٧٣) : ١٢.

(٧). يونس (١٠) : ٤٤.

(٨). آل عمران (٣) : ٣٣.

(٩). النازعات (٧٩) : ٢٦.

(١٠). آل عمران (٣) : ٦٢. قال ابن مالك :

٩٢

اتّصال «ما» الزائدة بهذه الحروف

تتّصل «ما» الزائدة بهذه الحروف فتزيل اختصاصها بالجملة الاسمية وتكفّها عن العمل ، نحو قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ، (١) إلّا «ليت» فإنّها تبقى على اختصاصها بالجملة الاسميّة ويجوز فيها الإعمال والإهمال وقد روي بهما قوله :

قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا

إلى حمامتنا أو نصفه فقد (٢)

قال ابن هشام : «وندر الإعمال في «إنّما». وهل يمتنع قياس ذلك في البواقي مطلقا؟ أو يسوغ مطلقا؟ أو في «لعلّ» فقط؟ أو فيها وفي «كأنّ» (٣)؟ أقوال. (٤)

العطف على أسماء هذه الأحرف

إذا أتي بعد اسم «إنّ» وخبرها بعاطف ، جاز في الاسم الذي بعده وجهان : النصب ، عطفا على اسم «إنّ» ، نحو : «إنّ زيدا قائم وعمرا» ؛ والرفع ، نحو : «إنّ زيدا قائم وعمرو» واختلف فيه ؛ فالمشهور أنّه معطوف على محلّ اسم «إنّ» ، فإنّه في الأصل مرفوع لكونه مبتدأ وذهب جماعة إلى أنّه مبتدأ وخبره محذوف ، والتقدير : «وعمرو كذلك».

فإن كان العطف قبل مجيء الخبر ، تعيّن النصب عند جمهور النحويين ، فتقول : «إنّ زيدا وعمرا قائمان» وأجاز الكسائى الرّفع مطلقا والفرّاء بشرط خفاء إعراب المعطوف عليه ، (٥) نحو : «إنّك وزيد ذاهبان» و «إنّ يحيى وبكر عالمان».

__________________

وبعد ذات الكسر تصحب الخبر

لام ابتداء نحو «إنّى لوزر»

ولا يلي ذي اللّام ما قد نفيا

ولا من الأفعال ما كرضيا

وقد يليها مع قد ك «إنّ ذا

لقد سما على العدا مستحوذا»

وتصحب الواسط معمول الخبر

والفصل واسما حلّ قبله الخبر»

(١). الأنبياء (٢١) : ١٠٨.

(٢). يروى «الحمام» بالرفع والنصب ، وكذلك «نصفه». و «أو» تكون بمعنى الواو.

(٣). لقربها من «ليت» ، لأنّ الكلام معها صار غير خبر ، ذهب إلى ذلك ابن أبي الربيع.

(٤). قال ابن مالك :

ووصل «ما» بذي الحروف مبطل

إعمالها وقد يبقّى العمل

(٥). فرارا من قبح اللفظ. وحكي عن الروداني أنّه قال : «مقتضى هذا التعليل أنّ خفاء إعراب المعطوف

٩٣

والحقت ب «إنّ» في جواز العطف على محلّ اسمها «لكنّ» ، فتقول : «ما زيد قائما لكنّ عمرا منطلق وخالد».

وألحق بها أيضا جماعة «أنّ» ، بشرط تقدّم علم عليها ، فيجوز عندهم «علمت أنّ زيدا قائم وعمرو» ؛ أو معناه ، نحو قوله تعالى : «وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ».(١) وقيل : «الحق مطلقا» وقيل : «يمنع مطلقا».

أمّا «ليت» و «لعلّ» و «كأنّ» فلا يجوز معها إلّا النصب ، سواء تقدّم المعطوف على الخبر أو تأخّر. وأجاز الفرّاء الرفع أيضا ، متقدّما ـ بشرط خفاء الإعراب ـ ومتأخّرا. (٢)

أمّا سائر التوابع ، فقال المحقّق الرضي رحمه‌الله : «الوصف وعطف البيان والتوكيد ، كالمنسوق عند الجرمي والزجاج والفرّاء في جواز الحمل على المحلّ ؛ ولم يذكر غيرهم ذلك لا منعا ولا إجازة ؛ والأصل الجواز ، إذ لا فارق ... ولم يذكروا البدل ؛ والقياس كونه كسائر التوابع في جواز الرفع». (٣)

تخفيف هذه الحروف

تخفّف «إنّ» عند البصريّين فتدخل على الجملتين ، فإن دخلت على الاسميّة فالأكثر إهمالها ، تقول : «إن زيد لقائم» ويقلّ إعمالها ، تقول : «إن زيدا قائم».

وإذا اهملت لزمتها اللام فارقة بينها وبين «إن» النافية.

وقد تغني عنها قرينة لفظيّة ، نحو : «إن زيد لن يقوم» أو معنويّة ، كقول الشاعر :

__________________

كذلك» ، فيجوز عنده الرفع في نحو : «إنّ زيدا والفتى ذاهبان».

(١). التوبة (٩) : ٣. قد يقال : «إنّ» «رسوله» عطف على الضمير في «برىء» ، وجاز ذلك بلا تأكيد بالمنفصل لقيام الفصل بقوله «من الله» مقام التأكيد. أو تقول : «رسوله» مبتدأ ، خبره محذوف أي : «ورسوله كذلك».

(٢). قال ابن مالك :

وجائز رفعك معطوفا على

منصوب «إنّ» بعد أن تستكملا

وألحقت ب «إنّ» لكنّ وأنّ

من دون ليت ولعلّ وكأنّ

(٣). شرح الكافية : ٢ / ٣٥٤.

٩٤

أنا ابن اباة الضّيم من آل مالك

وإن مالك كانت كرام المعادن (١)

واختلف النحويّون في هذه اللام : هل هي لام الابتداء ، أفادت ـ مع إفادتها معناها ـ الفرق بين «إن» المخفّفة و «إن» النافية ، أم هي لام اخرى اجتلبت للفرق فقط؟

وتظهر فائدة هذا الخلاف في نحو قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «قد علمنا إن كنت لمؤمنا» ، فمن جعلها لام الابتداء أوجب كسر همزة «ان» ومن جعلها لاما أخرى ـ اجتلبت للفرق ـ فتح همزة «ان».

وذهب الكوفيّون إلى عدم جواز تخفيف «إنّ» وقالوا : «إنّ اللام في ذلك كلّه بمعنى «إلّا» و «إن» قبلها نافية».

وإن دخلت على الفعل اهملت وجوبا ، والأكثر كون الفعل ماضيا ناسخا ، نحو قوله تعالى : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً)(٢) ودونه أن يكون مضارعا ناسخا ، نحو قوله تعالى : (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ)(٣) ويقلّ أن يليها غير الناسخ ، كقول الشاعر :

شلّت يمينك إن قتلت لمسلما

حلّت عليك عقوبة المتعمّد

وتخفّف «أنّ» فيبقى العمل عند الأكثر ، خلافا للكوفيين ، ذهبوا إلى أنّها لا تعمل.

وشرط اسمها أن يكون ضميرا محذوفا ، (٤) وربّما ثبت ، قال ابن هشام : «هو مختصّ بالضّرورة».

وشرط خبرها أن يكون جملة ولا يجوز إفراده إلّا إذا ذكر الاسم فيجوز الأمران. وقد اجتمعا في قول الشاعر :

بأنك ربيع وغيث مريع

وأنك هناك تكون الثّمالا (٥)

ثمّ إن كان الخبر جملة اسميّة أو فعليّة فعلها جامد أو دعاء لم يحتج إلى فاصل ، نحو قوله تعالى : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٦) و «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما

__________________

(١). «اباة» : جمع آب ـ ك «قضاة وقاض» ـ من أبى ، إذا امتنع. و «الضيم» : الظلم. و «مالك» : اسم قبيلة.

(٢). البقرة (٢) : ١٤٣.

(٣). القلم (٦٨) : ٥١.

(٤). اشترط ابن الحاجب أن يكون هذا الضمير ضمير الشأن ولم يشترطه الجمهور.

(٥). «بأنك ربيع» : يعني : أنت بمنزلة الربيع ، أي : كثير النفع. و «مريع» : كثير العشب ، و «الثّمال» : الغياث.

(٦). يونس (١٠) : ١٠.

٩٥

سَعى» (١) وقوله تعالى : (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها) ، (٢) على قراءة نافع «أن» بالتخفيف و «غضب» بصيغة الماضي. وإن كان الفعل متصرّفا ولم يكن دعاء فقال جماعة : «يجب أن يفصل بين «أن» والفعل ب «قد» ، نحو قوله تعالى : (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) ، (٣) أو حرف تنفيس ، نحو قوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) ، (٤) أو نفي ب «لا» أو «لن» أو «لم» ، نحو قوله تعالى : («وَحَسِبُوا أن لا تَكُونَ فِتْنَةٌ» ،)(٥) على قراءة من ضمّ نون «تكون» ، و (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ)(٦) و (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) ، (٧) أو «لو» ، نحو : (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) ، (٨) ويندر ترك الفصل ، كقول الشاعر :

علموا أن يؤمّلون فجادوا

قبل أن يسألوا بأعظم سؤل (٩)

وقال جماعة ـ منهم ابن مالك ـ : «يجوز الفصل وتركه والأحسن الفصل».

وتخفّف «كأنّ» فيبقى العمل عند الأكثر ، خلافا للكوفيّين ، ذهبوا إلى أنّها لا تعمل. واسم «كأنّ» ضمير محذوف (١٠) وخبرها إمّا جملة اسميّة ، نحو : «كأن زيد قائم» أو جملة فعليّة مصدّرة ب «لم» كقوله تعالى : (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) ، (١١) أو مصدّرة ب «قد» كقول الشاعر :

أفد التّرحّل غير أنّ ركابنا

لمّا تزل برحالنا وكأن قد (١٢)

أي : وكأن قد زالت.

ويندر ثبوت اسمها وإفراد خبرها ، كقول رؤبة بن العجّاج : كأن وريديه رشاء خلب (١٣)

__________________

(١). النّجم (٥٣) : ٣٩.

(٢). النّور (٢٤) : ٩.

(٣). المائدة (٥) : ١١٣.

(٤). المزّمّل (٧٣) : ٢٠.

(٥). المائدة (٥) : ٧١.

(٦). البلد (٩٠) : ٥.

(٧). البلد (٩٠) : ٧.

(٨). الأعراف (٧) : ١٠٠. «أو لم يهد للّذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون».

(٩). «يؤمّلون» : من التأميل ، وهو الرجاء ، «سؤل» : مسؤول.

(١٠). والغالب كونه ضمير الشأن.

(١١). يونس (١٠) : ٢٤.

(١٢). «أفد» : دنى وقرب. «الترحّل» : الارتحال. الركاب : الإبل التي يسار عليها ، واحدتها راحلة ولا واحد لها من لفظها. والرّحال : جمع رحل وهو المسكن.

(١٣). قوله : «وريديه» : هما عرقان في الرقبة ، والرّشاء : الحبل. والخلب : الصلب.

٩٦

ولا يجوز تخفيف «لعلّ» وأمّا «لكنّ» فتخفّف ولم تعمل عند الأكثر. وأجاز يونس والأخفش إعمالها حينئذ قياسا. وحكي عن يونس أنّه حكاه عن العرب. (١)

__________________

(١). قال ابن مالك :

وخفّفت «إنّ» فقلّ العمل

وتلزم اللام إذا ما تهمل

وربّما استغني عنها إن بدا

ما ناطق أراده معتمدا

والفعل إن لم يك ناسخا فلا

تلفيه غالبا ب «إن» ذي موصلا

وإن تخفّف «أنّ» فاسمها استكن

والخبر اجعل جملة من بعد أن

وإن يكن فعلا ولم يكن دعا

ولم يكن تصريفه ممتنعا

فالأحسن الفصل ب «قد» أو نفي أو

تنفيس أو «لو» وقليل ذكر «لو»

وخفّفت «كأنّ» أيضا فنوي

منصوبها وثابتا أيضا روي

٩٧

(٥)

لا التي لنفي الجنس

والمراد بها «لا» التي قصد بها نفي الخبر عن الجنس الواقع بعدها نصّا. واحترزنا ب «نصّا» من «لا» المشبّهة ب «ليس» ، نحو : «لا رجل قائما» ، فإنّها ليست نصّا في نفي الجنس ؛ إذ يحتمل نفي الواحد ونفي الجنس ؛ فعلى الاحتمال الثاني لا يجوز «لا رجل قائما بل رجلان» وعلى الأوّل يجوز. (١)

وهي تعمل عمل «إنّ» بشروط :

١ ـ أن يكون اسمها وخبرها نكرتين.

٢ ـ أن لا يفصل بينها وبين اسمها.

٣ ـ أن لا يدخل عليها جارّ.

فإن كان الاسم معرفة أو منفصلا منها اهملت ووجب ـ عند غير المبرّد وابن كيسان ـ تكرارها مع العاطف ، نحو : «لا زيد في الدار ولا عمر» ، ونحو قوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ)(٢) وإن دخل عليها جارّ خفض النكرة ، نحو : «جئت بلا زاد».

ولا يخلو اسم «لا» هذه من ثلاثة أنواع :

١ ـ أن يكون مضافا ، نحو : «لا غلام رجل حاضر».

٢ ـ أن يكون شبيها بالمضاف ، والمراد به كلّ اسم له تعلّق بما بعده إمّا بعمل ، نحو : «لا طالعا جبلا ظاهر» وإمّا بعطف ، نحو : «لا ثلاثة وثلاثين عندنا».

٣ ـ أن يكون مفردا ، والمراد به هنا ما ليس مضافا ولا شبيها به فيدخل فيه المثنّى والمجموع.

فإن كان مضافا أو شبيها به وجب أن يكون معربا منصوبا وإن كان مفردا بني على

__________________

(١). قال الصّبان : والمراد بكونها لنفى الجنس نصّا ، كونها له في الجملة ؛ لأنّ «لا» هذه تكون نصّا في نفي الجنس إذا كان اسمها مفردا فإن كان مثنّى أو جمعا كانت محتملة لنفي الجنس ولنفي قيد الاثنينيّة أو الجمعيّة ، كما أوضحه السعد في مطوّله. راجع : حاشية الصبّان على شرح الأشموني : ٢ / ٢.

(٢). الصافّات (٣٧) : ٤٧.

٩٨

ما كان ينصب به ، (١) نحو : «لا رجل ولا مسلمين ولا زيدين في الدار». أمّا نحو «لا مسلمات» ، فقال جماعة : «هو مبنيّ على ما كان ينصب به وهو الكسر» ، وأجاز بعضهم الفتح وأوجبه ابن عصفور.

حكم تكرار «لا»

إذا تكررت «لا» على سبيل العطف وكان عقيب كلّ منهما نكرة مفردة بلا فصل ـ نحو : «لا حول ولا قوّة إلّا بالله» ـ يجوز فيه خمسة أوجه :

وذلك لأنّ المعطوف عليه إمّا أن يبنى على علامة النصب أو يرفع ، فإن بني جاز في الثاني ثلاثة أوجه :

الأوّل : البناء على علامة النصب ، وتكون «لا» الثانية لنفي الجنس كالاولى فتقول : «لا حول ولا قوّة إلّا بالله».

الثانى : النصب ، عطفا على محلّ اسم «لا» وتكون «لا» الثانية زائدة بين العاطف والمعطوف ، فتقول : «لا حول ولا قوّة إلّا بالله».

الثالث : الرفع ، فتقول : «لا حول ولا قوّة إلّا بالله» وفيه وجوه :

١ ـ أن يكون معطوفا على محلّ الاسم بلحاظ قبل دخول «لا» ، وتكون «لا» زائدة بين العاطف والمعطوف.

٢ ـ أن تكون «لا» الثانية عاملة عمل «ليس».

٣ ـ أن يكون مرفوعا بالابتدا وليس ل «لا» عمل فيه.

وإن رفع المعطوف عليه جاز في الثاني وجهان :

الأوّل : البناء على علامة النصب ، نحو قول الشاعر :

فلا لغو ولا تأثيم فيها

ولا حين ولا فيها مليم (٢)

الثاني : الرفع ، تقول «لا رجل ولا امرأة في الدار». (٣)

__________________

(١). قيل : علّة البناء تضمّنه معنى «من» الجنسيّة ، بدليل ظهورها في قوله :

فقام يذود النّاس عنها بسيفه

وقال : ألا لا من سبيل إلى هند

وقيل : علّة البناء تركيب الاسم مع الحرف ك «خمسة عشر».

(٢). اللغو : الباطل. والتأثيم : مصدر «أثّمه» ، أي : نسبه إلى الإثم ، بأن قال له : «يا آثم». «فيها» : أي : في الجنّة.

والحين : الهلاك والفناء. والمليم : من «ألام الرّجل» : أي : أتى بما يلام عليه.

(٣). قال ابن مالك :

عمل «إنّ» اجعل ل «لا» في النّكره

مفردة جاءتك أو مكرّره

٩٩

تابع اسم «لا»

إذا كان اسم «لا» مفردا ونعت بمفرد متّصل ، جاز في النعت ثلاثة أوجه :

الأوّل : البناء على علامة النصب ، نحو : «لا رجل ظريف في الدار».

الثاني : النصب ، مراعاة لمحلّ اسم «لا» ، نحو : «لا رجل ظريفا في الدار».

الثالث : الرفع ، مراعاة لمحلّ الاسم بلحاظ قبل دخول «لا» ، نحو : «لا رجل ظريف في الدار».

فإن فقد الإفراد في المنعوت ، نحو : «لا غلام رجل ظريفا عندنا» أو في النعت ، نحو : «لا رجل قبيحا فعله في الدار» أو فقد الاتّصال ، نحو : «لا رجل في الدار ظريفا» ، قالوا : «لم يجز بناء النعت ، بل يتعيّن نصبه أو رفعه».

وإذا عطف على اسم «لا» فيجوز في المعطوف النصب أو الرفع ولا يجوز بناؤه. نعم ، إذا تكرّرت «لا» وكان عقيب كلّ منهما نكرة مفردة بلا فصل وبني المعطوف عليه يجوز بناؤه. وقد تقدّم.

أمّا البدل فإن كان نكرة فيجوز فيه النصب والرفع ، نحو : «لا أحد رجلا وامرأة في الدار» بنصب «رجل» ورفعه ، (١) وكذا عطف البيان عند من أجازه في النكرات.

وإن لم يكن نكرة فالرفع ، نحو : «لا أحد زيد في الدار».

أمّا التوكيد ، فالمعنوي منه لا يأتي هنا لامتناع توكيد النكرة به. أمّا التوكيد اللفظي فقال المحقق الرضي رحمه‌الله : «الأولى كونه على لفظ المؤكّد مجرّدا من التنوين وجاز الرفع والنصب». (٢)

__________________

فانصب بها مضافا أو مضارعه

وبعد ذاك الخبر اذكر رافعه

وركّب المفرد فاتحا ك «لا

حول ولا قوّة» والثّاني اجعلا

مرفوعا أو منصوبا أو مركّبا

وإن رفعت أوّلا لا تنصبا

(١). استقرب المحقّق الرضي رحمه‌الله جواز البناء إذا لم يفصل البدل المفرد المنكّر عن المنفيّ المبنيّ. شرح الكافية (١) : ٢٦٤.

(٢). قال ابن مالك :

ومفردا نعتا لمبنيّ يلي

فافتح أو انصبن أو ارفع تعدل

وغير ما يلي وغير المفرد

لا تبن وانصبه أو الرّفع اقصد

والعطف إن لم تتكرّر «لا» احكما

له بما للنّعت ذي الفصل انتمى

١٠٠