موسوعة قرى ومدن لبنان - ج ٨

طوني مفرّج

لاحق ، أصبحت صيدا وصور البريّة وعكّا تضع تحت تصرّف الأشوريّين أسطولا بحريّا يضمّ ٨٠٠ بحّار لفرض الحصار على صور البحريّة الثائرة.إلّا أن تلك المدن الجنوبيّة بقيت تتحيّن الفرص للثورة على الأشوريّين ، وكانت في كلّ مرّة تسقط واهنة تحت ضغط القوّة العسكريّة العظمى ، بينما استمرّت جبيل في سياستها المسالمة طوال مدّة السيطرة الأشوريّة على المنطقة ، تلك السيطرة التي ينتهي زمنها في الربع الأخير من القرن السابع ، مع ظهور الكلدانيّين الذين ورثوا أشور كما ورثوا سيادتها ، وقد اتّبعت جبيل مع الكلدانيّين السياسة التي اتّبعتها مع أسلافهم الأشوريّين ، بينما تابعت مدن الجنوب سياستها السابقة أيضا ، وهكذا سوف تخرج جبيل من الحقبة البابليّة واهنة ضعيفة نسبيّا ، وصيدا وصور شبه خربتين. وكان نشوء قوّة حربيّة جديدة عظمى في الشرق ، وبدء اندفاع جحافلها نحو المتوسط ، نذيرا بتطوّر دراماتيكيّ سوف يقلب كلّ شيء. تلك القوّة العملاقة الجديدة كانت : فارس.

في العهد الفارسي : استقلال دون سيادة

أسّس" كورش" الأمبراطوريّة الفارسيّة في منتصف القرن السادس قبل الميلاد ، ووسّع حدودها إبنه" قمبيز" ، ومن بعده" داريوس". وبأقلّ من ثلاثين سنة غدت هذه الإمبراطوريّة الأوسع في تاريخ الشرق ، إذ أصبحت تمتدّ شرقا من الهند إلى البحر الإيجي غربا ، ومن القوقاس شمالا إلى المحيط الهنديّ جنوبا. وقد قسّمت هذه الأمبراطورية الشاسعة إلى ٢٠ أيالة ، كانت الأيالة الخامسة منها تشمل لبنان وسورية وفلسطين وقبرص إلى الغرب ، وكانت صيدا عاصمتها. وقسّمت فينيقية إلى أربعة أقسام تابعة لأربع مدن شبه مستقلّة : صيدا وصور وأرواد وجبيل. وقد حافظت هذه الأقسام التي تتمثّل بالمدن الأربع المستقلّة على نظام الملكيّة فيها. فقد كان لكلّ مدينة ملك

٤١

يسكّ النقود بإسمه. وقد احتلّ ملك صيدا المقام الأوّل في هذه المجموعة ، تلاه ملك صور. وهكذا يظهر أنّ جبيل التي سالمت الأشوريّين والبابليّين قد خسرت شيئا من مكانتها أمام الفرس لصالح الذين كانوا ثائرين على الأشوريّين والكلدان ، صيدا وصور.

أعاد السلم الفارسيّ إلى المدن الفينيقيّة بدءا من أواخر القرن السادس ق. م. كثيرا من الرخاء. وكان جلّ نشاط الفينيقيّين في هذا العصر مساعدة الفرس في حروبهم البحرية ضدّ الإغريق ، إلّا أن نجم جبيل وفعاليّتها كانا خابيين في هذه الحقبة التي برزت فيها صيدا وصور ، وقد أصبح لقب صيدانيّين ، وأحيانا صورانيّين ، يطلق على جميع الفينيقيّين عموما. وعندما أسّست جاليات من المملكات المستقلّة مدينة طرابلس ، لم يكن هنالك جالية من جبيل ، بل اقتصر النشاط على صيدا وصور وأرواد.

غير أنّ الآثار الجبيليّة العائدة إلى تلك الحقبة تنمّ عن نشاط بارز على الصعيد الدينيّ ، فقد أصبح هيكل البعلة أكبر بكثير ممّا كان عليه في العهود السابقة. كذلك ينمّ الأثر العمرانيّ عامّة عن تطوّر ملحوظ ، فغدت البيوت أكثر رحابة وكثافة ، واستمرّت المدينة تضرب نقدها في عهود ملوكها : أز ـ بعل ، وأدرا ـ ملك ، وأور ـ ملك ، وعين ـ آل. وكان أوّل نقد ضربته جبيل يحمل على أحد وجهيه سفينة تمخر البحر ، فوقها ثلاثة جنود بخوذهم الهلاليّة ، وبأيديهم تروس مستديرة ، وفي الأسفل يبدو فرس البحر تحت السفينة. وعلى الوجه الآخر صورة نسر جاثم على كبش غنم. وفي زمن لاحق استبدلت صورة النسر بصورة أسد يربض فوق فريسته التي تمثّل ثورا. ثمّ طوّر الرسم فأصبح يمثّل أسدا يصارع ثورا. ثمّ أضيف إلى النقوش صورة صفدة

٤٢

الموريكس التي يستخرج منها صباغ الأرجوان. إلى أن بدأوا ينقشون صورة الملك الذي سكّت النقود في عهده.

مع بدء ظهور بوادر الوهن في جسم الدولة الفارسيّة الذابل قبيل منتصف القرن الرابع قبل الميلاد ، وإقدام العمّال الفرس على معاملة أهل البلاد بشيء من الغطرسة والإزدراء ، بدا واضحا أن شهر العسل الذي امتدّ طوال قرن وثلث قد شارف نهايته. وتدلّنا البقايا الجبيليّة على أنّ أهل المدينة كانوا في هذه الحقبة الحرجة يتعاملون مع الإغريق أعداء فارس تعاملا تجاريّا سافرا. وقد حاول بعض ملوك فينيقية الدخول في مواثيق صداقة مع الأثينيّين ، وفي الوقت نفسه أخذت جاليات فينيقيّة تستقرّ في بلاد الإغريق ، لا سيّما في ميناء بيريه حيث كان لهم معابد ومقابر.

أخيرا ، بدأت الثورة الفينيقيّة ضدّ الفرس في الحيّ الصيداوي في طرابلس سنة ٣٦٠ ق. م. ، وسرعان ما عمّت جميع الشاطئ اللبناني ، وأعلنت جبيل وثماني مدن فينيقيّة أخرى استقلالها عن الفرس بعد أن طردت عمّالهم وجنودهم من المدن ، وانتقلت قيادة الثورة في ما بعد إلى صيدا حيث بدأ الإستعداد للمعركة الحاسمة.

في هذه الأثناء سارع القائد الفارسيّ" أرتحششتا" إلى ترك بابل على رأس جيش قوامه ٢٠٠ ألف رجل ، وجهّز في البحر ٨٠٠ مركب ، قاصدا تأديب الشاطئ اللبنانيّ ، فتوجّه بادئ الأمر إلى صيدا قاصدا إخضاع قيادة الثورة ، ولم ينفع استسلام ملك المدينة في إقناع الصيداويّين بعدم جدوى المقاومة ، بل أغلقوا على أنفسهم المدينة وأحرقوها على رؤوسهم مفضّلين الإستشهاد على الإستسلام. هذا الحدث أرعب باقي المدن الفينيقيّة ، بما فيها جبيل ، التي استسلمت للغازي دونما قيد أو شرط.

٤٣

في العهد الإغريقي

سنة ٣٣٣ ق. م. فاجأ الفاتح الإغريقيّ الشابّ الإسكندر المقدونيّ العالم بسحق الفرس بالقرب من أيسوس في آسيا الصغرى. ومن هناك أرسل كتيبة من الفرسان لاحتلال مقرّ أركان الفرس : دمشق ، واتّجه هو على رأس بعض جيشه نحو الشاطئ الفينيقيّ ، حيث راحت المدن ، ما عدا صور ، تفتح له أبوابها ، واستسلمت له جبيل دون مقاومة ، ولم يمض وقت طويل حتى كانت السفن الجبيليّة ، كما الصيداويّة والأرواديّة ، تشارك الإسكندر في حصاره الشهير لجزيرة صور الذي دام سبعة أشهر قبل أن يتمكّن من ردم البحر والانقضاض على الجزيرة المدينة في أواسط شهر تموز من العام ٣٣٢ ق. م. ، وبذلك انتهى الدور العظيم الذي لعبته صور في التاريخ ، بعد أن خلفها الإسكندر وراءه مدينة خربة محروقة شبه خالية من السكان.

إستنتج الباحثون أن النشاط التجاريّ الذي كان قائما بين الإغريقيّين والفينيقيّين في زمن الإحتلال الفارسيّ ، قد ازداد حيويّة وشموليّة بعد الفتح المقدونيّ ، فقد رافق التجّار والبحّارة الفينيقيون حملات الإسكندر على بلوخستان (هي حاليّا المنطقة الجنوبيّة الغربيّة من باكستان.) وكان الجبيليّون في هذه الحقبة يساهمون من خلال تجارتهم بترويج البضائع الإغريقيّة في أسواق الشرق الأدنى ، على أنّهم غدوا زعماء تجارة ورق البردى دون منازع ، تلك التجارة التي ازدهرت في العصر السلوقيّ إذ استبدلت الكتابة على ألواح الآجرّ بالكتابة على ورق البردى.

كان للفتح الإغريقيّ تأثيره الملحوظ على حضارة جبيل وسائر المدن الفينيقيّة ، فقد امتزجت الحضارتان الفينيقيّة والإغريقيّة امتزاجا تفاعليّا في عمليّة أخذ وعطاء ، ومن جملة ما أخذه الإغريق من جبيل تبنّيهم للدين

٤٤

الجبيليّ ، واقتباسهم لفنون تجاريّة دوليّة أتقنها الجبيليّ منذ القدم ، وتعرّفهم إلى سلع وبضائع وحجارة كريمة جديدة لم يكونوا قد عرفوها من قبل. غير أنّ اللغة الإغريقيّة سوف تصبح اللغة الرسميّة ، وإن كان الناس سيحافظون على لغة البلاد حتّى مجيء العرب.

بعد موت الإسكندر بداية صيف ٣٢٣ ق. م. واقتسام إمبراطوريته بين قوّاده الذين سرعان ما اختلفوا وتحاربوا ، أصبحت جبيل كما سائر مدن المنطقة عرضة للتجاذب بين القوى المتحاربة ، وكانت صيدا قد احتلّت مركزا أوّل بين مدن الساحل في عهد أحد خلفاء الإسكندر : بطليموس (٢٨٦ ـ ١٩٨ ق. م.). إلّا أنّه قبل أفول العهد السلوقيّ كانت جبيل قد نالت استقلالها في حوالى ١٢٤ ق. م. وسكّت نقودا بإسمها.

حافظت جبيل على مركزها الدينيّ الطليعيّ في العهد السلوقيّ ، حتى أنّ طقوس عبادتها قد طغت على طقوس عبادة الإغريق عند هؤلاء ، وأصبح معبد أفقا محجّ اليونان المتعبّدين.

في هذه الأثناء كانت جبيل ومدن الشمال اللبنانيّ تعاني غزوات الأيطوريّين ، وهم قبائل عربيّة ناطقة باللغة الآراميّة ، أسّست لها مملكة مستقلّة لا تعترف بسلطة السلوقيّين في البقاع عاصمتها عنجر. وراح الأيطوريّون يتسلّلون إلى الشاطئ اللبنانيّ حتّى أسّسوا لهم مدينة بجوار رأس الشقعة ، وخرّبوا بساتين بيروت وجبيل ، وقد عرف هؤلاء باللصوص المحترفين.

كلّ هذا كان يجري وسط فوضى مهلكة دبّت بالدولة السلوقيّة بسبب حروبها الداخليّة من جهة ، وحروبها مع جميع شعوب المنطقة الثائرة لنيل استقلالها.

٤٥

في العهد الروماني

عند دخوله إلى لبنان سنة ٦٤ ق. م. زاحفا من الشمال بعد أن أخضع سورية ، سارع بمبيوس إلى ملاحقة العصابات الأيطوريّة حيث وجدت ، فدمّر قلعتهم في" وجه الحجر" قرب البترون ، وقوّض أبنية البترون بسبب لجوئهم إليها ، ودخلت قوّاته جبيل وطهّرتها من هؤلاء كما طهّرت طرابلس. وأصبحت جبيل تحت حماية الرومان. وبعد أقلّ من سنة كانت المعاهدة الرومانيّة التي فرضت السلم وحافطت على حريّة المعتقد وفرضت الجزية والخراج بشكل منظم على المدن والممالك.

وفي جبيل ، كما في سائر مدن الساحل ، فرض الرومان حكما شوريّا ، فأصبح مجلس المدينة ، المؤلّف من أشراف البلدة ، يشارك الملك أو الحاكم في الإدارة ، فحدّ الرومان بذلك من السطة المطلقة. وكان من شأن هذه التنظيمات أن أدّت إلى سلام واستقرار ، وعندما قدم القيصر إلى المنطقة سنة ٤٧ ق. م. ، لاقى من مدن الساحل الفينيقيّة ترحيبا كريما ، ما جعله يعفيها من بعض الضرائب ويمنحها مزيدا من الإستقلال. وفي عهد أوغوسطس (٦٣ ق. م. ـ ١٤ م.) نالت جبيل والبترون امتيازات هامّة ، وقد كرّمت المدينتان انتصار أو غسطس على خصمه أنطونيوس (٣١ ق. م.) بإصدار كلّ منهما عملة مؤرّخة بيوم الإنتصار. وقد خلّدت جبيل هذا التاريخ في كتابة أثريّة تعرف ب" كتابة البلاط".

أنشأ الرومان العديد من المشاريع التي لاتزال آثار المنطقة تحفظ بعض بقاياها ، منها قناة الريّ التي جلبت المياه من نهر ابراهيم إلى جبيل ، ومنها سكّة الساحل الفينيقيّ التي كانت تصل المدن ببعضها ، وطريق جبيل بعلبك عبر العاقورة فاليمّونة. ومن أهمّ بقايا الرومان الظاهرة في جبيل الملعب

٤٦

الروماني (الأمفيتياتر) داخل سور القلعة. ويعتبر باحثون أنّ القيصر أدريانوس (١١٧ ـ ١٣٨ م.) قد زار مدينة جبيل ومعابد الزهرة في أفقا ، ويستشهدون على ذلك بالكتابات المنتشرة في الوهاد الواقعة في مقاطعات العاقورة وتنّورين وقرطبا وجاج وترتج وسواها ، وهي كتابات منقوشة على صخور ، خطّ فيها مرارا إسم أدريانوس بحروف يبلغ ارتفاعها حوالى ٣٥ سم.إلّا أنّ إقدام الرومان على جعل بيروت مستعمرة لهم وضعها في مكانة جدّ متقدمة على سائر المدن الفينيقيّة. وكان لاحتكار الرومان لأربعة أصناف من الأشجار : العرعر والأرز والسرو والصنوبر ، ومنع أيّ كان من قصّها ، فعل القضاء نهائيّا على تجارة الأخشاب من قبل جبيل ، تلك التجارة التي كانت على أيّ حال مهدّدة بالتوقّف بسبب انقراض الغابات التي كانت تقطع أشجارها دون أن يزرع غرس جديد.

في التقسيم الإداريّ الرومانيّ الأوّل الذي جرى في عهد سبتيموس سفريوس (١٩٣ ـ ٢١١ م.) أصبحت منطقة الهلال الخصيب بين ١٩٤ و ١٩٨ م. مقسّمة إلى قسمين : شرقيّ ويضمّ سورية المجوفة ، وغربيّ ويضمّ فينيقية ، وكانت جبيل ، بطبيعة الحال ، تابعة للقسم الغربيّ.

في حقبات لاحقة تعدّدت التقسيمات إلى أن قام ثيودوسيوس الثاني (٤٠١ ـ ٤٠٥ م.) بفصل فينيقية الشرقيّة عن فينيقية البحريّة ، وجعل الأولى مستقلّة ، أمّا الثانية ، وهي التي عرفت بالبحريةMARITIMA ، فقد بقيت تابعة للحكم الرومانيّ ، وكانت عاصمتها صور ، ومن مدنها الرئيسيّة عكّا ، وصيدا ، وبيروت ، والبترون ، وطرابلس ، وعرقة ، وأرواد ، إضافة إلى جبيل. وبقي هذا التقسيم على حاله حتّى الفتح العربيّ. أمّا على صعيد اللغة ، فقد زادت سيطرة

٤٧

اللغة الإغريقيّة في العهد الرومانيّ على اللغات الساميّة المحليّة ، ونجد أن النقوش الكتابيّة في جبيل ومحيطها ، كما في جميع الأنحاء الفينيقيّة قد أصبحت إغريقيّة ، وإن كانت لغتها في بعض الأحيان ركيكة وكثيرة الأخطاء ، كما في غير نقش ، ما يدلّ على أنّ النحّات كان يرسم الحرف دون أن يتقن اللغة.

مع هذا التطور في اللغة ، أصبح الفينيقيّون مهيّئين أكثر فأكثر للتجارة مع الغرب ، وتذكر المدوّنات أنّ تجارتهم قد ازدهرت في هذه الحقبة كما لم تزدهر لا من قبل ولا من بعد. وكان الكتّان الجبيليّ ، المصنوع من خيوط القنّب الذي كان يزرع محليّا ، من البضائع التي لاقت أهميّة خاصّة عند الرومان ، حتى أنّهم خفّضوا الضريبة على الكتّان الجبيليّ والصوريّ واللاذقانيّ. ومع الإقبال من جديد على الصناعات الخشبيّة وظهور خطر انقراض الأشجار ، جدّد الرومان أنظمة حماية الأحراج الذي وضعه أسلافهم اليونان ، غير أنّ جبيل بقيت تستفيد ، وإن إلى حدّ ، من أخشاب الأرز وسواه من الصنوبريّات.

على الصعيد الدينيّ توسّعت العبادة الجبيليّة حتّى غزت روما ، حيث شاعت عبادة أدونيس بين عامّة الناس ، وانتشرت حدائق الإله الجبيليّ في كافّة أنحاء روما ، حتّى وصلت إلى إشبيلية وإسبانيا ، وفي نابولي ومدن أغريقيّة عديدة وفي جزر الأرخبيل في البحر الإيجي. وقلّما تجد بلدا أوروبيّا خاليا من أثر فينيقيّ يعود إلى العهد الرومانيّ بلبنان ، ما يدلّ على الشأو الذي بلغه الفينيقيّون في هذه الحقبة وعلى المدى المفترض أن تكون جبيل قد بلغته في ازدهارها.

في الوقت نفسه شهدت المدن الفينيقيّة تطوّرا حضاريّا ملحوظا على الصعيد الفكريّ ، وإذا كانت جبيل لم تنجب مثلما أنجبت صور وصيدا من

٤٨

فلاسفة وبلغاء ، فهي قد أهدت العالم مؤرّخا فذّا رائدا كان له الفضل في حفظ معلومات نادرة ودقيقة عن حضارة المنطقة في حقب مظلمة من التاريخ ، إنّه" فيلو الجبيلي" الذي عرف عند الغربيّين بإسم PHILO OF BYBLOS والذي عاش بين ٦٤ و ١٤٠ م. ، فقد وضع هذا المؤرّخ الجبيليّ الشهير مؤلفا قيّما بموضوع ميثولوجيّ تضمّن القصص التي كانت تدور حول خلق العالم وحول الدين الفينيقيّ ونشوء المدن الفينيقيّة ، معتمدا مصدرا بالغ الأهميّة ، هو سنكون ياتون SANCHUNIATON البيروتيّ الفينيقيّ ، وبقي الباحثون يعتقدون طيلة قرون أنّ مرجع فيلو الجبيلي : سينكون ياتون ، هو شخصيّة خياليّة وهميّة اخترعها الجبيليّ لتعزيز قيمة مؤلّفه ، إلى أن جاءت اكتشافات أو غاريت سنة ١٩٢٣ لتبيّن أنّ سنكون ياتون هذا إنّما شخصيّة حقيقيّة فينيقيّة من بيروت ، عاش في القرن السادس قبل الميلاد ودوّن الكتابات التي اعتمد عليها الجبيليّ. وقد دلّت النقوش الأوغاريتيّة على أنّ التاريخ الذي وضعه فيلو الجبيلي فيه كثير من الصحّة. وعندما أشرقت بوادر بشرى الخلاص في سماء الشرق بمولد السيّد المسيح في بيت لحم ، كانت جبيل في أوج مكانتها الدينيّة الوثنيّة.

المسيحية في عرين أدونيس

عند بداية انتشار المسيحيّة شمالا نحو فينيقية اللبنانيّة ، كانت جبيل تشكّل أحد مركزي العبادتين الشائعتين في المنطقة آنذاك : عبادة الإله السامي هدد ـ رمّون الذي تحوّل إلى إله إغريقيّ ـ رومانيّ فأصبح المشتري ، وهو جوبيتير ، وهو نفسه زفس ، وكان المركز الأوّل الرئيس لتلك العبادة هيليوبوليس مدينة الشمس بعلبك ؛ وعبادة أدون ـ عشترت ، التي تحوّلت إلى أدونيس ـ عشتروت ، أو فينوس ، ومركز عبادتها الأوّل الرئيس جبيل. لذلك ، ولأنّ صور وصيدا أقرب إلى مكان مجيء المسيح من جبيل ، فقد تأخّرت جبيل عن مدن الجنوب

٤٩

وبيروت في دخول المسيحيّة إليها. فبينما السيّد المسيح زار صيدا وصور وجوارهما ، ومريم العذراء رافقت ابنها إلى جوار صيدا ، وبولس الرسول مرّ في تلك النواحي ، وكانت صور أوّل مدينة فينيقيّة تنشأ فيها جالية مسيحيّة على عهد بولس الرسول ، ومن بعدها صيدا ، وبيروت قد تحوّلت بأكثريّة أبنائها نحو المسيحيّة قبل بداية القرن الرابع للميلاد ، وأصبح في هذه المدن الثلاث تنظيمات كنسيّة شملت تعيين الأساقفة وإنشاء البيع وسوى ذلك من نشاط ، كانت جبيل لا تزال على عبادة بعلها القديم ، وعلى ولائها لأدون وعشتر. وعندما عيّن بطرس الرسول تلميذه يوحنّا مرقس أسقفا على جبيل ، قامت في المدينة حركة مناهضة له ، على ما تذكر الميامر. ولم يصب جبيل شيء من شرور الإضطهاد الإمبراطوريّ للمسيحيّين في عهد" تراجان" سنة ١١٢ حيث أمر باعتبار كلّ من لا يخضع للآلهة ولا يسجد للأمبراطور خائنا يعاقب على خيانته ، ولا في عهد" داقيانوس" الذي قضى بين ٢٥٠ و ٢٥١ بمعاقبة المسيحيّين الذين يرفضون تقديم الذبائح علانية للآلهة الوثنيّة المعترف بها من قبل الأمبراطور ، فقد كانت جبيل أحد أهمّ مراكز تلك الآلهة ، ولا عانت اضطهاد" فاليران" للمسيحيّين بين ٢٥٧ و ٢٥٨ الذي أضاف إلى تدابير سلفه داقيانوس تدبيرا قضى بتحظير الإجتماع والتجمّع على المسيحيّين ، ولا الإضطهاد الكبير في عهد الأمبراطورين" ديو كليشان" ، و" مكسيميان" بين ٣٠٣ و ٣١٣ اللذين أزالا الكنائس من الوجود وأحرقا الكتب المسيحيّة وصرفا المسيحيّين عن وظائف الدولة وخيّرا كلّ مسيحيّ بين الموت أو تقديم الذبائح للآلهة ، ولم يتمكن المؤرّخون من إحصاء عدد الشهداء والمعاقين الذين سقطوا نتيجة هذه الإضطهادات الوحشيّة التي لم يشهد التاريخ لها مثيلا. إلّا أنّ دور جبيل في هذا المضمار جاء من الجهة المعاكسة ، يوم بدأت الأمبراطوريّة تميل إلى المسيحيّة ، بحيث أمر قسطنطين (إمبراطور

٥٠

٣٢٤ ـ ٣٣٧) بهدم هيكل أفقا وحارب ممارسة الشعائر التي تتنافى والدين المسيحيّ. أمّا القلّة التي كانت قد تجرّأت قبلا على اتّباع الدين المسيحيّ في جبيل ، فقد كان مصيرها الإستشهاد. ففي تقليد الكنيستين الغربيّة والشرقيّة أنّ يوحنّا مرقس ، الذي يرد ذكره غير مرّة في أعمال الرسل ، كان من التلامذة السبعين للسيّد المسيح ، وقد أقيم أسقفا على جبيل. وقد أكّد دورتاوس الصوري على هذا ، كما سجّل السنكسار الرومانيّ في ٢٧ أيلول" إستشهاد القدّيس يوحنّا الملقّب مرقس أسقف جبيل في فينيقية". وعليه يكون يوحنّا مرقس أوّل شهيد مسيحيّ في جبيل. وممّا يزيد في تأكيد هذه الواقعة أنّ أقدم كنيسة أقيمت في جبيل ، جعلت على إسم القدّيس يوحنّا مرقس ، وكانت صورته فوق مذبح كنيسة جبيل الكبرى ، إلّا أنّها أبدلت بصورة القدّيس يوحنّا المعمدان ، الذي غلب إكرامه في هذه الكنيسة.

ويقول بعض الباحثين بأنّ فتاة في الثانية عشرة من عمرها إسمها" أكوالينا" استشهدت في جبيل سنة ٣٠٨ ، وذهبوا إلى اعتبار أنّها هي نفسها القديسة" مرتينا" التي لها كنيسة في جبيل ، كما يقول الأب لامنس. على أنّنا نعتقد بوجود إشكال في هذا الإستنتاج ، ونظنّ أنّ كنيسة جبيل المذكورة إنّما أنشاها الصليبيّون على إسم سيّدة البحارSAINTE MARITIME ، وقد حوّر اللفظ في لغتنا المحكيّة إلى : سانت مارتين. ومن الجائز أيضا أن يكون لفظ أكوالينا إبطاليّ الأصل : AQUALINA وهو الترجمة الإيطالية للفظ الفرنسي SAINTE MARITIME. غير أنّ خبر هذه القدّيسة قد جاء في" أعمال البولنديّين" على أنّها استشهدت في نحو سنة ٣٠٨ ، عندما فشل الحاكم" فولوسيان" في محاولة حملها إلى الجحود بدينها فأمر بقطع رأسها. ويقول هذا السجلّ أنّ أصل" أكوالينا" من جبيل ، نصّرها أسقف جبيل" أوثاليوس" وهي حديثة السنّ ،

٥١

فاضطرم قلبها حبّا لربّها وأخذت تدعو مواطنيها إلى إيمانها ، ممّا أغضب الحاكم وأدّى إلى استشادها. ولكن يبدو أنّ جبيل ، رغم ذلك ، بقيت متمسّكة بعبادتها المتأصّلة فيها ، إذ لا نجد أيّ ذكر لأيّ نشاط مسيحيّ فيها في خلال هذه الحقبة التي كان حوّل فيها قسطنطين معبد جوبيتير في بعلبك إلى كنيسة كانت آية في الضخامة ، وأصبح لتلك الكنيسة مطران وشمامسة ، وعند بداية القرن الخامس كان أصبح لأساقفة بعلبك دور مهمّ في شأن الكنيسة.

في هذه الأثناء ، كان قد أعيد بناء هيكل أفقا الوثنيّ في عهد خليفة قسطنطين ، الأمبراطور يوليانوس الجاحد (٣٦١ ـ ٣٦٤) الذي لم يكن قد اعتنق الدين المسيحيّ ، ولمّا جلس أركادويس (٣٩٥ ـ ٤٠٨) على العرش أمر عام ٣٩٩ بتقويض الهياكل الوثنيّة فأعيد هيكل الزهرة في أفقا إلى معبد مسيحيّ ، وازداد عدد المسيحيّين في الجبل اللبنانيّ بمساعي ذلك القيصر. ومنذ ذلك التاريخ بدأ التحوّل الواسع في جبيل من الوثنيّة إلى المسيحيّة. وعندما تعرّضت المدينة للدّمار في زلازل القرن السادس ، كان أكثر أهاليها قد أصبح مسيحيّا ، وقد ساد اعتبار يومها يقول بأنّ سبب كارثة المدينة كان غضبا من الله بسبب استمرار بعض سكّان جبيل على عبادتهم القديمة. وقد عدّ المؤرّخون الكنسيّون جبيل خامس الأسقفيّات في مطرانيّة صور. وذهب غير واحد منهم إلى أنّ يوحنّا مرقس (أعمال ١٢ : و ١٥) أحد المبشّرين السبعين هو أوّل من أسّس كنيسة في جبيل وتولّى أسقفيّتها. تشهد على ذلك السنكسارات السريانيّة والمارونيّة فضلا عن الكلندار الرومانيّ. وقد عرف من أساقفة جبيل الأقدمين" أوثل" في القرن الثالث ، و" باسيليد" أو روفين" في المجمع القسطنطينيّ الأوّل. ثمّ أصبحت جبيل بعد القرن السادس خاضعة توّا للكرسيّ الإنطاكيّ.

٥٢

من البيزنط إلى الصليبيّين

عندما جاء الفتح العربيّ ، كانت جبيل قد أصبحت مسيحيّة بشكل كامل ، وإنّ أخبار الفتح بقيت مشوّشة بالنسبة لمدينة جبيل ، فمؤرّخو المردة يذكرون أنّه عند ابتداء دولة العرب سنة ٦٢٨ كان من الأمراء المردة الأمير يوسف واليا على جبيل ، وأنّ يوحنّا ، بن حفيد يوسف ، قد تولّى أيّام قسطنطين الرابع (٦٦٨ ـ ٦٥٨) من القدس حتّى حدود أنطاكية ، وأنجد الملك قسطنطين سنة ٦٧٧ في مواقع عديدة ، بينما يذكر مؤرّخون آخرون أنّه قد تمّ فتح جبيل على يد معاوية ويزيد في حوالى العام ٦٣٦ ، وقولون إنّ الفاتحين قد أجلوا عن المدينة الروم والذين كانوا يمالئونهم ، وأبقوا على أهل البلاد منهم ، وخيّروهم بين اعتناق الاسلام أو البقاء في ربوعهم ضمن شروط أهل الذمّة.

وما نعلمه من مجمل المدوّنات أنّ مسيحيّي جبيل من أهل البلاد قد توزّعوا يومها على ثلاث فئات ، الأولى فضّلت الرحيل والبقاء على دينها وقد انتقلت إلى الجبال العالية النائيّة عن الفتح ، والثانية اختارت البقاء في المدينة ضمن الشروط المفروضة ، والثالثة اتّبعت الإسلام. ويذكر المؤرّخون أنّ معاوية قد استقدم قوما من الفرس وأسكنهم مدن الساحل مكان الذين أجلوا عنها والذين اختاروا الرحيل. ولا تعود المدوّنات التاريخيّة تذكر سوى الأخبار النادرة عن جبيل حتّى قدوم الصليبيّين.

سنة ١٠٩٩ ، وكان العهد فاطميّا ، وكان الصليبيّون قد سيطروا على الشاطئ الممتدّ من اسكندرونا إلى طرطوس ، وبقي بنو عمّار صامدين في عرقة وطرابلس ، توجّه الصليبيّون نحو جبيل من دون أن يلقوا مقاومة. ويقول الشدياق إنّ الصليبيّين لاقوا ترحيبا على امتداد الساحل بين طرابلس وجبيل من قبل المردة وسواهم من اتباع الطوائف الشرقيّة الذين كانوا

٥٣

يقطنون تلك المنطقة ، غير أنّه سيتبيّن خطأ هذا الرأي عندما سيهاجم الصليبيّون جبيل ويدخلونها عنوة كما سيجيء.

فبعد مرورهم بالبترون وجبيل ، توجّه الصليبيّون نحو بيروت التي كان الفاطميّون يسيطرون عليها ، فلم يحصل أيّ احتكاك بموجب معاهدة التفاهم التي كانت جرت بين الصليبيّين والفاطميّين عند أبواب أنطاكيا. أمّا صيدا فأبدت رفضا للتفاهم ، وفي ٢٣ أيّار ١٠٩٩ مرّ الصليبيّون في صور متجهين نحو عكّا فالقدس. وبعد احتلالهم القدس وتلقّيهم التعزيز والتموين من البحر ، بدأوا يحتلّون السواحل ، وفي هذه المرحلة والى بنو عمّار الصليبيّين فأصبحت طرابلس منطقة نفوذ لهم ، وكذلك فعل الصوريّون. وفي هذه الحقبة بالذات بنى" ريموند دو سان جيل" حصن طرابلس سنة ١١٠٣ ؛ وفي العام التالي شنّ هجوما على جبيل فحاصرها وقاتل عليها قتالا شديدا ، " فلّما رأى أهلها عجزهم عن الفرنج أخذوا أمانا ، وسلّموا البلد إليهم فلم تف لهم الإفرنج بالأمان فأخذوا أموالهم واستنفدوهم بالعقوبات وأنواع العذاب" كما يقول ابن الأثير. وكان سقوط جبيل في ٢٨ نيسان ١١٠٤ ، وهي أوّل مدينة لبنانيّة سقطت عنوة بيد الصليبيّين. وبقيت بيدهم إلى أن استسلمت لصلاح الدين في العام ١١٨٧ ، ثمّ تمكّن الصليبيّون من استعادتها عنوة سنة ١١٩٨. ويذكر إبن واصل أنّ جبيل قد سقطت بيد المسلمين في العام ١١٨٧ على يد صلاح الدين الأيّوبي الذي هدم أسوارها لكنّه تراجع عنها بسبب الأخبار التي أفادت عن وصول الحملة الصليبيّة الثالثة فعاد إليها آل أمبرياتشي. وقد بقي الصليبيّون في جبيل حتّى بعد سقوط كامل مدن الساحل والجبل بيد المماليك ، رغم أنّه في صيف ١٢٩٢ قد شنّ المماليك هجومات على مدن الساحل اللبنانيّ التي والت الصليبيين ، وبعد سلسلة هجمات سقطت جبيل بيدهم

٥٤

فأحرقوها وهدموها وكادوا أن يزيلوا أهمّ معالمها ، وفي وصف لمستشرق زار المدينة بعد حوالى قرن على سقوطها بيد المماليك ، وهو المستشرق الإيطالي سوريانو ، ذكر أنّها" خربة مهجورة ، وفيها كنائس عظيمة متهدّمة تماما" إلّا أنّ المنطقة الواقعة بين نهر ابراهيم ونهر المدفون صعودا حتّى مشارف البقاع ، قد بقيت صامدة بوجه المماليك رغم هجمات الأخيرين العنيفة ، وقد تمكّن مقدّمو الموارنة من إخراج المماليك من جبيل عام ١٣٠٥ ، وأبقوهم خارج نطاق تلك المنطقة الصغيرة : بلاد جبيل ، التي أضحت ملجأ للأقليّات وبقيت كذلك حتّى الفتح العثماني سنة ١٥١٦ ، غير أنّ الصليبيّين الذين كانوا لا يزالون في مدينة جبيل في خلال معركة ١٢٩٢ ، قد فرّوا بمعظمهم عبر البحار ، وانخرطت جماعات منهم مع السكّان الموارنة واندمجت فيهم تماما ، ولا تزال من سلالاتهم أسر عديدة منتشرة اليوم في مختلف أنحاء البلاد ، أبناؤها على مذاهب مسيحيّة وإسلاميّة شتّى ، وإن كانت أكثريّتهم مارونيّة.

بقايا صليبيّة

يذكر بعض المؤرّخين ، ومنهم ديشان PAUL DESCHAMPS أنّ الصليبيّين قد أطلقوا على جبيل إسم جبلةGIBLET أو جبالة. أمّا محمّد علي مكّي فيسمّيها في هذه الحقبة جبيل ، وكذلك كمال الصليبي ، بينما جواد بولس يسمّيها جبلة. وقد اتّفق المؤرّخون على أنّ الكونت" ريموند دو سان جيل" قد أقطع جبيل إلى الجنويّ GUILLELMO DEGLI EMBRIACI. واستطاعت عائلة أمبرياتشي ، الأسرة الأكثر أهميّة في كونتيّة طرابلس أن تستمرّ حاكمة لهذه المدينة التاريخيّة طوال حقبة الوجود الفرنجيّ في الشرق. وتمتدّ جبيل التي بناها الصليبيّون في القرون الوسطى ، إلى الناحية الشماليّة من المدينة القديمة ،

٥٥

وشكل سورها الذي كان يطوّق المدينة كلّها ، مضلّع رباعيّ الأضلاع ، تقوم ناحيته الغربيّة على حدود البحر حيث أنشئ الميناء بين رصيفين صخريّين طبيعيّين في الأساس ، كما بني على أطراف السور برجان لحماية المرور. وكانت جدران السور محصّنة بزوايا بارزة ومحرودة ، أي مستطيلة من جانب أكثر من الآخر ، وقد بقيت من السور آثار من الجهة الشماليّة بإمكان السائح مشاهدتها اليوم بوضوح.

أمّا كاتدرائيّة القديس يوحنّا الصليبيّة ، فتقع في وسط المدينة ، فيما القصر يقع على تلّة في الجنوب الشرقيّ تشرف على المدينة ، يصله بها جسر بني في الواجهة الشماليّة للقصر ، حيث ينفتح باب سرّيّ وخفيّ مخصّص للنجاة وقت الخطر ، يقع قرب البرج الشماليّ الغربيّ. وهو قصر عال ، ضخم ، صلب ، ذو أبراج مستطيلة ، يقع وسط ساحة تحيط بها جدران أقلّ انخفاضا من السابقة ، متّصلة بزوايا أبراج مربّعة ، حيث يضاف إليها ، في وسط الواجهة الأكثر انكشافا ، نتوء بارز محرود. ويبدو التصميم غير مستقيم ، إذ إنّ الجدران الواقعة بين الإستحكامين ليست متوازية ، حيث نجد جدارا بأربعة أبراج وزاوية محرودة ليست في محور التصميم. كما أنّ النتوء في جهة الشمال ليس في محاذاة المبنى الملاصق. وتمتدّ أرض الساحة بين مستويين مختلفين. وقد أخذ هذا الغياب للتناسق الباحثين إلى الإعتقاد بأنّ القصر قد بني على أساسات قديمة. وفي حفريّات جرت حول القصر ، عثر على عدّة خنادق وقبور تعزّز هذا الإفتراض. فإنّ المنحدر الخارجيّ للقبر ، أو الخندق الفرنجيّ ، مؤلّف من سور يشكّل متراسا يعود إلى الألف الثالث ق. م. ، والواجهة الشماليّة هي أقرب إلى الطريقة الرومانيّة التي كانت معتمدة في القرن الثاني للميلاد ، وحجارتها مأخوذة من صفّ الأعمدة التي تجاورها.

٥٦

يتراوح ارتفاع البرج الصليبيّ الرئيسيّ ، بحسب جهاته ، بين ١٨ و ٢٢ مترا مع جدرانه البالغة سماكتها أربعة أمتار ، وهو واحد من أجمل الأبنية التي بنيت أيّام الصليبيّين ، في بداية أعمالهم العسكريّة ، كما يبدو واضحا أنّ تاريخ بنائه يعود إلى بداية تمركزهم في مدينة جبيل عام ١١٠٤ ، ما يجعله الأقدم بين الإنشاءات الفرنجيّة المحفوظة حتّى اليوم. وقد عثر موريس دونان في حفريّاته على جدار فينيقيّ ذات حديبة (الحديبة تعني : نتوء حجريّ على جدار بقصد الزينة والنقش عليه ، كما تكون أحيانا جزءا بارزا من آلة ما) لدعم البرج الرئيسيّ الذي يحوي خزّانا للسوائل ، موصولا بالطابق الأوّل بمنفذ مربّع مثقوب في وسط الأرض. وتبدو في السور والأبنية التي تحصّنه بعض الآثار التي تفيد عن أنّها قد بنيت في ذات الحقبة التي بني فيها البرج الكبير. وكذلك يبدو أنّ القلعة قد احتلّت مجدّدا بعيد الزلزال الذي حصل عام ١١٥٧ والذي أحدث أضرارا بالغة في القلاع وخاصّة في جبيل ، وقد عثر على أجزاء كثيرة من سور الأعمدة وعلى حجارة معارضة كانت تدعم الجدران وتقطع الأبنية ، وقد استخدم الصليبيّون هذا الأسلوب من البناء مستعملين الأعمدة الأثريّة. وتظهر في بعض هذه الأبنية لمسات تدلّ على أنّ العرب قد أجروا إصلاحات وترميمات عليها ، منها باب مدخل القصر ، الذي هو عربيّ البناء من دون شك ، وهو يقع على طرف الجسر ، وقد بني مع بداية القرن الرابع عشر.

يدخل الزائر اليوم إلى القلعة من الباب الرئيسيّ الحاليّ ، حيث يوجد باب كبير ، هو أحد أبواب القلعة الرئيسيّة السبعة ، ويرجّح أن يكون المدخل قد بني جسرا قلّابا ، فيما يعتقد بعض الباحثين في الآثار أن يكون المماليك أو العثمانيّون قد نزعوا ذلك الجسر القلّاب وبنوه على شكل القنطرة كما هو

٥٧

اليوم. ويبرز فوق المدخل ثلاثة حجارة هي بقايا المكان الذي يسمّى MACHICONLIS والذي كان مخصّصا ليرمي منه حرّاس القلعة الزيت الحامي على الأعداء والمهاجمين. وقد بقيت القلعة في الأساس بشكل مربّع تقريبا ، وحواليها أربعة أبراج يقع كلّ منها في زاوية من زواياها ، فيما البرج الأعلى ، هو الوسطيّ. ويقع أمام الممرّ سور للمدينة ، وفيه أقبية ، كان يستخدمها المدافعون عن القلعة ، وهم رماة النشّاب أو ما شابه من أسلحة الرمي. أمّا البرج الذي يقع قرب المدخل فيقال إنّه بني في أيّام بني عمّار ، لكنّ ذلك غير مؤكّد ، والدليل على ذلك أنّ الحريبات هي تكتيل صليبيّ ، وقد استنتج باحثون أنّ الصليبيّين هم الذين عمّروه ، ثمّ أكمل بناؤه في زمن لاحق ربّما على أيدي بني عمّار. غير أنّ هذا الاستنتاج يبدو لنا خاطئا ، كون المراجع تفيد بأنّ الذي رمّم القلعة وأكمل بناء البرج هو الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير ، الذي جهّز القلعة أيضا بآلات الحصار والدفاع. وكان الأمير منصور العسّافي بدوره قد قام قبله ببعض الترميمات على القلعة لمّا بنى السرايا في المدينة سنة ١٥٧٢.

من جهة ثانية ، يقول باحثو الآثار اليوم ، إنّ البرج الرئيسيّ ، في الوسط ، كان يحوي كنيسة صغيرة بناها الأمير يوسف الشهابيّ ، وهناك اليوم حنية في أعلى البرج ، قد تكون من بقايا تلك الكنيسة.

ومعلوم أنّ الأتراك قد شغلوا القلعة بعد الأمير يوسف حتّى العام ١٩١٨ عند دخول الفرنسيّين إلى البلاد. أمّا كرات المدافع الحديديّة العالقة في جدران القلعة فبقايا قنابل الأسطول البريطاني الذي ضربها في خلال الحرب ضدّ ابراهيم باشا المصري.

٥٨

من كنوز جبيل الأثريّة

من أهمّ كنوز ملوك جبيل التي كشفتها التنقيبات حتّى اليوم ، مجموعة جيش آلهة الحرب المصنوعة من البرونز والمغلّفة بأوراق الذهب ، وقد تمّ اكتشافها سنة ١٩٢٢ إثر هبوب عاصفة هوجاء على المنطقة ، أدّت إلى انهيار جزء من التلّة التي كانت تنتصب عليها آثار مدينة جبيل القديمة ، والتي كان عالم الآثار إرنست رينان قد حدّد معالمها سنة ١٨٦١ خلال المهمّة التي كلّف بها في" فينيقيا". فبعد الانهيار ظهرت غرف سفليّة تحت الأرض تحتوي على نواويس حجريّة مزوّدة بألسنة ضخمة من شأنها تسهيل عمليّة إنزال الناووس بعد وصله بالحبال ، إلى جبّ أفقي الشكل محفور في الصخر لاحتواء الناووس بما فيه. وعهد بدراسة هذا المدفن إلى العالم في الآثار المصريّة بيار مونتيه إذ تبيّن أنّ معظم التحف التي عثر عليها في الغرفتين المتجاورتين تحمل رموزا فرعونيّة مصريّة ، مثل كأس مصنوعة من حجر زجاجي أسود يعرف بالسبج ، وهي ذات إطار مذهّب يحمل اسم الفرعون أمنحات الثالث (١٨٤٢ ـ ١٧٩٧) ، وصندوق سبجيّ مذهّب يحمل اسم الفرعون أمنحات الرابع ، وبفضل الكأس والصندوق استطاع العلماء تحديد تاريخ الحقبة التي تنتمي إليها الآثار الموجودة في المدفن والذي يحتوي أيضا على كميّة من المصاغ زخارفها مستوحاة من النمط المصريّ الفرعونيّ ؛ ومن تلك الكنوز ما يعرف بالمنجد ، وهو نوع من عقود الزينة يذهب من العنق إلى أسفل الصدر ، وهو ذهبيّ بيضاوي الشكل مرصّع بالعقيق الأحمر والفيروز والعوهق ويحمل اسم" يابي ـ شيمو ـ أبي ملك جبيل" حفر في إطار مذهّب زخرف وسطه بنسر باسط جناحيه ، وهو رمز ملكيّ. وثمّة أداة حادّة مصنوعة من البرونز مزخرفة بثعبان ملكيّ من الذهب ، تحمل اسم الملك المذكور نفسه واسم أبيه" أبي شيمو" الذي ذكر أيضا على مسلّة جنائزيّة

٥٩

تنتصب فوق معبد المسلّات في جبيل. وهناك منجد آخر بين المصاغ النفيس يأخذ شكل واجهة معبد مزيّن بعرشين ملكيّين يحميهما نسر باسط جناحيه فوقهما ، والمنجد مطعّم بحجارة ملوّنة ، بينها الفيروز والعقيق الأحمر. وثمّة مرآة مصنوعة من اسطوانة ذهبيّة يأخذ مقبضها شكل المظلّة ويحمل كتابة هيروغليفيّة ورموزا تجسّد الحياة والتجدّد ، إضافة إلى إناء فضّي رائع صمّم خصّيصّا لحفظ النبيذ أو سكبه في خلال الاحتفالات ، وتنمّ هذه الآنية النفيسة عن العادات المحليّة الحريصة على تطعيمها بالذهب.

وتشهد التقدمات الموضوعة في المعابد على الآلهة التي كانت تقدّم لها. فالمجموعة الموجودة في معبد المسلّات عبارة عن أسلحة رمزيّة وتماثيل تجسّد آلهة الحرب ، ومنها خنجر برونزي مطعّم بالذهب ، زخارفه مرهفة مستوحاة من تقاليد بلاد ما بين النهرين المتمثّلة بالعنزتين الثائرتين والمتشابكتين. أمّا زخارف الغمد فتمثّل ملكا راكبا على حمار ، هذا الحيوان الذي كان مكرّما مميّزا ولم يتمّ استبداله بالحصان إلّا لاحقا. وقبالة الملك سمكة من النيل ، وكلب وقرد وعنزة ، وخادمان جاثيان على ركبتيهما. وتشتمل تقديمات المعابد على الفؤوس المخرّمة المتميّزة بشفارها القصيرة المثقوبة ، حسب النمط اذي آثره العسكريّون في تلك الحقبة ، وقد عثر على العديد منها في معبد المسلّات ، منها ما هو مذهّب ، والقسم الآخر من الفضّة. وقد زخرفت المقابض برسوم هندسيّة مستوحاة من الفنون الحثّيّة ، وثمّة رسوم تجسّد الرجل الثور وهو رمز ينتمي إلى بلاد ما بين النهرين.

ومن التماثيل المكتشفة في المعبد واحد يمثّل إلها شابّا يسير بنشاط ممتشقا سلاحه في يده ، وهو" ريشيف" إله المحاربين دون أدنى شك ، لأنّه يظهر عاريا أو مرتديا تنّورة قصيرة ، على رأسه تاج مخروطيّ الشكل ،

٦٠